مذكراتي في المرحلة المتوسطة
درست الصفوف الأولى ( 1-2-3) في مدرسة الكافات ، كان ذلك في العام الدراسي (52-1953)، وكنا لانزال في خيمة البدو، في قرية زور السوس ، حيث عمل والدي يرحمه الله ( وقافاً ) = ( حارساً ) عند إسعاف هاشم ( أم زياد الحريري )، ودراستي في الكافات وهي قرية إسماعيلية تدل على تضافرالشعب السوري وتلاحمه في ذلك الزمن ، نحن البدو يومذاك ، الشعب والحكومة يرغبون أن نتعلم ، لذلك أدخلونا في المدرسة بدون قيود مدنية ، ولم تطلب منا القيود المدنية حتى قدموا لنا على الشهادة الابتدائية ( السرتفيكا ) عام (1957) .
ومن زملائي يومئذ ( أحمد الصالح ) يرحمه الله ، وكنت في بعض الأيام أنام عند عجوز إسماعيلية تعمل خياطة ، تعرفها والدتي يرحمها الله ، وكانت والدتي تسكن معي بعض الأيام ،واستأجرت لي غرفة ، وكانت والدتي تسكن معي أحياناً ، ولابد أن أسجل هنا أنني لم أجد من الإسماعيليين سكان الكافات إلا الخير والمعونة ، ومرة أخرى أدلل على تلاحم الشعب السوري يومذاك ، ومن هذا التلاحم تعلمت عند الاسماعيليين ، دون أي عقبات . وخلال الصف الثالث نقلت خيمتنا من زور السوس إلى زور ( الشيخ عبدالله ) لذلك انتقلت خلال العام الدراسي إلى قرية تقسيس ، وبعد أسبوع واحد تركتها ورجعت إلى الكافات ، وأتممت العام فيها ، وفي الربيع كنت أذهب وأعود وأمر من ( السكر ) عند ناعورة قريمش ...
ودرست الصفين الرابع والخامس في مدرسة تقسيس ، ثم دخلت المرحلة المتوسطة في حماة ، إذ لم تكن مرحلة متوسطة في الريف يومذاك (1958) عندما دخلت الصف السادس ، وكان في العام الماضي يصنف مع المتوسطة ، ثم من أجل الوحدة مع مصر ، عشنا هذا العام ، في مرحلة بين المرحلتين ، حيث جمعوا طلاب السادس في محافظة حماة كلها في مدرستين : البحتري على سطوح السوق ، وفوزي القاوقجي الشهيرة في المحطة ...وكنت في البحتري ، ... قدم ملفي إلى إعدادية ابن خلدون ، وفي بداية العام ، حضرت فقالوا اذهب إلى البحتري ....
كنا من الصف السادس فقط ، مديرنا ربما ( مفيد العظم ) ومدرس العربية ( فهمي الحموي ) ومدرس التربية الاسلامية ( فريد شققي ) ومدرس الرياضيات ( ....غزال ) ....
والأهم من هذا كله أنه كنا من خان شيخون (كانت يومها تتبع حماة) ومن محردة ، والطيبة ، وصوران ، ومورك ، وحيالين ، وبريديج ، وباقي قرى الطار ، والريف الجنوبي الشرقي تقسيس وجرنية العاصي ( أنا وحدي فقط ) ، ويوجد طلاب من بسيرين في المتوسطة ...
لذلك كان علي أن أسكن في غرفة وحدي وعمري ( 12) سنة ، لأنه لايوجد غيري من منطقتي ،استأجرت لي والدتي يرحمها الله غرفة صغيرة عند ( كاكيش ) صاحب بقالة مشهور في حي الفراية ، غرفة صغيرة ، وكان الناس يومئذ يؤجرون غرفة واحدة من دارهم العربية طبعاً ، فيها عدة غرف ، وأرض دار ( حوش ) ومرحاض واحد لكل سكان الدار ...واشترت لي والدتي ( تنكة ) من الحلاوة ( القرمشلية ) ربعها الأسفل ( قطر ) والبدو يحبون ( الحلو )كثيراً ، وتركتني وعادت إلى القرية ... سبحان الله ، أنا ( الآن ) ( بعد نصف قرن ) يستحيل أن أترك ولدي أو حفيدي ( ابن 12 عاما) وحده ، لكن لطف الله أراد لي أن أتعلم وأتابع الدراسة المتوسطة ، فألهم والدتي ذلك ، وجعل والدي يوافق ، وصبرني ...وكانت المرحلة المتوسطة حاسمة جدا في حياتي، لأنها ميزتني عن القبيلة كلها ....
كنت أعود من المدرسة جائعا فأمد يدي على ( الحلاوة ) فأخرج منها ما آكله ، وتصد نفسي عنها لشدة حلاوتها ...وفي المدرسة أشتري سندوتش بفرنك واحد ( خمسة قروش ) الليرة السورية مائة قرش ) في هذا السندوتش خبزة وقرص فلافل ( طعمية ) ويمسح الخبزة باللبن ، وربما قطعة طماطم ...
كان الدوام المدرسي في القسم الصباحي ( 4) حصص من (8-12) الحصة (45) دقيقة وفسحة بعد كل حصة (15) دقيقة ، وفي القسم المسائي ( 2) حصتان ( 2-4) ، وفرصة الغداء (12-2) ...
وكنت أعجب من أمر وهو أن شفايف زملائي أبناء المدينة لامعة ،كأنها دهنت بكريم ، وعرفت فيما بعد أن ذلك سببه التغذية الصحيحة ...بينما وجوهنا ( أبناء الريف ) ناشفة ، يظهر فيها ( العطاش) فيزيدها نشافة ، وبؤساً ...
بعد هذا البيت سكنت عند ( نورية هوانا ) أخوها ( إبراهيم هوانا ) بائع (دخان ) ومن رجال الحي المعروفين ، وزوجها ( علي السح ) رجل بسيط يعمل حمالاً على حمار ، يبات الحمار في زريبة عند باب الدار ، بنيت في الشارع ، مخالفة لنظام البلدية ، وكانت الأسرة مكونة من (3) بنات و ولدين هما الأصغر، والأم هي القوامة على الأسرة ...أما الأب فيذهب صباحا مع حماره إلى سوق الهال ، حتى إذا رزقه الله ( 5) ليرات عاد إلى بيته ، وقد يعود بعد ساعة أو خمس ساعات ، وفي العصر يلبس ثيابه النظيفة ، وبيده ( السبحة ) وينزل إلى مقهى على شاطئ العاصي ربما اسمه ( الروضة ) يجلس مع أصحابه ( العتالين ) يتحدثون في السياسة ....فالشعب السوري كله ( 4 ) مليون يتحدثون ويتابعون السياسة يومذاك ...
وفي هذا العام (1958) قامت الوحدة بين سوريا ومصر ، وقضينا ليالي في الاحتفالات والرقص الشعبي ، في الحارات ...وعطلنا كثيراً من أيام الدوام المدرسي ... وفي هذا العام أو الذي بعده وبالضبط سنة الانفصال ( 1962) وصل إنتاج أسرتنا إلى رقم قياسي وهوألف ليرة سورية في العام ، وهذا حصتنا من موسم القطن ، الذي تعمل فيه الأسرة كلها ( أمي وشقيقتاي ) ووالدي كان شيخاً كبيراً ، وانا وشقيقي سليمان نعمل في خارج أوقات دوام المدرسة ، وكنت أحب ( السقاية ) وكان أهلي يتركونني وحدي مع ( الماء ) الذي أسقي به أرضنا ( القطن ) وكنت منسجماً مع ( مساكب ) القطن ، المسكبة ، والدف عدة مساكب ، والقالب عدة دفوف ...وتوزيع الماء بين هذه المساكب والدفوف والقوالب فيه شيء من الهندسة لذلك كنت أهواه ...ولما عرف والدي ووالدتي ذلك مني تركوني أسقي وحدي ، ويحضرون لي الفطور والغداء إلى الأرض ( البستان ) وأنا في العمل ، خبز وطماطم ولبن ، ما أطيب ذلك الطعام ، خبز بلدي ، وطماطم طازجة ، ولبن طازج ...وجوع لدي بسبب الحركة والعمل يجعلني ألتهم الخبزوالطماطم بشهية عالية جداً....
وفي الصيف كنت أسوق الحمير ليلاً محملات بسحاحير البندورة إلى حماة ، وغالباً كان رفيقي محمد الأحمد الحسن يرحمه الله ، زوج ابنة عمي عمشة يرحمها الله ...كنا ننطلق من القرية في الثانية ليلاً ، قبل الشروق بثلاث ساعات على الأقل ....بحيث نصل سوق الهال مع الشروق ، وقتها تباع الخضروات ، كيلو البندورة ( الطماطم ) بعشرة قروش سورية ، السحارة عشرون كيلو ثمنها ليرتان سوريتان ...بندورة تشهي للقرط ...
وفي السابعة و الثامنة صباحاً تعود السحاحير الفارغة ، ويعود ركبنا إلى القرية بعد أن نفطر ( شعيبيات ) من سلورة أو جاره أو (روادي ) القريب من باب البلد ...ونشتري ما وصانا عليه أهلنا أو جيراننا ، ونعود راكبين على ظهر الحمارة ، فنصل مع الظهر ، وننام غالباً حتى العصر ....ثم ننزل إلى البستان نقطف البندورة والباذنجان ، فنحضرها إلى القرية ونصفها أمام المنزل ، وننطلق في الثانية ليلاً ...وهكذا دواليك ..وقد يكون يوماً بعد يوم ...
قرانا صغيرة تسمى ( زور ) وهي زور زبادة ،وزور الشعار ، وزور ناجية خانم ( تل الزيتون ) وزور الشيخ عبد الله ( في المرحلة المتوسطة كنت فيه ) ، وزور السوس ، وزور الرملية ، وزور قريمش .....إلخ ...وغالباً ( الزور ) بضع أسر أقارب درجة أولى غالباً ، سكنوا قرب أرضهم لسهولة حراستها والعمل فيها ... هذه القرى الصغيرة تصدر الخضروات لسوق الهال في حماة صيفاً ...ومحصولها الأساسي القطن ...
* * *
لاجديد في الصف الأول متوسط سوى التحاقي بإعدادية ابن خلدون ، غرب الدباغة ، مقابل الشرطة العسكرية يومذاك ,,, وكان طريقي لها من داخل السوق الطويل ليحميني من المطر والبرد ...ويأخذ الطريق أكثر من نصف ساعة ...
وكنا ثلاثة شعب للأول متوسط ، واحدة للفرنسية ، صغيرة العدد ، والفرز كأنه بالقرعة ، وثلاثة للثاني متوسط ، ومثل ذلك للثالث المتوسط ، كانت الإعدادية في دار مستأجرة تتكون من طابقين ، وفناء واسع يصلح للمدرسة ، وكانت الإدارة في الطابق العلوي ، وكان مديرنا الأستاذ عثمان العلواني يرحمه الله ...
ومن المدرسين الذين أفادوني كثيراً سليمان سلوم ، مسيحي من محردة ، يدرس الرياضيات من خبرته ، وهو معلم يحمل حقوق ، ورجل أعمال ، يحمل كومة من المفاتيح ، ويفهم رياضيات المتوسط ، ويدرسها بطريقة ممتازة ، كان يتفقد دفاترنا المسودة والمبيضة والقلم الأحمر والمسطرة كل صباح ، وساعده قلة عدد الفصل ( عشرون تقريباً ) ومعظمنا أولاد ريف ، جئنا لنتعلم ، لا لنشاغب مثل بعض أبناء المدينة ...وقد نجح في تدريسنا لأنه يتبع نظاماً صارماً ، وهو تفقد الواجب الجديد على المسودة ، والقديم بعد أن صحح ونقل إلى المبيضة ، ونخرج على السبورة بالدور ، وينقل الطالب زميله الذي بعده ، لم يغير هذا النظام ، ومن فضل الله أنه استمر معنا في الصف الثاني والثالث ، وكنت مميزاً عنده ، وذات يوم عجز الفصل كله عن مسألة ، وهو لايحضر ، وبدا عليه الخجل لما نظر إلى المسالة ، فطلب من ( شنتوت ) أن يحلها ، فقمت وحلتيها بعد لف ودوران ، وبعد أن اكملت شكرني وشجعني وقال : أنت فعلت كمن قالوا له أين أذنك اليمنى فقال : هذه هي ، مشيراً لها بيده اليسرى ، ونزل إلى السبورة وحل المسألة باختصار ...
كنت أحب الرياضيات كثيراً ، لأني أفهمها من المدرس ولا تحتاج مني سوى حل الواجبات كي ترسخ في ذهني ...
وكذلك مدرس اللغة الإنجليزية ( سميح سعيدان ) فلسطيني اشقر كأنه أوربي ، كنت أتأتأ في نطقي ، وثيابي تدل على الفقر المدقع الذي أعيشه،وذات يوم طلب مني أن أقرأ ففعلت ، وهو ينتبه باهتمام ، ثم شجعني ومدحني ( تشجيعاً ) ولم تكن قراءتي جيدة ، خاصة والتأتأة كانت تقيدني كثيراً أثناء القراءة في العربية او الانجليزية ، ولكن الأستاذ سميح بعثه الله نعمة لي ، فصار يطلب مني القراءة كل يوم ، ويستمر في تشجيعي ، حنى صرت أهتم به وبمادته ، وأنتبه لها تماماً ، ويوماً بعد يوم صرت من المميزين في اللغة الانجليزية ومازلت ولله الفضل والمنة ، خاصة أن مدرس الثالث متوسط فلسطيني أيضاً ( يوسف القصراوي ) كان جدياً ومهتماُ واستفدت منه ولله الحمد ...
وكانت سنوات المرحلة المتوسطة حاسمة في حياتي ، لأن شهادتها ( الكفاءة ) بمعدل مرتفع ،أهلتني لدخول دار المعلمين ،التي قبلت عشرين طالباً من محافظة حماة ومثلهم من حمص واللاذقية ، فكنا شعبتين في حمص وعددنا ( ستون ) طالبا من المحافظات الثلاث ...لأن سياسة الوحدة ( بين سوريا ومصر ) كانت تخطط لامتصاص الزيادة في عدد المعلمين المصريين ،ولو لم أقبل في دار المعلمين ربما توقفت عن التعليم لضيق الحال والفقر المدقع ....
التحاقي بدور معلمين ( حمص )
قضيت المرحلة المتوسطة بصعوبة بالغة بسبب الفقر المدقع ، لأنني وحدي من قريتنا ، وكنت أسكن وحيداً ، وكنا فقراء الى حد كبير ...لذلك منذ أن نجحت في الكفاءة بمعدل جيد جدا مرتفع حوالي 88 والمعدلات السورية تختلف عن معدلات مصر والخليج ، واذكر ان الأول علينا في الليسانس كان معدله ( 70 %) فقط ...وكان طريقي مجبرا الى دور المعلمين أو الزراعة أو الصناعة او البيطرة لأن هذه المعاهد تقدم للطالب مكافأة تعتبر للفقير مثلي مبلغا كبيرا جدا ...دور المعلمين كنا في القسم الداخلي ، ننام في المهاجع النظيفة ، ونأكل في المطعم النظيف ...وجبات ممتازة ...ويعطونا ثلاثين ليرة شهريا مصروف جيب ...وهذا بالنسبة لي شيء كبير جدا ً ....وكانت نقلة كبيرة في حياتي .... لأنني كنت في المرحلة المتوسطة أحصل على مصروف جيب ( ليرة سورية واحدة ) في الاسبوع ...
وكان القبول يعتمد على معدل الشهادة والمقابلة الشخصية ، وهدف المقابلة الشخصية التأكد من أن الطالب خالي من عيوب النطق لأنها لاتمكنه من عمله وهو التدريس ...
وشك الممتحن وهو الاستاذ ( أمر الله السطلي ) وكان شيبة ...وكأنه شك في نطقي فقال لي : تكلم قل لي من أنت ومن أين ؟ ففهمت مقصده وقلت : أنا خالد أحمد الشنتوت ، من قرية جرنية العاصي ، محافظة حماة ، الاقليم الشمالي ، الجمهورية العربية المتحدة ، قارة آسيا ، الكرة ألأرضية ، المجموعة الشمسية ...فضحك ووافق علي ....مع قناعتي الخاصة أنني لا أصلح للتعليم ...ومشكلتي انني أتأتا اذا قرأت في الكتاب ، أما إذا تكلمت من عندي فلا تظهر التأتأة ....ولو أنه قال لي اقرأ في هذا الكتاب ( كما فعل ممتحن مسابقة الثانوي لكشفني ) لكن مشيئة الله قررت أن أكون مدرسا على الرغم من التأتأة عندي ...
ومـــر عملي في الابتدائي ....وكنت قليل التأتأة وتكاد لاتظهر ...كما صرت في الثانوي ومع أن الممتحن في المقابلة الشخصية كتب ذلك ...لكن الوزير محمود الأيوبي وافق علي في الثانوي وقال ضرره في الثانوي أقل من الابتدائي ...
ومع أن تدريس الفلسفة يتطلب أن يتكلم المدرس كثيرا ....فقد أعانني الله عزوجل ...ودرست الفلسفة في سوريا وفي الجزائر بنجاح ولله الحمد والفضل والمنة ...
وسمعت تعليقا من والدي يرحمه الله قال أكثر الرجال الناجحين ( يحبسون ) كما قال مرة أحد الرجال في الهول ...يتكلم عن أحد العلماء في المنطقة فقال : وهو أيضا عنده حبسة مثلك ...
والواقع أن ( حبستي ) كانت نفسية ، ترتبط بالخجل ، فعندما أخجل تزيد ، أما اذا كنت منسجما وغير خجول فلا تظهر عندي الحبسة ...كما أن هذه الحبسة كانت قوية في الصغر ...وصارت تتناقص ...والآن في الشيخوخة ...توجد نادرا ...ولله الحمد والفضل والمنة ....
والحمد لله رب العالمين ....
|