المبحث الثاني
سنوات الوحدة مع مصر
على طريق الوحدة مع مصر (التقارب بين القطرين) بدأت الحكومة السورية تتقرب من مصر منذ عام 1956م فقد صرح الدكتور ناظم القدسي في 24/1/1956 في القاهرة " بأنه إذا ما اتحدت الدول العربية كافة، لتشكيل جمهورية واحدة ، فإن هذه الدولة ستكون من أكبر دول العالم " . وفي عهد وزارة صبري العسلي ، جرى البحث في مسألة الاتحاد بين القطرين بناء على رغبة الأكثرية النيابية(19) . وقد سعى السياسيون في سوريا ومصر نحو التقارب بينهما من أجل الوقوف أمام التحالفات المشبوهة، ومطامع دولة إسرائيل ، ومما زاد من الضغوط الدولية ، تدخل الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ، بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر، وإدراكها لحدوث (فراغ) وخطر على المنطقة من جانب الاتحاد السوفيتي ، ولذلك أصدرالرئيس الأمريكي (أيزنهاور) مبادئه المعروفة من أجل أن تملأ الولايات المتحدة هذاالفراغ ، وكانت مبادئ أيزنهاور، تنص على أن تقدم الحكومة الأمريكية المساعدة لصدعدوان الشيوعية الدولية، بناء على طلب الحكومات المعنية في المنطقة ، وكانت أمريكا تعتقد أن سوريا تتعاون مع الدول الشيوعية اقتصادياً، فكل هذه المخاوف أدت إلى إسراع الخطا نحو الوحدة ، وكانت قد نشأت بين عبد الناصر وحزب البعث علاقة خاصة حتى أصبح حزب البعث في عام 1956م من أشد الداعين له حماسة .. وكانت سياسة مصر مبنية على سياسة الجامعة العربية منذ عام 1945م ، والقائمة على أساس إقامة تكتلات بين دول الجامعة تحت زعامتها، وليس في تحويل وحدات عربية آسيوية صغيرة إلى وحدات أكبر ... وكان عبد الناصر، يرغب في السيطرة على السياسة الخارجية للدول العربية المجاورة، بتنحية الحكومات المعادية والإطاحة بها، إذا ما دعت الضرورة إلى ذلك، وليس بالاتحاد معها أو إلحاقها به(20) . وبسبب ما تقدم ، وبسبب ظروف المنطقة ، اعتنقت مصر فكرة القومية العربية ، بروح هادئة عملية ، من غير أن يملي إيمان عميق الجذور بالوحدة السياسية ، كما هو الأمربالنسبة لسوريا(21) . وكانت قوى اليسار قد دفعت بالمسؤولين في سوريا للتوجه نحو مصر، فبعد عام 1955م ، أخذ الروس يعرضون الدعم والتأييد والسلاح لمواجهة الأخطار الغربية، ولذلك أخذت سوريا تستهدف قيام ثورة شعبية في سوريا، تدار من قبل الحزب الشيوعي من خلف ستار، وهنا يأتي دور خالد العظم، ذلك أنه ليس له ماضٍ نضالي ضد الفرنسيين ، وليس له حزب سياسي يدعمه ولذلك بدأ يلتفت نحو اليسار باحثاً عن التأييد ، وربما كان سنده الرئيسي خالد بكداش، الذي كان في مركز يتيح له توجيه تعليمات لعفيف البزرة رئيس الأركان العامة ، وبذلك كانت سوريا تحكم من قبل جبهة تقدمية منذ عام 1956م ، ولكن من خلف ظهرالحكومة ، وكان من قادة هذه الجبهة البارزين : خالد العظم وخالد بكداش وزعماء البعث الحوراني والبيطار، إضافة إلى صبري العسلي الذي دعم مركزه من خلال استغلاله الماهر لخلافات الآخرين ، وكان هؤلاء الخمسة يجتمعون في منزل العظم مراراً ، من أجل المناقشة والتنسيق السياسي، وقد تقاسموا السلطة مع حلفائهم من العسكريين : السراج (مدير المخابرات العسكرية) ، وعفيف البزري والنفوري مع خالد العظم(22) . وكان الصراع بين كتل الجيش السوري من أبرز الأسباب للارتماء في أحضان مصر والتوجه نحو عبد الناصر : " كانت الوحدة في إحدى جوانبها حصيلة صراع طويل بين الجيش والسياسيين في سوريا ، وهو صراع شغل السياسة السورية منذ عام 1949م ، فاضطر الضباط إلى التوجه نحو القاهرة بسبب فشلهم في الاتفاق فيما بينهم ... فقد أدت التنازعات والعداوات السياسية منذ أواخر عام 1957م ، إلى تحويل الجيش السوري إلى مجموعة من الأجنحة المتصارعة ، مما جعلهم يلقون بأنفسهم في أحضان الوحدة وعبد الناصر ، ليتخلصوا من تلك الصراعات "(23) . ومن أجل ذلك سافر وفد مكون من (14 ضابطاً) صباح 12/1/1958م ، دون علم الحكومة، والتحق بهم صلاح البيطار وزير الخارجية ... وتوصلوا بعد ذلك (في شهر شباط/1958م) إلى ميثاق الجمهورية العربية المتحدة ، وكان عبد الناصر يطلب التمهل في الوحدة الاندماجية، إلا أن العسكريين تحدثوا عن حالة الفرقة بينهم ، والتي كانت تؤدي إلى إعلان حالة الاستنفار الدائم في الثكنات لأن كلاً منهم يتوجس خيفة من الآخر، ويمكن أن تتدهور حالة البلاد في نزاعاتهم ، ثم وصف الضابط حالة الانقسام بين الأحزاب السورية ، التي تنافرت اتجاهاتها السياسية، وتحدثوا عن نشاط الشيوعيين وعن أسلحة تُهرّب إلى سوريا عن طريق أنصار حلف بغداد ... وعن الشخصيات السياسية المتهالكة ، على قبض الأموال من الخارج ، مما يعني أن سوريا أصبحت وطناً معروضاً للبيع(24) . ومن ثم توجه وفد إلى القاهرة يمثل العساكر والنواب والوزراء ، وعرضوا على عبد الناصر إعلان الوحدة ، على أن تكون تامة شاملة بين القطرين .. واستمر عبد الناصر يطلب إليهم مهلة للتفكير في الأمر، أو هكذا كان يتظاهر ولكنهم أصروا عليه لقبول طلبهم ، فكان لهم ما أرادوا ، أعلن بعد ذلك قيام الجمهورية العربية المتحدة في 22/شباط/1958م ، وأعلن الرئيس شكري القوتلي من شرفة قصر الرئاسة في القاهرة تنازله عن الحكم للرئيس عبد الناصر في خطابه المشهور، وسط احتفالات رسمية وشعبية منقطعة النظير(25) . وأطلق على القوتلي لقب المواطن الأول في الجمهورية العربية المتحدة ، وكان إعلان هذه الوحدة أملاً طالما سعى إليه السوريون منذ اشتراكهم في ثورة الشريف حسين ، وابنه فيصل ، ومساهمتهم في حكومته في دمشق ، إلا أنها فرحة لم تكتمل، وآمال أحبطت، بسبب مجموعة من العوامل والظروف، بحيث لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات .
(1) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص400، وص411 .
(2) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص406 – 408 .
(3) المرجع السابق/ ص408 .
(4) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص411 – 412 .
(5) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص416 .
(6) الانقلابات العسكرية: محمد أبو عزة/ ص317 – 318 .
(7) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ ص311، والنكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص440 – 442 .
الوحدة المرتجلة والتناقضات المتعددة
كان قيام الجمهوريـة العربية المتحـدة قراراً تاريخياً ، حقق آمال الأمة بالوحدة . ففي 5/شباط، كان قد تم ترشيح جمال عبد الناصر لرئاسة الجمهورية، وذلك ضمن جلسة لمجلس النواب السوري، تحولت الجلسة في نهايتها إلى تظاهرة شعبية، تعالت فيها الهتافات لعبد الناصر . وفي 22/شباط/1958م ، تم الاستفتاء في سوريا ومصر على انتخاب الرئيس ، ففاز عبد الناصر بنسبة 2ر99 (1) . وهي النسبة التي جرى عليها مَنْ بعده من الرؤساء في العالم الثالث، وكانت صناديق الاقتراع قد ملئت بالأوراق التي زادت في بعضها على عدد المسجلين(2) . وكانت السياسة الداخلية لعبد الناصر، والسياسة الخارجية، قد أدت كلها إلى تناقضات غريبة، انتهت إلى مأساة وإحباط ، وتمزيق كيان الوحدة ، وكان الارتجال والعجلة، وعدم التخطيط من أبرز أسباب الانفصال ، وسوف نلقي الضوء على محوري سياسة عبد الناصر (بعد الوحدة) في الشؤون الداخلية والخارجية ، السياسة الداخلية لعبد الناصر خلال سنوات الوحدة : عندما كان الوفد العسكري بمصر يطالب بتحقيق الوحدة، كان عبد الناصر قد وضع خطتين يرى أنهما لازمتان لموافقته· الأولى حل الأحزاب السياسية في سوريا، أسوة بما يجري في مصر ، والثانية حل المجلس العسكري السوري ، وإبعاد الجيش كلياً عن السياسة في سوريا . وبعد المناقشات أعلن الوفد موافقته، وأعلن الأمين العام لحزب البعث حل الحزب ، وذلك في 25/شباط/1958م(3) . وكان أول قرار اتخذه عبد الناصر، هو عزل اللواء عفيف البزرة من منصبه كقائد للجيش السوري ، الذي سمي بالجيش الأول في دولة الوحدة، وبإحالته على التقاعد بعد أن أنعم عليه برتبة فريق ، كما أصدر عدة قرارات بتسريح مجموعة كبيرة من الضباط السوريين ممن كانوا يوالون عفيف البزرة ، باعتبار أنهم من أصحاب الاتجاه اليساري، وعهد إلى المقدم عبد الحميد السراج ، مدير المخابرات السورية بجميع السلطات التنفيذية والسرية ، وأطلق يده في تصريف شؤون القطر السوري . ثم شكل وزارة اتحادية ، مقرها القاهرة ، تضم أكثر من خمسين وزيراً من رجال القطرين، وكان بينهم عدد كبير من كبار الضباط السوريين الذين كانوا يسيطرون على قطعات الجيش ، وهكذا عادت البلاد إلى الحكم العسكري المباشر، حكم عسكري مباحثي فريد من نوعه، في الإرهاب والتجسس ، ثم صدرت قرارات بإلغاء جميع المؤسسات الدستورية والمنظمات الشعبية ، وحل جميع الأحزاب ، وكفى الله المؤمنين والعساكر القتال ؟!(4) . وبعد بضعة أيام ، بدأ قادة حزب البعث يشعرون بالندم ومدى التضحية التي قدموها في سبيل الوحدة ؟! وبعد ثلاثة أيام من تولي عبد الناصر للسلطة في سوريا، قام بتشتيت أقطاب حزب البعث، وإبعادهم إلى خارج سوريا ثم قام بحركة تنقلات شملت الضباط البعثين، فقد نقل بعضهم إلى مصر، وتم توزيع آخرين ضمن سوريا، بحجة إعادة التوازن داخل صفوف الجيش ، ولكن هذه التنقلات لم تمنع الحزبيين من ممارسة نشاطهم حتى وهم في القاهرة ، فقد شكل الضباط - وأكثرهم من البعثيين والباطنيين - لجنة عسكرية بعثية، وهم حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران (وهم نصيريون) ، وعبد الكريم الجندي (إسماعيلي) ، ومصطفى طلاس (أحد أذنابهم) ، وكان البعثيون قد استلموا في مصر مراكز حساسة ، فكان حافظ الأسد مسؤولاً عن مطار القاهرة العسكري ، ومصطف طلاس رئيساً لأركان الكتيبة الرابعة المدرعة في الإسماعيلية ، وهكذا كان تسللهم المريب(5) . ومنذ اليوم الأول للوحدة ، كان البعثيون يطرحون على عبد الناصر وجهات نظرهم للإصلاح ، وذلك بتصفية الشيوعيين من الجيش وقدموا عن طريق مصطفى حمدون قوائم بأسماء الضباط الماركسيين ، وكان عفيف البزرة يتبنى الأفكار الماركسية ، وقام بنقل للرئيس عبد الناصر مخاوفه من تغلغل ضباط البعث، وقدم له قوائم بأسمائهم . وعندما احتدم الصراع بين الطرفين ، سرح عبد الناصر عدداً من الضباط الشيوعيين ، فقدم البزرة استقالته احتجاجاً على ما يجري(6) . وفي أواخر عام 1959م، كان الخلاف البعثي مع عبد الناصر قد استفحل، مما جعل وزراء البعث يقدمون استقالتهم ، وهم : أكرم الحوراني وصلاح البطار، ومصطفى حمدون، وعبد الغني قنوت(7) . وازداد التذمر عند أكثر العسكريين والمدنيين السوريين، ولم يمض ستة أشهر على إقامة الوحدة ، فكان عفيف البزرة أول المتذمرين ، فقد حلم بتسلم قيادة الجيش الأول ورئاسة المجلس التنفيذي، لكنه وجد نفسه عاطلاً عن العمل وهو برتبة فريق ، ومن ثم وقع الضرر على الملاكين الذين شملهم قانون الإصلاح الزراعي بكل شدة ، وأوذي التجار بسبب قرارات وزارة الاقتصاد، التي كانت تبيح الاستيراد وتمنعه بدون تروٍ، وحسب المصالح الخاصة .. ووجد المئآت من الموظفين المدنيين والعسكريين أنفسهم في الشارع، بعد صدور قرارات تسريحهم العشوائية .. وكثر المصريون الذين وفدوا بالآلاف، ليعملوا في كل شيء ويزعمون – مباهاة - أنهم من رجال المباحث ، جاؤوا ليراقبوا الأوضاع لمصلحة الوحدة ، أما رجال الأحزاب فقد أصبحوا من رواد المقاهي العامة، يقضون أوقاتهم في قراءة الصحف والمجلات .. (8) . وكان لعبد الحميد السراج(9) : جهاز أمني رهيب، كان خليطاً من أسوأ النماذج البشرية، يقومون بالقتل والسلب والنهب والسرقة، ويضايقون المواطنين لأتفه الأسباب، ومن خلال الإرهاب في التحقيق، مع فرض إتاوات كبيرة على التجار ثم أسندت إليه سكرتارية الاتحاد القومي في سوريا أيضاً ، ومنصب رئيس المجلس التنفيذي الذي عين به عام 1960م وكذا منصب رئيس المؤسسة الاقتصادية بعد ذلك ، مما جعله يمسك بقبضته كافة الأجهزة الإدارية والسياسية والأمن والاقتصاد، ولم يسبق لأي مسؤول في سوريا أن تمتع بهذه السلطات من قبل،مما جعله يطمح لأن يكن رجل سوريا الأوحد في حمى عبد الناصروظله(10) . وكان الضباط المصريون قد جاؤوا إلى سوريا بنفسية متعالية فكان كل واحد منهم يعتبر نفسه أنه هو عبد الناصر، وكانوا غالباً يتجاوزون التسلسل العسكري، ولم يكد يحل ربيع عام 1961م ، حتى كانت سوريا كلها في حالة غليان عامة(11) . ولذلك قال عبد الناصر خلال زيارته إلى اللاذقية ، بمناسبة ما يسمى بالعيد الثاني للوحدة ، في خطاب له من شرفة نادي الضباط : " إن الذين يتصدون الآن لمسيرة الوحدة من أصحاب الشعارات الفارغة - يقصد البعثيين - ويضعون العراقيل في طريقها ، سندوسهم بالجزم "(12) . لقد كان بريق الوحدة العربية بشكل عام ، تحت قيادة عبد الناصر خارج مصر أشد منه داخلها، وكان عبء النظام البوليسي وفشل الاقتصاد الاشتراكي، ظاهراً واضحاً في مصر ، أما سوريا فقد أصبح التذمر شديداً ، لأن هيمنة مصر كانت قوية ، وبسبب حل الأحزاب السياسية، ووضع الضباط السوريين في مناصب أقل شأناً ، وبحلول عام 1959م، انتشرالشعور بعدم الارتياح في سوريا من تطبيق الإجراءات الاشتراكية، مما سبب عداء التجار للحكم وخاصة في المدن الكبرى، إضافة إلى استياء السياسيين، وضباط الجيش ، ومرور مواسم الجفاف والقحط على مدى ثلاث سنوات متتابعة .. كل ذلك أدى إلى الانفصال السريع (13) .
السياسة الخارجية خلال سنوات الوحدة
لقد أشعل عبد الناصر الثورات في أنحاء العالم العربي ، فعم التوتر والاضطراب في المنطقة ، وقد أشار نائب رئيس الموساد (ياكوف كروز) إلى ذلك حين قال : " لقد أطلق جهاز المخابرات المصري والسوري العنان لعملياتهما التخريبية المشتركة ضد كل من لبنان والعراق والأردن ، وكان العمل السري هو الشكل الرئيسي في ذلك الوقت للاتصال بين الجمهورية العربية المتحدة والبلدان الأخرى ." وقد بدت سوريا ومصر في أوائل عام 1958م ، تتصدران الموجة الحادة الداعية إلى القومية العربية، والمناهضة للأمبريالية وأدت الموجة العارمة الموالية للناصرية، إلى الإطاحة بالحكم الملكي في العراق في شهر تموز، واستخدمت كل من مصر وسوريا العمليات السرية والإرهابية في نطاق لا مثيل له، لإشعال الاحتجاج والسخط عند الشعوب "(14) . وقد دفع قيام الوحدة بين سوريا ومصر كلاً من الأردن والعراق إلى إنشاء الاتحاد الهاشمي بينهما في 14/شباط/1958م ، ووصف ملك العراق (فيصل الثاني) هذا الاتحاد على أنه انعكاس للتطلعات والطموحات الحقيقية للشعب العربي ، إلا أن هذا الاتحاد لم يدم سوى خمسة أشهر، فحصل في 14/تموز انقلاب دموي في العراق، ذهب ضحيته الملك والأسرة الحاكمة ونوري السعيد، وألغي الاتحاد، ورحب عبد الناصر بالنظام الجديد في العراق (15) . لقد أشعل عبد الناصر الثورات في معظم أنحاء العالم العربي مدعوماً بقوى خارجية خبيثة منذ عام 1952م ، واستراحت دولة إسرائيل خلال سنوات الوحدة بسبب حسن الجوار وتشديد قبضة عبد الناصر على الجيش والمواطنين ، خلافاً للسنوات التي سبقت عهد الوحدة ، وكان رأي المخابرات المركزية الأمريكية : " أن عبد الناصر كان زعيماً وطنياً، يمكن أن يؤمّن تعاونه ضد الاتحاد السوفييتي بواسطة التوجه الأمريكي، ولذلك ساعدت أمريكا في تدريب ضباط المخابرات المصرية منذ عام 1952م "(16) . يقول مايلز كوبلاند خلال تعليقه على حرب عام 1967م : " لقد مهدنا - نحن الأمريكيين - الطريق لناصر، ولقد سلك هذا الطريق، ولم يكن من المخالفين، ولو أننا رسمنا له طريقاً آخر مختلفاً، فلعل الأمور كانت ستجري على غير هذا النهج، ويبقى دور نار في مستقبل أمريكا معتمداً على نوع المستقبل الذي يخبئه لنا القدر "(17) . ويقول في موطن آخر حول علاقة عبد الناصر مع الدول المجاورة “وعندما شارف عام 1958م على الانتهاء ، كان عبد الناصر قد بلغ ذروة القوة، إلا أنه فشل في ضم لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة، كما فشل في ضم الأردن لها، بعد قيامه بمحاولة انقلاب أخرى هناك ... وهكذا بدا عبد الناصر في الأوحال غرقاً، وفي المتاعب غائصاً، تعصف به الأنواء، وتنزل به الكوارث من العالم العربي، إلا أن تلك الهزائم المتلاحقة، عادت إليه بأرباح ومساعدات مالية وفنية لا حصر لها سواء من أمريكا أو روسيا ... فقد بلغ حجم المساعدات في السنوات الأربع التالية لعام 1958م، أكثر من مليار من الجنيهات المصرية ، أي حوالي (2.3 مليار دولار)(18) . لقد كان ذلك ثمناً لتفجير الثورات والانقلابات في أنحاء العالم العربي ، وقد انجذب الفلسطينيون في الأردن ، وعدد من أهل الأردن إلى الحركة القومية على طريقة عبد الناصر أملاً في نصـر قضيتهـم، وكثيراً ما قمع هذا التيار بشدة من قبل الحكومة، وكثيراً ماتفجّر الوضع واضطر الملك حسين أن يقف مواقف معينة أيام الأزمات، كما حدث في السنوات التي سـبقت وتلت حرب 1967م ، كما أن السياسة المصرية تمكنت من إيجاد صدى إيجابي في أحداث لبنان، خاصة بين صفوف أهل السنة والدروز وقسم من نصارى الأرثوذكس، فتجسد التيار الناصري في لبنان، في عدد من المنظمات الناصرية، التي ما تزال موجودة حتى يومنا هذا ، مثل : المنظمة الناصرية الشعبية في صيدا ، والاتحاد العربي الاشتراكي ، وقد اتحدا عام 1987م (19). وحول دور عبد الناصر في قضية فلسطين وتنازلاته المشبوهة تحت ظل شعارات الضجيج الإعلامي، والتطبيل المأجور يقول كوبلاندكان : " عبد الناصر وضباطه يعتبرون هزيمة الجيش المصري في عام 1948م ، هزيمة مريرة يصعب تناسيها، وأن شعور الكراهية لإسرائيل أمر لا يمكن التغاضي عنه كمبررات لأية ثورة في البلاد " ، ولم تمض خمس سنوات على تلك الهزيمة في فلسطين ، حتى كانت مناقشات عبد الناصر ورفاقه مع المئات من الضباط ، قدانتهت إلى رأي معاكس ، ولم يستفتحوا ثورتهم بهذه الشعارات ، لأنها لن تفيد الثورة شيئاً ، وقد أخبر عبد الناصر، ضابط الاستخبارات الأمريكية (روزفلت) بأن نقمتهم ستُصب في الدرجة الأولى على كبار ضباط الجيش المصري المتورطين في نكبة عام 1948م ، ثم على بقية حكام العرب والبريطانيين ، وأخيراً على إسرائيل ؟! "(20) . وقد كشفت مذكرات (موشي شاريت) أن مصر كانت تفضل حتى عام 1955م ، أن تتجنب الدخول في أي صراع مع إسرائيل، وما يتطلبه ذلك من زيادة في التسلح ، وتجمع المصادر الأصلية الفلسطينية والإسرائيلية، على أن مصر كانت تعارض معارضة مطلقة أي هجمات فلسطينية على إسرائيل، في الوقت الذي كانت تجري فيه محادثات سرية بين عبد الناصر وشاريت· وأن دراسة أجراها المستعرب الإسرائيلي (يهود يعاري) تستند إلى " سجلات المخابرات المصرية العسكرية التي استولت عليها إسرائيل خلال حرب سيناء، تؤكد أن السلطات المصرية كانت حتى الغارة على غزة تتبع سياسة ثابتة في إيقاف أي تسلل فلسطيني من قطاع غزة إلى إسرائيل، وأن السياسة الجديدة لتنظيم الفدائيين، وتحويلهم إلى أداة رسمية في الحرب ضد إسرائيل لم تبدأ إلا في أعقاب الغارة على غزة "(21) .
(1) هؤلاء حكموا سوريا: د. سليمان المدني/ دار الأنوار، دمشق وبيروت/ص110 – 111 .
(2) الانقلابات العسكرية: محمد أبو عزة/ص315 .
(3) هؤلاء حكموا سورية: د. سليمان المدني/ ص113، دار الأنوار/ 1999م، ط4/ دمشق وبيروت .
(4) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص443 – 445 .
(5) هؤلاء حكموا سورية: د. سليمان المدني/ص114 وما بعدها .
(6) هؤلاء حكموا سوريا: د.سليمان المدني/ ص116 .
(7) المرجع السابق/ص919، والانقلابات العسكرية في سوريا ص338 .
(8) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ ص334 – 335 .
(9) وزير داخلية سوريا، ورئيس المخابرات العامة فيها .
(10) هؤلاء حكموا سوريا/ص122 - 123، والحرب السرية في الشرق الأوسط/ص220 .
(11) الانقلابات العسكرية في سوريا ص339 – 340 .
(12) المرجع السابق/ص339 .
(13) الحرب السرية في الشرق الأوسط/233 .
(14) الحرب السرية في الشرق الأوسط: أندرو راثمل/ص219 .
(15) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ص225، ص221 .
(16) المرجع السابق .
(17) لعبة الأمم: مايلز كوبلاند/ص322: تعريب مروان خير/ بيروت/ 1970م .
(18) لعبة الأمم: مايلز كوبلاند/ص278 .
(19) ينظر: الشرق الأوسط الحديث/ج4/ص25 - 27، ترجمة د. أسعد صقر، إشراف ألبرت حوراني وزملائه .
(20) لعبة الأمم: مايلز كوبلاند/ ص89 تحت عنوان: فشل في سوريا وأمل في مصر (1951 - 1952) عندما كانت المخابرات الأمريكية تبحث عن الزعيم المقترح صاحب الانقلاب القادم .
(21) ينظر: يوميات شاريت، نشرت بالعبرية في تل أبيب، وينظر أبو إياد في كتابه: وطني وأرضي ص22، نقلاً عن الشرق الأوسط، الحديث/ الجزء الرابع، ترجمة الدكتور أسعد صقر ص31 .
لماذا انهارت الوحدة بهذه السرعة؟!
إن سياسة عبد الناصر الداخلية والخارجية ، قد أدت إلى انهيار الوحدة بعد ثلاث سنوات، رغم أنها كانت محط آمال الأمة العربية منذ مطلع هذا القرن ، لقد كان قيام الوحدة المرتجلة ، دون تخطيط في المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية ، من أبرزأسباب تمزق الوحدة،كان تحقيق الوحدة قد اعتمد أساساً على زعامة عبد الناصر(22) . وخروجاً من تناقضات الحكم في سوريا قبل الوحدة ... وكانت قرارات شهر يوليو (تموز) الاشتراكية من أهم دوافع الانفصال .. وكان اعتماد عبد الناصر على شخص واحد في إدارة الإقليم الشمالي (عبد الحميد السراج) قد جعل بعض العناصر التي اشتركت في إقامة الوحدة ، تسارع إلى تأييد الانفصال كما أن عدم الاتصال الجغرافي بين الإقليمين ، كان له دور فعال في ذلك الانفصال ... ولا ننسى نزوع السوريين إلى الروح الفردية ، والثورة على أية سلطة تفرض عليهم القيود "(23) . رحم الله أياماً خلت، حينما كان الناس هم الناس ، أما اليوم فقد روضهم هذا الطاغوت النصيري طوال نصف قرن فاستكانوا ... ولعل فرجاً قريباً سيأتي من عند الله ، ويظهر أن دكتاتورية عبد الناصر كانت سبباً في مآسٍ ثلاث قاتلة ، وهي :
· محاولة القضاء على الإسلام عقيدة وشريعة .
· محاولة القضاء على حرية الفرد وإذلاله .
· انهيار كيان الدولة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً (24) .
فعبد الناصر بحكم تكوينه النفسي ، ذو طبيعة دكتاتورية حاقدة ، وكانت طبيعته هذه تأبى عليه أن يشرك أحداً معه في الرئاسة، وتأبى عليه أن يظهر بمظهر المعتمد على غيره عند تقرير القانون أو تطبيقه، ولا سيما بالنسبة للإسلام الذي يجهله كل الجهل(25) . وقد اصطنع عبد الناصر عدة أسس لتحقيق دكتاتوريته وضمان استمرارها وهي :
· إقامة نظام سياسي لا تعارضه أية قوى سياسية أو اجتماعية .
· رفض المعارضة أياً كان نوعها رفضاً كاملاً .
· الإرهاب الفكري والسياسي والاجتماعي .
· اصطناع أسلوبين في الحكم ، أسلوب التظاهر بالديمقراطية لمخادعة الشعب والعالم ، وأسلوب دكتاتوري خاص بالمعاملة الفعلية الواقعية للشعب(26) . ومن طبيعته أنه لا يسهل عليه إقامة علاقة صداقة بمعنى الكلمة مع أي إنسان، فهو متشكك دائماً، وهو الحذر المليء بالمرارة، العصبي المزاج، على حد تعبير السادات . وهو يميل إلى العمل السري، فلا يقبل إلا الرئاسة .. ومما يجسد دكتاتوريته هو تميزها بشذوذ ليس له نظير في تاريخ الزعامات الدكتاتورية ، التي امتحنت بها الإنسانية ، ذلك أن عبد الناصر رغم تمجيده للشعب وتسبيحه بفضله، فإنه يزدريه تعللاً لفرض وصايته عليه(27) . أما الوحدة فكان سعي عبد الناصر الدؤوب بغرض وحـدة تكون - كما يزعم - نواة للوحدة العربية الشاملة، دون أن يكترث مطلقاً بنوعية الشخصيات التي يقيم معها اتفاق الوحدة ، من حيث عقيدتهم الدينية ، وماضيهم السياسي ونظرتهم إلى الإسلام ..
|