قريــة الهــول
تقع شــرق الحسكة بحوالي (60) كلم ، وتعتبر عاصمة للبادية القريبة على الهول ... حيث يتموّن البدو منها ، وفيها قرى تعيش على الزراعة ، وفيها بدو يربون الأغنام ، وتجاور بحيرة الخاتونية التي ترى فيها أصنافاً من البط والأسماك لاتوجد في غيرها ....ولها ( بوسطة ) يومية من الحسكة يقودها السيد ( داود ) مسيحي من الحسكة ، كما أن ميكانيكي البئر الوحيد في القرية مسيحي ايضاً وربما اسمه ( إلياس ) ...وكان لايفارق المدرسين يتسلى معهم ويقضي وقته ....
قضيت العام الدراسي ( 65-66) وهو العام الأول لي في الخدمة العملية ، قضيته في قرية سيسدي تحتاني ، قرية عربية في وسط محيط من الأكراد ....تتبع مخفر تل منصور ...وتقع بين الحسكة وعامودا تقريباً ....لها سيارة للسيد اسماعيل كجو كردي طبعاً وهي ذات دفع رباعي لأنها ستمشي على أراضي طينية غير مسفلتة على شكل ( لاند روفر ) ...
وفي العام الثاني أصررت على أن أكون في قرية كبيرة فيها سوق وبيع وشراء ، كما هي مواصفات الهول ، وبعد عدة محاولات في إدارة التعليم قابلت الأستاذ محي الدين مظلوم الذي تخرج قبلي بعام واحد ، ويرغب في قرية بعيدة وصغيرة مثل قرية ( بلقيس ) التي وضعت فيها ، وتم التبادل ، ووصلت قرية الهول في أواخر العام (1966) ....
مبنى المدرسة حكومي ، جاهز ولم تستلمه المعارف من المقاول ، ومفاتحه لدى إدارة المدرسة ، والفئران في المبنى القديم الترابي تدرس مع التلاميذ ، ولاتتقيد بأوامر المدرس ، فتعطل الحصة كلما أرادت ...وقالوا لي لاتستطيع الانتقال للمبنى الجديد حتى يتم استلامه من لجنة المباني المشكلة في ادارة التعليم ....
بعد أيام قليلة من دوامي في الهول ــ وكنت ثورياً جداً ــ قلت للطلاب : هيا ننقل أثاثنا للمدرسة الجديدة التي مازلت أحلم بها مذ كنت طالباً في دور المعلمين ...وتم نقلنا للمبنى الجديد ، ومعي مدرس مسيحي تخرج بعدي بعام ( سمير جرنبدة ) ابن عمه رئيس مخفر شرطة الهول ( وهذا يعادل محافظ من حيث أهميته ومكانته ) واستفدنا كثيراً من وجودنا معه في العزومات الكثيرة ، والاستناد إلى سلطة حكومية غير التعليم .... واستلمت المبنى الجديد ، وفي نهاية العام الدراسي جاءت لجنة لاستلام المبنى ، فقلت لهم أنا استلمت المبنى على مسؤوليتي ، وكل نقص أتحمله ، وهذا أفضل من أن أعيش عاماً دراسياً مع الفئران ، والمبنى الجديد فارغ ....ولم يزعجهم هذا الكلام ...وقد أكدت على التلاميذ المحافظة على الأبواب والنوافذ ، حتى لايكتبوا على الجدران ، وكان المبنى جديداً عند استلامه ، على الرغم من نهاية العام الدراسي الأول فيه....
ومن الهول طلبت نقلي إلى محافظة حماة ، فنقلت ، وفرحت إدارة التعليم في حماة عندما وجدت معلما من قرية جرنية العاصي ، فحمل عنهم عبء إرسال معلم من المدينة ( حماة ) لقرية طريقها غير معبد ....
كنت مدير المدرسة ( أنا ومدر س آخر) ، وكان زميلي سميرجرنبدة (المسيحي من الحفر ) مدمن على ( المتــة ) ينهض مع الفجر ، ويوقظني للصلاة بينما يشرب المتــة ، وللحق أقول أنه ذو أخلاق حسنة ولم يعكر صفوي طوال العام ، وربما هذه صفة تغلب على المسيحيين السوريين ....
وعندنا ست فصول في غرفتين ، والغرفة الثالثة فارغة ، وكذلك غرفة الإدارة ، وكان مبنى المدرسة على ( بيدر ) القرية ...
صيـد الحمام :
يكثر الحمام البري في هذه المنطقة ، وتوجد ( خفسة ) مساحتها ربما ( 20× 30) وفي أسفلها ماء ، وفي جدرانها يعشعش الحمام البري ، كنت أستعير بندقية صيد ودراجة ، واشتري الخرتوش للصيد ، وأصل المكان الذي يبعد (10ـ15) كلم ، وحالما وصلت أرمي حجراً في هذه البركة ( الخفسة ) فيفر الحمام ، حتى إذا ابتعد عن البركة رميته طلقة فيسقط منه بضع حمامات أحملها وأعود إلى القرية ، واللحم كثير عندنا من السوق حيث يذبح الجزار مرة أو مرتين في الأسبوع ، ويخصنا بكتف أو فخذ غنم بسعر بخس ( ليرتان للكيلو يومذاك ) ، كما كنا نسأل الطلاب : من يشتري لنا ديكاً ؟ فيتسابق الطلاب ، ثم ننتقي طالباً نظيفاً ونعطيه (3) ليرات ، ليأتي لنا بعد ساعة بالديك البلدي ( قرابة كيلو غرام ) مذبوحاً ومسلوخاً وجاهزاً للطبخ ....لذلك كنت أتسلى بلحم الصيد على المدفأة ، ولحم الطير لذيذ ومفيد ، كنت أقمره على المدفأة وأتسلى به ، في ذلك العام ، عام الهول الذي لا أنساه في حياتي ، وأتمنى أن أزورها قبل مماتي ...
وذات يوم رأيت الحبارة وهي طائر بحجم دجاج الحبش المصري تطيرمسافة قريبة ثم تنزل ,, تبعتها وتركت الدراجة ...وهكذا تطير قليلا وتنزل وانا أمني نفسي بان أصيدها ...حتى انتبهت على نفسي وانا في اطراف سنجار ...وتذكرت مقولة ان سكان سنجار اليزيديين ( عبادي الشيطان ) ينذرون اذا مرض ولد لهم ان يضحون له مسلماً ...فرجعت وزاد خوفي لما تذكرت أن ذخيرتي بضع طلقات ربما لاتزيد عن الخمسة ...
رجعت أبحث عن الدراجة التي تركتها وعيوني معلقة بالحبارة ...وكنت امسك اثر الدراجة وامشي معه مدة ثم ينقطع ويضيع ...وصرت اتصور اهل القرية وثقافتهم بدوية كيف سيضحكون ويسمون العام بسام الاستاذ الذي ضيع الدراجة ....
وقفت وعيناي ممتلئتان بالدموع ودعوت ربي : يارب أريد ان يطمئن قلبي على أنك تراني ....اريد أن امشي الى الدراجة مباشرة ...يارب ...وربما نفرت دموعي ....وفعلا رجعت مثل المرالت السابقة حتى اجد اثر الدراجة ...ومشيت معه حتى وجدتها في حفرة صغيرة حيث دخلت فيها لما نزلت عنها وعيناي معلقتان بالحبارة ....أخذتها وفرحت كثيراً وذهبت الى الخفسة رميت الحجر كالعادة وطار الحمام ورميته بالبارود فنزلت بضع حمامات امسكتهن وذبحتهن وربطتهن على الدراجة خلفي وعدت فرحاً مسروراً الى مدرسة الهول ...
وكان إمام القرية الشيخ محمود صديق من الحجيرة ، الواقعة غرب الهول ، لكنها أصغر ، وأضعف ، وقابلت ولده في دمشق ، كما قابلته في حماة خلال تصحيح الثانوية ... وهو من تلاميذ الشيخ المشهور( الخزنوي ) في منطقة الجزيرة ( تل معروف ) جزاه الله خيراً ، وربما كل أئمة مساجد محافظة الحسكة من مدرسته في تل معروف ...وقابلت ولده صديق وهو مساعد مدرس علوم في حماة خلال تصحيح الثانوية ...في العام 1973 ....
ومن أصحابي الخلص وتلميذي عيسى حمد ضاحي كان تلميذا في الصف السادس مؤدبا ومجتهدا ...وأخوه حسين حمد ضاحي عرفني على الشيخ هواش المسلط وذهبنا معه الى طابان وبتنا ليلة لاتنسى واكرمنا الرجل باللحم والزبدة العربية ....ثم اوصلنا بسيارته الأمريكية الى الحسكة جزاه الله خيرا ...وأظن أن قابلت حسن أثناء خدمته العسكرية في دمشق وربما في التكية السليمانية ....
بحيرة الخاتونيـة :
ومما أذكره عين الماء الساخن في جنوب القرية ، لذلك في الصباح ترى رجال القرية جماعات جماعات يذهبون للعين يتطهرون من الجنابة قبل شروق الشمس ...
ومن عجائب الهول قرية الخاتونية المجاورة ، والقبيلة في الهول وحولها من عشيرة الخاتونية ، أو الخواتنة ، وهم متحضرون يعملون في الزراعة منذ مدة طويلة ، وملاك أراضي خصبة ، حالتهم المالية جيدة ... وفي الخاتونية ( بحيرة الخاتونية ) كبيرة ، وربما طولها (15) كلم ، وماؤها بارد جداً ، إلى درجة أن أحد الشباب قتل بطة بالمسدس ، ونزل يسبح لإخراج البطة ، لكنه تجمد ومات يرحمه الله ... ولا أذكر أني نزلت فيها ، ومن عجائبها بط وسمك لايوجد في غيرها ، أنواع عجيبة من السمك والبط تعيش في بحيرة الخاتونية ....
وفي الخاتونية سمعت قصة عجيبة رواها لي ابن الشخص نفسه ، وهي ان ذلك الشخص الفاضل رأى في نومه أنه سيموت يوم كذا ، وربما تكرر المنام ، لذلك وزع أملاكه على اولاده ، وصفى حساباته ، واجتمع أقاربه حوله في اليوم المحدد ، وفي الثانية عشرة وهو جالس بينهم لايشكو من أي مرض ، مات يرحمه الله ...
ملكات الجمال :
لابد من القول أنني لم أرى مكانا آخر في سوريا بناته أجمل من بنات الهول ، ومع أنني لا أهتم بهذا الأمر ، وكنت عازباٍ وكان المفروض ان اتزوج من الهول ....لكن لم أكن أفكر في الزواج يومذاك ، وكانت بعضهن يسألنني عن إخوانهن أو اولادهن ، وهن ملكات جمال ...وكان من المفروض انني تزوجت منهن ...لكن الزواج قسمة ونصيب ومما يخرج عن ارادة الانسان ...وأكاد أصدق نظرية أفلاطون التي تقول أن الانسان لما كان في عالم المثل كان مزدوج الجنس ...ولما خرج الى عالم الواقع انفصل الذكر عن الأنثى ...وصار كل ذكر يبحث عن الانثى التي كانت ملتصقة به في عالم المثل ...وقد يوفق في العثور عليها ...وقد لايوفق فيتزوج شبيه لها ....
قلت كان عقلي وشعوري كله في كتب الفلسفة ...وكنت شغوفاً جدا بدراستها ...واذكر وصلني كتاب لمادة المنطق ( العقل ومعاييره ) للفيلسوف الفرنسي (اندريه لالاند ) استلمته عصراً فبدأت بدراسته واستمر ذلك طوال الليل ...ثم صليت الفجر وتابعت الد راسة حتى أنهيته ثم نمت ساعة قبل دوام المدرسة ...وفهمت منه ان العقل قسمان العقل الناظم والعقل المنظوم ....اما المنظوم فهو مايتجمع من ثقافة وعلوم وفنون وادب لدى الانسان ....واما الناظم فهو المسؤول عن ترتيب هذه المكتسبات وتصنيفها ...واستدعاء بعضها عند اللزوم ...
وفي الامتحان السؤال غير مفهوم ...لذلك كتبت هذه الفكرة الوحيدة التي فهمتها من الكتاب ....ولما خرجنا من قاعة الامتحان كان الطلاب يتذاكرون ويسالون ماذا اجبت فقلت لهم أجبت كيت وكيت قالوا لايكفي ...قلت لهم هذا الذي فهمته من الكتاب ولم أفهم غيره .. وكان عدد الذين دخلوا الامتحان (200) ونجح منهم ( 40) وكنت أحد الناجحين ولله الحمد والفضل والمنة ...
|