تصويت

ما تقييمك للموقع ؟
 

المتواجدون الآن

يوجد حاليا 136 زوار 
تاريخ سوريا الحديث للانصاري -5

أضواء على الانقلاب الجديد وصاحبه

كان الحناوي قد أمر بأن يذاع البلاغ العسكري رقم (1) في 14/ آب/1949م ، والذي جاء فيه : " قام جيشكم الباسل بالانقلاب لينقذ البلاد من الحالة السيئة التي وصلت إليها، ولكن زعيم ذلك الانقلاب - حسني الزعيم - أخذ يتطاول هو وحاشيته على أموال الأمة ، ويعبث بالقوانين وحرية الأفراد، ولهذا وبعد الاعتماد على الله عزم جيشكم الباسل أن يخلص البلاد من الطاغية ورجاله، فأنقذ شرف البلاد، وآلى على نفسه أن يسلم الأمر إلى الأحرار المخلصين من رجالات سورية، وسيعود الجيش إلى ثكناته، ويترك السياسة إلى رجالاتها "(7) . وكان أول مرسوم أصدره اللواء سامي الحناوي ليلة 14/آب قد قضى بتعيين عديله الدكتور أسعد طلس أميناًَ عاماً لوزارة الخارجية من الدرجة الأولى، وكان أسعد طلس هو الذي يدير السياسة الخارجية والداخلية من وراء الستار. لقد انتقم أسعد طلس لكرامته المهدورة ، وكان انتقاماً رهيباً حقاً ...كما أصدر الحناوي مرسوماً يقضي بتأليف حكومة جديدة، عين فيها الأتاسي رئيس الجمهورية السابق رئيساًً لمجلس الوزراء، وعين فيها خالد العظم وزيراً للمالية، وناظم القدسي للخارجية، وعفلق للمعارف، وأكرم الحوراني للزراعة (8) . ونُشر بعد أسابيع من الانقلاب الثاني قانون الانتخابات الجديد وقد وصفته الصحف بأنه تقدمي يقضي على سيطرة رجال الإقطاع والمال، وأعطيت المرأة فيه حق التصويت ، وصرح أكرم الحوراني بأن هذا القانون ألغى المذهبية كخطوة أولى     - أي ألغى الطائفية - ، تتلوها نتائج اجتماعية كبيرة ... وعادت جريدة (البعث) للصدور، ودارت مباحثات بين أقطاب البعث وحزب الشعب حول إمكان وضع قائمة انتخابية مشتركة بين الحزبين ، وأعلن الحزب الوطني على لسان رئيسه بأنه لن يشترك في الانتخابات لأن الضمانات غير كافية . وبدأ الزعيم الجديد يندفع بخطوات حثيثة ، نحو الطريق التي سلكها الزعيم الراحل - حسني الزعيم- ، حتى أن أحد نواب حزب الشعب اقترح إقامة تمثال للحناوي في ساحة المرجة ، بوصفه محرر الشعب من الطغيان ؟! (9) . وعقدت الجمعية التأسيسية جلستها قبل ظهر الاثنين في 12/12/1949م ، وانتخب السيد رشدي كيخيا رئيساً لها، وحضر الجلسة اللواء الحناوي وكبار الضباط من مؤيديه ... ثم عقدت الجمعية جلسة أخرى في 14/12/1949م ، انتخبت فيها السيد هاشم الأتاسي رئيساً للدولة، وبعد خمسة أيام من هذا التاريخ، فوجئ الناس ببلاغ رقم (1) لانقلاب جديد (10) . والحقيقة أن الأمر بعد أن استتب قليلاً لجماعة الانقلاب الثاني سرعان ما دب الخلاف بين ما سمي بالمجلس الحربي الأعلى، وضباط الوحدات في مختلف القطاعات العسكرية، وأصبح قائد الانقلاب في واد، وضباطه في واد آخر، كل ذلك رغم تأليف حكومة مدنية، ومن ثم إجراء انتخابات نيابية، وتأليف جمعية تأسيسية جديدة، وإعلان دستور جديد، وسرعان ما برز من صفوف الجيش ضباط ينتمون إلى أحزاب معينة ، وكتل وعشائر وطوائف متباينة (11) . عصفوا بالانقلاب وقائده الحناوي ، وبدأت لعبة الانقلابات تأخذ منحى جديداً ، والحناوي : من مواليد حلب 1896م ، تلقى دراسته الأولية في دار المعلمين ، وفي عام 1916م ، دعي إلى الخدمة العسكرية من قبل السلطنة العثمانية، ونقل إلى معهد استانبول العسكري، وفي 24/7/1917 تخرج برتبة مرشح ضابط .. ثم أرسل إلى جبهة فلسطين ، وهنالك انضم إلى الضباط العرب الذين التحقوا بجيش الشريف فيصل ، وتابع دراسته العسكرية في دمشق وتخرج برتبة ملازم في الجيش العربي . وبعد احتلال فرنسا لسوريا ، انضم إلى سلك الدرك في لواء اسكندرون، ثم انضم عام 1928م، إلى جيش الشرق المختلط، الذي كان تحت القيادة الفرنسية ، ورقي في هذا الجيش إلِى رتبة نقيب ، وترفع إلى رتبة مقدم فعقيد فزعيم - أي عميد - ، وكان ذلك أيام حسني الزعيم ، ثم قام بانقلابه ، وأصبح برتبة لواء - جنرال - (12) .كان الحناوي جندياً بسيطاً قليل المطامح السياسية ، خدم دون أن يلمع في الجيش العثماني ولا القوات الخاصة ، وكانت خطوته الأولى في رفع الحظر عن الأحزاب السياسية وتسليم السلطة إلى المستقلين في البلاد (13) . وبعد أن أسدل الستار على الفصل الثاني من سلسلة الانقلابات العسكرية، بدأت الصحف والإذاعات والمحافل السياسية ، تتناول الحناوي بالتشهير والتجريح، وتتهمه بخيانة الجمهورية وبيع البلاد للأجانب فأصبح معالي اللواء سامي الحناوي ؛ بين عشية وضحاها عسكرياً خائنـاً فسبحان مغير الأحوال (14) .

(1) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ص 73 .

(2) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص 213 .

(3) النكبات والمغامرات/ ص222 - 223، وص225 .

(4) المرجع السابق .

(5) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص213 .

(6) النكبات والمغامرات/ص204، بشير فنصة .

(7) الصراع على سورية/ص 108 .

(8) النكبات والمغامرات/ص237 .

الانقلاب الجديد ومشروعا

الهلال الخصيب وسورية الكبرى

كان مشروع الهلال الخصيب هو المحور الأساسي لسياسة الانقلاب الثاني، وكان هم الحكومة الجديدة التي شكلها هاشم الأتاسي هو تنفيذ هذا المشروع ... وكان الأتاسي قد شارك حزب البعث والحوراني وحزب الشعب في القناعة بهذا المشروع . وكان قد وصل ثلاثة وفود من بغداد للتهنئة ثاني أيام تشكيل الوزارة : وفد رسمي ، وآخر إعلامي ، وثالث عسكري ، نزلوا في فندق الشرق بدمشق ، وكان رشدي كيخيا - رئيس حزب الشعب - يسعى حثيثاً لإقناع رجالات السياسة بمشروع الهلال الخصيب وحلف بغداد (15) .

والمعروف أن عبد الإله - الوصي على عرش العراق - كان يرغب بقوة في وضع يده على سورية، وخاصة أن الملك فيصل الثاني -ابن أخته ـ كان يقترب من سنّ الرشد، ومعنى ذلك أن عبد الإله سيفقد الامتيازات التي يتمتع بها، فهو يطمع في عرش سوريا بدلاً من ذلك· وقد صوت مجلس النواب السوري إلى جانب قيام الوحدة مع العراق، ولم يصوت إلى جانب مجيئ الوصي عبد الإله إلى دمشق ليحكم سورية، في الوقت الذي كان سامي الحناوي رئيس الأركان العامة، أداة طيعة في أيدي حاشيته الموالية للعراق(16) . واستمرت الاتصالات بين الحكوميتن السورية والعراقية فوصل إلى دمشق السيد فاضل الجمالي وزير خارجية العراق، بمهمة مستعجلة، واتصل بكبار الشخصيات السورية، وأجرى مفاوضات مطولة معهم بحضور الدكتور أسعد طلس أمين عام الخارجية، وعديل الحناوي، ثم واصل سفره إلى لندن(17) . وكان الملك عبد الله بن الحسين يعمل لحسابه الخاص، غير آبه بتحركات الوصي والسعيد باشا فقد سافر فجأة إلى لندن للاتصال بحكومة بريطانيا إثر انقلاب الحناوي، وصرح هنالك للصحف قائلاً: " بأن سورية الكبرى آتية بلا ريب، وسيحكمها الهاشميون "(18) . إلا أن بريطانيا كانت تعارض خطط الملك عبد الله، لأسباب كثيرة، فقد جاء في افتتاحية جريدة (الديلي تلغراف)، صباح 19/6/1949م ما خلاصته : " أن خطط العاهل الأردني تهدف إلى توسيع تخوم مملكته، ولكن من الضروري أن تأخذ بعين الاعتبار مقاومة سورية ومصر والسعودية لهذه المطامع " ، " وإن الذي لا يسمح لبريطانيا بدعم أهداف الملك عبد الله، هو وجود مشاكل دبلوماسية كثيرة، تقف في وجه بريطانيا وتحول دون مساعدة الملك عبد الله، وهي مشاكل لا تتعلق ببريطانيا وحدها، بل بدول أخرى، وأن الاتحاد العربي لا يزال مجرد فكرة "(19) . والحقيقة أن التيارات المعارضة للاتحاد كانت كثيرة : *ففرنسا مثلاً كانت تخشى ضياع نفوذها الأدبي والثقافي في سوريا ولبنان، حال قيام الاتحاد، ولذلك كانت ترفضه بشدة . *والأوساط الوطنية كانت مترددة في قبول فكرة الارتباط مع العراق والأردن ، لارتباطهما بمعاهدة مع الإنجليز خلافاً لأوضاع سوريا ولبنان . *وكانت مصر تعارض هذا الاتحاد بشدة ، وكان الملك فاروق يكره (الهاشميين) ويعاكس كل مشروع يزيد في قوتهم .

بينما كان رشدي كيخيا - زعيم حزب الشعب - يرى أن فكرة الاتحاد مع العراق تخلصهم من نفوذ أركان الجيش السوري ، لأنه سيذوب أمام قوة جيش العراق(20) . وبعد تفاؤل قادة بعض الأحزاب الموالية للاتحاد والكتل النيابية، سرعان ما وقع الخلاف بين قادة الأحزاب والضباط أنفسهم، فكان حزب الشعب يؤازر الحناوي، بينما قام زعماء الحزب الوطني والنواب الاشتراكيون ينددون بمواقف حزب الشعب، ويشيرون إلى وجود مؤامرة، وأحلاف جديدة، من شأنها الإطاحة باستقلال سورية الجمهورية .. وعادوا إلى مهاجمة مشاريع الوصي ونوري السعيد والملك عبد الله ملك الأردن(21) . وكانت هذه المشاريع من أبرز أسباب الإطاحة بالحناوي ومعاونيه .

(9) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ ص79 – 80 .

(10) المرجع السابق/ ص90، 92 .

(11) النكبات والمغامرات/ ص218 .

(12) جريدة المصري القاهرية/ عدد 14 آب/1949 .

(13) ينظر: النكبات والمغامرات/ ص 218 .

(14) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ص96 .

(15) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص222 – 223 .

الفصل الأخير من مسرحية الانقلاب الثاني

في صباح 19/12/1949م ، أعلن المذيع بلاغاً رقم (1) بتوقيع أديب الشيشكلي، جاء فيه : " إلى الشعب السوري الأبي، لقد ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة، اللواء سامي الحناوي وعديله أسعد طلس ، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش ، وكيان البلاد ونظامها الجمهوري مع الجهات الأجنبية، وأن ضباط الجيش يعلمون هذا الأمر منذ بدايته، وقد حاولوا بشتى الطرق أن يحولوا دون إتمام المؤامرة، فلم يفلحوا، فاضطر الجيش أن يقضي على هؤلاء المتآمرين، وليست للجيش غاية أخرى، وأنه يعلن، بأنه سيترك أمر البلاد في أيدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية اللهم إلا إذا كانت سلامة البلاد تستدعي مثل ذلك " ، " العقيد أديب الشيشكلي ". وقد تم اعتقال اللـواء سامي الحناوي في نفس اليوم، وهرب الدكتور أسعد طلس إلى لبنان، واعتقل الضباط الموالون للحناوي ، ولم يعتقل من السياسيين أحد(22) . وبالتالي علقت الدوائر البريطانية - حسبما ورد في برقيات رويتر- على الانقلاب السوري الجديد بقولها : " إنه بداية النهاية لمشروع سورية الكبرى، ومشروع اتحاد سورية والعراق "(23) . وهكذا كلما قام انقلاب ، شتم أصحابه في بلاغاتهم قادة الانقلاب السابق، واتهموهم بالخيانة والتآمر ... فبينما حكم حسني الزعيم (137) يوماً ، دام حكم الحناوي أربعة أشهر وخمسة أيام .. وتلك الأيام نداولها بين الناس . وبعد فترة أفرج عن اللواء الحناوي ، وعن رفاقه من الضباط المعتقلين ، والتجأ الحناوي إلى لبنان يرافقه أهل بيته، ومعهم العقيد محمود الرفاعي والعقيد عصام مريود ، وكان الإفراج قد تم في 7 / أيلول /1950م . وتمكن محمد بن أحمد آغا البرازي، الملقب بـ (هرشو) من اغتيال اللواء الحناوي في بيروت في 31/10/1950م ، انتقاماً لمقتل ابن عمه (محسن البرازي) رئيس وزراء حسني الزعيم . كان هرشو من الشباب المثقف ومن أهل اليسار، درس في المعهد العلماني في بيروت، وانصرف بعد تخرجه إلى الإشراف على مزارع والده في مدينة حماة ، وكلمة هرشو لفظة تركية معناها (النمر) أطلقها أبوه عليه تيمناً بالقوة على عادة الأكراد، إذ كان قد رزق ثماني بنات، وكان هذا هو ولده الوحيد . نقل جثمان الحناوي إلى حلب ، حيث دفن هنالك، وسار في جنازته جمع غفير .. وبذلك توارى الحناوي كخيال لاح ثم امَّحى(24) .

(16) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص229 – 230 .

(17) المرجع السابق/ص233 .

(18) ينظر: النكبات والمغامرات: بشير فنصة - ص240 – 248 .

المبحث الثالث

العقيد أديب الشيشكلي يقود الانقلاب الثالث

ظروف الانقلاب ودوافعه

كان الشيشكلي يمثل السياسة السورية المعادية لاتجاه العراق الملكي ومشروع الهلال الخصيب .. قام بالانقلاب ليدافع عن نظام الحكم الجمهوري في سوريا ، وينقذها من النفوذ البريطاني والوحدة مع العراق الملكي . وقد استسلم الحناوي للانقلابيين الجدد، عندما توجهت مفرزة من الدبابات والآليات العسكرية من اللواء الأول، بإيعاز من العقيد أديب الشيشكلي، وبقيادة العقيد أمين أبو عساف، ومساعدة النقيب فضل الله أبو منصور، وهما درزيان ينتميان إلى الحزب القومي السوري(25) .

وكان العقيد الشيشكلي قد أذاع البلاغ رقم (1) ، وذكر فيه مسوِّغات الانقلاب، ومن أهمها الاتفاق بين الحناوي وبعض السياسيين السوريين لإعلان الاتحاد مع العراق، وأن الحناوي كان قد أعد العدة مع بعض أنصاره لاعتقال الضباط المناوئين(26) . كما أن أكرم الحوراني هو الذي وضع اللمسات الأخيرة للانقلاب ، وكان من عادته أن يقف وراء كل انقلاب عسكري جديد، يدعمه بقلمه ورأيه وأنصاره، ثم لا يلبث قليلاً حتى يصطدم بصخرة الحكم العسكري ، فيعلن احتجاجه ، ثم يتوارى عن الظل استعداداً لانقلاب جديد(27) .

وقد استفاد الشيشكلي قليلاً من التجارب السابقة، فلم يُعْدم أحداً من زملائه الضباط ، ولم يعتقل أحداً من رجال السياسة، إلا أنه كان يسير نحو الحكم المطلق بخطوات وئيدة متزنة ... وقد ترك الأمور السياسية بيد السياسيين ؛ فاستمر هاشم الأتاسي رئيساً للدولة، وكلف خالد العظم بتشكيل الوزارة في 25/12/1949، بقرار من ضباط الانقلاب . في ليلة 28/11/1950م، شكل معروف الدواليبي حكومة جديدة، لكنه اصطدم مع قائد الانقلاب ، ورفض أي تعديل في الوزارة ، فكان رد العقيد صاعقاً، فقد أمر بإلقاء القبض على الدواليبي، وأعضاء حكومته، وعدد من ذوي الميول الهاشمية .. وفي 29/11/1950م، أذيع بيان بأن الجيش قد تولى المسؤولية من أجل سلامة البلاد وأمنها، واتهم حزب الشعب بأنه المسؤول عن الانقلابات الفائتة .. واشتدت قبضة الجيش على الحكم في البلاد(28) . يقول خالد العظم في مذكراته : " المسؤولية الكبرى تقع على عاتق (الحزب الوطني)، و(حزب الشعب)، فقد قبل الأول التعاون مع حسني الزعيم، وتسلم حزب الشعب الحكم من سامي الحناوي، رغم أنه حل مجلس النواب، لقد فكروا في الحكم أولاً، ثم إجراء انتخابات يسيطرون على نتائجها "(29) . لقد كان العقيد أديب الشيشكلي، أكثر دهاء وصلابة ومهارة سياسية من سابقيه، وكان أطول مدة، إذ سيطر على سياسة سورية طيلة أربع سنوات، ودافع عن نظام الحكم الجمهوري في سورية، لينقذ بلاده من النفوذ البريطاني، والوحدة مع نظام الحكم الملكي في العراق(30) .. وكان الشيشكلي يشارك أكرم الحوراني في توجهاته السياسية ضد مشروع الهلال الخصيب ، وكان عهد الشيشكلي يتميز بفترتين واضحتين .

الفترة الأولى : تمتد من ( 1949 - 1951م ) ، كان يقوم خلالها بالإشراف والمراقبة على الحكومات، والجمعية التأسيسية، بشكل غير مباشر .

الفترة الثانية : ما بين ( 1951 - 1954م )، وفي هذه الفترة تولى الشيشكلي السلطة بنفسه، وقام بتشديد قبضته على البلاد .

(19) أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث في سورية: هاني الخيّر ص67 - 68، مكتبة الشرق الجديد/ دمشق/1995م .

(20) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/107 .

(21) السابق/ص108، وأديب الشيشكلي، لهاني الخير/ص235 .

(22) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ ص125 .

(23) ينظر: مذكرات خالد العظم: ج2/ الدار المتحدة للنشر، والمرجع السابق/ص156 .

(24) الصراع على سورية: باتريك سيل/ص120 – 122 .

قائد الانقلاب وأبرز صفاته ومؤهلاته : كان الرجل من مواليد حماة عام 1910م ، دخل الجيش المختلط الفرنسي ، ورقي حتى رتبة ملازم أول ، وكان قد فرض عليه الحرمان من الترقيات العسكرية ، كما فرض عليه البقاء في المناطق الريفية النائية ، ثم نقل إلى دمشق بعد أن أمضى سبع سنوات في المناطق النائية، وذلك بسبب تمرده على قوة الانتداب، ولمشاركته في الحركة الوطني .

في سنة 1944م ، هرب من الجيش ليساهم مع صديق طفولته في حماة (أكرم الحوراني) في الثورة على الفرنسيين، وخاصة بعد توتر العلاقات مع الانتداب الفرنسي والحكومة السورية . وفي سنة 1945م اقتحم مع أخيه (صلاح الدين الشيشكلي يساندهما الأهالي في حماة) ... قلعة حماة ، وطردوا الحامية الفرنسية منها ، ثم التحق بالقوات الوطنية، وقاد فوجاً من جيش الإنقاذ في فلسطين ، وكان برتبة نقيب وذلك عام1947م ، وقد أربك العدو الإسرائيلي في المنطقة الشمالية من فلسطين وألحق به خسائر ليست قليلة ، فغدا اسمه ينقل على كل لسان ، تسلم في عهد الزعيم مديرية الشرطة ، ورفع إلى رتبة عقيد ، ثم سرحه حسني الزعيم قبل انقلاب الحناوي بأيام ، وعاد إلى الخدمة في الجيش إثر الانقلاب الثاني وتسلم قيادة اللواء الأول . وفي 19/12/1949م ، قام بالانقلاب الثالث وأطاح بالحناوي وعهده ... وبعد عدة سنوات اغتاله شاب درزي يسمى (نواف أبوغزالة) ثأراً لأحداث جبل الدروز الذي هاجمه الشيشكلي آخر أيامه بالقوات المسلحة .كان ذلك في 27/أيلول/1964م، ثم نقل الجثمان إلى سوريا، ودفن في مدينة حماة مسقط رأسه . وكان أديب الشيشكلي وأكرم الحوراني عضوين في الحزب القومي السوري في أوائل شبابهما(31) . ومن صفات الشيشكلي ، أنه كان جندياً بارد الطبع، ذا موهبة في حياكة الدسائس وتنظيم الرجال ... كان خلال الأشهر الطويلة من عامي 1950 - 1951م  وهو يعمل خلف الستار، في فترة إعداد ضروري لاستلامه مقاليد السلطة كاملة ، وقد كان انقلاب الشيشكلي وإطاحته بالحناوي ورجاله سبباً في انهيار آمال الهاشميين بشكل محزن ، إلا أنّ تلك الآمال لم تنطفئ نهائياً(32) . وكانت الفترة الطويلة التي استلم فيها السلطة ما بين 1949 - 1954م ، تتميز بتبدلات عميقة في حياة سورية السياسية، وبملابسات بعيدة المدى في تاريخ ذلك البلد(33) . كان الشيشكلي يحب نابليون، كما كان خبيراً دعائياً من الطراز الأول ، وكانت مصالح سوريا تأخذ مركز اهتمامه أولاً إذ كان يعتقد أن سورية هي البلد الوحيد المستقل، وأنّ جميع الدول العربية ، لم تستكمل استقلالها كما استكملته سوريا . وقد أحب الملك الأردني (طلال بن عبد الله) وظل يدافع عنه، ويرفض أن يصدق ما قيل عن مرضه النفسي ، واحتجازه في أحد المصحات النفسية في تركيا(34) . ولم يكن على صلة طيبة بالملك عبد الله بن الحسين ، فقد كتب في مذكراته(35) : " إن سورية اليوم في موقف يخاف عليها من الشيشكلي، فهو لا يسير إلا بحراسة ولا ينام إلا بحراسة، وإنْ لم ينجه الله فسيكون حتفه من حرسه، وهكذا فأهل الحرص والغدر يحيق بهم مكرهم " ، ومن الغريب أن يتعرض الملك عبد الله إلى الاغتيال، فيموت قبل الشيشكلي بمدة طويلة .

(25) ينظر في ترجمة الشيشكلي: كتاب هاني الخير/ أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث/ ص20 - 25/ والنكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص254، والصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص62 .

(26) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص122 - 124، وص160 .

(27) المرجع السابق .

(28) أديب الشيشكلي، صاحب الانقلاب الثالث: هاني الخيّر “ص169 .

(29) الآثار الكاملة للملك عبد الله بن الحسين: ص265، الدار المتحدة للنشر/ بيروت/ الطبعة الثانية/ 1979م

إنجازات الشيشكلي وأبرز مواقفه السياسية

تميزت الفترة الأولى من حكم الشيشكلي بأنه سمح للحكومة المدنية بأن تمارس مهامها في إدارة البلاد لمدة عامين ، وتصارعت السلطات المدنية بعد ذلك مع السلطات العسكرية ، في حين أن التنافس داخل الأركان العامة كان شديداً، ولربما أدى إلى إراقة الدماء، وبنفس الوقت كانت الأحزاب الراديكالية وبشكل بارز حزب البعث والشيوعي وكذا القومي السوري، قد شقت طريقها لإزالة هيمنة الأحزاب التقليدية على البلاد(36) . ولذلك قام الشيشكلي بانقلابه الثاني ، وكان السبب المباشر هو الصراع على السلطة بين الجيش وحزب الشعب، واقتراح حزب الشعب لتسلم الدواليبي منصب وزير الدفاع كان قد أزعج الجيش أيضاً، ورحبت كل من باريس وواشنطن بهذا الانقلاب، وكانت رغبة الشيشكلي في الحصول على السلاح قد قادته لإقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، كما أن واشنطن يهمها كبح المد اليساري في سوريا(37) . وبعد ازدواج الصلاحيات بين الجيش والسلطة المدنية، أُعلن في راديو دمشق في 29/تشرين الثاني/1951م، البلاغ رقم (1) ، تسلم بموجه الشيشكلي زمام السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحل البرلمان واعتقل أعضاء الوزارة الجديدة، برئاسة الدواليبي، وعين اللواء فوزي سلو رئيساً للدولة، وشكلت وزارة جديدة(38) . وقد وقع اختيار الشيشكلي على فوزي سلو، ليتسنى له من خلاله أن يمارس الحكم المطلق، دون أن يظهر تحت الأضواء الكاشفة(39) . فلماذا كان الشيشكلي متردداً في الإمساك بمقاليد الأمور ؟! وهل كان وحيداً في الظلال الخفية ؟!

في الحقيقة أن الشيشكلي كان هو المسيطر الخفي على سوريا، منذ انقلابه الأول/ 1949م في كانون الأول ، وبرز كسيد لا يُنازل بعد انقلابه الثاني في تشرين الثاني 1951م وخلال هذه الفترة برز أكرم الحوراني (وحزبه العربي الاشتراكي) كأقرب المقربين ، وأطلق منهاجه من أجل العمال والفلاحين . كما تعاون في البداية مع قيادات الحزبين : القومي السوري ، والبعث العربي . ومنع منظمات الشباب والنوادي من ممارسة أي نشاط سياسي، وأخضع الأجانب إلى رقابة شديدة، ثم أمر في كانون الثاني/1952م بحل الإخوان المسلمين، وأغلقت مكاتبهم ومدارسهم، وكذا الحزب الاشتراكي التعاوني وزعيمه فيصل العسلي ، ثم أمر بحظر عام على كل الأحزاب السياسية في نيسان/1952م وبذلك فقد أحكم قبضته على البلاد، وتمكن من شطب (حزب الشعب) من الحياة السياسية في سورية(40) . وفي 24/تموز/1952م ، قام الشيشكلي بتأسيس حركة سياسية أطلق عليها اسم : (حركة التحرير العربي) ، ليكون هذا التنظيم هو الوحيد في سورية ، فكانت حركته من الناحية الأيديولوجية ذات نمو هجين ، فقد كانت تستعير الأفكار من مصادر عديدة مختلفة التوجهات، فدعت إلى قومية عربية مناضلة، وتبنت سياسة اجتماعية واقتصادية تقدمية، وادعى الشيشكلي بأن سوريا قد اختارها القدر لتحرير الأمة العربية من الاستعمار والفقر والجهل والانقسامات . وفي مسائل التنظيم شُكلت حركة التحرير على نمط الحزب القومي السوري، فكانت الميليشيات الحزبية ترى خارجة من قيادة الحزب في دمشق، وداخلة إليه في مشية عسكرية ، يحيي أفرادها بعضهم بعضاً برفع الأيدي(41) . وافتتح الشيشكلي المراكز لتلك الحركة في المدن الكبرى، وكان يأمل أن تمنح الحركة نظام حكمه قاعدة شعبية واسعة وأعلن بأن (حركة التحرير العربي) ليست حزباً جديداً، بل هي محاولة صادقة مخلصة لجمع العناصر الطيبة من جميع الأحزاب(42) . وقد رفض زعماء الحزب القومي السوري التعاون مع حركة التحرير العربي ، كما أن الهوة اتسعت بين الشيشكلي وكل من حزبي البعث والاشتراكي العربي، وصار الحوراني وزملاؤه مصدر تهديد للشيشكلي وخاصة داخل الجيش·كما لجأ الحوراني وعفلق والبيطار إلى بيروت ، ومنحوا هنالك اللجوء السياسي ، وصاروا ينتقدون الشيشكلي في لبنان(43) . لقد استلم الشيشكلي عدة مناصب قبل أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية ، كنائب لرئيس مجلس الوزراء، ورئيس الأركان العامة ووزير الداخلية ، وإن كان هو المسيطر الحقيقي على البلاد ، وفي شهر تموز 1953م، رشح نفسه لرئاسة الجمهورية، ولم يتقدم معه أحد، وانتخب من الشعب انتخاباً عاماً وسرياً مباشراً، وفاز بنسبة تفوق 96 % من أصوات الناخبين ، وهي النسبة المعدة سلفاً لأكثر الانتخابات في بلادنا العربية مع الأسف .

كما أجريت انتخابات عامة للمجلس النيابي بنفس العام ، وفازت حركة التحرير بـ 72 مقعادً من أصل82، وفازالحزب القومي السوري بمقعد واحد؛والمستقلون بـ 9 مقاعد، بينما قاطعت أحزاب المعارضة الانتخابات(44) .

وخلال فترة حكم الشيشكلي ، قام بإجراء إصلاحات متنوعة : من ذلك وضع قيود شديدة على خروج الأموال من البلاد ، وتأميم بعض الشركات الأجنبية ، ورفع الضريبة على الدخول، وإصدار قانون بتحديد الملكية الزراعية في كانون الثاني/1952م، وزيادة حصة الفلاحين المستأجرين إلى 75% من المحصول بدلاً من النصف. ومن ذلك إنجاز وضع الدستور السوري وتصديقه ونشره عام 1950م (أيلول) وكان من أبرز مبادئه، أن الجمهورية السورية، جمهورية عربية، وأن الشعب السوري جزء من الأمة العربية، فكان أسبق الدساتير العربية في النص على ذلك ، وقيد أن دين رئيس الدولة هو الإسلام(45) .

وقاد الدكتور مصطفى السباعي معركة القرآن تحت قبة البرلمان، كما قاد المظاهرات في دمشق من أجل إقرار دستور إسلامي، وتمكن رحمه الله وإخوانه من استبعاد الطابع العلماني عن الدستور وفرض الطابع الإسلامي على معظم أحكامه الأساسية، وقد استمرت مناقشات الدستور ثلاثة أشهر من أجل وضع قوانين إسلامية في صلب الدستور، وأهمها " أن الإسلام دين الدولة الرسمي " ، كما طالب في المجلس النيابي ، بتدريس القضية الفلسطينية كمادة أساسية في مناهج التعليم ، وفيه أقر هذا الاقتراح ونفذ بالفعل(46) .

إلا أن مادة دين الدولة الإسلام بعد أخذ ورد عدلت لتصبح : " دين رئيس الجمهورية الإسلام " وأن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع ، وحرية الاعتقاد مصونة ، والدولة تحترم جميع الأديان السماوية(47) .

والحقيقة أن معارك الإسلاميين داخل المجالس النيابية لتحكيم شريعة الإسلام، قد بدا عوارها، وكانت مبددة لأوقات الإسلاميين ، لأن الطواغيت وقادة الانقلابات العسكرية ، سرعان ما يلغون أية مكاسب إسلامية، ويضعون قادة الحركات الإسلامية في السجون وهذا ما حصل أيام الشيشكلي للدكتور السباعي ، وتكررت المأساة في عدد من الأقطار الإسلامية ، كمصر والسودان والأردن ... ولا بد من التفكير بأساليب بديلة .

(30) الحرب السرية في الشرق الأوسط: ترجمة محمد نجار/ ص93/ص114 .

(31) المرجع السابق .

(32) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص319 – 320 .

(33) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ ص164 – 167 .

(34) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ص164 – 167 .

(35) الصراع على سوريا: باتيرك سيل ص170، ص168 – 169 .

(36) المرجع السابق .

(37) الحرب السرية في الشرق الأوسط، ص122 – 123 .

(38) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ص124، وأديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث: هاني الخير/ ص114 – 115 .

(39) الهلال الخصيب: د. محمود حسن صالح منسي/ص35 .

(40) ينظر كتاب الدكتور مصطفى السباعي قائد جيل ورائد أمة: حسني أدهم جرار/ص103 - 104/ مؤسسة الرسالة/ بيروت، ودار البشير/ عمان/ 1415هـ - 1994م .

(41) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص280 .

سياسة الشيشكلي تجاه مطامع الدول الغربية في سوريا

لقد دعمت الولايات المتحدة نظام الشيشكلي بصورة سرية فقد رغب في تقليص التوتر مع إسرائيل، وكانت حكومته قد اتخذت موقفاً معادياً لإسرائيل . وفي شهر كانون الثاني لعام 1953م، وخلال محادثة جرت بين السفير الأمريكي في دمشق (جمس موس) وبين الرئيس فوزي سلو، اعترف فيها سلو " بحق إسرائيل في الوجود وتنبأ بالسلام معها ، شريطة أن تتخلى إسرائيل عن تكتيكها الاستفزازي " ، وكان الشيشكلي متحمساً لإجراء حوار مع إسرائيل ، كي يتم تقليص التوتر من جراء " الاشتباكات الحدودية المتكررة إلا أنه لم يكن راغباً بخوض مخاطرة إجراء مفاوضات لعقد معاهدة سلام معها " . وبنفس الوقت قاومت حكومة الشيشكلي الضغط الأمريكي من أجل توطين اللاجئين الفلسطينيين ، ومع ذلك فرغم الشكوى من العبء الاقتصادي، فإن حكومته عملت على توطين ثمانين ألف لاجئ بصورة حذرة ...

وكان هم الشيشكلي الرئيسي هو الحصول على مساعدات عسكرية أمريكية، وفي شهر أيلول منحت حكومته مساعدات مالية وفنية من أجل تنفيذ مشاريع بنية تحتية(48) . وفي مذكرات خالد العظم ما يلقي الضوء على مطامع الدول الغربية في سوريا، فقد كانت مطامع بريطانيا عن طريق مشروع الهلال الخصيب واضحة، ثم أصبح المشروع يسمى )حلف بغداد( بعد انضمام بريطانيا وباكستان وإيران إليهوفي الحقيقة ما كان هذا الحلف إلا حلقة من حلقات النطاق الكبير الذي أعدته المخابرات المركزية الأمريكية لإحاطة الاتحاد السوفيتي بحزام يحصر النشاط السوفييتي(49) . ثم يقول العظم في مذكراته : " عندما كنت رئيساً للوزارة ووزيراً للخارجية، عرض سفير بريطانيا عام 1949م، عرضاً لعقد اتفاق مع سوريا تصبح بموجبه خاضعة لنفوذ بريطانيا وتحل بريطانيا محل فرنسا .. وكنا قد لجأنا إلى المواربة، بسبب ضعفنا بعد نكبة فلسطين ... وبعد ذلك طوى انقلاب حسني الزعيم إمكانية التفاهم مع بريطانيا لميوله الفرنسية " ، " فما كان من بريطاينا إلا أن لجأت إلى تدبير انقلاب معاكس قضى على حسني الزعيم، واستولى على الحكم جماعة من المدنيين والعسكريين ، ممن يميلون إلى العراق والإنجليز، وقامت فكرة الاتحاد السوري العراقي، ليتم لبريطانيا السيطرة على الشرق العربي كله " ، " ولم تثمر هذه المحاولة، إذ قام انقلاب عسكري آخر، تولاه الشيشكلي، فأبعد فكرة الاتحاد، وقضى على سيطرة حزب الشعب، وعلى توجيه السياسة الخارجية السورية وفق سياسة بريطانيا " . " وكانت أمريكا تسعى هي الأخرى لعقد حلف تكون هي نواته، فعملت على تحقيق هذه الفكرة بواسطة حلف دفاع مشترك بين جميع الدول العربية، وقد رفضت سوريا هذا الحلف عام 1951م "(50) . وازدادت مطامع الولايات المتحدة، فقدمت عرضاً سخياً عن طريق سفيرها في دمشق لتأسيس مصفاة لتكرير النفط في حمص ، وكان عميلهم المعتمد، أحد أفراد حزب الشعب (مخائيل إليان) وكانت هناك طبخة أمريكية عن طريقه القيام بانقلاب أمريكي، وطلب تكاليف المشروع نصف مليون ليرة ... لتقدم للعديد من الضباط الموالين للعراق وسياسة ولي عهده ... كما اشترط إليان تأييد أمريكا المباشر للحكومة الجديدة·وفعلاً سُلّم المبلغ إلى (مخائيل إليان) قرب كازينو بلودان، لكن المؤامرة فشلت بسبب العدوان الثلاثي على مصر، على أن يتم الأمر في 25/تشرين الثاني من عام1956م (51) .

(42) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص118 – 120 .

(43) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ص234 .

(44) مذكرات خالد العظم: الجزء الثاني، وينظر الانقلابات العسكرية في سوريا لمحمد أبو عزة/ص234 – 236 .

(45) الانقلابات العسكرية: أبو عزة/253 - 263 وكتاب: حبال من رمل لضابط المخابرات الأمريكية  إيفلاند .

التمرد العسكري ضد الشيشكلي

تجمعت أركان المعارضة ضد حكم الشيشكلي، وانبثق عنها التمرد العسكري في 25/شباط/1954م، إذ تحرك النقيب مصطفى حمدون في حامية حلب، واحتل مبنى الإذاعة، وأذاع أول نداء للثورة طالباً من الرئيس مغادرة البلاد تجنباً لسفك الدماء·  ومصطفى حمدون ضابط بعثي من جماعة أكرم الحوراني، وكان الحوراني يشنّ حملة صحفية من بيروت ضد الحكم في سوريا، فطلب الشيشكلي طرده من لبنان، فانتقل إلى روما لاجئاً سياسيا.ً وقد شارك في التمرد المقدم فيصل الأتاسي في حلب، وهو ابن أخ الرئيس السابق هاشم الأتاسي، وكذلك العقيد أمين أبو عساف في دير الزور، وكان يمثل الجبل الذي ضربه الشيشكلي بقوة، والنقيب مصطفى حمدون من تلامذة الحوراني المقربين، وتمردت بقية المدن السورية(60) .وقد طالب المتمردون الشيشكلي بمغادرة البلاد حقناً للدماء وأذيع البيان الأول من حلب، وفيه توجيه الاتهامات للشيشكلي بالفساد والاضطهاد والإرهاب . وكان قسم كبير من الضباط المتمردين من الدروز والنصيريين وكان النصيريون حاقدين لمقتل أحد زعمائهم غيلة وهو الضابط محمد ناصر في شهر تموز/1950م، كما عانى الدروز من قمع ثورتهم على يد الشيشكلي(61) .

واجتمع الشيشكلي بمستشاريه وأركان قيادته ولاسيما الزعيم ( شوكت شقير ) رئيس الأركان العامة ، في 25/شباط/1954، فأشار معظمهم بسحق المؤامرة، وكانت تؤيدهم قوات ضخمة، ترابط في درعا والسويداء وقطنا والقابون والجبهة، إضافة إلى قوات الهجانة· إلا أن الرئيس آثر الاستقالة حقناً للدماء، وطلب من أنصاره التفاهم مع الآخرين(62) . وغادر دمشق مع مجموعة من أنصاره، متوجهاً إلى لبنان، ثم توجه إلى السعودية فالبرازيل وأذيع نص الاستقالة ؛ الذي بعث به لدى مغادرته، إلى رئيس مجلس النواب وفيها : " رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحبّ، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية، إلى الشعب السوري المحبوب ، وقد أغفلت إذاعة دمشق إيراد الأسطر الأولى من رسالة الاستقالة التي وضح فيها، بأنه قادر على إلحاق الهزيمة بالثائرين، ولكن على حساب إحداث تمزقات في الجيش ، ومما جاء في الرسالة أيضاً : " قام بعض ضباط الجيش مدفوعين بتأثيرات حزبية بالثورة، في بعض المناطق السورية في محاولة لإسقاط النظام الدستوري الحاضر، وكان من الميسور أن أقمع هذه الحركة... "(63) .

لماذا رضخ الشيشكلي لمطالب الانقلابيين؟!

لماذا لم يحارب حتى النهاية ؟! رغم احتكاره الكبير للدبابات والمدافع الثقيلة في قطنا ودمشق، وكان لديه أكثر من فرصة للسيطرة على الحاميات الثائرة !! وقد أشار الشيشكلي في رسالة استقالته إلى أنه كان في استطاعته أن يسحق الثائرين، ولكن على حساب انشقاق في الجيش ، والجيش " من لحمنا ودمنا " كما قال ، وذلك سوف يضعف دفاع سوريا في وجه العدو الصهيوني المتربص على الحدود . وربما كان يعتقد بأنه لو استدعى الأمر نشوب قتال ، فإن الثائرين قد يطلبون تدخل جيش العراق، وبذلك يفتحون أمام العراق باب الدخول إلى سوريا، الذي يحرص في سياسته على إبقائه موصداً . إضافة إلى أن الشيشكلي، ربما يكون قد ملّ الصراع مع المعارضة، وأن وجود مال في مصارف أجنبية، قد يشجعه على الانسحاب بكرامة، وقد أحسن بذلك صنعاً(64) . وربما وجد من الأفضل له الاستسلام حقناً للدماء وتربصاً لفرصة أخرى يستعيد فيها عرشه،وجاءت هذه الفرصة سنة 1956م (65) . وكان الشيشكلي منتبهاً إلى قضية تدخل جيش العراق ، وما قد يجره على سوريا من ويلات ، منها ردة الفعل العنيفة لدى إسرائيل ضد سوريا، وقد نبهه إلى ذلك سفير أمريكا في دمشق والذي زاره في قصر الرئآسة ظهر يوم العصيان المسلح في حلب ، ولذلك قرر الاستقالة(66) .

وقد تأكد ذلك مما جاء في مذكرات (موشي شاريت)(67) ، فقال : " في 25/2/1954م، تمردت القوات السورية المرابطة في حلب ضد نظام الشيشكلي، فكتب شاريت في حينه : أنّ لافون حاول إقناعي بأن هذه هي الفرصة الملائمة للعمل والتحرك لاحتلال المواقع على الحدود السورية خلف خطوط الهدنة، لأن سوريا بدأت تتفكك، وحكومتها على وشك السقوط .. وأن قوات العراق دخلت سوريا ، فقلت له : يجدر بنا الانتظار قبل اتخاذ قرارنا النهائي، فأكد لي أن عنصر الزمن ثمين جداً ... ثم وافق ابن غوريون على الاقتراح، وعارضه شاريت بعد اجتماع بينهم محذراً من الأمم المتحدة... ، وفي جلسة لمجلس الوزراء وافق المجلس على رأي شاريت، ورفض مناشدة لافون الحماسية "(68) .

(60) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص190 - 191، وأديب الشيشكلي: هاني الخير/ص130 – 131 .

(61) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص132 – 134 .

(62) أديب الشيشكلي: هاني الخيّر/ص132 - 133، عن مقابلة للمؤلف مع عبد الحميد خليل أمين عام وزارة الداخلية وأمين حركة التحرير العربي في 7/ تموز/1919م .

(63) المرجع السابق .

(64) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص192 – 193 .

(65) أديب الشيشكلي قائد الانقلاب الثالث/هاني الخير/ص141 .

(66) أديب الشيشكلي قائد الانقلاب الثالث: هاني الخيّر/ص35 .

(67) شاريت: أول وزير خارجية لإسرائيل، ورئيس وزرائها عام/1953 - 1955م .

(68) الإرهاب الإسرائيلي المقدس: دراسة في يوميات شاريت ص33 - 37، منشورات منظمة الشعب العربية الأمريكية/ الشارقة/ نقلاً عن كتاب أديب الشيشكلي لهاني الخيّر/ (ص135 – 137) .

 

 
RocketTheme Joomla Templates