تصويت

ما تقييمك للموقع ؟
 

المتواجدون الآن

يوجد حاليا 110 زوار 
من مذكراتي

مذكراتي في المدرسة الابتدائية

لماذا دخلت المدرسـة؟

والدي ـ يرحمه الله ـ من قبيلة الدغامشة ( الدهامشة ) وهي قبيلة منتشرة في السعودية ( عرعر ) والعراق بنفس الاسم (الدهامشة ) ، وفي الأردن وفلسطين باسم (الدقامسة ) ومنهم نائب في الكنيست الاسرائيلي من التوجه الاسلامي ( عبد المالك الدقامسة) ، ومنهم المجند الأردني الذي قتل اليهوديات السائحات ، وأعدم يرحمه الله ، وفي سوريا تسمى (الدغامشة ) وملحقة بالعكيدات ، وسبق أن سمعت من أحد البدو في الجزيرة السورية ، عندما كنت معلماً هناك ، لما عرفت بنفسي أني من قبيلة الدغامشة ( العكيدات ) قال لي : ياولدي أنتم من عنـزة وليس من العكيدات ، أنتم الدهامشة ( محددة الجمل ) أي اشتهروا بأنهم كانوا يضعون قيد الحديد للبعير ، والبعير هو رأسمال قبيلة عنـزة ، لأن البدو نوعان : بـدو أصليون ومغرقون في البداوة منهم عنـزة ، يـربون الإبـل ، وبدو أقل بداوة يربون الغنـم ، ويزرعون القمح والشعير في البوادي ، وهؤلاء يسميه البدو الأصليون(عنـزة) : ( الموالي ) أو (الرعية ) ، وهذه مصطلحات سمعتها من والدتي يرحمها الله .

توفيت زوجة والدي الأولى ، وهي من نفس القبيلة ( نزهة الحسن الأعور ) شقيقة أحمد الحسن يرحمهم الله جميعاً ، أم نزال يرحمه الله . وتوفي معها جميع أولادها في سـنة بـرد قارس أظنها تسمى سنة ( لوفة) ، ولم يبق سوى أخي ( لأبـي ) نزال يرحمه الله . ولذلك تعقد والدي يرحمه الله ، وعـزف عن الزواج مـدة غير قليلة ، وصار كبيراً ربما وصل الأربعين  ، ولم يوفق في العثور على زوجة ثانية من القبيلة ، وكعادة البدو بحث عن زوجة من قبيلة أخرى ، وكان نصيبه صبية يتيمة الأم من عشيرة المشارفة ، مضاربهم شرق جبل البلعاس ، حول قرية الشيحة ( الشرقية ) ، ووالدها ( جدي لأمي ) يرحمه الله لـه زوجة ثانية ، بعد أن توفت جدتي لأمي يرحمهما الله ، وكعادة الضرائر تريد التخلص من ابنة ضرتها ، فزوّجها لوالدي يرحمه الله ، وهي في الخامسة عشرة تقريباً ، وهو في الأربعين يرحمهم الله جميعاً .

إذن والدتي ( أجنبية ) كما هي ثقافة البدو ، فكل من هو ليس من القبيلة يسمى أجنبي ، ويعامل على أنـه من الدرجة الثانية ، وهذا هو أصل مصطلح (أجنبي ) في دول الخليج ، جاء من الثقافة البدوية ـ كما أزعم ـ وعاملت نساء القبيلة والدتي يرحمها الله معاملة قاسية ، فكانت منبوذة ، وخاصة أنها ربيت يتيمـة عند ضـرة أمهـا ، لم تهتم بها ولم تدربها على أعمال البيت وإدارة المنزل ، ولم تمد لها أي من سلائفها يـد المعونة لهذا التدريب ، فكانت يرحمها الله مقصرة في إدارة المنزل وترتيبه، لأن أحداً لم يدربها على ذلك ، وكانت نسـاء القبيلة يتخذن من ذلك ذريعة للتفاخر عليها يرحمها الله ، كل هذا وغيره ؛ دفع والدتي يرحمها الله أن تبحث عن نافذة تسبق فيها نساء القبيلة ، وتتفوق عليهن ، فهداها الله إلى الإصرار على أن تعلم ولدها البكر ( الذكر ) خالد ، وتصر أن لايكون راعياً للغنم ،  في حين كان معظم أبناء القبيلة يدربون على الرعي والزراعة منذ نعومة أظفارهم ، وإذا أرسلوا إلى المدرسة ليتعلموا القراءة والكتابة في مدرسة قريبة في إحدى القرى المجاورة ، إلا أن والدتي يرحمها الله أصرت على أن تعلمني ،  تعلمني حتى أصير أستاذاً ، لقد حددت هذا الهدف قبل إرسالي إلى المدرسة ، وكلفها ذلك كثيراً من الجهد والمشقة ، والحرمان من ملذات الدنيا الفانية ،  وقد أعانها الله ، إذ جعل والدي يوافق موافقة ( سلبية ) ، لم يمنع ،  ولكنه لايستطيع أن يقدم شيئاً ، ولما دخلت المدرسة في العام الدراسي ( 52- 1953م ) كان والدي في الستين تقريباً ، ووالدتي أقل من  الثلاثين تقريباُ . وكانت يرحمها الله تعيل الأسرة من عملها في الزراعة ، وتربية الغنم والأبقار والدجاج ، وكانت ـ يرحمها الله ـ تكدح على مدار العام ، في الليل والنهار ، لتطعم أولادها الأربعة ( نومـة ـ أم راتب ـ ) و ( عيدة ـ أم عزام ) و ( خالد ـ أبو ثائر ـ) وسليمان ـ أبو طالب ـ ) . وبعد أن أقامت عندي في المدينة المنورة خمس عشرة سنة ( آخر عمرها ) ؛ رزقها الله بضع حجات ، وبضعاًوعشرين عمرة ، وكانت تواظب معي على صلاة الفجر في الحرم المدني في السنوات الثماني الأولى ، ولما كثرت أعمالي كنت أضعها في الحرم قبل المغرب وأردها للبيت بعد العشاء ، ووفق الله زوجتي ـ جزاها الله خيراً فكانت بارة بها ـ على عكس عادة الكنائن ـ اهتمت بها غاية الاهتمام ، من طعام ولباس وغسيل ، وكانت تذكرني وتلح عليّ دوماً أن أخص والدتي بشيء من يدي ، أقدمه لها بيدي ، وأكاد أقول أن قليلاً جداً من الكنائن وقف من حماته كما وقفت أم ثائر ـ جزاها الله عني خيراً كثيراً ـ   ثم توفاها الله عن عمر يقارب ( 78) عاماً أو يزيد بعد أن فتك بها الورم ، كان حميداً ، ورم الغدة الدرقية ، وتم اسئصال معظمها ، وترك جزء بسيط كي لايقطع الحبال الصوتية ، ثم نما هذا الجزء البسيط ، وتحول إلى ورم خبيث ، وكبرت الغدة حتى خنقتها في العناية المركزة بمستشفى الملك فهد بالمدينة المنورة في الثامن والعشرين من رمضان (1421) تقربياً ، وصلي عليها في مسجد رسول الله r بعد صلاة الفجر ، وكان في الحرم زهاء مائتي ألف مسلم ومسلمة  ، (  ودفنت في البقيع يرحمها الله )، رافقتها خلال العشرين يوماً من حياتها في العناية المركزة ، وكنت أجلس معها أكثر من ثلاث ساعات كل يوم ، وكنا نعرف أنها تعيش لحظاتها الأخيرة ، ثم لفظت أنفاسها ورأسها على ذراعي يرحمها الله ، تألمت كثيراً ، وسوف تبقى صورتها وهي تنازع سكرات الموت راسخة في مخيلتي ، وتمنيت لو أني قدمت لها أضعاف أضعاف ماتمكنت من تقديمـه لهـا يرحمها الله .

ولد لأمي بنتان ، وماتـا ، إحداهن ( كريمة ) أو ( كرما )  عاشت عدة سنوات ، وماتت تحت أكياس المؤونة في البيت ، بعد أن قلبتها صغار الماعز عليها وهي نائمة قريباً منها ، وبقيت والدتي تتألم وتتحسر عليها طوال حياتها . ثم رزقها الله ابنتين وعاشتا وهما ( نومة ) أكبر مني بأربع سنوات و(عيدة ) أكبر مني بسنة ونصف فقط .

في ربيع العام الذي ولدت فيه ( 1946م ) استقرت أسرتنا ، وكفت عن الترحال ، إذ كانت قبيلتنا ـ ومازال القليل منها ـ يرحل شتاء إلى البادية السورية ( جحـار وماحولها ) ، وفي الصيف يرحل إلى شواطئ العاصي ، وربما وصلوا إلى الساحل السوري . واستقرت أسرتنا في خيمة البدو لتنتقل على ضفاف العاصي ، من قرية ( أبو دردة ) التي ولدت فيها ، إلى قرية زبـادة على نهر العاصي ، وفي ذلك العام ( 1952م ) كنا في زور السـوس ، وأقرب مدرسة علينا هي مدرسـة الكافات .

الكـــافـــات

والكافات قرية اسماعيلية في منتصف الطريق بين حماة والسلمية ، وكما هو واقع الشعب السوري ، فإن الأقليات ( النصارى والاسماعيلية والعلوية والدروز ) سبقوا المسلمين السنة حضارياً ، ووجدت عندهم المدارس منذ أن رحل المستعمر الفرنسي ، وربما خلال وجوده ، وكطبيعة البشر الأقليات تهتم وتسعى إلى المحافظة على كيانها ، وتفكر في مستقبلها ، بعكس الأكثرية التي تغرها أكثريتها فلا تهتم بالمستقبل ، وتعتمد على حاضرها ، وتفوقها الكمي الآني ، وأكثر ما ينطبق ذلك على البدو .

وماكان البدو يسجلون أنفسهم خوفاً من الخدمة العسكرية ـ لأن [سفر برلك] ( الحرب العالمية الأولى ) ـ أخافتهم كثيراً ، حيث يذهب العسكري وتنقطع أخباره ، يؤخذ إلى أوربا أو إفريقيا يقاتل في صفوف الجيش العثماني ، ويموت هناك ، أو تنقطع بـه السبل ، ويعيش هناك . وشجعهم على ذلك أن الحكومة الفرنسية وماتلاها من حكومات وطنية كانت تتساهل مع البدو ولاتطلب منهم ـ بطاقة أحوال مدنية ـ ويكفي أن تقول أنا بدوي لتعفى من حمل البطاقة المدنية ، وإذا لـزم الأمر كان الشرطي يعرض ( بصلة ) على البدوي ويسأله ماهذه ؟ فإن قال : ( بْصَـلَة ) بتسكين الباء ، صدقـه الشرطي بأنـه بدوي ، أما إذا قال : ( بـَصَلَة ) بتحريك الباء فهو غير بدوي أي ( حضري ) .

والكافات مثال حي لتلاحم الشعب السوري في الخمسينات ، وعدم التفرقة بين طوائفه ، ولما ادخلتني والدتي مدرسة الكافات كان معي اثنان من قبيلتنا هم أحمد الصالح يرحمه الله ، وابراهيم الخليف الأسعد ، وكان الاسماعيليون في الكافات يرحبون بنا لأننا بدو ولأنهم يتمنون ان يتعلم البدو...ولم تكن أي رائحة للتفرقة الطائفية في سوريا يومذاك ، وكانت علاقة اهل العاصي ( نحن )  بالاسماعيليين علاقة طيبة جداً ، يأتي اهل الكافات يسبحون في العاصي رجالا ونساء ، ولم يعترض اهل العاصي المنشغلون برزقهم وقوت يومهم ...وكنا نحن الأطفال نتفرج وتسجل ذاكرتنا هذه الذكريات ...وكانت النساء الاسماعيليات يسبحن بثيابهن ، فالعرف العام محترم من الجميع ...

وفي شتاء سوريا القارس سكنت في الكافات في غرفة كانت دكان شحود ، كما سكنت عند عاجوز خياطة وكانت تطعمني جزاها الله خيرا وغفر لها ، وكانت أمي تزورني وتبات عندي أحيانا ، وتتعلم من هذه العجوز العمل على ماكينة الخياطة ، لأن والدتي يرحمها الله كانت راغبة جدا جدا أن تكون خياطة واشترت ماكينة خياطة وبقيت عندها سنوات عديدة وحاولت أن تمارس عملها كخياطة ، وليتني احتفظت بماكينة الخياطة لتبقى من التراث عندي ...

وبقيت أسرتنا ( مكتومـة ) أي غير مسجلة في الأحوال المدنية ، لأن المدرسة الابتدائية يومذاك تريد الطالب فقط ، ولم تطلب منا أوراق القيد ( اخراج قيد نفوس ) حتى تقدمنا بطلب لنيل الشهادة الابتدائية ( السرتفيكا) ، عندما طلب منا مدير المدرسة الأستاذ أكرم حداد ( الحموي ) إخراج قيد ليقدم لنا على الشهادة الابتدائية ، وكنت في الصف الخامس في العام (1957م)، عندئذ اجتهد والدي وسجل أسرتنا ، وبعد أن انتهى قال لي : سيأخذونك إلى الخدمة العسكرية يامسكين ، أنت أردت ذلك !! وكان البدو خاصة يخافون كثيرا من الخدمة العسكرية لأن سفربرلك ( الحرب العالمية الأولى ) كانوا يأخذون الرجال للحرب في الجيش العثماني ولايعودون ، إما يقتل أو يجد بلدا خيرا من أهله فيتزوج ويستقر فيه ، ولم تكن يومذاك وسائل الاتصالات موجودة ، فتنقطع أخباره عن أهله ...

دخول المدرســـة :

كنت في السادسة من عمري ، وكان القبول في المدرسة في السابعة يومذاك ، ولكن لاتوجد أوراق مدنية تثبت العمر ، لذلك حملتني والدتي على كتفها ـ يرحمها الله ـ وذهبت إلى مدرسة الكافات ، وكان مديرها من حماة ويسمى ( عبد الكريم ... ) ، وقد رأيته عدة مرات في جامعة دمشق عندما كنت طالباً فيها . وكان هو طالبا يومذاك في الجامعة ايضا ... وكانت سياسة المدارس قبول أي طالب ، بدون أوراق أحوال مدنية ، واستمرت هذه السياسة في القرى ، ومن البدو خاصة ، تقربياً حتى صرت معلماً ،  وسلمتني والدتي للمدرسة ، وكان مدرس الصفوف ( 1، 2 ) هاشم ديوب ، من أهالي الكافات يحمل الشهادة الابتدائية فقط ، وكانت معاملته لنا قاسية جداً ، وبعد ذلك تطوع في الشرطة ، وأراحنا الله منه ،  وكان السيد أحمد الذياب ، وهو وكيل قرية زور السوس يومذاك ، وزميل والدي في العمل يرحمهما الله ، كان في الكافات فاشترى لي دفتراَ وقلماً من دكان ( شـحود ) . وكان مبنى المدرسة في حوش من الطين مستأجر ، يملكه السيد شـحود، صاحب الدكان المشهور ، وكان شيخاً كبيراً يومذاك ،  وكان معي بعض أولاد من قرية زور السوس بعضهم من قبيلتنا ، وبعضهم من الفلاحين ، ومعظمهم في الصف الثالث والرابع . وكنت الوحيد في الصف الأول ، مع إبراهيم الخليف الأسعد من زور السوس ، وأحمد الصالح الأحمد من قرية قريمش يومذاك .

الهـروب من المدرسـة :

كان الأستاذ هاشم يضربنا كثيراً بالعصا ، وأذكر ذات يوم ، كتب لي على الدفتر بقلم حبر ، وأنا لا أعرف كلمة واحدة ، وفي اليوم الثاني ، ضرب الأولاد كلهم ، وأنا منهم ، ولم أعرف يومذاك ، ماذا كتب على دفتري ، ولماذا ضربني ، سوى أنني لما وصل عندي فتحت يديّ فضربني عليهما مثل زملائي . ( فهمت بعد سنين أنه كتب أنشودة ولما طلب تسميعها في اليوم التالي ، ضرب التلاميذ كلهم ) .

وكنت كثير ( التأتأة ) يومذاك ، وخاصة في مثل هذا الجو ، وكان تلاميذ قرية زور السوس ، يضحكون علينا في الطريق ( أنا وإبراهيم الأسعد ) وهو أخشن مني في الجسم ، فيصارعوننا ، ويجعلوننا ننطح بعضنا بالرؤوس ، وغالباً كنت أنا الخاسر ، فيضحكون وهم ( حمود الصخري ، عبد العزيز وهبان العبود ، حسن وهبان  العبود ، أحمد محمد العبود ، .... ) ، وهكذا يضحكون عليّ وعلى إبراهيم الخليف ، طوال الطريق ، وقد سمعت أمي ـ يرحمها الله تقول : خالد يصير أستاذاَ إن شاء الله ، فصدقت وقلت ذلك أمامهم ، قلت : أنا سأصير أستاذاً ، فزاد ضحكهم عليّ . وصاروا يتندرون على هذا الأستاذ ( أبو نص لسان ) ، كما كانوا يقولون عني .

ومرض والدي ـ بمرض أبو صفار ـ وبقي مدة طويلة في المرض ، وصرت أخاف أن يموت والدي وأنا في المدرسـة ، وبالإضافة إلى : 1 ـ قسـوة الأستاذ هاشم . 2 ـ ضحك أولاد زور السوس عليّ طوال الطريق . 3 ـ مرض والدي . قررت الهرب من المدرسـة .

كنا نأخذ فرصة على الغداء من (12 ـ 2) ، ثم ندرس من (2 ـ 4 ) ثم ننصرف . وفي فرصة الغداء ، أخذت نفسي واتجهت غرباً ، والمسافة حوالي ( 3 ـ 4) كلم ، ومشيت خائفاً ، أجري أحياناً وأمشي أحياناً أخرى ، وأتلفت في التلال والوديان خوفاً من الضبع أو الذئب أو حتى الثعلب ... ولما وصلت أعلى مرتفع ورأيت القرية شعرت ببعض الاطمئنان ، ولما وصلت البيت وحدي قالت والدتي : لماذا أتيت ، قلت لها : خلصت ( وأنا اقصد انتهى اليوم المدرسي ) . ولما انصرف طلاب القرية بحثوا عني كثيراً ثم جاءوا وكأن أحد أهالي القرية قال لهم ، مر طفل يتجه غرباً مع الظهر . فجاءوا إلى بيتنا مباشرة ، وفرحوا عندما شاهدوني في البيت ، ولكنهم عنفوني لأنهم بحثوا عني كثيراً .  وفي الصباح رفضت الذهاب إلى المدرسـة وصرت أبكي وأقول لوالدتي : ( يضحكون عليّ في الطريق ..) ، ورفضت الذهاب إلى المدرسة بضعة أيام ووالدتي تتحرق على هذا الحال يرحمها الله ، ثم قالت لي : أنا سأذهب إلى حماة ، وأشتري بدلة جديدة لك ، تلبسها وتذهب إلى المدرسة ، فقلت لها : لا تشتري ..

ثم قابلت والدتي ( أحمد محمد العبود ) وهو أكبر تلاميذ القرية وأعقلهم ، ووصتـه بي ، فتعهد لهـا أن يرعاني ، وأن يمنع الأولاد من التحرش بي والضحك علي ّ ، وأنا أسـمع ذلك ، وفي اليوم التالي صحبتني والدتي ـ يرحمها الله ـ وأوصلتني إلى المدرسة وقابلت الأستاذ هاشم ، وأوصته بي وأعطته ليرة سورية ( فضة ) ، فسألني : ( 1 + 1 )كم يساوي ، قلت له وبسرعة (2) فقال  : ( 2 + 2 ) قلت له وبسرعة (4) ، قال : (4+4) كم تساوي فقلت لـه وبسرعة (8) فقال لأمي : ابنك ذكي ، وصار يهتم بي ، فعـدت إلى المدرسـة ، وجزى الله والدتي خير الجزاء ، وفعلاً اشترت لي بدلـة ، ولم يلبس مثلها إلا زميلي في الصف الأول وحتى الثالث ، من أهالي الكافات ( علي حسن موسى ) دكتور في الجغرافيا حالياً ، وكان منافسي على الدرجة الأولى في الصف الأول والثاني والثالث ، وكان والده من وجهاء قرية الكافات ، وأعتقد أن أمـه من قرية تقسيس . وفعلاً صار ( أحمد محمد العبود ) جزاه الله خيراً ، يكف الأولاد عني في الطريق ، ويقول لهم : وصتني أمـه بـه ، اتركوه ، وقد تعهدت لهـا أن لانضحك عليه .

الأستاذ ياسين بارودي يرحمه الله :

ومن نعم الله علي ّ أن جاء إلى المدرسـة الأستاذ ياسين البارودي متخرج من دار المعلمين يرحمه الله ، فصار يعاملنا معاملة مدرس مؤهل تربوياً ، فانطلقت معـه ، وصرت من أوائل التلاميذ ، ولأنه من مدينة حماة ، صار يهتم بنـا ـ التلاميذ الغرباء ـ أي من خارج قرية الكافات ، وبتعبير آخر ، من غير الاسماعيليين ، وزاد ذلك الاهتمام ،  الهدايا الكثيرة التي صارت والدتي يرحمها الله ترسلها له ( بيض ، زبـدة عربية ـ قشـطة عربية ـ لبن عربي ) بل أنـه زارنا في البيت ، في خيمة الشعر أكثر من مـرة ، وكان ذلك من تقدير الله ورعايته ، كي أستمر في المدرسـة . وفي نهاية العام اعترض المدير على نجاحي للصف الثاني لأني صغير السـن جداً ، فقال له الأستاذ ياسين يرحمه الله : هذا أحسـن طالب عندي ، واستمع المدير إلى قراءتي ، وسألني عدة أسئلة في الجمع والطرح فأجبت عنها كلها وبسرعة ، وكنت متفوقاً منذ الصف الأول في الرياضيات ، ولذلك وافق المدير على نجاحي للصف الثاني ، وطار عقلي وعقل والدتي من الفرح عندما أحضرت الشهادة ومكتوب فيها ( الدرجة الأولى ) . وحافظت على الدرجة الأولى حتى نهاية المرحلة الابتدائية .

وفي الصف الثاني ، مازلنا في قرية زور السوس ، وكان والدي يعمل ( وقافاً ) أي حارساً ، وهي وظيفة أقل من الوكيل ، لأن الوكيل كان أحمد الدياب يرحمهم الله جميعاً ، وكان عندنا حصان أو أكثر تملكهم ( الخانم ) وهي مالكة القرية واسمها ( اسعاف هاشم ) أم العقيد زياد الحريري ، وكانت تأتي إلى القرية بسيارتها ، وكنا نتجمع حول السيارة ونحاول أن نرى الأحصنة التي في داخلها التي تحركها ( !!!) ، وكنا معشر البدو نرى هؤلاء البشر من طينة أخرى ، ثيابهم وأشكالهم ونعومتهم تختلف عنا اختلافاً كبيراً ، وعندما تصل سيارة (الخانم) ترى الوكيل أحمد الذياب ، والوقاف ( والدي ) ينشطون في الحركة وتنفيذ الأوامر ، وتوفير كل ماتطلبه ( الخانم ) ، فإذا تعذر توفيره في الحال ، أمرت والدي أن يوصله لهـا في حماة بعد يوم أو يومين . وكان بقية أهالي القرية يحسدون والدي والوكيل أحمد الذياب على وظائفهم ومكانتهم وقربهم من ( الخانم ) .

في الصف الثاني كان أستاذنا ياسين البارودي أيضاً ، وفي الصف الثالث جاء لنا الأستاذ محمد سهيل الحافظ ، وهو حموي أيضاً ، وكعادة الحمويين ـ جزاهم الله خيراً ـ كان يهتم بالطلاب الغرباء الذين هم من خارج الكافات .

ومازلت أذكر في الشتاء حيث البرد والأمطار ، تتلقانا أختي الكبيرة ( أم راتب ) أو ( والدتي ) ومعها ( الحمارة ) لأركب على ظهرها في الطريق ، وأحياناً يركب معي عبد العزيز وهبان العبود لأنني لا أستقر على ظهر الحمارة وحدي ، وكان بقية الطلاب يغنون لـه ( سـيري يا سـميرية ، سـيري واطلبي الميـة ) وهي أغنية شعبية يومذاك تغنى عند زفـة العروسـة ، وكانت العروسة تـزف على الناقـة غالباً ، وربما الفرس ، قبل انتشار السيارات . وكانوا يغنون هذه الأغنية .

وربما وجدت والدتي أحياناً ، تتلقاني في منتصف الطريق ، وتحملني على كتفها ، وأنا في السادسة من عمري ، وقد رزقها الله جسماً متيناً يرحمها الله ، تحملني على كتفها وتمشي ، وكأنها تحمل ريشـة .

ولا أنسى أيام الربيع الجميلة ، حيث تخضر الأرض ، وتنتشر فيها الأزهار ، ونذهب في الصباح الباكر مع شروق الشمس ، ولم نكن نعرف الساعات يومذاك ، وأول مرة أضع الساعة في يدي كنت في الصف الخامس ، وكنت ثاني أو ثالث إنسان يملك ساعة يد في القرية يومذاك ، ولها قصة تأتي في حينها . كنا نتعامل مع الشمس ، نذهب صباحاً والشمس اللطيفة في وجوهنا ، ونعود عصراً وهي أيضاً لطيفة وفي وجوهنا ، شمس الربيع في سوريا .

وفي هذا العام (1954 ) زار ابن سعود سوريا ، ولما وصل حماة طلب محافظ حماة أن تجهز كوكبة من الفرسان لاستقباله ، ولما كان والدي سائس حصاني الخانم ، لذلك طلبت  الخانم منه أن ينزل على ظهر الحصان ليشارك في هذه الكوكبة ، ونزل والدي ، وأردفني خلفه على الحصان ، وفي ميدان السرايا في حماة اصطفت كوكبة الفرسان ، وقابلنا أخي لأبي ( نزال يرحمه الله ) فأخذني من والدي ، وصرت أمشي معه ، ورأيت والدي أعطاه ليرة سورية أو ليرتين ( فضة ) على الأكثر ، وكنت مدللاً عند والدي وأخي نزال وأمي يرحمهم الله جميعاً ، فأطعمني أخي ، وسقاني العصير ...وكان أخي نزال يقول لي : هؤلاء طلاب المدارس مثلك ، هيا قف معهم ، وكانت مجموعات كبيرة من طلبة المدارس ، تأخذ مكانها في ميدان السرايا ...وبقيت مع أخي حتى عدت مع والدي إلى خيمتنا في قرية زور السوس ...

وفي صيف ذلك العام ( 1954م) بعد نجاحي من الصف الثاني إلى الصف الثالث ، وقعت مشاجرة كبيرة بين عشيرتنا ( الدغامشة ) وأهل تقسيس ، وقتل فيها بالرصاص ؛ رجل من البدو المناصرين لأهل تقسيس اسمه ( سعيد القريمة ) اتهم بقتله ( ابراهيم العبود ) .

قرية الشيخ عبدالله

وفي ذلك الصيف انتقلنا من زور السوس إلى قرية الشيخ عبدالله ، وهي مزرعة ناشئة ، تقابل زور السوس من غربي نهرالعاصي ، يفصل بين أراضيهما النهر فقط . وقد استأجرها المزارع المشهور ( خالد الطواشي ) يرحمه الله أصله من قرية الجرنية ، لكنه سكن حماة ، وكان متفتحاً ، وتزوج عدة زوجات ( فلاحة وهي أم الدكتور فايز ) ، وعلوية ( أم غالب ) ، وحموية ( أم غازي ) ، وآخر زوجاته  فطيم بدوية تسكن حماة . وتوفي يرحمه الله قبلهن جميعاً . وكان عنده وكيل من قبيلتنا ( نواف العلاوي ) يرحمه الله ، وساعده أنه يعرف القراءة والكتابة ، ومتفتح ( ذكي ) يختلف عن الآخرين ، وأحضر ( الطواشي ) الفلاحين يعملون عنده ( بالربع ) مقابل عملهم اليدوي ، حيث يقدم لهم الأرض والماء والبذور والأسمدة ، وعليهم العمل اليدوي ، ولهم ربع الانتاج ، ويسمون ( المرابعون ) وكان والدي أحدهم ، وكنا مع بيت عمي حسين يرحمه الله الذي كان قبلنا في هذه القرية ، أسرتان فقط من الشنتوت ، وباقي الأسر كلهم من ( البومطر ) وكلانا من قبيلة الدغامشة . وكانت الشيخ عبدالله تتكون من الأسر التالية :

نواف العلاوي ( مطري ) وأخوه خالد العلاوي  ، أحمد الحسن له زوجتان ( مطري ) ، حسين الحمود (مطري ) ، عادل الطواشي ( فلاح ) ابن أخ المزارع الكبير ، ويوسف الطواشي ابن خالد الطواشي يرحمهم الله جميعا ...

ابن خالد الطواشي وأمه ( أم فايز ) ، وأم غالب الطواشي ( زوجة الطواشي ) ، و ( أبو عليوي ) كان ( أجيراً ) عند الطواشي ، وابراهيم الشعيبي ، وطراد السعيد ، وكلاهما من فخذ الشهاب من قبيلتنا ( الدغامشة ) ، وأحمد الشنتوت ، وحسين الشنتوت . ومازلت أذكر الليلة الأولى التي نصبنا خيمتنا في قرية الشيخ عبد الله ، وبعيد المغرب جاء ( خالد العلاوي ) وقد نصبنا خيمتنا جواره بطعام العشاء ، وهو يعتذر عن التأخير .

وبسبب ذلك النقل من شرقي نهر العاصي إلى غربـه ، كان علي أن أنتقل إلى مدرسـة تقسيس ، وهي أول قرية في منطقة العاصي أسست فيها المدرسةعام ( 1948م) بجهود علي السعيد مختار قرية تقسيس ، وكان على صلة بوجهاء حماة يرحمه الله ، ونقلت إليها ، في منتصف العام ، لأنني داومت في الخريف في مدرسة الكافات ، وانتقلنا إلى قرية الشيخ عبد الله في أول الشتاء ، وكان مدير مدرسة تقسيس الأستاذ أديب السمان ، ومعه الأستاذ أحمد الروبـة ، ومن الطلاب من قرية الشيخ عبدالله محمد بن نواف العلاوي ، وكان ابن عمي فجر السليمان ومعه نواف الصالح ، وفيصل الأحمد المبارك في الصف الخامس تقريباً ، وكان الأستاذ أديب السمان يفرض نظاماً مشدداً على المدرسة ، وكانت المدرسة زراعية ، يهتمون فيها بزراعة الحديقة الكبيرة المسورة حول المدرسة ، ومساحتها عشرات الدونمات ، وكانوا يأخذوننا لصيانة الأسلاك الشائكة التي تحيط بهذه الأرض ، وأخذونا أيضاً لنقل ( اللبن ) من وسط القرية إلى المدرسة حث بنت المدرسة مستودعاً يقع شرق المبنى المدرسي المبني من الحجر الأسـود .

ولم أتكيف مع الجـو المدرسـي ، ورفضت الذهاب إليها ، وأجبرت أهلي على إعادتي إلى مدرسة الكافات ، فاستأجروا لي بيتاً عند شـحود ، ( دكان قديم ) وسكنت معي والدتي بضعة أسايبع ، ثم تركتني بعد ذلك عند عجوز ( خياطة ) ، حتى انتهى الشتاء
كدت ان اموت في بيب الناعورة :

صرت اذهب كل يوم وأقطع العاصي من عند ( السـكر ) سـكر ناعورة قريمش ، والسـكر جسر من الخشب ، يدق ويدعم ليجعل تيارالمـاء يدخل في ( بيب ) قناة الناعورة كي تدور الناعورة ، وتحمل المـاء إلى الساقية في أعلى الناعورة ، ثم تقاد المياه من هناك إلى بساتين القريـة ، وكانت في منطقتنا عدة نواعير منها ناعورة الجنان على جسر الجنان وهو الجسر الوحيد في المنطقة ، وناعورة قريمش ، ثم ناعورة زور السوس ، ثم ناعورة الجرنية ، وأخيراًناعورة الرملية ، وتوجد عدة نواعير في أبو دردة وغيرها لم تكن قربية منا .

كنت أقطع هذا السـكر يومياً في الصباح وفي العصر ، وأنا تلميذ في الصف الثالث ، أي في السنة التاسعة من عمري ، وفي الربيع نصبنا خيمتنا مقابل ناعورة قريمش .

أمـام ( بيـب ) التـاعورة :

(بيب) الناعورة هو مجرى الماء الذي تساق المياه إليه ، ليكون تيار الماء قوياً يحرك الناعورة ، والناعورة ضخمة جداً ، ربما نصف قطر دائرتها يزيد على(  3 ـ 4 ) أمتار ، من الخشب القوي ، ومربوط بمسامير ضخمة جداً طول الواحد منها ( 20 ـ 30 ) سم ، وقطره لايقل عن ( 1 ـ2 ) سم ، لذلك ينبغي أن يكون تيار الماء قوياً جداً ؛ كي يحركها ، ولذلك يبنون جسراً ( يسد النهر كاملاً ويحول الماء كله إلى بيب الناعورة ) أو سـكراً (يحول بعض الماء إلى بيب الناعورة )، وهذا السـكر يملأونه أيام مواسم العمل بأغصان الصفاف كي يضيقوا الفتحات التي يمر منها الماء ، ويحولون معظم الماء إلى بيب الناعورة ، فتدور الناعورة بسرعة وتزيد كمية الماء التي تصبها في الساقية ، وللناعورة لحن يفهمه من يسمعه كما تنطوي عليه نفسـه ، فالمسرور يسمعه لحناً سـاراً وكأنه أهازيج عرس وزغاريد ، والمحزون يسعمه بكاء ً وعويلاً . ويمر الماء في البيب تحت الناعورة بنصف متر على الأكثر ، أي أن الكائن الحي الذي يسقط في البيب سوف تمزقه الناعورة بعد أن تعصره على أرض البيب وهي من الاسمنت ، ثم تمزقه ليخرج من أسفل البيب قطعاً متناثرة ، وكنا نشاهد ذلك عندما تأتي جثة حيوان في النهر وتدخل البيب لتمر الناعورة عليها وتمزقها .

وأمام الناعورة مساحة من الاسمنت ، تغطي مقدمـة البيب ، كي يمر المشاة عليها ، قد تضيق فتكون ( 50 ـ 60 ) سم ، وقد تتسـع لتكون متراً واحداً في الجسور ، حيث تمر الحيوانات على الجسر ، أما السكر فلاتمر الحيوانات عليه ، المشاة من الناس يستطيعون المرور منه ، لأنهم يمشون على أعمدة خشبية غالباً ، ولذلك تكون هذه المساحة التي تغطي مقدمة البيب ( 50 ـ 60 ) سم وربما وصلت إلى المتر في حالات نادرة ، ليمر عليها المشاة في حذر ، وهم ينظرون داخل البيب فيرون عنفات الناعورة المخيفة تدخل البيب لتخرج من الجهة الأخرى محملة بالمـاء .

والمشكلة أنه في العصر يتحرك الهواء الغربي ، ويسقط ( رشراش ) الناعورة على هذا الدرب الضيق ، فيصير زلقاً ، وبين الفينة والأخرى ينتبـه أحد المحسنين فينظفه جيداً من الطحالب التي تنبت بسبب رشراش الناعورة ، والرجال الراشدون يلبسون الجوارب ويمروا فوقـه عندما يكون ممطوراً برشراش الناعورة ، والجوارب تثبت القدمين ، وتحفظهما من الانزلاق .

قلت نزل أهلي بخيمتهم مقابل ناعورة قريمش في ربيع ( 1955م) وكنت في الصف الثالث في مدرسة الكافات ، أقطع سـكر ناعورة قريمش في الصباح والعصر ، أما في الصباح فلاتوجد مشكلة لأن ذلك الدرب يكون جافاً ، وأما في العصر فالمشكلة خطيرة جداً ، ولكن الله يسلم ، وربما في الصباح رافقتني شقيقتي أو أمي حتى أمر من هذا الحاجز الخطير ، أما في العصر فتكون أمي وشقيقاتي في البستان للعمل فيه طول اليوم ، ويكون والدي في البيت ، ينتظر وصولي ، ليطمئن على نجاتي من هذا الطريق الخطر .

كدت أموت

ذات يوم زلقت قليلاً وسقطت على الأرض ، أرض الدرب ، عن يميني على بعد بضعة سنتمترات بيب الناعورة ، وعن يساري كذلك على بعد بضعة سنتمترات الفتحة المؤدية إلى البيب ، ووالدي  يجلس في تلك الرابية ينظر إلي ، ولما كان الأجل لم ينتـه بعد ، لم أضطرب ، بل تصرفت بحكمة عجيبة ، زحفت على بطني مغامراً بثيابي التي اتسخت بشكل كبير جداً ، وتابعت الزحف إلى الوراء حتى بعدت عن مكان الخطر ، ووالدي ينظر إلي ولم يتحرك من مكانه ، ثم غيرت وضعي ، وكأنني خلعت حذائي ، أو تناولت عصا كشطت بها الطحالب التي زلقتني ، ومررت حذراً ونجاني الله من الموت . ولما وصلت والدي وجدته يبكي ، وقال لي لم أستطع أن أقوم من مكاني وسلمه الله كذلك من الشلل أو الفالج لهول مارأى .

وذات يوم بعثت معي شقيقاتي ، وبنات خالتي مريم ، كي أحضر لهم ( فازلين ) يدهنون به أيديهن ليقلل خشونتها بسبب العمل في الأرض والتراب ، ولما عدت من المدرسة عصراً ، وكنت أحمل كتبي بالإضافة إلى علبتين أو ثلاث من الزجاج فيها ( فازلين ) ، وكنت متضايقاً من هذا الحمل ، ولما بقي لي أقل من نصف الطريق ، وأرى خيامنا على الربوة مقابل الناعورة ، ناديت مراراً ، ولكن الريح كانت  غربية وقوية ، وكنت أتجـه غرباً ، ولايمكن للصوت أن يصل بعيداً إذا كان معاكساً للرياح ، وغضبت وكسرت أواني الفازلين ، ووصلت البيت غاضباً ، وأقول لهن لماذا لم تسمعوا صوتي !!؟ لقد ناديت عليكم حتى انتفخت ، وتعجبوا من حمقـي ، فلماذا كسرتها !!؟ لو تركتها في ذلك المكان !!؟ وذهبت شقيقتي ( نـومـه ) إليها وجمعت مااستطاعت من الفازلين ، من فوق الصخرة التي كسرت الأواني عليها .

وانتهى العام الدراسي ، ونلت الدرجة الأولى ، وأحمد الحمدو حصل على الدرجة الثانية ، وتاج الدين سفر  ( ابن الجندي صاحب الطاحونة ، الذي خطف فتاة من البوعاصي ، وقتلها أخوها فيما بعد كعادة العرب ) حصل على الدرجة الثالثة أو الرابعة وعلى حسن موسى مثله .

ديــك الــوز :

وفي ذلك العام أيضاً ، كنت لما أنصرف من المدرسـة أرى وزة تقود عدداً من الصيصان الصغيرة خلفها ، وحدثتني نفسي أن أمسـك أحد هذه الصيصان ، وفعلت وأحضرته معي إلى البيت ، وبنيت له ( قـناً ) في تلك الربوة ، واعتنيت بـه ، حتى إذا كبر صار ينزل إلى النهر ، ويعود إلى القـن ، وسـررت كثيراً بـه ، ثم صار ينام في السـكر ، وكبر كثيراً ، وعرض علي والدي أن أذبحـه ونأكله ، ولكن صعب علي أن أذبحـه بعد أن ربيتـه صغيراً حتى كبر . وذات يوم لم نـره ، وبحثنا في السكر وحوله فوجدنا بقايا ريشـه وعظامـه بعد أن أكله الثعلب .

مـدرســة تقسيس :

في بداية العام الدراسي ( 55 ـ 1956 م) أصر والدي أن أنتقل إلى تقسيس  ، كي أبتعد عن خطـر بيب الناعورة ، وفعلاً انتقلت من بدايـة العام الدراسي إلى الصف الرابـع ، وكان زميلي في الطريق محمد نواف العلاوي ، في الصف الثالث ، وعبد الرحمن بن سلوم الشعلان ، في الثالث أو الثاني ، وأحمد سلوم داود ( ابن سليمان الحجي مختار الجرنية يومذاك ) في الصف الرابع ، ومحمد عيدو الزايد ( الملقب بالشيخ )من ( قبيحة ) معي في الرابع ، وأخوه فوزي ( ابن البدوية ) وابن عمـه عبد العزيز بن سليمان الزايد ، ومن تقسيس زميلي العزيز عبد الحسيب السبسبي ، وأخوه وحيد ، وغيرهم كثير .

كنا نذهب في الصباح مع شروق الشمس ، وترى الطريق من زبادة إلى تقسيس فيه جماعات من الطلاب ، والتي أذكرها من الشيخ عبدالله أنا ومحمد النواف ، ومن زور ناجية عبدالرحمن السلوم الشعلان ، ومن الجرنية كثير منهم أحمد السلوم الداود ، ومن حنيفة عدد كبير منهم محمود وخالد الديري ، وعبد الحميد الصخري .

وكان أستاذنا عمر البرادعي ، من يبرود ( وربما هو نصراني ) ،   متخرج من دار المعلمين الابتدائية الريفية ، وكانت مدرسة تقسيس في ذلك الحين مدرسة ريفية ، تدر س مادة الزراعة ( نظري ، وعملي ) ، وكنا نتضايق من هذه المادة كثيراً ، لأننا رغبنا في المدرسة كي نتخلص من الزراعة ورعي الأغنام ، وكان للمدرسـة أرض واسـعة جداً ، وكان الاستاذ عمر البرادعي نشيطاً جداً ، وشاباً يلبس قميصاً ( نصف كم ) ويخرج معنا لصيانة الشريط الذي يسـور المدرسـة ، وقد أثـر فيّ ذلك الموقف ؛  ممـا شـجعني على الالتحاق بدار المعلمين فيما بعد .

كان في المدرسـة ثلاثة مدرسون ، المدير عبد الرؤوف العلواني ، وعمر البرادعي ، وثالث من قرية الطيبة اسمه محمد الخطيب ، وكان الصفان الأول والثاني في غرفة ، الخامس والرابع في غرفة مع الأستاذ عمر البرادعي ، والثالث في الغرفة الصغيرة ، ويستلمه مدير المدرسة ، والغرفة الرابعة كانت سـكناً للمدرسين . وكان معنا في الغرفة طلاب الصف الخامس ، ومنهم خالد السعيد وهو كبير جداً ، كان أحياناً يتصارع مع الأستاذ عمربرادعي ، وربما يقدر عليه لو أراد .

اندمجت في جو المدرسـة ، وتآلفت معها ، ونسيت مدرسة الكافات .

أمـون الحمـاديـة :

اعتاد أولاد قبيلتنا في الشتاء أن يسكنوا عند عجوز تعيش مع أمها فقط ، اسمها أمون الحمادية ، وفي الشتاء حيث يشتد البرد وتكثر الأمطار ، نحضر معنا الخبز والبيض وبعض المؤونة كالبرغل والسمن ، وفراش ونسكن عند العمـة آمون ، وننام في غرفة واحدة ، كنت أنا الكبير في الرابع ( 10) سنوات ، ومحمد النواف مثلي ، وربما سكن معنا عبدالرحمن الشعلان . وكانت يرحمها الله تعتني بنا وتتفقدنا ليلاً كي لانتكشف ونبرد ، وقد وفقني الله فلم أقطع صلتي بها حتى توفاها الله قبل سنتين أو ثلاث حوالي (2000م) ، وقد سـكنا عندها عام (1956 ) و( 1957) . وقد سبقنا إلى السكن عندها فجر الشنتوت ونواف الصالح وفيصل المبارك ، لما كانوا طلاباً قبلنا في تقسيس .

ومما أذكره عن قرية تقسيس أن الرجال في الشتاء يلعبون ( القل ) وهو كرات صغيرة بلاستيكية ملونة ، يلعب بها الأطفال ، وكان الرجال في الشتاء يملون من الجلوس في البيت ، ويملون من لعب الورق ( الشدة ـ الباصرة ) فيلعبون بالكرة القروية ( قطعة قماش ملفوفة ومضغوطة جداً ) ، يقذفونها بعصي معقوفة أيضاً ، وهي من الألعاب الخشنة جداً ، تتطلب الجري السريع مثل كرة القدم ، وقد يصاب فيها بعضهم إصابات بالغة . وكان ذلك قبل أن يكتشف الناس الذهاب للعمل شتاء في لبنان ، لأن منطقتنا يومذاك تزرع القمح والشعير ، وموسم زرعها في الخريف ، وحصادها في الصيف ، وفي الشتاء لاتتطلب عملاً ، ويزرعون القطن وموسم عمله في منتصف الربيع حتى نهاية الخريف . لذلك يبقى الرجال طوال الشتاء بدون عمل .  وفي الستينات تقريباً ، عندما تتابع القحط والجدب طوال فترة الوحدة ، تعرف الناس عندنا على العمل في لبنان ، وصار معظم الشباب يسافرون إلى لبنان للعمل فيها ، عندما كانت الليرة اللبنانية تعادل ليرة سورية ونصف وربما تصل إلى ليرتين تقريباً أحياناً ، وكان الدولار لايزيد عن ليرتين لبنانيتين فقط ، أما الدولار مع الليرة السورية فيعادل ثلاث ليرات ونصف ليرة سورية فقط .

وفي هذا العام كان من زملائي غازي عزالدين ( والده يعرف بأبو أربعة ) ، وأخوه الأكبر أول مهندس زراعي من منطقتنا ، وهو الجامعي الوحيد ( من الفلاحين ) الذي سبقني ـ وهو أكبر مني سناً ـ وقد حصل على بعثة بعد الثانوية الزراعية إلى جامعة عين شمس في القاهرة لدراسة الهندسة الزراعية ، وكان زميله مروان حديد يرحمه الله .

تربية الحمام :

غازي عزالدين كان معي أو بعدي بصف ، والمهم اشتريت من عنده زوج حمام (فراخ ) ، وربيتهم عندنا في القرية ، وزدت عليهم حتى صار عندي برج من الحمام ، كنت أبني لـه الأبراج فوق الغرفـة التي أعطانا إياها ( الطواشة ) ، يتجـه البرج إلى الشـرق على نهر العاصي ، وبقي الحمام حتى تركنا قرية الشيخ عبدالله عام (1962م) بسبب الصراعات داخل القبيلة بين الشنتوت والشعلان ، بعد خطف ( شموسـة الجاسم ) ، حيث وقف البومطر وهم أغلب أهالي الشيخ عبدالله مع الشعلان وصاروا ضدنا .

وفي نهاية العام حصلت على الدرجة الأولى على الصف الرابع كعادتي والحمد لله رب العالمين ، وكان معنا من الجرنية الطالب خالد الجخة ( خالد الديري ) وأخوه إبراهيم ، وفي نهاية العام سرت شائعات أن بعض الأولاد سيرصدون لي الطريق ، ويضربونني لأني تفوقت عليهم وحصلت على الدرجة الأولى ، لذلك حضر والدي على الفرس ( النواقية ) وكنا قد اشترينا نصفها من خضير الشنتوت ، وبقيت عندنا مدة طويلة ، حضر والدي على الفرس وتلقاني على الطريق قريباً من تقسـيس وأردفني وراءه على الفرس وعاد بي إلى البيت خوفاً من تلك الشائعات .

وكان نواف العلاوي يرحمه الله ، يتابع تفوقي في المدرسة ، ويطلبني لأجلس مع ولده محمد ، وأدرسـه ، وخاصة في الرياضيات ( وكنا نسميها الحسـاب ) ، وكنت أسبقه بصف واحد ، مع أنه من جيلي تماماً ، ويبدو أنه رسب في إحدى السنوات .

الصف الخامـس : (1957)

كانت هذه السنة مميزة في حياتي ، وتركت عندي آثاراً ايجابية كثيرة ، وكان فيها كثير من المستجدات منها دخول شقيقي سليمان ( يرحمه الله ) إلى المدرسة ، وكذلك دخول ابن عمي أحمد المبارك ، وكان يمشي مع أولاد حنيفة ، وكانوا يهتمون بـه كثيراً ، لأن والده يعمل وقافاً أو وكيلاً عند حسين هاشم مالك قرية حنيفة ، وكان عمي يرحمه الله حسن الأخلاق والتعامل مع الجميع .

ومنها أني عريف عام المدرسـة ، فأنا عريف الصف الخامس ، وهو الصف المتقدم في المدرسة ، وكان المدرسون يغيبون أحياناً يوم السبت بسبب الأمطار ، وهم أكرم حداد ، ومحمد الحيط (حمويان ومن الإخوان المسلمون )، وابراهيم جنيد وكأنه من حوالي دمشق ، ولما يغيبون كنت أمثل المدير في المدرسة ، فأعين عرفاء على كل صف ، ومدرسين للصفوف الأولى يعلمونهم ، ومازلت أذكر منهم ( حسن حسون ) ، وكنت أجلس في الإدارة وأظن نفسي مديراً ، وربما عاقبت بعض الطلاب ، وأقدم تقريراً مكتوباً لمدير المدرسة عندما يصل . وقد سـر المدرسـون لذلك ، لأن المدرسة كانت تمشـي بغيابهم ، فيدق الجرس ، ويخرج التلاميذ إلى الفسـح ، كما يـدق ويعودون إلى الفصول ، وكأن المدرسين حاضرون .

تربية الأرانب

في هذا العام ربيت الأرانب ، وأول مرة اشتريت من (خالد الجخة ) بعد أن أحضرها   إلى المدرسة ، وصارت من نصيبي ب (2) ل.س ، وقد أعطاني الأستاذ ابراهيم جنيد ليرة من عنده ، ووضعتها في بيت ( أمونة الحمادية ) وسطا عليها القـط ، فجرحهـا ، ثم ذبحناها وأكلناها ، ودفع معي محمد النواف من ثمنها .

وفي المرة الثانية ذهبت مع محمد عيدو الزايد إلى قبيحـة ، بعد أن أرسلت كتبي مع أخي سليمان ، وصادف ذلك اليوم أمطار غزيرة وسيول ، وخافت عليّ والدتي ، فذهبت تبحث عني ، والتقت معي في الطريق ، والأرانب في فرجي ( الفرج طرف الثوب الخارجي الأسفل ، بعد أن يرفع ويجمع ويوضع فيه حاجات ، وتستخدم النساء ذلك كثيراً أثناء جني القطن  ) ، بعد أن خافت والدتي كثيرًا علي من السيول ، ولقينا أحد الرجال ، وقد سمع أن والدتي تبحث عني وهي خائفة ، فقال لي ضاحكاً : إن شاء الله أرانبك بخير !!؟

حفرت للأرانب جحـراً ، وجعلت في داخله حجرات للنوم ، وصالون للجلوس ، وممرات ، ثم سـقفته ، وكان أمام الغرفة التي بنيناها ، أو أول غرفة بنيناها بأيدينا ، ( 4×3) من اللبن ، وسقفها من الأعمدة ثم أغصان الصفصاف ، كان جحـر الأرانب أمامها ، أي في الطرف الجنوبي من القريـة . وقد فرحت كثيراً يوم رأيت أفراخ الأرانب تخرج من الجحر ، بعد أن غابت الأم بضعة أيام ، لم أكن أرها ، ثم خرجت الأرانب الصغيرة ، وبدأ التكاثر السريع ، فملأت القرية ، وبقيت بعد أن تركنا القرية وصارت مشاعاً لمن يستطيع أن يقتل منها ويأكل .

وفي الصف الخامس كما أسلفت تم تسجيل أسرتنا في الأحوال المدنية ، من أجل إحضار إخراج قيد لتقديمه من أجل الشهادة الابتدائية ( السرتفيكا ) ، وقد تعب والدي يرحمه الله واجتهد حتى وفر ذلك ، وقد سجلوني مواليد (1945) لأنني كنت في الصف الخامس ، وفي الواقع كبروني سنة ، وأنا تقول والدتي من جيل ( خالد أحمد العلاوي ) وكانت أسرتهم تقطن حماة وتسجيله في عام (1946) . وهذه الزيادة ساعدتني كثيراً في حياتي كما سنرى .

أثناء العام نزلت مع والدي إلى حماة وبتنا عند ابن عمي فجر السليمان الشنتوت ، وتعرفت عنده على الأستاذ ( علي دنكرها ) المحامي فيما بعد ، وأوصى علي ابن عمي أن لايدخلني قسم اللغة الفرنسية ، وكأنني كنت مريضاً وراجعت الطبيب محمد فؤاد الأسود ، وشخص مرضي ( في الأعصاب ) ، وحذرني من تناول البصل والفلفل طوال حياتي .

امتحان الشهادة الابتدائية :

في نهاية العام نزلنا إلى حماة لنقدم امتحان الشهادة الابتدائية ، وقد جمعونا في ثانوية الصناعة ونادوا على أسمائنا ، وكم كنت قلقاً وأنا اسمع نداء الأسماء وأقول لنفسي ( ماذا لو لم أسمع اسمي !؟ ) ثم سمعت اسمي والحمد لله ، وتقدمت للامتحان ، ونمنا في الفندق مع أولاد عيدو الزايد وسليمان الحجي ... ولم نكن نذاكر في الليل أبداً ، ونذهب في النهار للامتحان ونجد الأسئلة سهلة جداً . بل ذهبنا إلى السينما ، وفي يوم آخر حضر ابن عمي فجر وأخذني إلى بيت أحد أصحابه ( كان آذناً في متوسطة ابن خلدون ) وكان ولده معي في الصف الخامس ، ومازلت أذوب خجلاً لأنني دخنت في بيتهم ، متأثراً ب ( الشيخ ) ابن عيدو الزايد ، وقد اشترينا عدة سجائر عندما ذهبنا إلى السينما ، وفي الصيف ظهرت النتائج ،وكانت نتيجتي مميزة ولله الحمد ، وفرزت آلياً إلى إعدادية ابن خلدون .

الصف السادس :

في عام (1957) عندما كنت في الصف الخامس ،كان الصف السادس تابعاً للمرحلة المتوسطة (الإعدادية ) ، وفي هذا العام (1958) حيث طبقت الوحدة الثقافية مع مصر ، صنف الصف السادس مع المرحلة الابتدائية ، لذلك لما حضرنا في بداية العام إلى ابن خلدون قالوا لنا اذهبوا إلى مدرسة البحتري ، وتقع على سطوح السوق الطويل ، قريبة من الدباغة ، وجمع فيها الصف السادس الابتدائي ، من أبناء الريف ومن مدينة حماة ، كان جميع الطلاب من الصف السادس ، ولم تكن ثمـة كتب ، فكان المدرسون يملون علينا أمالي ، ومنهم مدرس اللغة العربية الأستاذ فهمي الحموي ، وأستاذ التربية الإسلامية ....شـققي ، والغزال ، وغيرهم ، وكان المدير مفيد العظم ...

استأجرت لي والدتي بيتاً صغيراً عند ( أم كاكيش ) صاحب دكان بقالة في حي الفراية ، واشترت لي نصف تنكة من الحلاوة ( القرمشلية ) ، ومازلت أستغرب كيف اطمأن أهلي على تركي وحيداً وعمري ( 11ـ 12 ) سنة ، ومازلت أذكر أنني أجوع فأفتح هذه التنكة وآكل منها قليلاً فتعافها نفسي لشدة حلاوتها ، ولمللي منها ، وتعلمت فيما بعد على ( السندوتش ) الفلافل ، وكانت بخمسة قروش فقط ( فرنك واحد ) فيها قرص فلافل واحد ، وخبزة ، وطماطم ، ويدهن الخبزة بلبنة ، وبعد مدة استأجر لي أهلي غرفة كبيرة مع فجر عند كاكيش نفسه ، وكانت غرفة نظيفة وكبيرة ، وكان ابن عمي فجر عازباً وقد تطوع في الجيش ، بعد أن سكن في حماة ودرس السادس والسابع ، ثم ترك الدراسة وكبر مواليده وتطوع في الجيش ، وتزوج من حماة واستقر فيها ، وفي ذلك العام ، اذكر أصحابه ومنهم ( فيصل الشاكر) يلعبون بالورق ، ويرسلونني إلى ساحة العاصي اشتري لهم ( مشبك ) ساخن ، وقد أذهب مرتين أو ثلاث في الليلة ... وكنت كل خميس أذهب إلى القرية ...وأعود محملاً بالخبز واللبن والبيض والسمن ، وكانت والدتي يرحمها الله تهتم وتتابع مصروفاتي ، وكنت أتحايل عليها كي أحصل على ( ربع ) ليرة سورية أذهب بها إلى سينما الفردوس ، وكانت أرخص من جميع دور السينما في حماة ، وكان في حماة يومها سينما دنيا ، وسينما حماة ، وسينما الأمير ... ومازالت أغنية فائزة أحمد التي تضع اسطوانتها سينما دنيا لتجلب الزبائن ( أنا قلبي إليك ميال ) مازالت تـرن في أذني حتى اليوم لحناً وكلمات ....

وقبل نهاية العام مرضت وتغيبت عن المدرسة بضعة أيام ، ثم تخرجت من الصف السادس الذي كان يومها ( مرحلة بين المرحلتين ) فلم يكن من المرحلة الابتدائية ، ولامن المرحلة الإعدادية ، وقد حذفت منه مواد ( اللغة الأجنبية ، الفيزياء ، الكيمياء ، التشريح ) وقد كانت تدرس في العام السابق ، وبدلت بكتاب العلوم فقط ...

ووضع بقية طلاب السادس من مدينة حماة ومن القسم الغربي من المدينة في مدرسة فوزي القاوقجي ، وكان منهم خالد أحمد العلاوي ...

الوحـــدة بين سوريا ومصر :

وفي هذا العام قامت الوحدة بين سوريا ومصر في (22/2/1958) ، وقد قضينا أياماً كثيرة في الاحتفالات ، وخاصة في الليالي ، وفي الأحياء التي كانت تتسابق في إقامة الحفلات والمهرجانات بهذه المناسبة كما أن إذاعة دمشق كانت تبث الأغاني القومية التي رسخت في اسماعنا ومنها : آوها قامت الوحدة ( لصباح ) ، وحدة مايغلبها غلاب (       ) ، وطني حبيبي الوطن الأكبر ( عبدالوهاب ، عبد الحليم حافظ ،أم كلثوم ، فائزة أحمد ، وغيرهم ) ، دعاء الشرق لمحمد عبد الوهاب ،

وقد زار جمال عبد الناصر مدينة حماة في هذا العام أو العام الذي يليه ، وكان يركب ( بيجو قديمة جداً ) المقعد الثاني فيها لايرى الراكب فيه ، ومحمية أمنياً ، وكنت أقف عند شارع العاصي ، أمام فندق أبي الفداء عندما مر من ذلك ، وأخرج يـده من النافذة يحيي الجماهير ... وفي يوم الاحتفال الرسمي ، خرجنا وكنت مع فريق الكشافة في المدرسة ، خرجنا طوابير بلباسنا الكشفي ، واصطفينا في ميدان السرايا لاستقبال جمال عبد الناصر ، ولما ألقى كلمته على المواطنين ، كانت الجماهير تضج بالتصفيق ، وكنت كسائر الطلاب مفعماً حب الوحدة ، وزعيمها عبد الناصر الذي خطب في الأمم المتحدة باللغة العربية لأول مرة ...

إعداديـة ابن خلدون :

وفي العام الدراسي ( 1958ـ1959) دخلت المرحلة المتوسطة في إعدادية ابن خلدون ، وكانت قرب الشرطة العسكرية ، حي ( المغيلة ) وهي دار عربية كبيرة فيها دوران ، وفناء يصلح للمدرسة ، ولها باب كبير ، وأذكر أنها كانت ستة فصول اثنان للأول متوسط ، واثنان للثاني متوسط ، واثنان للثالث متوسط ، أحدهما كبير ( 30) طالباً تقريباً وهو قسم اللغة الانجليزية ، والآخر صغير ( 20) طالباً تقريباً وهو قسم الفرنسية ، وكان الفرز حسب القرعة مع تدخل واسطات أحياناً ، وكانت المرغوبة الانجليزية ...     وفي السنة الأولى علمنا الأستاذ شفيق الأحدب اللغة الانجليزية ولم نستفد منه شيئا ، وهو تاجر تعلم الانجليزية ، وصار مدرسا لها ، وكان يمضي الوقت في كتابة ( structure) طوال الحصة وكنا نرسم الكلمات رسما دون ان نعرف قراءتها ....

الأستاذ سميح سعيدان :

وفي الصف الثامن جاء لنا مدرس فلسطيني أشقر اللون اسمه سميح سعيدان ، وقد اهتم بي كثيراً ـ جزاه الله خيرا ـ وصار يطلب مني القراءة كل يوم ، حتى صرت أهتم بالانجليزية مما جعلني اتفوق بها على خلاف طلاب حماة عامة ...وكانت حصة من الانجليزية قصة وفيها كتاب عنوانه ( the head of Madusa) وهي من أساطير الاغريق ، كان الأستاذ سميح يجلس على طاولة وسط الفصل ويقرأ القصة ويشبر بيديه ورأسه حتى نفهم عليه ...

ولما كنت طالبا في دور المعلمين ، كنت أزور بيت ابن عمي فجر جزاه الله خيرا في حماة ، وطلبت مني السيدة ( نورية ) شقيقة زوجته وكانت طالبة في الكفاءة أن أدرسها هذه القصة وعنوانها ( around  the  world  in eighty dayes) وأحضرت معها زميلتها فاطمة البغدادي وفكرت أن أخطبها لكن النصيب سبق وتزوجت ابنة عمي أم ثائر ...وفي القصة بطل يسمى ( passepartout) ومازال لفظه يتردد في سمعي حتى اليوم ....

 

طبعاً في الجامعة كانت مادة دراسات فلسفية بلغة انجليزية من المواد الصعبة على معظم الطلاب الحمويين ، وكنت متفهماً لها وهي نصوص فلسفية باللغة الانجليزية ، ولاأنسى المادة الوحيدة التي حملتها للعالم الجديد هي الانجليزية للصف الثالث وكان استاذها عبد العزيز علوني ( من دير الزور ) موظف في الخارجية ، والسبب أنه جاء بسؤال أساسي يقول ( what  is  logic) ورسبت فيه ، وفي الدورة الثانية كرر السؤال نفسه فرسبت فيه ايضاً ، ونجحت به مع مواد السنة الرابعة (1968) السنة التي تزوجت فيها ، حيث حفظت هذا الموضوع غيباً وأظن أنه كرره حتى في الدورة الأولى في العام الثاني ونجحت فيه ولله الحمد والفضل والمنة حيث تخرجت في الدورة الأولى 1968 وذاك العام الأول حيث صار عندي طاولة أضع عليها الكتاب عندما أذاكر فيه ، والطاولة مع جهاز العرس ...

 
RocketTheme Joomla Templates