حقائق عن تطورات الأحداث السياسية في سوريا
محمد عبد الرحمن الأنصاري
الـمقـدمــــة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد : فإن جراح المسلمين قد كثرت طوال هذا القرن، وإن آلامهم قد اشـتدت، بعد تمزق وحدتهم وسقوط خلافتهم .
لقد انفرط العقد، وصارت الولاية دولاً، واستنسر البغاث في ديار الصقور، وظهرت الفرق الباطنية من جديد، تعيد أحقاد أجدادها، وتدك معاقل المسلمين .
وكانت سوريا إحدى ضحايا هذا التآمر خلال نصف قرن من الزمن؛ فهي لم تحس للاستقرار طعماً، ولا للهدوء مكاناً ، فقد توالى الإرهاب العسكري منذ استقلالها على يد قادة الانقلابات العسكرية ، فكان التخبط والفوضى، وبلاغات منع التجول، والاتهامات بين الجنرالات تصم الآذان من إذاعة دمشق وحلب .
وكان الارتماء في أحضان عبد الناصر تخلصاً من الفوضى والانتهازية، فحطمت الآمال، وحصل الانفصال بسبب انتهازية قادة حزب البعث وجبروت عبد الناصر وتسلطه .
وكانت المأساة بتكتل باطني تحت مظلة حزب البعث بانقلاب الثامن من آذار 1963م ، وكان حصاد الحزب شوكاً وحنظلاً طوال سبع سنوات موحشة من الإرهاب والدمار وإعلان الحرب على الإسلام والمسلمين، وتسليم البلاد لإسرائيل على يد قيادة الحزب وضباطه الباطنيين من الدروز والنصيرين والإسماعيليين، وكان الصراع دموياً بين أجنحة الحزب الحاكم، ومن ثم أصبحت الاتهامات بالخيانة والعمالة والرجعية علنية بين رفاق الحزب وقياداته القومية والقطرية ...
وانفرد النصيريون بالحكم خلال ذلك الصراع الدامي العنيف ... واستمرت المآسي والأحزان، وما عليك إلا أن تسأل السجون وما حوت، والديار وقد دمرت لتعرف الحقائق الموجعة .
اسأل اليتامى أين آباؤهم ، تجد في كل بيت رنةً وعويلاً، ولن تجد إلا عبرات صامتة خائفة لدى الأرامل والأطفال؛ لأن ذويهم باتوا تحت الثرى، أو في غياهب السجون، ولا يدرون عن مصيرهم شيئا ً ...
لقد ضاقت سوريا بأهلها فقراً وحاجة، بعد خيرات بلادهم الوفيرة، التي اقتنصها الطغاة الباطنيون، فباتوا أغنياء مترفين بعد الفقر والعوز، والجهل والعزلة .
اسأل عن علماء سوريا ودعاتها لماذا تشردوا في كل واد، وهاموا على وجوههم في البلاد؟! فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وقد حرموا من وثائق السفر، وشهادات الميلاد لأبنائهم وأحفادهم، وعاشوا في غربة قاتلة ولا ذنب لهم إلا أن قالوا : ربنا الله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ...
وسل الحرائر لماذا جأرْن بالدعاء عند تمزيق الحجاب في شوارع دمشق معقل الإسلام ، وعاصمة بني أمية ؟!
لعلك تجد جواباً شافياً على هذه الأسئلة في كتابنا هذا بإذن الله ... فقد أردنامن هذا البحث أن يطّلع المسلمون على المآسي المتجددة، والجراح النازفة لهذاالقطر العزيز، ففي تسجيل تاريخ هذه الفترة ضمان لحقائق، نخشى أن تعفو عليها رياح التزوير والتلفيق ...
ومن حق الأجيال اللاحقة أن تعرف من هم أعداؤها، وما هي مخططاتهم، ومن هم الذين أجرموا بحقهم وحق آبائهم وأوطانهم ؟!. يجب أن نأخذ العبرة من تاريخنا، أن نتأمل بروية ، أن نخطط بحكمة وتعقل، أن نراجع حساباتنا بشجاعة ، بعيداً عن ردود الأفعال ، وعواطف الاستعجال .
أخي القارئ : إن تاريخ بلادك طوال نصف قرن من الزمن ، قد لا يوفيه هذا الكتاب حقه ، لأن الأحداث خطيرة، والمصائب مذهلة موجعة، وجرى من المجازر والدمار ما تشيب له الولدان ...
نحن بحاجة إلى بحوث مستفيضة، ومجلدات مفصلة ترصد ذلك التاريخ وما فيه، وقد اكتفينا بالخطوط العريضة، وعالجنا الأحداث بموضوعية مركزة، وعسى أن يكون بحثنـا قد سدّ ثغرة ربما كانت مهملة حتى الآن . هذا وقد اعتمدنا على المراجع الموثوقة ، واطّلَعنا على ما كتب حول هذه المرحلة من كتب ومذكرات، كما تتبعنا الصحفَ والمجلاتِ ، وأخذنا بروايات شهود العيان المعاصرين لتلك الأحداث، راجين المولى أن نكون قد وُفقنا لتقديم صورة صادقة لتاريخ سوريا خلال هذه المرحلة .
وقد جاء الكتاب موزعاً على أربعة أبواب رئيسية :
الباب الأول : تحدثنا فيه عن تطور الأحداث السياسية السورية ما بين "1946م - 1963م"، وما فيها من انقلابات عسكرية سريعة، بقيادة حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي، وخلفية هذه الانقلابات وظروفها وآثارها، كما تحدثنا عن سنوات الوحدة والانفصال، مع بيان الأسباب والنتائج .
الباب الثاني : خصصناه لانقلاب الثامن من آذار وتسلط حزب البعث على الحكم،وعن التصفيات الدموية الحزبية والطائفية "1963 - 1970م".
فقد كان الصراع دموياً بين رفاق الحزب ، فتخلصوا من الضباط السنة فالدروز والإسماعيلية، وتخلص النصيريون من القيادة القومية للحزب باسم القيادة القطرية ، كما تحدثنا عن البعث الحاكم وجني البلاد للأشواك الدامية، حيث أعلن رجال الحزب الحرب على الإسلام في الشعارات والتطبيق، وهدمت المساجد على رؤوس المصلين، كما سلمت الجولان في هذا العهد .
الباب الثالث : عهد الرئيس حافظ الأسد "1970 - 2000م" تحدثنا في هذا الباب عن انتماءات الأسد الحزبية والطائفية ، واستغلاله لحزب البعث واعتماده على أبناء عشيرته وطائفته - وتعرضنا لسياسته الداخلية، وفيها تحطيم مركز لقيم المجتمع مع إشاعة الإرهاب والإباحية في البلاد ، كما تحدثنا عن الثورة الإسلامية وقمعها بعنف ووحشية ، وهدم شرس لأحياء كاملة في حماة وغيرها والقيام بمجازر مرعبة ضد أهل السنة ، وفي هذا الباب بيان لتناقضات الأسد في سياسته الخارجية في المجالين العربي والدولي ، مع ملاحق في آخر الباب حول أحداث هذا العهد .
الباب الرابع : دور الحركات الباطنية في تطور أحداث سوريا مع دراسة لهذه الحركات ( الإسماعيلية - الدروز – النصيرية ) حول معتقداتها وتاريخها التآمري منذ أن أسست ، وفتاوى كبار العلماء في كفرها وضلالها والتحذير منها . والله أسأل القبول والإخلاص ، وتخليص المسلمين مما هم فيه، إنه سميع الدعاء، والحمد لله رب العالمين .
الجمعة 14/ شوال/ 1420هـ - 21/1/2000م
الحركة الفكرية وحالة المجتمع السوري
خرجت البلاد من الانتداب الفرنسي واهية القوى مفككة الأوصال ، تسود الأمة الروح العشائرية والمصالح العائلية . خرجت فرنسا وقد خلفت تجارة كاسدة وزراعة بدائية وكان رجال الإقطاع وزعماء الأحياء والعشائر قد سيطروا على البلاد ، وجلهم من الذين كانوا قد ارتموا في أحضان السلطات الفرنسية .
وبعد جلاء القوات الأجنبية عن أرض الوطن في 17/ نيسان عام /1946م، كانت قد خلفت تركة ثقيلة من التخلف والفقر والجهل، وكانت معظم الأحزاب العربية تفتقر إلىوضوح الرؤيا السياسية والاقتصادية، وينقصها تصور شامل لمشاكل المجتمع وكيفية حلها (1) .
وقد فشل الحكم الوطني الدستوري في إنقاذ البلاد مما تعانيه وذلك يعود إلى مجموعة من الأسباب منها (2) :
- فقدان الزعامة القوية والقيادة الرشيدة .
- خلو البلاد من جيش قوي يعتمد عليه في تقرير الأمن وفرض الهيبة .
- فقدان التجانس بين كتل الدولة، وقلة السياسيين المجربين من أصحاب الكفاءة والنزاهة .
- نقص الوعي عند أكثرية الشعب، مع طغيان المطامح الفردية على المصالح العامة .
ثم يقول الدكتور ( عبد الرحمن الكيالي ) أيضاً في تعليل أسباب فشل الحكم الوطني وقيام الانقلابات بعده : "ومن العوامل التي أدت إلى فشلنا وفساد سياستنا، أن قادة الكتلة الوطنية لم يكن لهم منهاج مدروس معين في كيفية ممارسة الحكم ، ولا برنامج واضح لإصلاح الخلل في جهاز الدولة " .
وما يقوله الدكتور الكيالي ، يعطي صورة واضحة عن البيئة الاجتماعية والاقتصادية، قبل الانقلاب الأول .
إذ كان الفلاحون يئنون تحت وطأة الديون التي يفرضها عليهم المرابون بفوائدمضاعفة ، كما كان الفقراء يئنون تحت وطأة الضرائب الجائرة ، بينما كان الأغنياء يتهربون منها بما لديهم من وساطات ومحسوبيات .
وكان التعليم يسير سيراً بطيئاً، وظلت مشاريع محو الأمية حبراً على ورق ردحاً من الزمن .
وكان الانفتاح على النظام الغربي، يسير إلى جانب الأنظمة الموروثة، فنشأ من اختلاط هذين النظامين فوضى لا حد لها في مظاهر حياتنا الاجتماعية ، مما أدى إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية (3) .
ولعلنا في إلقاء الضوء على مجمل الحياة الفكرية والسياسية والعسكرية، قبل مرحلة الانقلابات العسكرية، تتضح لنا تلك الظاهرة التي شهدتها سوريا في الفترة ما بين (1949 - 1963م)، وما تلاها من صراعات وأحداث دامية حتى الآن .
فالمراقب للحركة الفكرية (4) : يلاحظ أن الفكر الديني هو الذي كان يسيطر عموماً على عقول العامة والخاصة من مختلف الطوائف والطبقات، ثم برز فكر وافد جديد متأثر بالثقافة الغربية سواء عن طريق المدارس التنصيرية، أو البعثات إلى فرنسا، والدول الأوربية، أو عن طريق بعض الشبان الذين درسوا في (استنابول) عاصمة الخلافة، وقد تأثروا بدعاة الإصلاح والتجديد، كما كان يطلق عليهم . فلما عاد أولئك جميعاً، ساهموا في إذكاء الروح القومية وبعث الوحدة العربية، وإحياء التراث العربي ... كما ساهموا في عملية الصراع ضد حركة القومية الطورانية .
ومن أولئك المتعلمين، وجلهم من المحامين والصحفيين، وكبار العسكريين والإداريين الذين خدموا في أجهزة الدولة العثمانية، تشكلت الكتلة الوطنية في عهدالانتداب الفرنسي بعد عام 1920م، وحملت لواء الحرية والاستقلال ومن ثم وضعت ميثاقاً وطنياً، كان شعاره: " الدين لله والوطن للجميع " .
فكانت الكتلةُ الوطنية أشبهَ بحزب علماني على الطريقة الفرنسية ، تضم عناصر من مختلف الطوائف .
وفيما عدا ذلك برزت إلى الوجود طليعة من القلة المتعلمين خريجي جامعات أوروبا، أو الجامعة الأمريكية في بيروت ، يزعمون حرية الفكر، ويدعون إلى إصلاح جذري في كل مجالات الحياة .. متأثرين بمبادئ الثورة الفرنسية أو مبادئ الثورة الماركسية ، ولكن أثر هؤلاء كان ضعيفاً بادئ الأمر .
أما التعليم فكاد أن يقتصر على أبناء العائلات الميسورة، أو الطبقات المتوسطة، بينما كان الريف يعيش أهله في جهل مطبق، إذ كانت الأمية متفشية وقد بلغت نسبتها 80 %، إلا أن الحكومات الوطنية، التي توالت خلال عهد الانتداب وما بعد الاستقلال، عملت على فتح المدارس والمعاهد . وكانت حلقات الدروس في المساجد، والمواعظ التي كانت تلقى فيها، قد ساهمت في تثقيف أبناء المسلمين إلى حد كبير .
(1) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص62 – 72 .
(2) ينظر كتاب المراحل: للدكتور عبد الرحمن الكيالي، ج4/825، 635، وهو مؤرخ وشاهد عيان على تلك المرحلة، كان قد استلم وزارة المعارف خلال فترة الانتداب، وعدة مناصب وزارية أخرى .
(3) النكبات والمغامرات: تاريخ ماأهمله التاريخ من أسرار الانقلابات العسكرية السورية/؛ 1949 - 1958م• بشير فنصة - رئيس تحرير جريدة الأنباء وألف باء . دار يعرب للدراسات والنشر والتوزيع/ دمشق/ 6991م .
(4) ينظر: النكيات والمغامرات /ص86 - 96/ بشير فنصة .
الجيش : تكون الجيش الوطني بعد جلاء القوات الفرنسية عن أرض الوطن (5) ، من فلول الجيش المختلط والحرس السيار، الذي كان تحت إمرة القادة الفرنسيين مباشرة (6) .
وقد فضل الفرنسيون أيام الانتداب تجنيد مختلف الأقليات الدينية والعرقية :كالدروز والنصيريين والإسماعيليين والأكراد والشركس . فيما يسمى بالقوات الخاصة للشرق الأدنى، وتطورت فيما بعد لتصبح هي القوات المسلحة السورية واللبنانية .
ولم تشجع فرنسا المسلمين السنة للانخراط في الجيش جرياً على سياسة المستعمرين " فرِّق تسدْ " .
وقد دعمت هذا الاتجاه، العائلات العربية الثرية من أهل السنة بصورة غير مباشرة، وذلك برفضها إرسال أبنائها للتدريب العسكري في قوات لاح أنها تخدم المصالح الفرنسية (7) .
وثمت عامل اقتصادي واجتماعي، دفع لبروز الأقليات في الجيش، حيث أن المناطق الريفية الفقيرة قدمت أبناءها لتوفر فرصة جيدة للتمتع بحياة أكثر رفاهية، من تلك التي يوفرها القطاع الزراعي، خلافاً لأهل السنة من سكان المدن الكبرى، وقد تمتع النصيريون بأكثرية في الجيش منذ عام 1955 حتى أن العقيد عبد الحميد السراج رئيس مكتب المخابرات، قد اندهش لدى اكتشافه أن مالا يقل عن 65 % من ضباط الصف كانوا تابعين للطائفة النصيرية (8) .
كما أن العائلات المسلمة مالكة الأراضي، كانت تحتقر الجندية كمهنة، بسبب سيطرة العاطفة الوطنية عليها، وتعتبر الانتساب إليها في فترة ما بين الحربين العالميتين خدمة للفرنسيين .
لقد غفل اليمين المحافظ في سوريا عن الجيش كقوة سياسية في ظروف نكبة مهلكة،دمرت فيما بعد نفوذ العائلات الاقطاعية وتجار المدينة (9) .
فمن هذا المزيج تكونت القوات السورية الوطنية، وصدر بعد ذلك قانون الخدمة العسكرية الإلزامية .
وقد كان هذا الجيش الحديث النشأة والتكوين يفتقر إلى الكثير من مقومات الجيش الانضباطي، من تدريب وسلاح وروح معنوية عالية ...
وهذه المواصفات، جعلت الجيش السوري الناشئ مطية سهلة للمغامرين من ضباطه ، وكان سبباً من أسباب الشقاق والتمزق داخل صفوفه، ومن ثم انشغاله عن واجبه المقدس في حماية البلاد، والدفاع عن حدودها، وزجه بعد ذلك في خضم السياسة والنزاعات الحزبية والطائفية والعشائرية .
وخلاصة القول : إن هذا الجيش الذي دُفع للقيام بالانقلاب الأول ، كان جيشاً ناشئاً، ويعتبر إلى حد بعيد من بقايا الجيوش المرتزقة أيام الانتداب الفرنسي الغاشم(10) .
(5) ينظر كتاب النكبات والمغامرات /ص68 - 96/ بشير فنصة .
(6) الحرس السيار : كان يتكون من شرذمة من العساكر المرتزقة توضع تحت تصرف المستشارين والمندوبين السياسيين الفرنسيين، لقمع كل تمرد في صفوف الفلاحين، وتميزت هذه القوات بأعمالها الوحشية ضد الأهالي .
(7) الصراع على السلطة في سوريا: د: نيقولاوس فان دام/ الطبعة الثانية/ القاهرة مكتبة مدبولي/ 5991/ ص15 – 25 .
(8) المرجع السابق/ ص35 .
(9) الصراع على سوريا: باتريك سيل، ترجمة سمير عبده، ومحمود فلاحة/ ص06 - 16/ مكتبة طلاس للدراسات والترجمة والنشر/ دمشق/ 3891م . (10) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص86 – 96 .
نكبة فلسطين عام 1948م
لقد صعق العرب في شتى أقطارهم لما حل بهم من هزيمة منكرة في فلسطين ، وهبت الأمة من غفلتها تطالب بإزاحـة الحكام عن مناصبهم ، فسارت المظاهرات في الشوارع في عواصم البلاد العربية كالقاهرة ودمشق وعمّان وبغداد ، وألقيت الخطب النارية، وامتلأت الصحف بحملات النقد والتشهير بمن كانوا السبب وراء مأساة فلسطين .
وهبَّ الشعراء في كل قطر ينظمون القصائد، ويبكون النكبة والمجد الضائع .
قال الشاعر العراقي ( عدنان الراوي ) قصيدة بعنوان : ( النشيد السادس ) منها هذه الأبيات (11) :
نهبوا منا الربوع الخضـربل داسوا الكرامة واستباحوا حرمات العرب فينا والشهامة
ولقد كنـا على آثـارهم مثـل النعامـة رأسها في الرمل والجسم مباح يا سلامة
لست أدري هل سنبني مجدنا يوم القيامـة ؟!
وقد تكشف ضعف الجيش السوري خلال هذه الحرب، فاستقال وزير الدفاع أحمدالشراباتي في 24/آيار/1948م ، بعد إعلان قيام إسرائيل في 15/آيار من نفس العام ، وقد كان الشراباتي يمنع رئيس أركانه من زيارة الجبهة (12) .
وتولى جميل مردم رئيس الوزراء، وزارة الدفاع بنفسه ، وتقاعد عبد الله عطفة رئيس الأركان العامة، واستبدل به حسني الزعيم مدير الأمن العام .
وقد وجهت اتهامات بالرشوة والربح الفاحش، ولا سيما في قضية الضابط ( فؤادمردم ) الذي أرسل بمهمة عسكرية لإيطاليا، فابتاع سلاحاً، وبسبب الإهمال أو الخيانة ، في عدم وصول السلاح واعتراض إسرائيل لتلك الصفقة، بسبب أن فؤاد مردم، كان قد وقع في حبال فتاة تعمل في الاستخبارات الإسرائيلبية (13) .
وقد أشار إلى هذه الفضيحة الشاعر عمر أبو ريشة في قصيدة له مشهورة ، وجه الاتهامات فيها لرئيس الوزراء جميل مردم وحكومته منها قوله :
أمتي هل لك بين الأمـمِ
كيف أغضيـتِ على الذل
ودعـي القادة في أهوائها
رب وامعتصماه انطلقت
لامسـت أسماعهم لكنها
أمتي كم صنم مجدته
لا يلام الذئب في عدوانه
فاحبسي الشكوى فلولاك لما
إن أرحام البغايا لم تلد
كيف ترجو أمـةٌ عزتها
منبر للسيف أو للقلمِ
ولمتنفضي عنك غبار التهمِ
تتفانـى في خسيس المغنمِ
ملء أفواه الصبايا اليتّمِ
لم تلامس نخـوة المعتـصمِ
لم يكن يحمل طهر الصنمِ
إن يك الراعي عدو الغنـمِ
كان في الحكم عبيد الدرهمِ
مجرماً مثل هذا المجرمِ
وبها مثلُ جميل المردمِ (14)
كانت هذه الحرب تجربة قاسية بالنسبة للضباط السوريين الشباب، وكانت نقطة انعطاف خطيرة، إذ اعتقدوا أنّ زعماءهم السياسيين كانوا مهملين إلى حد الإجرام، فقدذهبت القوات السورية إلى المعركة بعتاد لا يتجاوز بضع مئات من الطلقات لقطعة السلاح الواحدة (15) .
وكان جميل مردم قد استقال من رئاسة الوزارة ، في أوائل كانون من عام 1948م ، بعد توجيه أصابع الاتهام إليه . وأخذ شكري القوتلي يبحث يائساً عمن يتولى الوزارة حتى قبلها أخيراً خالد العظم .
وهكذا تضافرت الأحداث الداخلية والخارجية، لتمهيد السبيل أمام قائد الانقلاب الأول، وصاحب البلاغ رقم ( 1 ) ، الزعيم حسني الزعيم (16) .
(11) نشرت هذه القصيدة في جريدة الأنباء الدمشقية، وانظر النكبات والمغامرات/ ص97 – 08 .
(12) أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث: هاني الخير/ ص92 يقول المؤلف: ذكر ذلك لي الزعيم أمير شلاش في 42/ آيار/ 8491م . (13) الصـراع على سوريا: باتريك سيل/ ص55 - 65• وأديب الشــيشكلي لهاني الخيرّ/ ص03 – 33 .
(14) المرجع السابق .
(15) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص65 .
(16) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص08 .
البرلمان السوري والعهدالدستوري الأول
كان القوتلي أول رئيس للجمهورية في العهد الوطني، وفي عهده قام عهد برلماني دستوري تنافست فيه الأحزاب لكسب ثقة الشعب وتوالت على الحكم حكومات متعددة ، كان لها بعض المواقف السليمة إزاء الاستعمار الاقتصادي الجديد، وحيال الأحلاف الأجنبية المشبوهة ، كحلف بغداد ، ومشروع سوريا الكبرى (17) .
أما البرلمان السوري، فكان ناشئاً تسوده الفوضى " وكانت المفردات السياسية الرصينة، من أمثال كلمة نائب ، ومعارضة ، ورئيس المجلس ، ولجنة الشؤون الخارجية " ، لم تفلح في ستر الفوضى الفاجعة، التي حكمت البرلمان السوري . وفي ذكريات نائب، كتب حبيب كحالة ما يلي : " نظرت حولي، وكان ما رأيته فقط، رجالاً لا يوحد بينهم شيء، ولايشتركون في أية مبادئ، ولا يربطهم تنظيم حزبي، وقد وصلوا إلى البرلمان بأساليب خادعة مقنّعة، من انتخابات فوضوية تحت ستار الحرية، فكان بعضهم أمياً، وآخرون أدباءمرموقون، وكانت لغة بعضهم الكردية أو الأرمنية، ولم يعرف آخرون سوى اللغة التركية، ولم يزد الأمر عن مسرحية وتمثيل أدوار " (18) . وكان لا بد للسياسين المتعبين، الذين صرفوا طاقاتهم في جدل منهك مع الفرنسيين، وللمؤسسات القليلة التجربة ولتداعي الولاءات العائلية، والرشوات الحكومية، وللجيش السيء التدريب والتجهير، كان لا بد لهذه كلها أن تصاب بجراح ثخينة في حرب فلسطين (19) . ويضاف إلى ذلك أن الزعامات التي تعمقت جذورها منذ أيام المستعمر الفرنسي ، أخذت تعتبر أن كل من يعارضها خائن، ولذلك بدأ حكم القوتلي يتعرض للنقد الشديد، وأخذ وزير الداخلية ( صبري العسلي ) يقول : " لا يجوز لأفراد الشعب إبداء الرأي طالما أنهم استعملوا حقهم بالتصويت يوم الانتخاب " (20) .
(17) النكبات والمغامرات/ ص07 – 27 .
(18) ذكريات نائب/ ص34، الملاحظة 193/ وقد نشرته صحيفة المضحك المبكي، وهي صحيفة ساخرة، كان رئيس تحريرها السيد حبيب كحالة ، وانظر الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص53 .
(19) الصراع على سوريا/ ص54 .
(20) هؤلاء حكموا سوريا: د . سليمان المدني/ ص53، دار الأنوار/ دمشق 1999م/ الطبعة الرابعة/ دمشق – بيروت .
دور الأحزاب السياسية في هذه المرحلة
كان كبار التجار قد هيمنوا على السياسة السورية، وكانت الكتلة الوطنية عبارة عن حركة وطنية موحدة، خلال حقبة النضال ضد الاستعمار، وكان هنالك تنافسات داخل تلك الكتلة، تثيرها السلالات العائلية والتعصب للمدن الكبرى، وتظهر خلال الانتخابات النيابية، ثم بدأت الكتلة الوطنية تتفسخ وتتعرض للأحزاب الأكثر حداثة وتنظيماً (21) . ومهما يكن من أمر فإن رجال الكتلة الوطنية، الذين حملوا لواء التحرير الوطني، كان معظمهم ممن يحملون الأفكار الجديدة، ويتأثرون بالتيارات الثقافية الغربية، ومنهم من حمل السلاح وقاد ثورة مسلحة ضدفرنسا، كإبراهيم هنانو . كما كان شعار الثورة هو: الجلاء والاستقلال والحرية، والإخاء والمساواة، و " الدين لله والوطن للجميع " . وهذا يوضح تأثرهم بالعلمانية الغربية، ومبادئ الماسونية . وكان من أبرز رجالاتها : شكري القوتلي ، وهاشم الأتاسي وسعد الله الجابري، وجميل مردم وفارس الخوري، وناظم القدسي ورشدي كيخيا وآخرين (22) . وفي ربيع عام 1947م، توحد شتات الجناح الحاكم من الكتلة في الحزب الوطني . وكان معقله دمشق، حيث يوجد للقوتلي وصبري العسلي ولطفي الحفار وفارس الخوري أتباع شخصيون، حتى عكس الحزب السياسة الدمشقية بأضيق صورها فلم يطرح الحزب أي منهاج مفصل،ولم يمارس أي نظام على أفراده . وقد حظر آنذاك نشر الآراء والأفكار في الانتخابات لضمان دعم الرجال الأقوياء " القبضايات " (23) . حيث كان هؤلاء يحمون الضعيف من القوي، ويتلقون الرشاوى من الأثرياء ، إلا أن هذه الظاهرة اختفت بعد عام 1950م ، بسبب الانتقال إلى الأحياء الحديثة ، ولأن الأحزاب العصرية، ضبطت عناصرها من الشباب (24) .
وفي شهر آب من عام 1948م، شكل معارضو القوتلي في الكتلة الوطنية حزباً أطلقوا عليه : حزب الشعب ، وقاد هذا الحزب وجهاء من مدينة حلب هم : رشدي الكيخيا وناظم القدسي، ورشاد برمدا ، ومعظم هؤلاء كانوا على صلة طيبة مع حكام العراق، وذلك كي يعيدوا وضع حلب الاقتصادي التقليدي، الذي كان لها قبل قيام الجمهورية السورية (25) . وكان زعماء حزب الشعب يتمتعون بسمعة جيدة تفوق ما كان يتمتع به منافسوهم من رجال الحزب الوطني، وكان حزب الشعب يمثل المصالح التجارية في حلب والمنطقة الشمالية، حيث كانت مدينة حلب تسيطر لعدة أجيال على الطريق التجاري العظيم من أوربا والأناضول إلى بلادالرافدين وإيران والهند، عندما ازدهرت أثناء وحدة الدولة العثمانية . لقد كان حزب الشعب حلبياً أولاً ، إذ ألقى بثقله السياسي كي يزيل الحدود السورية العراقية، ويحطم الحواجز التجارية والحدود السياسية التي خنقت سوريا، ولم يكن هاشمياً ولا ملكياً كما يُظن (26) . وعموماً فإن الحزبين السابقين ، كان قد تركز اهتمامهما على تسلم السلطة ، كي يوسعا مصالح أتباعهما ومصالح عائلاتهم ، وقد حاول رجالهما خنق أية معارضةجادة، سواء كانت في البرلمان أم في الشارع، فكان همهم ينحصر في صيانة وجودهم السياسي، والحفاظ على قدر محدود من استقلال البلاد (27) .
ثـم تشكلت أحزاب على أساس عقدي قومي ، فكان حزب البعث العربي الاشتراكي ثم الحزب القومي السوري .
وكان زكي الأرسوزي أحد كبار النصيريين في اسكندرونة قد شـكل عصبة العمل القومي عام 1936م . وكان أول حزب في سورية، يقوم على أسس من المبادئ العلمانية الاشتراكية، وقد انضم إليه بادئ الأمر " صبري العسـلي " ، ثم تحول إلى الحزب الوطني وصار من زعمائه، ثم انضم إليه (نذير فنصة) ، و (أحمد الشـراباتي) الذي صار وزيراً للدفاع الوطني فيما بعد، وانضم إلى هذا الحزب عدد من الشبـان المتمردين على سياسة الكتلة الوطنية التقليدية (28).
حزب البعث العربي الاشتراكي
شكله ميشيل عفلق وصلاح البيطار عام 1947م ، وهو حزب علماني جعل شعاره ( وحدة - حرية – اشتراكية ) و ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) . وركز في ممارساته على الهجوم على الأحزاب التقليدية ، والحزب يدعو إلىالانقلاب الشامل في المفاهيم والأفكار والعقائد والقيم، لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي. وحينما توصل إلى الحكم اصطدم مع الواقع، وتنكر لشعاراته ومبادئه، وخاض صراعاً ضد قياداته التاريخية وزج بهم في السجون، أو صفّاهم على أيدي الرفاق، والحزب يعتبر أن الإسلام ما هو إلا مرحلة من مراحل التعبير القومي ليس إلا ،كان ميشيل عفلق من نصارى سوريا، من مواليد دمشق عام 1910 م ، درس في باريس دراسته الجامعية ، والتقىمع صلاح البيطار خلال دراستهما هنالك، وتشربا الروح القومية السائدة في أوروبا، وتعاهدا على العمل معاً ، ثم عادا إلى سوريا عام 1933م ، يحملان الأفكار القوميةالغربية، ليطبقاها في ديار الإسلام ... وقد ساهم في تأسيس الحزب أيضاً ، جلال السيدوزكي الأرسوزي ثم اندمج حزب البعث، والحزب العربي الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني، في حزب واحد سمي " حزب البعث العربي الاشتراكي " وذلك في عام 1953م ، وأصبح للحزب أدوار فاعلة في الانقلابات والحكومـات التي تعاقبت على سوريا، وانغمس في صراعات حزبية وطائفـية جرّت على البلاد الويلات . ويمكن أن نلخص أبرز مبادئ الحزبوعقائده فيما يأتي :
- إن الحزب يجعل الاشتراكية ديناً والعلمانية اللادينية مسلكاً ومنهجاً، وكان من أبرز أهدافه فصل الدين عن شؤون الحياة ، وعن قضايا الحكم والسياسة .
- ويجعل الرابطة بين العرب هي رابطة الدم واللغة والتاريخ والأرض، ويلغي رابطة الدين، بحجة أنها تمزق الأمة .
- ويعتبر أن الإسلام مجرد قيم روحية ،وشعائر للعبادة ، لمن أراد ذلك .
- والحزب يتابع خطوات الماركسيين في لأفكار والممارسات العملية، والخلاف بينهما، أن الماركسية أممية، أماالبعث فقومي ، وما عـدا ذلك فإن الأفكار الماركسية تمثل العمود الأساسي في فكر الحزب ومعتقـداته (29) .
الحزب القومي السوري الاجتماعي
أسسه أنطون سعادة، وكان حزباً فاشياً، هدفه الرئيسي إحياء سوريا في حدودها التاريخية، وتتضمن سوريا ولبنان والأردن والعراق وسيناء وقبرص . والسوريون - في نظر سعادة - هم ورثة الحضارات القديمة ، وليسوا جزءاً من الأمة العربية . وقد شددت مبادئ الحزب على تبني العلمانية وإجراء التحديث وكانت أوامر الزعيم مقدسة، كما كان أنصاره يتميزون بالروح الفدائية والطاعة العمياء، ولم تكن لهم شعبية تذكر في بلاد الشام، ولذلك كان أسلوب المؤمرات والاغتيالات هو السائد لدى الحزب . وقد قام أعضاء الحزب باغتيال عدنان المالكي ، أحد كبار الضباط البعثيين في دمشق 1955م، ورياض الصلح رئيس وزراء لبنان خلال زيارته للملك عبد الله 1951م ، وحاول الحزب تدبير انقلاب في لبنان، لكنه فشل، فصفي الحزب في كل من سوريا ولبنان .
وكانت حكومة سوريا أيام حسني الزعيم ، قد اعتقلته وسلمته إلى لبنان، حيث اتهم بالتآمر على سلامة لبنان الخارجية وحكم عليه بالإعدام ، ونفذ الحكم فيه رمياً بالرصاص في الثامن من شهر تموز لعام 1949م . وسعادة في الأصل من مواليد لبنان، وينتمي إلى النصرانية (30) .
الحزب الشيوعي السوري
وكان الحزب الشيوعي السوري قد بدأ نشاطه عام 1922م معتمداً على الأقليات ، وتولى زعامته في عام1932م خالد بكداش ، وهو من أصل كردي ، وكان الحزب يعمل على نطاق سوريا ولبنان، كما كانت مكانته تتأثر بموقف الاتحاد السوفييتي من القضايا العربية، وكان هو الحزب الوحيد الشيوعي في البلاد العربية آنذاك، وكان له ممثل في البرلمان السوري (31) .
جماعة الإخوان المسلمين
أما جماعة الإخوان المسلمين، فقد أسست في مصر عام 1928م وتبنت مبادئ الإسلام ، ساعية لإنشاء الدولة الإسلامية، وقد ظهر الإخوان بشكل رسمي في سوريا في أيلول 1946م، وأثار نجاحهم المتواضع في الانتخابات السورية قلقاً كبيراً في أوساط العلمانيين وفي المؤسسات الغربية ، ثم ظهروا ثانية في الانتخابات النيابية عام 1949م ، في أعقاب الإطاحة بحسني الزعيم ، وكانت الجماعة بقيادة مؤسسها الدكتور مصطفى السباعي، وكانت كتلتها في البرلمان تحمل اسم الجبهة الاشتراكية الإسلامية ، وقد طالبت هذه الجبهة بإجراء إصلاحات اجتماعية، وباتخاذ موقف مناوئ للغرب، إضافة إلى المطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية (32). وكان شعارها وشعار الإخوان عموماً يتمثل في نداء : ( الله أكبر ولله الحمد ) و ( الله غايتنا والقرآن دستورنا ومحمد زعيمنا والجهاد في سبيل الله أسمى أمانينا ) .
وقد عملت الظروف السابقة الاجتماعية والسياسيةوالاقتصادية إضافة إلى الصراعات الحزبية، على إشاعة القلق، واختلال التوازن في البلاد، مما دفع ببعض القادة العسكريين، من ذوي الطموح الشديد إلى القيام بانقلابات عسكرية، أشاعت في البلاد الفوضى والاضطراب، وفسحت المجال للتدخل الأجنبي في توجيه سياسة البلاد . وقد تمكنت قوى الشر الصليبية والصهيونية والشيوعية، من تمرير مخططاتها عن طريق هذه الانقلابات وعن طريق قادتها الضباط ، وذلك بسبب الإرهاب العسكري وغياب رقابة الأمة الواعية، وإبعاد هيمنة الشريعة الإسلامية، ومن ثم تسلط الأحزاب العلمانية، والأقليات الطائفية على مقدرات الجيش والحكومات المتتابعة . قال بن غوريون رئيس وزراء دولة إسرائيل سابقاً في كتابه ( أعوام التحدي ) (33) : " إن إسرائيل ستبقى عنصراً غير مرغوب فيه في المنطقة، إلى أن تسيطر طبقة العسكريين ومفلسفوها "، مشيراً إلى أنّ الهوة ستزول حتماً بين إسرائيل ودول المنطقة، حالما تسود الاشتراكية والعسكرية على حياة دول المنطقة (34) .
(21) الحرب السرية في الشرق الأوسط من عام 1949 – 1961 ص14/ أندرو راثمل - ترجمة محمد نجار/ الأهلية للنشر والتوزيع بعمان/ 1997م .
(22) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص60 – 61 .
(23) القبضايات: كلمة تركية الأصل، تعني القوة والفتوة والجلافة .
(24) الصراع على سوريا: باتريك سيل، ص49 .
(25) الحرب السرية في الشرق الأوسط: أندرو راثمل/ ص14 .
(26) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص49 – 50 .
(27) الحرب السرية في الشرق الأوسط: أندرو راثمل/ ص15 .
(28) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص63 .
(29) ينظر: كتاب حزب البعث، تاريخه وعقائده، سعيد بن ناصر الغامدي ص9 - 14/ وص112 بإيجاز/ دار الوطن - الرياض/1411هـ . والحركات القومية الحديثة في ميزان الإسلام: منير محمد نجيب/ ص(33) وما بعدها، مكتبة المنار – الأردن .
(30) ينظر: الهلال الخصيب، د. محمود حسن صالح منسي/ ص241 وص242، ومشكلات الشرق الأوسط: إبراهيم علوان/ ج2/ص17 – 18 .
(31) الهلال الخصيب: د. محمود حسن صالح منسي/ ص240 – 241 .
(32) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص17، ترجمة محمد نجار . وتفصيلاً لذلك ينظــر: الدكتور مصطفى السباعي، حسني أدهم جرار/ ص52 – 54 .
(33) أعوام التحدي نقلاً عن “المسلمون والحرب الرابعة” ص23 .
(34) قد تحقق توقع بن غوريون عندما سادت اشتراكية عبد الناصر وحزب البعث في دول المنطقة المتاخمة لإسرائيل . وهاهي مساعي الصلح تخيم على قادة تلك الأقاليم باعتراف ذليل وتطبيع سقيم لصالح الكيان الصهيوني .
المبحث الأول
انقلاب حسني الزعيم
كانت سوريا مجالاً للصراع السياسي والأطماع الدولية والعربية فسوريا تحتل موقعاً مركزياً .. وكانت عاملاً حاسماً في ترجيح محاولات الاتحاد السوفييتي والدول الغربية خلال صراعها على منطقة الشرق العربي ،كما شهدت سوريا معارك سياسية حاسمة في سياستها الداخلية حول حلف بغداد، ومشروع سوريا الكبرى، ومبدأ أيزنهاور، فالصراع على السلطة ، كان يجري في دائرة أوسع من حجم السياسيين وقادة الضباط، الذين انخرطوا بمشكلاتها وتورطوا فيها مباشر(1) وكان صاحب الانقلاب الأول هو الضابط حسني الزعيم، وهو من مواليد حلب 1889م ، التحق بالجيش العثماني حين تلقى علومه العسكرية في (دمشق وحلب واستانبول). والزعيم ينتمي إلى أسرة غنية من التجار، تعود في أصولها إلى الأكراد، والذين عرفوا حسني الزعيم قالوا: " إنه مغامر قليل المثل العليا، وغير مستقر عاطفياً، كان سهل الإثارة متهوراً "(2) .يقول عنه الصحفي بشير فنصة: " كان حسني الزعيم علمانياً، يكره التعصب المذهبي، وكنت ألحظ عليه كغيره من الضباط، حبه للظهور بمظهره العسكري الصارم، وولعه الشديد بالأوسمة والألبسة المذهبة والمقصبة ، واكتشفت فيه بالتدريج أنه يحلم بأنه سيصبح محرراً للبلاد كمصطفى كمال ، فقد كان معجباً به أشد الإعجاب، ولكنه على جهل مطبق بشؤون السياسة الخارجية (3) . وقال باتريك سيل : " إن الرجال الذين يعرفون الزعيم، يعرفون أنه مغامر قليل المثل العليا، وأنه كان غير مستقر عاطفياً، شجاعاً إلى حد التهور، ولكنه قليل المواهب في رسم الخطط الحربية الاستراتيجية، وسجله العسكري في فلسطين لم يكن شائناً .. وقد كان انقلاب الزعيم (العميد) حسني الزعيم أول تدخل للجيش في السياسة في منطقة الشرق الأوسط، فأقام بذلك مثالاً لطالما احتذي فيما بعد "(4) . أسر بيد الإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى في مصر، ثم التحق بالجيش الفيصلي ، ثم بقطعات الجيش الفرنسي، وبلغ فيها رتبة (كولونيل - عقيد) عام1941م، وفي عام 1948م عين مديراً عاماً للشرطة، وفي 30 / آذار/ 1949م قام بالانقلاب العسكري الأول على حكومة شكري القوتلي الدستورية آنذاك (5) .
(1) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص4، والصراع على سوريا: باتريك سيل .
(2) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ص20، المنارة ــ بيروت ودمشق/ 1418هـ - 1998م .
(3) النكبات المغامرات: بشير فنصة/ص195 .
(4) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص69 – 70 .
(5) النكبات والمغامرات/ ص84/ بشير فنصة .
أحداث الانقلاب في 30/ آذار/1949م ، في تمام الساعة السابعة صباحاً، أذاع راديو دمشق البلاغ رقم واحد وفيه : " مدفوعين بغيرتنا الوطنية، ومتألمين مما آل إليه وضع البلد من جراء افتراءات وتعسف ممن يدّعون أنهم حكامنا المخلصون، لجأنا مضطرين إلى تسلُّم زمام الحكم مؤقتاً ... وسنقوم بكل ما يترتب علينا نحو وطننا العزيز، غير طامحين إلى استلام الحكم، بل القصد هو تهيئة حكم ديمقراطي صحيح، يحل محل الحكم الحالي المزيف ... هذا وإن كل محاولة ستقمع فوراً وبدون شفقة أو رحمة " " في 30/ آذار/1949، القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة "(6) . ومنذ تلك اللحظة بدأ أول فصل من فصول المأساة، مأساة الانقلابات العسكرية، التـي اكتوت البلاد بنارها،كما اكتوى العسكريون بحرها قبل غيرهم ، وقبل هذا الانقلاب كانت المظاهرات الصاخبةقد قامت إثر نكبة فلسطين، تطالب بتخلي الحكومة برئاسة خالد العظم عن الحكم، وكان السخط ضد حكام العرب عاماً، وكان فيصل العسلي، النائب في البرلمان، وصاحب الحزب الاشتراكي التعاوني، قد شنّ حملة شعواء على قائد الجيش حسني الزعيم، ومن ثم وجه إليه اتهامات شنيعة في البرلمان، تتعلق بالغش في التموين والسّمنة الفاسدة المستوردة لتموين الجيش، والاتهام بالاختلاسات المالية ، ونظمت حملة في صفوف النواب لتخفيض ميزانية الجيش، وتخفيض رتبه ورواتبه، فاشتدت نقمة حسني الزعيم على السياسيين وشاركه في هذه النقمة جماعة من الضباط (7) . وكان أكرم الحوراني يقف إلى جانب الزعيم ويدعمه، كماكان نذير فنصة مدير جريدة ألفباء (وعديل الزعيم) يسانده في الحكم ، وقدتحدث الزعيم خلال مؤتمر صحفي حضره الصحفي (بشير فنصة) كان قد عقد في مقر رئاسةالأركان العامة في 30/3/1949، تحدث عن أسباب الانقلاب فقال : " إن سببه الأول هوالهجوم المنكر على الجيش من البرلمان، ثم مالمسه من سخط الشعب على الوضع القائم ، وبسبب اعتقال بعض الضباط بتهمة السرقة والرشوة، وهم أبرياء من ذلك "(8) . وقد اعتقل الرئيس شكري القوتلي وأودع في المستشفى العسكري كما اعتقل رئيس وزرائه خالد العظم ، وأغلقت الحدود بين سوريا والأردن، وقطعت الاتصالات الهاتفية بين البلدين وكانت برقيات التأييد وقصائد الشعراء تمدح الوضع الجديد التي كانت تتوالى بكثرة حتى أصبحت أكداساً على مكتب إدارة جريدة (ألف باء) ، وكان أكثرهم من الذين يدينون بالولاء لولي نعمتهم شكري القوتلي، إذ كانوا على الدوام يسبحون بحمده ، وكان أكرم الحوراني يخط البيانات حول تمسك الزعيم بحقوق الإنسان، وسعيه لبث الروح الديمقراطية بين أبناء الشعب، ويضمنها ما يجول برأسه من أحلام، لا كما يجول برأس الزعيم من أطماع وشهوة إلى السلطان ، وبانتهاء اليوم الثاني للانقلاب أصدر الزعيم أمراً عسكرياً نصَّبَ نفسه بموجبه رئيساً للدولة، ثم صدرت مراسيم ذات صبغة إدارية ، وسارت المظاهرات في الشوارع تأييداً لبطل الانقلاب، ونادى المنادي : ألا زغردي يا شام!!.. لقد مر الانقلاب الأول بسلام ، إلا أنه فتح الباب على مصراعية أمام انقلابات أخرى متتالية، سفكت فيها دماء غزيرة وقتل خلق كثير، وعذب وأهين الآلاف من عسكريين ومدنيين، كان وقودها العسكريين أنفسهم أكثر من المدنيين (9) . وبعد خمسة أيام من الانقلاب لم يعد أحد يجرؤ علىالتحدث عن الديمقراطية والحرية وعودة الحياة النيابية ... وقد منح الزعيم المرأة حق التصويت، وأعلن بأنه سينصف صغار الموظفين ويقوم بتوزيع الأراضي على الفلاحين ، وفي تاريخ 11/4/1949م، جاء في تعليق بجريدة ( تايمز اللندنية ) : " أن حسني الزعيم، قد بدأ في خطته لتنفيذ آرائه التقدمية، وأنه أنهى حكم العائلات الغنية في سورية، وقضى على المحسوبية والشفاعات والرشوات "(10) . وبعد تمام الانقلاب ، وجه ميشيل عفلق، باسم اللجنة التنفيذية لحزب البعث كتاباً إلى قيادة الجيش، أيّد فيه الانقلاب وطالب بإصلاحات في البلاد، وتأمين الحريات العامة ، وفي 24/آيار/1949م، وجه عفلق مذكرة إلى الزعيم ، يشير فيها إلى بعض السلبيات ، وفي 62/ حزيران، اعتقل حسني الزعيم أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب البعث الموقعين على البيان، كما اعتقل عدداً كبيراً من أعضاء الحزب، وأودعهم في سجن المزة، وتعرض الكثير منهم إلى الضرب والشتائم، ومختلف ألوان التعذيب ... وقد انهار عفلق عميد الحزب، وبعث برسالة إلى حسني الزعيم تتضمن الاعتذار عما بدر منه في شدة لهجة البيان ، وكان في الرسالة ما يشبه التعهد بترك العمل السياسي والانصراف عنه ، وكان الزعيم قد اعتقل كثيراً من السياسيين وقادة الأحزاب، وبعد ثلاثة أسابيع تم الإفراج عن السجناء كافة، وعن عفلق قبل ذلك بعشرة أيام قال بعض المراقبين : " إن الرسالة العفلقية قد نَمَتْ عن مزاج عاطفي وبنيان رخو " ، ورغم كل الانتقادات التي تعرض لها البعثيون آنذاك، فإن عفلق لم يفصل من الحزب، وبقي في سدة زعامته .
(6) النكبات والمغامرات/ ص86 - 87، والانقلابات العسكرية في سوريا/ محمد أبو عزة/ ص30 .
(7) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص88 – 89 .
(8) المرجع السابق/ ص91 .
(9) النكبات والمغامرات/ ص93 - 94، ص108 .
(10) المرجع السابق/ ص133، ص115 .
إنجازات الزعيم ومواقفه السياسية
لقد هز انقلاب الزعيم المجتمع الدمشقي، وأخرجه من تعصبه الشديد وتقاليده الموروثة، وأعلن على الملأ سخطه على اللباس العربي التقليدي، فامتلأت الشوارع بمجموعات غربية وقديمة من القبعات الأوربية، وبرزت النساء أكثر حرية في الحياة العامة، إلا أن الزعيم كمناور سياسي، كان أقل نجاحاً، فقد أطارت السلطة لبه، وأصبح همه أن يكون رئيس جمهورية، يتساوى مع الملوك ورؤساء الدول، فكان عُرضَة لنوبات تفقده كل منطق، كما ذكر ذلك الأمير عادل أرسلان، وهو من كبار مؤيديه(11) . لقد نبه حكم الزعيم الرأي العام إلى أخطار الدكتاتورية العسكرية ، والخروج الصارخ على التقاليد الدينية الإسلامية، وقد ندد بإصلاحاته العلمانية الإخوان المسلمون الذين تزايد نفوذهم أواخر الأربعينات ، أما مهام الحاميات في المدن الرئيسية، فقد تجلى اعتماده فيها على الوحدات الكردية والشركسية، مبعداً القوات العربية الصرفة إلى الجبهة، وهنا صارت الصحف العربية خارج سوريا، تهاجم بعنف باسم العروبة والإسلام (الجمهورية الكردية العسكرية)،وتعيد إلى الأذهان أصله الكردي (12) . وقد حاول الزعيم جاهداً أن يقوم بإنجازات وإصلاحات عليها طابع التحديث - حسب زعمه –كإصدار القانون المدني الجديد، والقيام بالإصلاح القضائي، ومجموعة من الإنجازات الأخرى ، ففي تاريخ 19/5/1949م، عقد مجلس الوزراء برئاسة حسني الزعيم جلسة استثنائية للنظر في مشروع القانون المدني الجديد، الذي أصر الزعيم بتشجيع من الأستاذ أسعد الكوراني ( وزير العدل ) أن يكون فاتحة الإصلاح القضائي في البلاد، وكانت اللجنة المكلفة بذلك ، قد اقتبست جميع المواد من القانون المصري ، وبعد يومين صدق مجلس الوزراء بالإجماع على القانون المدني الذي ظل نافذ المفعول في البلاد، وذلك بسبب إصرار الزعيم على إنجازه (13). ويقول بشير فنصة : " خلال زيارتي لوزير العدل أسعد الكوراني ، سألته عما جرى في لجنة الدستور، فقال في 20/4/1949م في فندق أمية : " إن الدستورالجديد تبنى ميثاق حقوق الإنسان، كما ألغى نظام الطائفية، وألغى التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وجعل التعليم الابتدائي مجانياًوإلزامياًً " ونُشر ذلك التصريح في صدر الصفحة الأولى من جريدة (ألف باء) ، وبدأت مراسيم الزعيم تصدر بترفيع عدد من ضباط الجيش، وكان في مقدمتهم العقيد سامي الحناوي صديق الزعيم الحميم، فأصبح برتبة زعيم (عميد)، وشملت الترفيعات مئات الضباط، وفي الوقت نفسه صدر مرسوم بتعيين محسن البرازي وزير الخارجية السابق، وزيراً مفوضاًلسورية في القاهرة، وكان البرازي يناصب نوري السعيد العداء جهراً ، وبزعم تطهير الجيش من العناصر الفاسدة، صدرت مراسيم بتسريح أعداد كبيرة من موظفي الدولة، من مختلف الوزارات والمؤسسات، مما أحدث ضجة كبرى في البلاد ... ولا شك أن بعضهم قد ذهب ضحية الوشايات، رغم كثرة أصحاب السوابق في الرشوات وأبناء الذوات الذين جاءت بهم الشفاعات(14) وخلال استفتاء شعبي ، انتخب الزعيم رئيساً للجمهورية بتاريخ 17/6/1949م، ولم يرشح أحد نفسه - بطبيعة الحال - لمنافسة الزعيم على الرئاسة ، وفاز بـ ( 73 ألف صوت ) من أصل ( 600،81 ) صوت تقريباً، وصار برتبة مشير ، ثم عين المشير حسني الزعيم، محسن البرازي رئيساً للوزراء، وأمره بتشكيل الوزارة الجديدة ، وكان أول تدبير سيئ قام به البرازي هو عزله للدكتور أسعد طلس مباشرة بعد استلامه منصبه ، وهو عديل اللواء الحناوي، عزله عن جميع مناصبه في الخارجية والدفاع، وأعاده إلى سلك التعليم ، مما كان لذلك الأثر السيء في القضاء على حسني الزعيم وحكمه بتأييد من نوري السعيد والعراق(15) .
أبرز مواقفه السياسية
كانت للزعيم مواقف واضحة من التيارات السياسية والحزبية داخل البلاد ، ومن أبر تلك التيارات المتباينة :
- التيار الأول : يتزعمه فارس الخوري، يؤيده فيه أسعد الكوراني ونذير فنصة، وينحصر هدفه في إطفاء النيران التي أشعلتها الانقلابات العسكرية ، والعودة في البلاد تدريجياً إلى عهد دستوري جديد .
- التيار الثاني : كان يتزعمه أكرم الحوراني وميشيل عفلق وصلاح البيطار، وكان ينادي بإصلاح نقابي فوري وجذري ، على أسس اشتراكية مهما كلف الأمر .
- التيار الثالث : ويتزعمه رشدي كيخيا وناظم القدسي، زعيما حزب الشعب، ويقول بوجوب انسحاب الجيش فوراً إلى ثكناته، وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي ، أما الحزب الوطني ، فكان يدعو إلى المهادنة مع الجيش والسعي إلى انتخابات جديدة ، أما الشيوعيون وهم قلة في البلد، فقد زج الزعيم بالمئات منهم في السجون ، وهم الذين أعلنوا عداءهم للزعيم وانقلابه ، وطالبوا بإعادة الحياة النيابية الدستورية إلى البلاد (16) .
ثم قام الزعيم بإصلاحات عديدة : لأنه لا يستند إلى تأييد شعبي، شأن زعماء الانقلابات عادة، فاهتم بالمشروعات العمرانية ، وإقامة ميناء اللاذقية، وإجراء إصلاحات زراعية ، وقام بمشروع الإصلاح المالي، وطهر جهاز الدولة من العناصر الفاسدة، كما وضع مشروعاً لتوحيد اللباس، وإلغاء الطربوش ، ومشروع تأمين النقل الجوي، وجعل مطار دمشق مطاراً دولياً ، هذا مع استتباب الأمن وتضاؤل نسبة الجرائم ، كما شرع ببناء عدد وفير من المدارس والمستشفيات وشق الطرق العامة (17) . وقد ظهرت مطامع ملك الأردن ، وقيادة العراق في سوريا، لأن الزعيم رفض مشروعات (سوريا الكبرى والهلال الخصيب) ، ففي تاريخ 26/4/1949م، دعا الزعيم إلى مؤتمر صحفي في مبنى قيادة الأركان العامة ، واستهل تصريحه (بدون مقدمات) بحملة شعواء على الملك عبد الله ونوري السعيد والوصي على العرش عبد الإله وقال : " إن هؤلاء لم يعترفوا بالوضع الجديد في سورية، وهم يتآمرون علينا، وقد حشدوا قواتهم على الحدود السورية، بغية تحقيق مشروعهم المسمى (بالهلال الخصيب) ومشروع (سورية الكبرى) ، وهدد بأنه سيأتي بالملك عبد الله إلى دمشق ويشنقه في المرجة ، وتبودلت الحملات الصحفية والإذاعية بين سوريا والعراق ، وراح الوصي ونوري السعيد يحيكان خيوط المؤمرات بالاتفاق مع بعض الجهات السورية لإسقاط حكومة الزعيم والتخلص منه(18) وفي مقابلة لبشير فنصة مع الزعيم في منزله، قال :(19) " استهل الزعيم حديثه بالشكوى من مضايقات نوري السعيد وجماعته ، ومن الملك عبد الله وإصراره على تحقيق مشروع سورية الكبرى وقال : الكل طامعون في هذا البلد ، الذي لم يمض على استقلاله التام سوى سنوات معدودات، لذلك فإني لا أقبل أن أسلم البلد إلى حكام مشبوهي ن، باسم الوحدة أو الاتحاد، إنهم يريدون عرشاً، وشعبنا لا يحب الملكية والملوك، إن سورية ستظل جمهورية حرة مستقلة، وسوف نعمل مع مصر على اتحادغير مرتبط بأي حليف أجنبي وأسر إليك أنهم إذا واصلوا مضايقتنا، واستمروا في حشودهم على حدودنا، فلن أتأخر عن الاتفاق مع روسيا لتصبح حليفتنا ولتندفع نيران الحرب العالمية الثالثة بعد ذلك من هنا، من دمشق ، وكان تارة يتكلم باتزان وحكمة وتعقل ، وأخرى يذهب به الغضب مذهب السوقة والجهلة من الناس ، وكان تقليده الأعمى لمصطفى كمال لا حدّ له .
مسألة أنطون سعادة
في الثامن من تموز1949م ، أعدمت حكومة لبنان أنطون سعادة ، زعيم الحزب القومي السوري ، بعد محاكمة عسكرية قصيرة ، وكان سعادة قد طورد من قبل حكومة لبنان، وتمكن من اللجوء إلى دمشق وقبل لاجئاً سياسياً فيها، ثم وضع إمكانيات الحزب تحت تصرف الزعيم حسني ، وقد اتفق مع حسني الزعيم على عصيان يقوم به الحزب القومي في لبنان، بتمويل وتسليح سوري ، وبعد فشل العصيان المسلح سُلِّم سعادة لقوى الأمن اللبناني في القصر الجمهوري بدمشق ، وأعدم في اليوم التالي لوصوله بيروت ، فلماذا غدر الزعيم بسعادة ؟! قد يكون أسقط من حساباته قضية سعادة لأنها خاسرة ، وكانت هنالك ضغوط لبنانية وتوسلات من مصر وبعض الدول الغربية لتسلم سعادة (20) على أن الشيشكلي هو الذي نقل رغبة حسني الزعيم إلى أنطون سعادة لزيارة دمشق ، واستضافته كلاجئ سياسي له مطلق الحرية في العمل السياسي ، وكان الشيشكلي من المعجبين بمبادئ القوميين السوريين، ولذلك كان الثأر شديداً من حسني الزعيم على يد بعض الضباط من الحزب القومي السوري : كفضل الله أبو منصور - وهو درزي أيضاً - وعاصم مريود وغيرهما ، لم يستمر حكم الزعيم طويلاً ، إذ دام (731 يوماً فقط ) ، فما الأسباب الكامنة وراء سقوطه السريع ؟! (21) قد يرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل نوجزها فيما يأتي :
- تعطيل نشاط الأحزاب دون حلها .
- إغضاب الدوائر الإسلامية والمحافظة ، بتشجيع السفور واستيلاء الدولة على الأوقاف، واقتباس القوانين المدنية الحديثة .
- انتشار الاستياء والسخط بين ضباط الجيش ، حتى من قبل من عاونوه في الانقلاب ، حيث أخذ يحيط نفسه بهالة من العظمة، حتى أنه قد منح نفسه رتبة المارشالية .
- اعتمد على الأقليات العنصرية والطائفية ، فكان يولي الأكراد والنصيريين المناصب الحساسة في الجيش، وترك الضباط العرب على الجبهة أمام إسرائيل ، كما اختار حسني البرازي الكردي الأصل رئيساً للوزارة .
- وثق صلاته وصلات نظامه بفرنسا - ضد مشروع الهلال الخصيب - ، مما أثار نقمة الوطنيين الذين كانت ذكرى الانتداب ما تزال عالقة في أذهانهم .
- تسليمه أنطون سعادة إلى حكومة لبنان، وقد أعدم ، فانتقم الضباط القوميون السوريون والدروز من الزعيم ، وكانوا من أكبر منفذي انقلاب الحناوي ضده ، ولا ننسى تدخلات حكومة العراق ، ومساعدتها للحناوي في انقلابه على حسني الزعيم .
(11) الحياة البيروتية في 23/ آب/1949م، والصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص86 – 91 .
(12) جريدة النهضة/ عمان - في 27/ حزيران/ 1949م، وينظر الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص93 .
(13) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص133، 140 .
(14) النكبات والمغامرات/ص149، ص152 .
(15) المرجع السابق/ ص163، ص169 – 170 .
(16) ينظر: النكبات والمغامرات/ ص136 – 137 .
(17) الهلال الخصيب: د. محمود حسن صالح منسي/ ص232، والنكبات والمغامرات/ بشير فنصة، ص188 – 189 .
(18) النكبات والمغامرات/ ص143، وما بعدها .
(19) المرجع السابق، ص157، 158 .
(20) ينظر: الحرب السرية في الشرق الأوسط: آندرو راثمل ترجمة: محمد نجار/ ص64 - 73، وأديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث في سوريا: هاني الخيّر/ص44 – 49 .
(21) ينظر: الهلال الخصيب: د. محمود حسن منسي/ ص232، وص233 .
الأسباب الكامنة وراء انقلاب حسني الزعيم
الأسباب العامة
تتعلق بالحالة المتردية في البلاد، كقضية فلسطين وحالة الجيش ، وقضايا الفساد ومستوى التعليم والأمية (22) . هنالك أسباب مباشرة طغت على السطح قبيل الانقلاب ، يضاف إلى ذلك طموحات العسكريين إلى السلطة ، وعلى رأسهم حسني الزعيم قائد الانقلاب ، وكانت وزارة خالد العظم منشغلة بمسألتين خطيرتين هما :
• مسألة عقد اتفاق نقدي مع فرنسا ، ومسألة منح شركة التابلاين الأمريكية تسهيلات لمد أنابيبها التي تحمل النفط من السعودية حتى البحر المتوسط . وكان ذلك لا يتم إلا عن طريق التفاوض مع فرنسا والولايات المتحدة، لتوقيع اتفاقيات خاصة، وهوالتوجه الذي كان يتعرض لانتقادات مريرة داخل مجلس النواب .. وكان خالد العظم يرى أنه لتدعيم الليرة السورية المهتزة لا بد من عقد هذه الاتفاقيات .. ولكن اعتراض مجلس النواب لم يمنع العظم من عقد اتفاقياته المذكورة . وحتى تصبح الاتفاقيات نافذة ، كان يلزم تصديق مجلس النواب عليها، وهذا ما كان ليتحقق لولا انقلاب حسني الزعيم وأنصاره من الضباط القدامى في الجيش، ومعظمهم كان من أفراد العائلات الكبيرة المتنفذة الذين أدرجهم الفرنسيون في سلك ( القوات الخاصة ) (23) •
• والمسألة الثانية : هي نكبة فلسطين ، إذ تبرم الجيش بسبب نتائج الحرب مع إسرائيل ، وتبرم لإهمال الحكومة تسليح الجيش وتأمين السلاح والعتاد اللازم إلى الجبهة ، مما مهد للانقلاب العسكري (24).
ويرى آخرون وعلى رأسهم خالد العظم : " أن الأسباب الحقيقية للانقلاب تنحصر في كونها حركة طائشة قام بها رجل أحمق متهور، هو حسني الزعيم ، أراد أن يحمي نفسه من العزل والمحاكمة، بتهمة الاشتراك في صفقات مريبة وخاسرة ، تعاقدت عليها مصلحة التموين في الجيش ، مع بعض المتعهدين الذين قدموا بضاعة فاسدة، وقبضوا ثمنها مضاعفاً " .
ويكمل العظم الرواية بقوله : " وفي جلسة النواب في 17/ آذار/1949م شنّ النائب فيصل العسلي حملة عنيفة على حسني الزعيم ، مندداً بأعماله ومواقفه ، كما اتهمه بالتآمر مع الملك عبد الله ، وطالب بإحالته على المحاكمة، على أن العظم كان يعامل الزعيم بأسلوب متعال .
وعندما أحس الزعيم بالخطر بدأ يجتمع بكبار الضباط لتدبير الانقلاب ، وقد اكتشف القوتلي أن هنالك اتصالات بين الملك عبد الله وحسني الزعيم وأشار إلى ذلك فيصل العسلي في هجومه على حسني الزعيم " (25) •
وقد غضب الضباط - وهم ليسوا بالموالين للقوتلي - من المعاملة المهينة التي لقيها أحدهم ، وهو الزعيم ( أنطون البستاني ) الذي اتهم بالإثراء الفاحش غير المشروع ، بسبب مسؤوليته عن غش السمنة ومواد التموين الأخرى المرسلة للجيش .
لقد رأى الضباط - وحسني الزعيم صديق البستاني - تدخل السياسيين السافر واتهام الضباط بالرشوة واللصوصية ، حتى صار صبية الشوارع في دمشق ، يمسكون أنوفهم حين كان الضباط يمرون على الأرصفة، وكأنهم يقولون : كم هي سيئة رائحة السمنة ؟!
ولربما شملت هذه الفضيحة حسني الزعيم نفسه، فقد بعث إليه البستاني من السجن رسولاً يقول له : " أخبر الزعيم أنه إذا كان هنالك استجواب فسأرغم على قول كل شيء " ، وبذلك قام حسني الزعيم بانقلابه لينقذ نفسه والبلاد ، ويلاحظ أن سجل أعماله السابقة ليس بالنظيف (26) .
وكان قد تبين أن السمن مأخوذ من بقايا عظام الحيوانات (بعد التحليل المخبري ) ، ولم ينفذ الزعيم أوامر القوتلي بسجن البستاني ، فهو صديقه ، كما أن الحالة النفسية للضباط كانت مهزوزة بسبب حرب فلسطين ، وما تعرضوا له من سخرية تحت قبلة البرلمان ، وبسبب فضيحة السمن المغشوش (27) كل تلك الأسباب قد هيأت الظروف للانقلاب العسكري الأول في سوريا .
(22) تحدثنا عن هذا الموضوع في الفصل الأول من هذا الباب .
(23) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ ص41 – 42. المنارة/ بيروت، دمشق/ 1998 - 1418هـ .
(24) المرجع السابق .
(25) مذكرات خالد العظم : ج2/ص181، الدار المتحدة للنشرة بيروت .
(26) الصراع على سورية: باتريك سيل/ص67 – 68 (27) السابق، وهاني الخير في كتابه: أديب الشيشكلي/ ص3 .
هل كان انقلاب الزعيم مرتباً من الخارج؟ أم أنه رتب اللعبة وحيداً دون أي سند خارجي؟!
يقول خالد العظم في مذكراته : " ربما نظرت الولايات المتحدة بتعاطف إلى أي فرد يتعهد بزوال المعارضة في البرلمان ، ونيل التصديق على اتفاقية التابلاين، وقد تكون شجعت حسني الزعيم على تنفيذ انقلابه ". وقد بنى العظم استنتاجه على أن الزعيم سرعان ما صدق الاتفاقية في 16/آيار/1949، قبل انقضاء أقل من شهرين على وقوع الانقلاب . وأكد ذلك مايلز كوبلاند في كتابه ( لعبة الأمم ) ، حيث قال : " كان انقلاب حسني الزعيم من إعدادنا وتخطيطنا ، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة ( الرائد ميد ) ، ومن خلال صداقته مع الزعيم ، بإيحاء فكرة الانقلاب العسكري ، حيث وضعت السفارة الأمريكية في دمشق كامل الخطة " ...
ومن ثم وصف كوبلاند حسني الزعيم بقوله : " كنا ننشد ضالتنا في رجل متعطش إلى تسلم السلطة .. ولكن دراسة نفسية مجردة لسلوك الزعيم أظهرت أنه لم يكن - مجنون سلطة - إلى الحد المطلوب ، فقد كان يرضى بالمظاهر الخارجية ، وما كان ليقلقه أن يبقى تابعاً لنا طالما كنا نتمثل له قياماً كلما دخل علينا، ونخاطبه بلفظ ( صاحب الفخامة ) (28) .
ويقول صاحب كتاب ( الحرب السرية في الشرق الأوسط ) (29) : " ورغم ما ذكره كوبلاند : لا يوجد دليل قوي وملموس من أن الانقلاب خطط له في واشنطن ، لقد كان هناك بعض التفاهم مع الولايات المتحدة في تنفيذ مصالحها حول خط التالبلاين ، وقد أنكر كوبلاند في كتابه ( لعبة اللاعب )، بأنه كان هو وميد، العقل المدبر للانقلاب، إلا أنه ادعى بأنه قدم للزعيم المشورة في التخطيط للانقلاب ، ومن المحتمل أن ادعاء كوبلاند في كتابه لعبة الأمم ، يعود إلى نزعته المعروفة في المبالغة بدوره ، أكثر من الحقائق الواقعة " (30) .
هناك من يقول بأن فرنسا كانت تقف وراء انقلاب الزعيم ، وذلك بسبب تطور علاقات الطرفين خلال مدة حكم الزعيم ، ففي 16/ نيسان/1949م، أقر الزعيم الاتفاق المالي الذي وقعه رئيس الوزراء السابق خالد العظم في شهر شباط، حيث أتاح له قروضاً حصل عليها الزعيم من فرنسا بقيمة خمسة ملايين جنيه استرليني، كما أصبحت فرنسا الممول الرئيسي بالأسلحة لسوريا ..
ومع ذلك فلم يكن هنالك دليل على أن فرنسا شجعت أو كانت وراء انقلابه في البدء• وقد يكون الأمر - كما يقول شوكت شقير رئيس حكومة الزعيم العسكرية - أن إٍقرار حسني الزعيم للاتفاق المالي مع فرنسا، ما كان إلا لحاجة الزعيم الملحة للحصول على أصدقاء بعد الانقلاب ليس إلا (31) وعلى كل حال فإن فكرة انقلاب الزعيم التي عزيت إلى كل من الولايات المتحدة ، وفرنسا أو غيرهما ، ينبغي أن تصنف ضمن فرضيات المؤامرات التي قد تحتوي على خيال أكثر من الحقيقة (32) .
وعلى الجبهة الاسرائيلية : برهن الزعيم عن رغبة ملحة للتحرك قدماً في محادثات الهدنة، وذكر وزير خارجيته (عادل أرسلان) أن الزعيم كان راغباً في الاجتماع مع رئيس وزراء إسرائيل آنذاك (بن غوريون) ، وعندما عرض الزعيم توطين ( 25 ألف لاجئ فلسطيني في سوريا ) تملك وزارة الخارجية الأمريكية فرح غامر (33) .
يقول محمد حسنين هيكل : " لقد كان الصراع بين شركة البترول البريطانية العراقية، وشركة أرامكو الأمريكية ، هو المحرك الأساسي لسلسلة من الانقلابات العسكرية ، التي وقعت في سوريا سنة 1949م .
وقد بدأت السلسلة بانقلاب في دمشق قاده اللواء حسني الزعيم ، وتبين أن الانقلاب من ورائه شركة ارامكو التي وقع لها حسني الزعيم على امتياز بمد خط لأنابيب البترول بين السعودية وموانئ البحر المتوسط بسوريا (التابلاين) . وما هي إلا أيام حتى وقع انقلاب قاده اللواء سامي الحناوي، وتبين بعد قليل أن القوة المحركة هي شركة البترول البريطانية العراقية ، وكان أول قرار للحناوي هو إلغاء اتفاق خط أنابيب التابلاين ... " (34) .
(28) ينظر: لعبة الأمم، مايلزكوبلاند/ ط بيروت/ 1970م، ص73، 83 .
(29) أندرو راثمل/ ترجمة محمد نجار/ ص52 وما بعدها .
(30) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص52، ص55، ص61 .
(31)الحرب السرية في الشرق الأوسط/ص50(.
32)) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص64، ص56.
(33) المرجع السابق .
(34) ملفات السويس حرب الثلاثين سنة: محمد حسنين هيكل/ مركز الأهرام للترجمة والنشر - القاهرة/ ص104 - 105، نقلاً عن كتاب أديب الشيشكلي لهاني الخيّر/ص52 – 53 .
موقف حسني الزعيم من المشاريع المشبوهة !؟
حاول الزعيم أن يجس النبض للسير في أكثر من اتجاه : " الهلال الخصيب والعراق، مشروع سوريا الكبرى؛ جامعة الدول العربية والقاهرة والرياض " ... ثم فضل الاتجاه الأخير للحفاظ على الجمهورية (35) . وكانت مصر قد تملكت زعامة العرب بسبب تبنيها لسياسة الجامعة العربية منذ 1945م، فقضي بذلك على مشروعي سوريا الكبرى والهلال الخصيب ، اللذين كانا في الحقيقة خطتين لتوحيد آسيا العربية مع استثناء مصر وشبه الجزيرة العربية . وقد حصلت مفاوضات بين سوريا والعراق، لكنها لم تسفر عن نتيجة مرضية ، بسبب طموحات حسني الزعيم من جهة، وتردد نوري السعيد إزاء ذلك من جهة أخرى ، وكره الجمهور السوري للملكية، وإعاقة فرنسا لهذه المشاريع، لأنها تعتقد أن بريطانيا وراءها (36) .وخلال الأسبوع الأول من قيام الانقلاب كانت دمشق مثل قطعة الحلوى، يحط عليها الذباب القادم من العراق والأردن ومصر .. وذلك انعكاساً للمعركة التي كانت تدور بين أنصار مشروع سوريا الكبرى والهلال الخصيب، من جهة ومشروع جامعة الدول العربية من جهة أخرى، وهو المشروع الذي بات ضعيفاً بعد النتائج المأساوية للحرب العربية في فلسطين (37) .
مشروعا الهلال الخصيب وسوريا الكبرى : عُرِضَ مشروع الهلال الخصيب الذي تبناه نوري السعيد، وسورية الكبرى الذي حمل لواءه الأمير عبد الله علانية ولأول مرة أثناء الحرب العالمية الثانية. فقد شجع سقوط فرنسا، نوري السعيد على الاعتقاد بأن بريطانيا لا بد أن تؤيد مشروعاته لتحقيق أهداف العرب القومية ؟! فعرض رأيه هذا على وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط ( رتشارد كاسي ) ، أوائل عام 1942م، ثم قدم في مذكرة حول القضية العربية ، مع إشارة خاصة إلى فلسطين ، واقتراحات تسوية دائمة، ثم وزعت سراً على الجهات المختصة (38) . واقترح ال سعيد خطة على مرحلتين :
- الأولى توحيد سوريا ولبنان وفلسطين والأردن في دولة واحدة، أما شكل الحكم والوحدة، فيجب أن يقرره الشعب بنفسه، مع منح الأقلية اليهودية في فلسطين شبه استقلال ذاتي، بضمانات دولية، وتوفير الحماية اللازمة لنصارى لبنان .
- أما المرحلة الثانية ، فهي أن تربط سوريا الكبرى ( بعد قيامها ) بالعراق في جامعة دول عربية تنضم إليها دول عربية أخرى وفق مشيئتها (39) . أما مشروع الأمير عبد الله بن الحسين، فيتلخص في إعادة توحيد الأقطار الأربعة ( سوريا الكبرى ) تحت قيادته ، وحل مشكلة اليهود في فلسطين بمنحهم استقلالاً ذاتياً إدارياً، وإذا لم يتحقق توحيد الأقطار العربية الأربعة حالاً، فليكن البدء بتوحيد سورية وشرقي الأردن، مع العمل لضم سوريا ولبنان بتشكيل اتحاد على نمط الولايات المتحدة.. إذن فإن لب اقتراحات عبد الله هو دمج سوريا والأردن حالاً ، ولم يدع الملك عبد الله مناسبة تمر دون أن يؤكد هذه القضية، وقد جوبهت تصريحاته بعداء مكشوف من القاهرة والرياض وبيروت ودمشق (40) .
كما أن بريطانيا لم تشجيع قيام اتحاد بين العراق والأردن، رغبة منها في الحفاظ على موقعها القوي في الأردن بعيداً عن تسرب النفوذ العراقي، كما أن قيادة العراق - عبد الإله والملك الصغير فيصل الثاني - لم توافق على اتحاد هاشمي يقوده الملك عبد الله (41) . واستمر اهتمام عبد الله بسوريا متأججاً حتى اغتياله في عام1951م، على حين بقيت التدخلات العراقية سمة دائمة للسياسة السورية حتى قيام الوحدة مع مصر عام 1958م (42) . فقد كان نوري السعيد يسعى حثيثاً لإسقاط نظام حسني الزعيم ، وبدأ بالعمل مع بريطانيا أولاً للتدخل العسكري ، فرفضت بريطانيا ذلك ، ثم بدأ بإجراء محادثات مع كل من الحزبين الوطني والشعب، وعارضت بريطانيا تلك الخطط خشية من التدخل المصري وجامعة الدول العربية، والاضطرابات المتزايدة في سوريا، مع وجود إمكانية للتغلغل الشيوعي ..
أما حسني الزعيم فقد كان يرتاب من سياسة بريطانيا، ويعتقد بأنها كانت تقف وراء المؤامرات التي تحاك ضده (43) . لقد وقف حكام سورية في العهد الوطني الجديد ضد هذين المشروعين ، لا كراهية منهم بالوحدة ، بل لاعتقادهم أن هذين المشروعين سيجران سورية التي استقلت حديثاً، إلى عجلة الأحلاف الأجنبية ، وكان من أشد المعارضين لهذه المشاريع : شكري القوتلي وصحبه من الوطنيين القدامى . وبعد الانقلاب الأول ، بدأت المحاولات الرامية إلى تحقيق تلك المشاريع ، ففي 16/4/1949م، هبط نوري السعيد، رئيس وزراء العراق إلى دمشق فجأة، والتقى بحسني الزعيم، إلا أن الأخير تردد في قبول المشروع ، واستشار أصحابه ، فنصحوه بالبعد عن مشاريع الأحلاف المشبوهة ، وعمل بنصيحتهم ، ومن هنا بدأ الخلاف يدب بين سورية والعراق وكذا الأردن ، وهدد حكام العراق بنسف الزعيم وعهده (44) .
وقد أرسل الزعيم سكرتيره (نذير فنصه) إلى مصر لمقابلة الملك فاروق للاتفاق معه على قيام تعاون وثيق بينهما. وفي 22/4/1949، فوجيء الناس في مصر والشام، بوصول حسني الزعيم إلى القاهرة بصحبة سكرتيره الأول (نذير فنصة) الذي مهد لهذه الزيارة ، واستقبله الملك فاروق استقبال الفاتحين ، وعُقد بينهما اجتماع تاريخي ، أسفر عن تفاهم تام بين الزعيم والملك، ووضعا أسس وحدة ثنائية بين مصر وسوريا. وقد نجحت سياسة مصر في استمالة سورية الجديدة إلى صفها، ضد الأحلاف المشبوهة والقواعد العسكرية الأجنبية، في الوقت الذي كانت فيه مصر تناضل للتخلص من القواعد العسكرية البريطانية على أراضيها (45) .
(35)الهلال الخصيب: د• محمود حسن صالح منسي/ص231 .
(36)الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص71 - وما بعدها .
(37) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ ص60 .
(38) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص27، 28 .
(39) المرجع السابق .
(40) ينظر: مذكرات الملك عبد الله بن الحسين/ ص264، وما بعدها/ الدار المتحدة للنشر/ بيروت/ 1979، والصراع على سوريا: باتيرك سيل/ ص30 .
(41) الصراع على سوريا/ ص31 - 32(42) المرجع السابق .
(43) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص40، 44 .
(44)النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص117 ، 118، وينظر: الهاشميون وقضية فلسطين: أنيس صايغ/ ص324 - 326، منشورات المكتبة العصرية/ صيدا - بيروت/ 1966م .
(45) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص124 .
النهاية المأساوية لعهد الزعيم
لقد أمسك الزعيم بمقاليد السلطة - ولم يدم حكمه إلا أربعة أشهر وسبعة عشر يوماً - كما يمسك رئيس عصابة بمقاليد السلطة داخل عصابته .. وأفراد العصابة يطيحون برئيسهم عندما يبدأ الشك يتسرب إلى نفوسهم بأن رئيسهم قد غدر بهم أو خذلهم . لقد عامل ضباطه ومرؤوسيه بقسوة بالغة، كما كان يُعامَل في ظل الظروف العسكرية تحت مظلة الانتداب، فأصبح الزعيم لا يمثل أكثر من نفسه، سواء في علاقاته مع أنصاره أو في طبيعة معاملته للشعب السوري، ولذلك كانت نهايته دموية (46) . وقد دبرت حكومة العراق انقلاباً عسكرياً على حسني الزعيم، عن طريق سامي الحناوي، واستغلت الثارات عند الدروز والقوميين السوريين وباقي الناقمين على الزعيم، وتم اعتقال الزعيم وإعدامه في ليلة 14/ آب/1949م .
وكان رئيس الحرس المكلف بحماية منزل المشير حسني الزعيم هو النقيب (خالد عيسى)، قد رشيَ بمال عراقي يسيل له اللعاب عن طريق الضابط (عصام مريود)، فاستلم الحرس دون أية مقاومة ، لا سيما وأن النقيب خالد عيسى كان قد جرد حرس المشير من أسلحتهم قبل تنفيذ الانقلاب بعشر ساعات، مشيعاً بأنه سيأتي عوضاً عنها بأسلحة جديدة ...
وقد شق الملازم أول (فضل الله أبو منصور) بقواته طريقه إلى داخل فيلا المشير، فوجده في الصالون بملابسه الداخلية - سروال وقميص قطن- ، فصفعه على وجهه بلؤم ، ووجه إليه تهمة الغدر بأنطون سعادة، وأوثقه ثم وضعه داخل مصفحة ، ونقله مع معاونيه إلى جهة المزة .. ثم ألحق به بعد قليل رئيس وزرائه (محسن البرازي) ... والضابط أبو منصور، كان من الحزب القومي السوري ، ومن دروز جبل حوران الناقمين على حسني الزعيم ... وعلى طريق المزة الصحراوي، وحين شاهد الزعيم والبرازي مفرزة الإعدام، ذات الوجوه القاسية الملامح ، انهار البرازي من المشهد المرعب ، فخاطبه المشير حسني بالفرنسية قائلاً : " كن رجلاً .. الموت واحد "!! ، وكان الضابط عصام مريود قد أبلغ الضابط (فضل الله أبو منصور) بأن القيادة العليا قد حكمت على حسني الزعيم ومحسن البرازي بالموت ، وأمره بتنفيذ الحكم فورا ً.
واستمر إطلاق الرصاص على الزعيم زهاء خمس دقائق، كان الرصاص خلالها يخترق جسمه كخيط من نار، ثم داس الضباط الثلاثة جثته بأرجلهم وهم : الضابط الطيار عصام مريود، والملازم الأول فضل الله أبو منصور، والضابط حسين الحكيم (47) .
ويذكر صبري العسلي - من رؤساء الحكومات السابقين - أنّ حسني الزعيم عندما أنزل من السيارة مع محسن البرازي على طريق المزة المقفرة لإعدامهما، قال للجنود الذين أشهروا رشاشاتهم وبنادقهم : " أنا حسني الزعيم، أنا الذي جعلتُ لكم كرامة، وللجيش هيبة، أتقتلوني بدلاً من قتل هؤلاء الكلاب السكارى ؟! " وبالفعل أدار الجنود أسلحتهم صوب الضباط الثلاثة، واشتبكوا معهم بالأيدي، ثم انهمرت النيران على الزعيم والبرازي (48) لقد كان الزعيم تواقاً للسلطة ... وله كلمة مأثورة، كان يرددها في مجالسة الخاصة منذ طفولته وهي قوله: " ليتني أحكم سوريا يوماً واحداً، ثم أُقتل في صباح اليوم التالي " !!..
وقد استطاع تحقيق حلمه الذهبي هذا .. فحكم سوريا ( 137 يوماً ) وفي اليوم الأخير من ولايته، استقرت في أماكن متعددة من جسمه ( 176 رصاصة )(49) . وبذلك أسدل الستار على أول انقلاب في سوريا، لتتوالى بعده الانقلابات العسكرية ، بينما تضيع الأمة ومصالح الأمة على أيدي العسكريين من عشاق السلط .
(46) لعبة الأمم: مايلز كوبلاند/ ص76، 78/ بتصرف وإيجاز.
(47) ينظر: أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث في سوريا: هاني الخيّر ص55 – 56 .
(48) أيام حسني الزعيم ، 137 يوماً هزت سورية - نذير فنصة/ ص97، دار الآفاق الجديدة – بيروت .
(49) صور وطرائف من تاريخ دمشق : هاني الخيّر/ ص233، مؤسسة النوري للطباعة والنشر – دمشق .
المبحث الثاني
اللواء سامي الحناوي صاحب الانقلاب الثاني
ظروف الانقلاب ودوافعه
في 14/آب/1949م ، أطيح بحسني الزعيم في انقلاب قام به الحناوي قائد اللواء الأول ، وقد أثار هذا الانقلاب تكهنات من أن هناك أيادي خارجية تورطت فيه ، وكان الانقلاب نكبة حادة لأصدقاء الزعيم السابقين، فأعلن الملك فاروق الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام في مصر . كما أن الصحافة الأمريكية حزنت على الزعيم ، حيث صورته بأتاتورك سوريا، ورثته كبار صحفها•وكانت أصابع الاتهام موجهة إلى بريطانيا، فقد نشرت صحيفة (فرانس تيرو) الفرنسية تقول : إن نظام الزعيم كان معادياً لكل المشاريع البريطانية في سوريا ، وذكر باتريك سيل أن الحناوي كان خيار العراق للإطاحة بحسني الزعيم (1) . وتتفق معظم المصادر على أن الحكومة العراقية، وقد امتعضت من اتجاه الزعيم وسياسته الممالئة لمصر، تاقت لترى في دمشق حكومة على صلة ودية معها، وكانت مستعدة لأن تدفع مقابل إزاحته .. وقد دفعت الكثير من أجل ذلك ، فكان الزعيم الحناوي وصهره أسعد طلس ومساعدوه في الجيش هم وسيلة السياسة العراقية ، إضافة إلى تأييد حزب الشعب ، وكان الحناوي لا يتمتع بالمؤهلات المطلوبة التي تساعده على البقاء في السلطة، ولربما كان العميل الغبي لمطامع العراق، ولأعداء حسني الزعيم داخل سوريا، ولم يمارس أية قيادة سياسية فعالة في تمرده ، روى حسن الأطرش : أنه قابل (أكرم الحوراني) الذي رأى وجوب إزاحة الزعيم ، وأن الضباط الدروز يجب أن يسهموا في إزاحته، فقال : " لم أوافق على مقتل حسني الزعيم، ويكفي أن يقبض عليه ويودع السجن .. ولكن الحوراني قام من وراء ظهري بعقد اتفاق مع عدد من الضباط الدروز الذين كان لمعظمهم صلات بالحزب القومي السوري، وكان لديهم سببان للسعي إلى الانتقام، وذلك أنهم دروز وقوميون سوريون متحمسون للثآر " ، وكان حسني الزعيم قد أمر كتيبة مدرعة بالتوجه إلى جبل الدروز حيث يوجد المتآمرون المتمردون ، فهم يملكون كمية من السلاح ، ويستعدون للتمرد (2) .
وكان على رأس الانقلابيين الضابطان الدرزيان (أمين أبو عساف) و (فضل الله أبو منصور) من جبل العرب، الذي انقلب عليه حسني الزعيم حين ساورته الشكوك في تآمر سكانه عليه متعاونين مع الهاشميين وحزب الشعب ، وقد أرسل الزعيم قوة كبيرة إلى حامية السويداء ليلقي الرعب في نفوس سكان الجبل .. ولذلك تعاون الضباط الدروز وزعماء الجبل وأكرم الحوراني للإطاحة بالزعيم (3) .
والحقيقة أن القيادة العراقية كانت قد رتبت للانقلاب، واتفقت مع الضابط السوري الطيار (عصام مريود)، لتكون طائراته على أهبة الاستعداد لنقل الانقلابيين إلى بغداد إذا فشلت تلك المحاولة (4) وسرت شائعة قوية بين الناس ورجال الصحافة أنّ اغتيال حسني الزعيم ومحسن البرازي، لم يكلف الوصي على عرش العراق ونوري السعيد أكثر من مائلة ألف دينار، وزعت بمعرفة أحد المقربين جداً من الحناوي، على المتآمرين(5) وقد انكشف دور العراق برد الفعل الفوري ، إذ أرسل كلٌ من الملك عبد الله، ونوري السعيد بتهانيهما مع وفودهما إلى الزعيم الجديد في دمشق فور نجاح الانقلاب (6) .
(1) الحرب السرية في الشرق الأوسط: ص74، 78 أندرو راثمل/ ترجمة محمد نجار .
(2) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص104 – 106 .
(3) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ ص77.
(4) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/74 .
(5) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص 238 .
(6) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص107 .
أضواء على الانقلاب الجديد وصاحبه
كان الحناوي قد أمر بأن يذاع البلاغ العسكري رقم (1) في 14/ آب/1949م ، والذي جاء فيه : " قام جيشكم الباسل بالانقلاب لينقذ البلاد من الحالة السيئة التي وصلت إليها، ولكن زعيم ذلك الانقلاب - حسني الزعيم - أخذ يتطاول هو وحاشيته على أموال الأمة ، ويعبث بالقوانين وحرية الأفراد، ولهذا وبعد الاعتماد على الله عزم جيشكم الباسل أن يخلص البلاد من الطاغية ورجاله، فأنقذ شرف البلاد، وآلى على نفسه أن يسلم الأمر إلى الأحرار المخلصين من رجالات سورية، وسيعود الجيش إلى ثكناته، ويترك السياسة إلى رجالاتها "(7) . وكان أول مرسوم أصدره اللواء سامي الحناوي ليلة 14/آب قد قضى بتعيين عديله الدكتور أسعد طلس أميناًَ عاماً لوزارة الخارجية من الدرجة الأولى، وكان أسعد طلس هو الذي يدير السياسة الخارجية والداخلية من وراء الستار. لقد انتقم أسعد طلس لكرامته المهدورة ، وكان انتقاماً رهيباً حقاً ...كما أصدر الحناوي مرسوماً يقضي بتأليف حكومة جديدة، عين فيها الأتاسي رئيس الجمهورية السابق رئيساًً لمجلس الوزراء، وعين فيها خالد العظم وزيراً للمالية، وناظم القدسي للخارجية، وعفلق للمعارف، وأكرم الحوراني للزراعة (8) . ونُشر بعد أسابيع من الانقلاب الثاني قانون الانتخابات الجديد وقد وصفته الصحف بأنه تقدمي يقضي على سيطرة رجال الإقطاع والمال، وأعطيت المرأة فيه حق التصويت ، وصرح أكرم الحوراني بأن هذا القانون ألغى المذهبية كخطوة أولى - أي ألغى الطائفية - ، تتلوها نتائج اجتماعية كبيرة ... وعادت جريدة (البعث) للصدور، ودارت مباحثات بين أقطاب البعث وحزب الشعب حول إمكان وضع قائمة انتخابية مشتركة بين الحزبين ، وأعلن الحزب الوطني على لسان رئيسه بأنه لن يشترك في الانتخابات لأن الضمانات غير كافية . وبدأ الزعيم الجديد يندفع بخطوات حثيثة ، نحو الطريق التي سلكها الزعيم الراحل - حسني الزعيم- ، حتى أن أحد نواب حزب الشعب اقترح إقامة تمثال للحناوي في ساحة المرجة ، بوصفه محرر الشعب من الطغيان ؟! (9) . وعقدت الجمعية التأسيسية جلستها قبل ظهر الاثنين في 12/12/1949م ، وانتخب السيد رشدي كيخيا رئيساً لها، وحضر الجلسة اللواء الحناوي وكبار الضباط من مؤيديه ... ثم عقدت الجمعية جلسة أخرى في 14/12/1949م ، انتخبت فيها السيد هاشم الأتاسي رئيساً للدولة، وبعد خمسة أيام من هذا التاريخ، فوجئ الناس ببلاغ رقم (1) لانقلاب جديد (10) . والحقيقة أن الأمر بعد أن استتب قليلاً لجماعة الانقلاب الثاني سرعان ما دب الخلاف بين ما سمي بالمجلس الحربي الأعلى، وضباط الوحدات في مختلف القطاعات العسكرية، وأصبح قائد الانقلاب في واد، وضباطه في واد آخر، كل ذلك رغم تأليف حكومة مدنية، ومن ثم إجراء انتخابات نيابية، وتأليف جمعية تأسيسية جديدة، وإعلان دستور جديد، وسرعان ما برز من صفوف الجيش ضباط ينتمون إلى أحزاب معينة ، وكتل وعشائر وطوائف متباينة (11) . عصفوا بالانقلاب وقائده الحناوي ، وبدأت لعبة الانقلابات تأخذ منحى جديداً ، والحناوي : من مواليد حلب 1896م ، تلقى دراسته الأولية في دار المعلمين ، وفي عام 1916م ، دعي إلى الخدمة العسكرية من قبل السلطنة العثمانية، ونقل إلى معهد استانبول العسكري، وفي 24/7/1917 تخرج برتبة مرشح ضابط .. ثم أرسل إلى جبهة فلسطين ، وهنالك انضم إلى الضباط العرب الذين التحقوا بجيش الشريف فيصل ، وتابع دراسته العسكرية في دمشق وتخرج برتبة ملازم في الجيش العربي . وبعد احتلال فرنسا لسوريا ، انضم إلى سلك الدرك في لواء اسكندرون، ثم انضم عام 1928م، إلى جيش الشرق المختلط، الذي كان تحت القيادة الفرنسية ، ورقي في هذا الجيش إلِى رتبة نقيب ، وترفع إلى رتبة مقدم فعقيد فزعيم - أي عميد - ، وكان ذلك أيام حسني الزعيم ، ثم قام بانقلابه ، وأصبح برتبة لواء - جنرال - (12) .كان الحناوي جندياً بسيطاً قليل المطامح السياسية ، خدم دون أن يلمع في الجيش العثماني ولا القوات الخاصة ، وكانت خطوته الأولى في رفع الحظر عن الأحزاب السياسية وتسليم السلطة إلى المستقلين في البلاد (13) . وبعد أن أسدل الستار على الفصل الثاني من سلسلة الانقلابات العسكرية، بدأت الصحف والإذاعات والمحافل السياسية ، تتناول الحناوي بالتشهير والتجريح، وتتهمه بخيانة الجمهورية وبيع البلاد للأجانب فأصبح معالي اللواء سامي الحناوي ؛ بين عشية وضحاها عسكرياً خائنـاً فسبحان مغير الأحوال (14) .
(7) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ص 73 .
(8) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص 213 .
(9) النكبات والمغامرات/ ص222 - 223، وص225 .
(10) المرجع السابق .
(11) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص213 .
(12) النكبات والمغامرات/ص204، بشير فنصة .
(13) الصراع على سورية/ص 108 .
(14) النكبات والمغامرات/ص237 .
الانقلاب الجديد ومشروعا
الهلال الخصيب وسورية الكبرى
كان مشروع الهلال الخصيب هو المحور الأساسي لسياسة الانقلاب الثاني، وكان هم الحكومة الجديدة التي شكلها هاشم الأتاسي هو تنفيذ هذا المشروع ... وكان الأتاسي قد شارك حزب البعث والحوراني وحزب الشعب في القناعة بهذا المشروع . وكان قد وصل ثلاثة وفود من بغداد للتهنئة ثاني أيام تشكيل الوزارة : وفد رسمي ، وآخر إعلامي ، وثالث عسكري ، نزلوا في فندق الشرق بدمشق ، وكان رشدي كيخيا - رئيس حزب الشعب - يسعى حثيثاً لإقناع رجالات السياسة بمشروع الهلال الخصيب وحلف بغداد (15) .
والمعروف أن عبد الإله - الوصي على عرش العراق - كان يرغب بقوة في وضع يده على سورية، وخاصة أن الملك فيصل الثاني -ابن أخته ـ كان يقترب من سنّ الرشد، ومعنى ذلك أن عبد الإله سيفقد الامتيازات التي يتمتع بها، فهو يطمع في عرش سوريا بدلاً من ذلك• وقد صوت مجلس النواب السوري إلى جانب قيام الوحدة مع العراق، ولم يصوت إلى جانب مجيئ الوصي عبد الإله إلى دمشق ليحكم سورية، في الوقت الذي كان سامي الحناوي رئيس الأركان العامة، أداة طيعة في أيدي حاشيته الموالية للعراق(16) . واستمرت الاتصالات بين الحكوميتن السورية والعراقية فوصل إلى دمشق السيد فاضل الجمالي وزير خارجية العراق، بمهمة مستعجلة، واتصل بكبار الشخصيات السورية، وأجرى مفاوضات مطولة معهم بحضور الدكتور أسعد طلس أمين عام الخارجية، وعديل الحناوي، ثم واصل سفره إلى لندن(17) . وكان الملك عبد الله بن الحسين يعمل لحسابه الخاص، غير آبه بتحركات الوصي والسعيد باشا فقد سافر فجأة إلى لندن للاتصال بحكومة بريطانيا إثر انقلاب الحناوي، وصرح هنالك للصحف قائلاً: " بأن سورية الكبرى آتية بلا ريب، وسيحكمها الهاشميون "(18) . إلا أن بريطانيا كانت تعارض خطط الملك عبد الله، لأسباب كثيرة، فقد جاء في افتتاحية جريدة (الديلي تلغراف)، صباح 19/6/1949م ما خلاصته : " أن خطط العاهل الأردني تهدف إلى توسيع تخوم مملكته، ولكن من الضروري أن تأخذ بعين الاعتبار مقاومة سورية ومصر والسعودية لهذه المطامع " ، " وإن الذي لا يسمح لبريطانيا بدعم أهداف الملك عبد الله، هو وجود مشاكل دبلوماسية كثيرة، تقف في وجه بريطانيا وتحول دون مساعدة الملك عبد الله، وهي مشاكل لا تتعلق ببريطانيا وحدها، بل بدول أخرى، وأن الاتحاد العربي لا يزال مجرد فكرة "(19) . والحقيقة أن التيارات المعارضة للاتحاد كانت كثيرة : *ففرنسا مثلاً كانت تخشى ضياع نفوذها الأدبي والثقافي في سوريا ولبنان، حال قيام الاتحاد، ولذلك كانت ترفضه بشدة . *والأوساط الوطنية كانت مترددة في قبول فكرة الارتباط مع العراق والأردن ، لارتباطهما بمعاهدة مع الإنجليز خلافاً لأوضاع سوريا ولبنان . *وكانت مصر تعارض هذا الاتحاد بشدة ، وكان الملك فاروق يكره (الهاشميين) ويعاكس كل مشروع يزيد في قوتهم .
بينما كان رشدي كيخيا - زعيم حزب الشعب - يرى أن فكرة الاتحاد مع العراق تخلصهم من نفوذ أركان الجيش السوري ، لأنه سيذوب أمام قوة جيش العراق(20) . وبعد تفاؤل قادة بعض الأحزاب الموالية للاتحاد والكتل النيابية، سرعان ما وقع الخلاف بين قادة الأحزاب والضباط أنفسهم، فكان حزب الشعب يؤازر الحناوي، بينما قام زعماء الحزب الوطني والنواب الاشتراكيون ينددون بمواقف حزب الشعب، ويشيرون إلى وجود مؤامرة، وأحلاف جديدة، من شأنها الإطاحة باستقلال سورية الجمهورية .. وعادوا إلى مهاجمة مشاريع الوصي ونوري السعيد والملك عبد الله ملك الأردن(21) . وكانت هذه المشاريع من أبرز أسباب الإطاحة بالحناوي ومعاونيه .
(15) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ ص79 – 80 .
(16) المرجع السابق/ ص90، 92 .
(17) النكبات والمغامرات/ ص218 .
(18) جريدة المصري القاهرية/ عدد 14 آب/1949 .
(19) ينظر: النكبات والمغامرات/ ص 218 .
(20) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ص96 .
(21) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص222 – 223 .
الفصل الأخير من مسرحية الانقلاب الثاني
في صباح 19/12/1949م ، أعلن المذيع بلاغاً رقم (1) بتوقيع أديب الشيشكلي، جاء فيه : " إلى الشعب السوري الأبي، لقد ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة، اللواء سامي الحناوي وعديله أسعد طلس ، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش ، وكيان البلاد ونظامها الجمهوري مع الجهات الأجنبية، وأن ضباط الجيش يعلمون هذا الأمر منذ بدايته، وقد حاولوا بشتى الطرق أن يحولوا دون إتمام المؤامرة، فلم يفلحوا، فاضطر الجيش أن يقضي على هؤلاء المتآمرين، وليست للجيش غاية أخرى، وأنه يعلن، بأنه سيترك أمر البلاد في أيدي رجالها الشرعيين، ولا يتدخل إطلاقاً في القضايا السياسية اللهم إلا إذا كانت سلامة البلاد تستدعي مثل ذلك " ، " العقيد أديب الشيشكلي ". وقد تم اعتقال اللـواء سامي الحناوي في نفس اليوم، وهرب الدكتور أسعد طلس إلى لبنان، واعتقل الضباط الموالون للحناوي ، ولم يعتقل من السياسيين أحد(22) . وبالتالي علقت الدوائر البريطانية - حسبما ورد في برقيات رويتر- على الانقلاب السوري الجديد بقولها : " إنه بداية النهاية لمشروع سورية الكبرى، ومشروع اتحاد سورية والعراق "(23) . وهكذا كلما قام انقلاب ، شتم أصحابه في بلاغاتهم قادة الانقلاب السابق، واتهموهم بالخيانة والتآمر ... فبينما حكم حسني الزعيم (137) يوماً ، دام حكم الحناوي أربعة أشهر وخمسة أيام .. وتلك الأيام نداولها بين الناس . وبعد فترة أفرج عن اللواء الحناوي ، وعن رفاقه من الضباط المعتقلين ، والتجأ الحناوي إلى لبنان يرافقه أهل بيته، ومعهم العقيد محمود الرفاعي والعقيد عصام مريود ، وكان الإفراج قد تم في 7 / أيلول /1950م . وتمكن محمد بن أحمد آغا البرازي، الملقب بـ (هرشو) من اغتيال اللواء الحناوي في بيروت في 31/10/1950م ، انتقاماً لمقتل ابن عمه (محسن البرازي) رئيس وزراء حسني الزعيم . كان هرشو من الشباب المثقف ومن أهل اليسار، درس في المعهد العلماني في بيروت، وانصرف بعد تخرجه إلى الإشراف على مزارع والده في مدينة حماة ، وكلمة هرشو لفظة تركية معناها (النمر) أطلقها أبوه عليه تيمناً بالقوة على عادة الأكراد، إذ كان قد رزق ثماني بنات، وكان هذا هو ولده الوحيد . نقل جثمان الحناوي إلى حلب ، حيث دفن هنالك، وسار في جنازته جمع غفير .. وبذلك توارى الحناوي كخيال لاح ثم امَّحى(24) .
(22) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص229 – 230 .
(23) المرجع السابق/ص233 .
(24) ينظر: النكبات والمغامرات: بشير فنصة - ص240 – 248 .
المبحث الثالث
العقيد أديب الشيشكلي يقود الانقلاب الثالث
ظروف الانقلاب ودوافعه
كان الشيشكلي يمثل السياسة السورية المعادية لاتجاه العراق الملكي ومشروع الهلال الخصيب .. قام بالانقلاب ليدافع عن نظام الحكم الجمهوري في سوريا ، وينقذها من النفوذ البريطاني والوحدة مع العراق الملكي . وقد استسلم الحناوي للانقلابيين الجدد، عندما توجهت مفرزة من الدبابات والآليات العسكرية من اللواء الأول، بإيعاز من العقيد أديب الشيشكلي، وبقيادة العقيد أمين أبو عساف، ومساعدة النقيب فضل الله أبو منصور، وهما درزيان ينتميان إلى الحزب القومي السوري(25) .
وكان العقيد الشيشكلي قد أذاع البلاغ رقم (1) ، وذكر فيه مسوِّغات الانقلاب، ومن أهمها الاتفاق بين الحناوي وبعض السياسيين السوريين لإعلان الاتحاد مع العراق، وأن الحناوي كان قد أعد العدة مع بعض أنصاره لاعتقال الضباط المناوئين(26) . كما أن أكرم الحوراني هو الذي وضع اللمسات الأخيرة للانقلاب ، وكان من عادته أن يقف وراء كل انقلاب عسكري جديد، يدعمه بقلمه ورأيه وأنصاره، ثم لا يلبث قليلاً حتى يصطدم بصخرة الحكم العسكري ، فيعلن احتجاجه ، ثم يتوارى عن الظل استعداداً لانقلاب جديد(27) .
وقد استفاد الشيشكلي قليلاً من التجارب السابقة، فلم يُعْدم أحداً من زملائه الضباط ، ولم يعتقل أحداً من رجال السياسة، إلا أنه كان يسير نحو الحكم المطلق بخطوات وئيدة متزنة ... وقد ترك الأمور السياسية بيد السياسيين ؛ فاستمر هاشم الأتاسي رئيساً للدولة، وكلف خالد العظم بتشكيل الوزارة في 25/12/1949، بقرار من ضباط الانقلاب . في ليلة 28/11/1950م، شكل معروف الدواليبي حكومة جديدة، لكنه اصطدم مع قائد الانقلاب ، ورفض أي تعديل في الوزارة ، فكان رد العقيد صاعقاً، فقد أمر بإلقاء القبض على الدواليبي، وأعضاء حكومته، وعدد من ذوي الميول الهاشمية .. وفي 29/11/1950م، أذيع بيان بأن الجيش قد تولى المسؤولية من أجل سلامة البلاد وأمنها، واتهم حزب الشعب بأنه المسؤول عن الانقلابات الفائتة .. واشتدت قبضة الجيش على الحكم في البلاد(28) . يقول خالد العظم في مذكراته : " المسؤولية الكبرى تقع على عاتق (الحزب الوطني)، و(حزب الشعب)، فقد قبل الأول التعاون مع حسني الزعيم، وتسلم حزب الشعب الحكم من سامي الحناوي، رغم أنه حل مجلس النواب، لقد فكروا في الحكم أولاً، ثم إجراء انتخابات يسيطرون على نتائجها "(29) . لقد كان العقيد أديب الشيشكلي، أكثر دهاء وصلابة ومهارة سياسية من سابقيه، وكان أطول مدة، إذ سيطر على سياسة سورية طيلة أربع سنوات، ودافع عن نظام الحكم الجمهوري في سورية، لينقذ بلاده من النفوذ البريطاني، والوحدة مع نظام الحكم الملكي في العراق(30) .. وكان الشيشكلي يشارك أكرم الحوراني في توجهاته السياسية ضد مشروع الهلال الخصيب ، وكان عهد الشيشكلي يتميز بفترتين واضحتين .
الفترة الأولى : تمتد من ( 1949 - 1951م ) ، كان يقوم خلالها بالإشراف والمراقبة على الحكومات، والجمعية التأسيسية، بشكل غير مباشر .
الفترة الثانية : ما بين ( 1951 - 1954م )، وفي هذه الفترة تولى الشيشكلي السلطة بنفسه، وقام بتشديد قبضته على البلاد .
(25) أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث في سورية: هاني الخيّر ص67 - 68، مكتبة الشرق الجديد/ دمشق/1995م .
(26) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/107 .
(27) السابق/ص108، وأديب الشيشكلي، لهاني الخير/ص235 .
(28) الانقلابات العسكرية في سورية: محمد أبو عزة/ ص125 .
(29) ينظر: مذكرات خالد العظم: ج2/ الدار المتحدة للنشر، والمرجع السابق/ص156 .
(30) الصراع على سورية: باتريك سيل/ص120 – 122 .
قائد الانقلاب وأبرز صفاته ومؤهلاته : كان الرجل من مواليد حماة عام 1910م ، دخل الجيش المختلط الفرنسي ، ورقي حتى رتبة ملازم أول ، وكان قد فرض عليه الحرمان من الترقيات العسكرية ، كما فرض عليه البقاء في المناطق الريفية النائية ، ثم نقل إلى دمشق بعد أن أمضى سبع سنوات في المناطق النائية، وذلك بسبب تمرده على قوة الانتداب، ولمشاركته في الحركة الوطني .
في سنة 1944م ، هرب من الجيش ليساهم مع صديق طفولته في حماة (أكرم الحوراني) في الثورة على الفرنسيين، وخاصة بعد توتر العلاقات مع الانتداب الفرنسي والحكومة السورية . وفي سنة 1945م اقتحم مع أخيه (صلاح الدين الشيشكلي يساندهما الأهالي في حماة) ... قلعة حماة ، وطردوا الحامية الفرنسية منها ، ثم التحق بالقوات الوطنية، وقاد فوجاً من جيش الإنقاذ في فلسطين ، وكان برتبة نقيب وذلك عام1947م ، وقد أربك العدو الإسرائيلي في المنطقة الشمالية من فلسطين وألحق به خسائر ليست قليلة ، فغدا اسمه ينقل على كل لسان ، تسلم في عهد الزعيم مديرية الشرطة ، ورفع إلى رتبة عقيد ، ثم سرحه حسني الزعيم قبل انقلاب الحناوي بأيام ، وعاد إلى الخدمة في الجيش إثر الانقلاب الثاني وتسلم قيادة اللواء الأول . وفي 19/12/1949م ، قام بالانقلاب الثالث وأطاح بالحناوي وعهده ... وبعد عدة سنوات اغتاله شاب درزي يسمى (نواف أبوغزالة) ثأراً لأحداث جبل الدروز الذي هاجمه الشيشكلي آخر أيامه بالقوات المسلحة .كان ذلك في 27/أيلول/1964م، ثم نقل الجثمان إلى سوريا، ودفن في مدينة حماة مسقط رأسه . وكان أديب الشيشكلي وأكرم الحوراني عضوين في الحزب القومي السوري في أوائل شبابهما(31) . ومن صفات الشيشكلي ، أنه كان جندياً بارد الطبع، ذا موهبة في حياكة الدسائس وتنظيم الرجال ... كان خلال الأشهر الطويلة من عامي 1950 - 1951م وهو يعمل خلف الستار، في فترة إعداد ضروري لاستلامه مقاليد السلطة كاملة ، وقد كان انقلاب الشيشكلي وإطاحته بالحناوي ورجاله سبباً في انهيار آمال الهاشميين بشكل محزن ، إلا أنّ تلك الآمال لم تنطفئ نهائياً(32) . وكانت الفترة الطويلة التي استلم فيها السلطة ما بين 1949 - 1954م ، تتميز بتبدلات عميقة في حياة سورية السياسية، وبملابسات بعيدة المدى في تاريخ ذلك البلد(33) . كان الشيشكلي يحب نابليون، كما كان خبيراً دعائياً من الطراز الأول ، وكانت مصالح سوريا تأخذ مركز اهتمامه أولاً إذ كان يعتقد أن سورية هي البلد الوحيد المستقل، وأنّ جميع الدول العربية ، لم تستكمل استقلالها كما استكملته سوريا . وقد أحب الملك الأردني (طلال بن عبد الله) وظل يدافع عنه، ويرفض أن يصدق ما قيل عن مرضه النفسي ، واحتجازه في أحد المصحات النفسية في تركيا(34) . ولم يكن على صلة طيبة بالملك عبد الله بن الحسين ، فقد كتب في مذكراته(35) : " إن سورية اليوم في موقف يخاف عليها من الشيشكلي، فهو لا يسير إلا بحراسة ولا ينام إلا بحراسة، وإنْ لم ينجه الله فسيكون حتفه من حرسه، وهكذا فأهل الحرص والغدر يحيق بهم مكرهم " ، ومن الغريب أن يتعرض الملك عبد الله إلى الاغتيال، فيموت قبل الشيشكلي بمدة طويلة .
(31) ينظر في ترجمة الشيشكلي: كتاب هاني الخير/ أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث/ ص20 - 25/ والنكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص254، والصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص62 .
(32) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص122 - 124، وص160 .
(33) المرجع السابق .
(34) أديب الشيشكلي، صاحب الانقلاب الثالث: هاني الخيّر “ص169” .
(35) الآثار الكاملة للملك عبد الله بن الحسين: ص265، الدار المتحدة للنشر/ بيروت/ الطبعة الثانية/ 1979م
إنجازات الشيشكلي وأبرز مواقفه السياسية
تميزت الفترة الأولى من حكم الشيشكلي بأنه سمح للحكومة المدنية بأن تمارس مهامها في إدارة البلاد لمدة عامين ، وتصارعت السلطات المدنية بعد ذلك مع السلطات العسكرية ، في حين أن التنافس داخل الأركان العامة كان شديداً، ولربما أدى إلى إراقة الدماء، وبنفس الوقت كانت الأحزاب الراديكالية وبشكل بارز حزب البعث والشيوعي وكذا القومي السوري، قد شقت طريقها لإزالة هيمنة الأحزاب التقليدية على البلاد(36) . ولذلك قام الشيشكلي بانقلابه الثاني ، وكان السبب المباشر هو الصراع على السلطة بين الجيش وحزب الشعب، واقتراح حزب الشعب لتسلم الدواليبي منصب وزير الدفاع كان قد أزعج الجيش أيضاً، ورحبت كل من باريس وواشنطن بهذا الانقلاب، وكانت رغبة الشيشكلي في الحصول على السلاح قد قادته لإقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، كما أن واشنطن يهمها كبح المد اليساري في سوريا(37) . وبعد ازدواج الصلاحيات بين الجيش والسلطة المدنية، أُعلن في راديو دمشق في 29/تشرين الثاني/1951م، البلاغ رقم (1) ، تسلم بموجه الشيشكلي زمام السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحل البرلمان واعتقل أعضاء الوزارة الجديدة، برئاسة الدواليبي، وعين اللواء فوزي سلو رئيساً للدولة، وشكلت وزارة جديدة(38) . وقد وقع اختيار الشيشكلي على فوزي سلو، ليتسنى له من خلاله أن يمارس الحكم المطلق، دون أن يظهر تحت الأضواء الكاشفة(39) . فلماذا كان الشيشكلي متردداً في الإمساك بمقاليد الأمور ؟! وهل كان وحيداً في الظلال الخفية ؟!
في الحقيقة أن الشيشكلي كان هو المسيطر الخفي على سوريا، منذ انقلابه الأول/ 1949م في كانون الأول ، وبرز كسيد لا يُنازل بعد انقلابه الثاني في تشرين الثاني 1951م وخلال هذه الفترة برز أكرم الحوراني (وحزبه العربي الاشتراكي) كأقرب المقربين ، وأطلق منهاجه من أجل العمال والفلاحين . كما تعاون في البداية مع قيادات الحزبين : القومي السوري ، والبعث العربي . ومنع منظمات الشباب والنوادي من ممارسة أي نشاط سياسي، وأخضع الأجانب إلى رقابة شديدة، ثم أمر في كانون الثاني/1952م بحل الإخوان المسلمين، وأغلقت مكاتبهم ومدارسهم، وكذا الحزب الاشتراكي التعاوني وزعيمه فيصل العسلي ، ثم أمر بحظر عام على كل الأحزاب السياسية في نيسان/1952م وبذلك فقد أحكم قبضته على البلاد، وتمكن من شطب (حزب الشعب) من الحياة السياسية في سورية(40) . وفي 24/تموز/1952م ، قام الشيشكلي بتأسيس حركة سياسية أطلق عليها اسم : (حركة التحرير العربي) ، ليكون هذا التنظيم هو الوحيد في سورية ، فكانت حركته من الناحية الأيديولوجية ذات نمو هجين ، فقد كانت تستعير الأفكار من مصادر عديدة مختلفة التوجهات، فدعت إلى قومية عربية مناضلة، وتبنت سياسة اجتماعية واقتصادية تقدمية، وادعى الشيشكلي بأن سوريا قد اختارها القدر لتحرير الأمة العربية من الاستعمار والفقر والجهل والانقسامات . وفي مسائل التنظيم شُكلت حركة التحرير على نمط الحزب القومي السوري، فكانت الميليشيات الحزبية ترى خارجة من قيادة الحزب في دمشق، وداخلة إليه في مشية عسكرية ، يحيي أفرادها بعضهم بعضاً برفع الأيدي(41) . وافتتح الشيشكلي المراكز لتلك الحركة في المدن الكبرى، وكان يأمل أن تمنح الحركة نظام حكمه قاعدة شعبية واسعة وأعلن بأن (حركة التحرير العربي) ليست حزباً جديداً، بل هي محاولة صادقة مخلصة لجمع العناصر الطيبة من جميع الأحزاب(42) . وقد رفض زعماء الحزب القومي السوري التعاون مع حركة التحرير العربي ، كما أن الهوة اتسعت بين الشيشكلي وكل من حزبي البعث والاشتراكي العربي، وصار الحوراني وزملاؤه مصدر تهديد للشيشكلي وخاصة داخل الجيش•كما لجأ الحوراني وعفلق والبيطار إلى بيروت ، ومنحوا هنالك اللجوء السياسي ، وصاروا ينتقدون الشيشكلي في لبنان(43) . لقد استلم الشيشكلي عدة مناصب قبل أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية ، كنائب لرئيس مجلس الوزراء، ورئيس الأركان العامة ووزير الداخلية ، وإن كان هو المسيطر الحقيقي على البلاد ، وفي شهر تموز 1953م، رشح نفسه لرئاسة الجمهورية، ولم يتقدم معه أحد، وانتخب من الشعب انتخاباً عاماً وسرياً مباشراً، وفاز بنسبة تفوق 96 % من أصوات الناخبين ، وهي النسبة المعدة سلفاً لأكثر الانتخابات في بلادنا العربية مع الأسف .
كما أجريت انتخابات عامة للمجلس النيابي بنفس العام ، وفازت حركة التحرير بـ 72 مقعادً من أصل82، وفازالحزب القومي السوري بمقعد واحد؛والمستقلون بـ 9 مقاعد، بينما قاطعت أحزاب المعارضة الانتخابات(44) .
وخلال فترة حكم الشيشكلي ، قام بإجراء إصلاحات متنوعة : من ذلك وضع قيود شديدة على خروج الأموال من البلاد ، وتأميم بعض الشركات الأجنبية ، ورفع الضريبة على الدخول، وإصدار قانون بتحديد الملكية الزراعية في كانون الثاني/1952م، وزيادة حصة الفلاحين المستأجرين إلى 75% من المحصول بدلاً من النصف. ومن ذلك إنجاز وضع الدستور السوري وتصديقه ونشره عام 1950م (أيلول) وكان من أبرز مبادئه، أن الجمهورية السورية، جمهورية عربية، وأن الشعب السوري جزء من الأمة العربية، فكان أسبق الدساتير العربية في النص على ذلك ، وقيد أن دين رئيس الدولة هو الإسلام(45) .
وقاد الدكتور مصطفى السباعي معركة القرآن تحت قبة البرلمان، كما قاد المظاهرات في دمشق من أجل إقرار دستور إسلامي، وتمكن رحمه الله وإخوانه من استبعاد الطابع العلماني عن الدستور وفرض الطابع الإسلامي على معظم أحكامه الأساسية، وقد استمرت مناقشات الدستور ثلاثة أشهر من أجل وضع قوانين إسلامية في صلب الدستور، وأهمها " أن الإسلام دين الدولة الرسمي " ، كما طالب في المجلس النيابي ، بتدريس القضية الفلسطينية كمادة أساسية في مناهج التعليم ، وفيه أقر هذا الاقتراح ونفذ بالفعل(46) .
إلا أن مادة دين الدولة الإسلام بعد أخذ ورد عدلت لتصبح : " دين رئيس الجمهورية الإسلام " وأن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع ، وحرية الاعتقاد مصونة ، والدولة تحترم جميع الأديان السماوية(47) .
والحقيقة أن معارك الإسلاميين داخل المجالس النيابية لتحكيم شريعة الإسلام، قد بدا عوارها، وكانت مبددة لأوقات الإسلاميين ، لأن الطواغيت وقادة الانقلابات العسكرية ، سرعان ما يلغون أية مكاسب إسلامية، ويضعون قادة الحركات الإسلامية في السجون وهذا ما حصل أيام الشيشكلي للدكتور السباعي ، وتكررت المأساة في عدد من الأقطار الإسلامية ، كمصر والسودان والأردن ... ولا بد من التفكير بأساليب بديلة .
(36) الحرب السرية في الشرق الأوسط: ترجمة محمد نجار/ ص93/ص114 .
(37) المرجع السابق .
(38) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ص319 – 320 .
(39) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ ص164 – 167 .
(40) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ص164 – 167 .
(41) الصراع على سوريا: باتيرك سيل ص170، ص168 – 169 .
(42) المرجع السابق .
(43) الحرب السرية في الشرق الأوسط، ص122 – 123 .
(44) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ص124، وأديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث: هاني الخير/ ص114 – 115 .
(45) الهلال الخصيب: د. محمود حسن صالح منسي/ص35 .
(46) ينظر كتاب الدكتور مصطفى السباعي قائد جيل ورائد أمة: حسني أدهم جرار/ص103 - 104/ مؤسسة الرسالة/ بيروت، ودار البشير/ عمان/ 1415هـ - 1994م .
(47) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص280 .
سياسة الشيشكلي تجاه مطامع الدول الغربية في سوريا
لقد دعمت الولايات المتحدة نظام الشيشكلي بصورة سرية فقد رغب في تقليص التوتر مع إسرائيل، وكانت حكومته قد اتخذت موقفاً معادياً لإسرائيل . وفي شهر كانون الثاني لعام 1953م، وخلال محادثة جرت بين السفير الأمريكي في دمشق (جمس موس) وبين الرئيس فوزي سلو، اعترف فيها سلو " بحق إسرائيل في الوجود وتنبأ بالسلام معها ، شريطة أن تتخلى إسرائيل عن تكتيكها الاستفزازي " ، وكان الشيشكلي متحمساً لإجراء حوار مع إسرائيل ، كي يتم تقليص التوتر من جراء " الاشتباكات الحدودية المتكررة إلا أنه لم يكن راغباً بخوض مخاطرة إجراء مفاوضات لعقد معاهدة سلام معها " . وبنفس الوقت قاومت حكومة الشيشكلي الضغط الأمريكي من أجل توطين اللاجئين الفلسطينيين ، ومع ذلك فرغم الشكوى من العبء الاقتصادي، فإن حكومته عملت على توطين ثمانين ألف لاجئ بصورة حذرة ...
وكان هم الشيشكلي الرئيسي هو الحصول على مساعدات عسكرية أمريكية، وفي شهر أيلول منحت حكومته مساعدات مالية وفنية من أجل تنفيذ مشاريع بنية تحتية(48) . وفي مذكرات خالد العظم ما يلقي الضوء على مطامع الدول الغربية في سوريا، فقد كانت مطامع بريطانيا عن طريق مشروع الهلال الخصيب واضحة، ثم أصبح المشروع يسمى )حلف بغداد( بعد انضمام بريطانيا وباكستان وإيران إليهوفي الحقيقة ما كان هذا الحلف إلا حلقة من حلقات النطاق الكبير الذي أعدته المخابرات المركزية الأمريكية لإحاطة الاتحاد السوفيتي بحزام يحصر النشاط السوفييتي(49) . ثم يقول العظم في مذكراته : " عندما كنت رئيساً للوزارة ووزيراً للخارجية، عرض سفير بريطانيا عام 1949م، عرضاً لعقد اتفاق مع سوريا تصبح بموجبه خاضعة لنفوذ بريطانيا وتحل بريطانيا محل فرنسا .. وكنا قد لجأنا إلى المواربة، بسبب ضعفنا بعد نكبة فلسطين ... وبعد ذلك طوى انقلاب حسني الزعيم إمكانية التفاهم مع بريطانيا لميوله الفرنسية " ، " فما كان من بريطاينا إلا أن لجأت إلى تدبير انقلاب معاكس قضى على حسني الزعيم، واستولى على الحكم جماعة من المدنيين والعسكريين ، ممن يميلون إلى العراق والإنجليز، وقامت فكرة الاتحاد السوري العراقي، ليتم لبريطانيا السيطرة على الشرق العربي كله " ، " ولم تثمر هذه المحاولة، إذ قام انقلاب عسكري آخر، تولاه الشيشكلي، فأبعد فكرة الاتحاد، وقضى على سيطرة حزب الشعب، وعلى توجيه السياسة الخارجية السورية وفق سياسة بريطانيا " . " وكانت أمريكا تسعى هي الأخرى لعقد حلف تكون هي نواته، فعملت على تحقيق هذه الفكرة بواسطة حلف دفاع مشترك بين جميع الدول العربية، وقد رفضت سوريا هذا الحلف عام 1951م "(50) . وازدادت مطامع الولايات المتحدة، فقدمت عرضاً سخياً عن طريق سفيرها في دمشق لتأسيس مصفاة لتكرير النفط في حمص ، وكان عميلهم المعتمد، أحد أفراد حزب الشعب (مخائيل إليان) وكانت هناك طبخة أمريكية عن طريقه القيام بانقلاب أمريكي، وطلب تكاليف المشروع نصف مليون ليرة ... لتقدم للعديد من الضباط الموالين للعراق وسياسة ولي عهده ... كما اشترط إليان تأييد أمريكا المباشر للحكومة الجديدة•وفعلاً سُلّم المبلغ إلى (مخائيل إليان) قرب كازينو بلودان، لكن المؤامرة فشلت بسبب العدوان الثلاثي على مصر، على أن يتم الأمر في 25/تشرين الثاني من عام1956م (51) .
(48) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص118 – 120 .
(49) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ص234 .
(50) مذكرات خالد العظم: الجزء الثاني، وينظر الانقلابات العسكرية في سوريا لمحمد أبو عزة/ص234 – 236 .
(51) الانقلابات العسكرية: أبو عزة/253 - 263 وكتاب: حبال من رمل لضابط المخابرات الأمريكية إيفلاند .
التمرد العسكري ضد الشيشكلي
تجمعت أركان المعارضة ضد حكم الشيشكلي، وانبثق عنها التمرد العسكري في 25/شباط/1954م، إذ تحرك النقيب مصطفى حمدون في حامية حلب، واحتل مبنى الإذاعة، وأذاع أول نداء للثورة طالباً من الرئيس مغادرة البلاد تجنباً لسفك الدماء• ومصطفى حمدون ضابط بعثي من جماعة أكرم الحوراني، وكان الحوراني يشنّ حملة صحفية من بيروت ضد الحكم في سوريا، فطلب الشيشكلي طرده من لبنان، فانتقل إلى روما لاجئاً سياسيا.ً وقد شارك في التمرد المقدم فيصل الأتاسي في حلب، وهو ابن أخ الرئيس السابق هاشم الأتاسي، وكذلك العقيد أمين أبو عساف في دير الزور، وكان يمثل الجبل الذي ضربه الشيشكلي بقوة، والنقيب مصطفى حمدون من تلامذة الحوراني المقربين، وتمردت بقية المدن السورية(60) .وقد طالب المتمردون الشيشكلي بمغادرة البلاد حقناً للدماء وأذيع البيان الأول من حلب، وفيه توجيه الاتهامات للشيشكلي بالفساد والاضطهاد والإرهاب . وكان قسم كبير من الضباط المتمردين من الدروز والنصيريين وكان النصيريون حاقدين لمقتل أحد زعمائهم غيلة وهو الضابط محمد ناصر في شهر تموز/1950م، كما عانى الدروز من قمع ثورتهم على يد الشيشكلي(61) .
واجتمع الشيشكلي بمستشاريه وأركان قيادته ولاسيما الزعيم ( شوكت شقير ) رئيس الأركان العامة ، في 25/شباط/1954، فأشار معظمهم بسحق المؤامرة، وكانت تؤيدهم قوات ضخمة، ترابط في درعا والسويداء وقطنا والقابون والجبهة، إضافة إلى قوات الهجانة• إلا أن الرئيس آثر الاستقالة حقناً للدماء، وطلب من أنصاره التفاهم مع الآخرين(62) . وغادر دمشق مع مجموعة من أنصاره، متوجهاً إلى لبنان، ثم توجه إلى السعودية فالبرازيل وأذيع نص الاستقالة ؛ الذي بعث به لدى مغادرته، إلى رئيس مجلس النواب وفيها : " رغبة مني في تجنب سفك دماء الشعب الذي أحبّ، والجيش الذي ضحيت بكل غال من أجله، والأمة العربية التي حاولت خدمتها بإخلاص صادق، أتقدم باستقالتي من رئاسة الجمهورية، إلى الشعب السوري المحبوب ، وقد أغفلت إذاعة دمشق إيراد الأسطر الأولى من رسالة الاستقالة التي وضح فيها، بأنه قادر على إلحاق الهزيمة بالثائرين، ولكن على حساب إحداث تمزقات في الجيش ، ومما جاء في الرسالة أيضاً : " قام بعض ضباط الجيش مدفوعين بتأثيرات حزبية بالثورة، في بعض المناطق السورية في محاولة لإسقاط النظام الدستوري الحاضر، وكان من الميسور أن أقمع هذه الحركة... "(63) .
لماذا رضخ الشيشكلي لمطالب الانقلابيين؟!
لماذا لم يحارب حتى النهاية ؟! رغم احتكاره الكبير للدبابات والمدافع الثقيلة في قطنا ودمشق، وكان لديه أكثر من فرصة للسيطرة على الحاميات الثائرة !! وقد أشار الشيشكلي في رسالة استقالته إلى أنه كان في استطاعته أن يسحق الثائرين، ولكن على حساب انشقاق في الجيش ، والجيش " من لحمنا ودمنا " كما قال ، وذلك سوف يضعف دفاع سوريا في وجه العدو الصهيوني المتربص على الحدود . وربما كان يعتقد بأنه لو استدعى الأمر نشوب قتال ، فإن الثائرين قد يطلبون تدخل جيش العراق، وبذلك يفتحون أمام العراق باب الدخول إلى سوريا، الذي يحرص في سياسته على إبقائه موصداً . إضافة إلى أن الشيشكلي، ربما يكون قد ملّ الصراع مع المعارضة، وأن وجود مال في مصارف أجنبية، قد يشجعه على الانسحاب بكرامة، وقد أحسن بذلك صنعاً(64) . وربما وجد من الأفضل له الاستسلام حقناً للدماء وتربصاً لفرصة أخرى يستعيد فيها عرشه،وجاءت هذه الفرصة سنة 1956م (65) . وكان الشيشكلي منتبهاً إلى قضية تدخل جيش العراق ، وما قد يجره على سوريا من ويلات ، منها ردة الفعل العنيفة لدى إسرائيل ضد سوريا، وقد نبهه إلى ذلك سفير أمريكا في دمشق والذي زاره في قصر الرئآسة ظهر يوم العصيان المسلح في حلب ، ولذلك قرر الاستقالة(66) .
وقد تأكد ذلك مما جاء في مذكرات (موشي شاريت)(67) ، فقال : " في 25/2/1954م، تمردت القوات السورية المرابطة في حلب ضد نظام الشيشكلي، فكتب شاريت في حينه : أنّ لافون حاول إقناعي بأن هذه هي الفرصة الملائمة للعمل والتحرك لاحتلال المواقع على الحدود السورية خلف خطوط الهدنة، لأن سوريا بدأت تتفكك، وحكومتها على وشك السقوط .. وأن قوات العراق دخلت سوريا ، فقلت له : يجدر بنا الانتظار قبل اتخاذ قرارنا النهائي، فأكد لي أن عنصر الزمن ثمين جداً ... ثم وافق ابن غوريون على الاقتراح، وعارضه شاريت بعد اجتماع بينهم محذراً من الأمم المتحدة... ، وفي جلسة لمجلس الوزراء وافق المجلس على رأي شاريت، ورفض مناشدة لافون الحماسية "(68) .
(60) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص190 - 191، وأديب الشيشكلي: هاني الخير/ص130 – 131 .
(61) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص132 – 134 .
(62) أديب الشيشكلي: هاني الخيّر/ص132 - 133، عن مقابلة للمؤلف مع عبد الحميد خليل أمين عام وزارة الداخلية وأمين حركة التحرير العربي في 7/ تموز/1919م .
(63) المرجع السابق .
(64) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص192 – 193 .
(65) أديب الشيشكلي قائد الانقلاب الثالث/هاني الخير/ص141 .
(66) أديب الشيشكلي قائد الانقلاب الثالث: هاني الخيّر/ص35 .
(67) شاريت: أول وزير خارجية لإسرائيل، ورئيس وزرائها عام/1953 - 1955م .
(68) الإرهاب الإسرائيلي المقدس: دراسة في يوميات شاريت ص33 - 37، منشورات منظمة الشعب العربية الأمريكية/ الشارقة/ نقلاً عن كتاب أديب الشيشكلي لهاني الخيّر/ (ص135 – 137) .
المبحث الأول
العهد الدستوري وعودة الجيش إلى ثكناته
لمحة عن السياسة الداخلية في هذ العهد
بعد مغادرة الشيشكلي للبلاد عام 1954م دخلت سوريا في عهد دستوري جديد ، فعادت الأحزاب إلى نشاطها، وأطلقت الحريات العامة ، وانسحب الجيش إلى ثكناته . ففي الأول من آذار عام 1954م، استقبلت دمشق الرئيس هاشم الأتاسي استقبالاً رسمياً، وبعد وصوله كلف صبري العسلي برئاسة الوزارة ، عادت الحكومة الدستورية إلى البلاد بقيادة الساسة المدنيين، الذين طردهم الشيشكلي عن الحكم عام 1951م ، ومع ذلك فإن تعاقب حكومات ضعيفة، وقصيرة الأمد لم يوصل البلاد إلى الاستقرار المنشود ، وخلال هذه الفترة تفسخت تحالفات الزعماء التقليديين وتجلى ذلك واضحاًِ في الحزبين السياسيين : (الوطني والشعب) إذ لم يكونا قادرين على مقاومة تحدي الحزبين : (البعث) و (القومي السوري) ، ” وكان حلف بغداد (تركيا – العراق) قد ظهر وأعلن في بيان للدولتين حول التوصل إلى معاهدة دفاعية بينهما، في 13/12/1955م، وانضمت إليهما بريطانيا في شهر نيسان من نفس العام "(1) . ورغم كل ذلك هل أصبح الجو مهيئاً لممارسة حياة نيابية كريمة ؟!
الحقيقة أن باب الانقلابات العسكرية لم يقفل لأمد طويل ... فقد أصبح تدخل الضباط في الأمور السياسية شيمة من شيمهم إذ سرعان ما بدأت تظهر الكتل المتافسة في صفوف الجيش ، من بين تلك الكتل كتلة المقدم عبد الحميد السراج صاحب (المكتب الثاني) ، أي جهاز المخابرات ، الذي بات يرصد تحركات السياسيين وعامة الناس ، وكتلة العقيد أمين النفوري، الذي عين رئيساً للأركان العامة، وكتلة الضباط البعثيين والاشتراكيين، وكتلة اللواء عفيف البرزة وهو من دعاة التحالف مع السوفييت، ومن أصحاب الاتجاهات اليسارية ، وهنالك كتل أخرى ، منها الواضح الأهداف، ومنها المتأرجح، ومنها الغامض المرامي ، الغريب الأحلام(2) . الحقيقة أن الجيش أصبح حجر الزاوية في الحياة السياسية السورية ، منذ عهد حسني الزعيم، وأضحى سبباً من أسباب التسلط والإرهاب، في وجه السياسيين والأمة عموماً ... فقد أصبح كل ضابط مهما تكن إمكانياته ، يمني نفسه باحتلال مبنى الإذاعة ، وإذاعة البلاغ رقم (1) لو تيسرت له شلة من الأصحاب .. ومن ثم تسلل ضباط البعث والأقليات الباطنية ليحكموا البلاد حكماً تعسفياً، في العقود التالية .
وفي هذا العهد قامت انتخابات نيابية في 20/8/1954م ، وحُدّد عدد النواب للمجلس بـ (139 نائباً) وبتاريخ 7/8/1954م ، زحفت دمشق لاستقبال شكري القوتلي رئيس الجمهورية السابق ، الذي نحاه حسني الزعيم عن الحكم ، بعد أن قضى في المنفى عدة سنوات(3) . وفي هذا العهد بدأت تتبلور سياسة الأحزاب تدريجياً وجرت محاولات للتآلف بين الحزبين الكبيرين (الوطني) و (الشعب) ولكنها باءت بالفشل ، أما حزب البعث فقد نشط بين العمال والمثقفين وصغار الكسبة ، وساهم إلى حد كبير في إضرابات العمال في دمشق وحلب خاصة ، وبدأت بذور الاشتراكية تنمو في المنطقة العربية، إلى جانب حركات التحرر الوطني ... وإن كان التيار اليساري قد أخذ شكلاً واضحاً قوياً في سوريا، أكثر منه في أي قطر عربي آخر(4) . وفي هذه المرحلة الحرجة اغتيل العقيد عدنان المالكي - معاون رئيس الأركان - ، على يد عضو من أعضاء الحزب السوري القومي وذلك في 22/نيسان/1955م ، والمالكي من حزب البعث العربي ، وكان لهذا الحادث أثره على السياسة السورية، كما كان سبباً في تصفية الحزب القومي السوري ، إذ قامت السلطات باعتقال الكثير من أفراد الحزب المذكور، ومن بينهم أرملة أنطون سعادة زعيم الحزب الذي أعدم في لبنان أيام حسني الزعيم(5) . وحوكم كثير من أعضاء الحزب ، وكان المتهم في اغتياله رقيب أول نصيري (يونس عبد الرحيم) ، بمعاونة محمد الدبوسي وفؤاد جديد وهما نصيريان كذلك ، وبديع مخلوف، وحكم عليهم بالإعدام ، وانتخر القاتل مباشرة وجميعهم أعضاء في الحزب القومي السوري كما حكم بالإعادم غيابياً على زعيم الحزب (جورج عبد المسيح) ، وغسان جديد (مقدم مسرح - نصيري بارز أخو صلاح جديد) وسامي الخوري وغيرهم . وحكم على آخرين بالسجن والأشغال الشاقة، مثل الدكتور عصام المحايري ، وجولييت المير، أرملة سعادة وآخرين، وقد بلغت جلسات المحاكمة في المحكمة العسكرية (19 جلسة) صدقتها محكمة التمييز في شهر تموز/1956م(6) . وكان المالكي قد ألف قبل مقتله بقليل (مجلس ثورة) ، ليستأصل العناصر العسكرية الموالية للحزب القومي السوري، وينسف خلاياه الحزبية ... وكان قد سُرح غسان جديد من الجيش قبل مقتل المالكي بأسبوعين ، في حين هدد عبد المسيح بتسليمه لحكومة لبنان، التي حكمت عليه بالإعدام .. وقد كانت قوة الحزب القومي السوري آنذاك تقدر بثلاثين ضابطاً، ومائة من ضباط الصف . وفي 29/حزيران نشر قرار الاتهام الموجه إلى (140 عضواً) من أعضاء الحزب ... واتهم البيان ثلاثين منهم بجرائم عقوبتها الإعدام ، ومن ذلك جرائم القتل ، والاتصال بدول أجنبية ، وحض أفراد الجيش على العصيان .. والقيام باتصالات بالحكومة العراقية وعرض خدماتهم لتنفيذ السياسة العراقية بسورية ، والاتصال بأمريكا بغرض القيام بانقلاب عسكري بسوريا، وعلى رأس هؤلاء : رئيس الحزب جورج عبد المسيح، وعصام المحايري الأمين العام للحزب، وأرملة أنطون سعادة(7) .
(1) الحرب السرية في الشرق الأوسط/ ص139، 145 .
(2) النكبات والمغامرات: بشير فنصة/ ص334 .
(3) النكبات والمغامرت/ص339 .
(4) المرجع السابق/ص345 - 346 ،ص361 – 362 .
(5) المرجع السابق .
(6) ينظر: كتاب عدنان المالكي (ثلاث رصاصات في الملعب البلدي) محمد نمر المدني/ منشورات الدار الحديثة ــ دمشق/1996م .
(7) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص314 - 315، وهيئة الإذاعة البريطانية في 15/تموز/1955م، و6أيلول/1955م .
أماني الهلال الخصيب (وحلف بغداد) ، تظهر من جديد
إن اشتراك العراق في المؤامرة على الشيشكلي وفرحها الجلي حين سقوطه ، آثار الشكوك في أن خطوة أخرى ستتم لتنفيذ وحدة الهلال الخصيب . وكانت العواطف المشايعة للهاشميين في سوريا، لا تزال قوية آنذاك، فكثير من الرجال المتنفذين ولا سيما في شمالي البلاد رأوا في الوحدة مع العراق - رغم الوجود البريطاني هناك - أنها من الأمور العربية والوطنية . وهنا بدأ عبد الناصر يبشر بأن جميع الروابط مع الأجنبي خيانة، وأن العرب يجب أن يتحدوا فقط مع العرب ، وكانت صورة العراق لم تشوه بعد بالقمع والغلو اللذين شهدتهما السنوات الأربع الأخيرة من الحكم الهاشمي الزائل ، فلماذا لم تستغل تلك الظروف المواتية الفريدة ؟!
لقد أتى الإخفاق بسبب الرجال المترددين حول هذا الموضوع، وحزب الشعب كان منقسماً حول القضية، وعدد كبير منهم لم يكونوا على استعداد لقبول حكم عبد الإله، ولا امتداد الصلات البريطانية العراقية القائمة على معاهدة إلى سوريا . وقد رأت بغداد أن آمالها تخيب مرة بعد أخرى بسبب الانقلابات السورية المتكررة، وأصبحت حذرة من عدم الاستقرار في سورية وفي ريبة قوية من السياسيين السوريين الذين يتجمهرون لاستلام الأموال ، ولكن قلما - يسلمون سلعاً - مقابل ما يأخذون(8) .
أما حلف بغداد، الذي هو امتداد لمشروع الهلال الخصيب، فقد كان ذا تأثير عميق على السياسة العربية عموماً، وهذا الحلف وُضع أصلاً لغرضين اثنين : فهو سلاح عسكري ضد الاتحاد السوفييتي ، وأداة سياسية للقوة البريطانية والعراقية في العالم العربي . إلا أن الحلف ولد مشلولاً منذ البداية، بسبب التناقضات الأمريكية الإنجليزية، ليتحطم فيما بعد على صخرة التناقض المصري – العراقي ، وكانت النواة الأولى لهذا المشروع هي الميثاق العراقي التركي ، للتعاون المتبادل بينهما، والذي وقع في 24/شباط/1955م وعرف باسم (حلف بغداد)(9) . وقد كانت تدخلات العراق سمة من سمات سياستها مع سورية، وهذا ما جاء في اعترافات نائب رئيس الأركان العراقية السابق (اللواء غازي الداغستاني) ، عندما حاكمته الحكومة الثورية في بغداد في آب من عام 1958م، بتهمة التآمر على سوريا، فقال خلال دفاعه : " سيدي الرئيس ، سادتي أعضاء المحكمة العسكرية العليا، لقد جعلت معظم الحكومات العراقية من التدخل في الشؤون الداخلية لسورية مبدأ معمولاً به منذ أيام حسني الزعيم إن لم يكن قبل ذلك " ، فهدف السياسة العراقية منذ عام 1949م وما بعد، هو الأخذ بيد أصدقائها في دمشق للوصول بهم إلى الحكم ، على أمل الوحدة مع العراق فيما بعد، وقد عملت المساعدة العراقية مثلاً على الإطاحة بحسني الزعيم في آب/1949م، والشيشكلي في شباط/1954م، ولكن هذين العملين لم يكونا إلا نوراً مشعاً ساطعاً في مسعى دائب(10) .
(8) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ص221 – 222 .
(9) الصراع على سوريا: باتريك سيل/ ص246، 253 .
(10) المرجع السابق/ ص348 – 349 .
تآمر حكومة العراق الملكي على سوريا
بعد ثورة تموز وسقوط الحكم الملكي في العراق ، كشفت محاكم الثورة هنالك ما كان يحاك ضد سوريا، وما كان يقدم من دعم مالي وأدبي لمتورطين من القيادات السورية . من ذلك ما صرح به الدكتور معروف الدواليبي في مقال له خلال تعليق له على الوثائق السرية البريطانية التي نشرت سنة 1984م ، قال : " إن العراق هو الذي دعاني لرئاسة الجيش الغازي لسوريا أيام حكم الشيشكلي " ... ثم يوضح هذا الدور الدكتور فاضل الجمالي الذي كان وزيراً للخارجية، ثم رئيساً للوزارة العراقية ، قال : " إن مما قمنا به هو تقديم العون المادي والأدبي للأحرار السوريين ، الذين عملوا لإزاحة الشيشكلي عن الحكم ، وكان العراق مؤيداً لهم في ذلك " . ثم يقول : " إن الدواليبي أرسل رسالة يطلب فيها عون العراق فدعوناه للتباحث حول نوع المساعدة، فقدمَ إلينا سراً، واقترح وضع عدد من الجنود العراقيين تحت قيادته، ليدخل سوريا فاتحاً، لأنه هو رئيس الوزراء الشرعي قبل الشيشكلي، فلم نرغب بذلك تجنباً للمضاعفات الدولية وحقناً للدماء .. ثم غادرنا الدواليبي إلى لبنان وقد وعدناه بتقديم الدعم للسوريين إذا قرروا هم من الداخل مقاومة الشيشكلي " ، " ثم يمضي رئيس وزراء العراق الأسبق قائلاً : زرتُ لبنان لهذا الغرض ومن ثم اجتمعت ليلاً بالأمير عبد الإله في قصر الرحاب في بغداد .. وقررنا إرسال (صالح جبر) إلى بيروت ليقدم للساسة السوريين العون المادي والأدبي وبتويجه من هاشم الأتاسي، فقام صالح جبر بالمهمة خير قيام ... "(11) .
ويلاحظ أن قادة حزب الشعب تلقوا الدعم المالي والأدبي من العراق، وكذلك كان صبري العسلي زعيم الحزب الوطني قد نال حصته من ذلك الدعم منافساً لحزب الشعب، وقد صرح هو بذلك بعد أن كشفت أوراقه عام 1958م . على أن هنالك مؤامرة أخرى بعد ابتعاد الشيشكلي عن البلاد، قد أشار إليها اللواء غازي داغستاني خلال دفاعه عن نفسه أمام محكمة الثورة عام 1958م ، فقد قال : بأن حكومته (عبد الإله ونوري السعيد) قد كلفته بالاتصال بالشيشكلي في سويسرا، فقابله وقدم له جزءاً من المساعدة المالية، على أن يقابله ثانية في بيروت، وفعلاً قدم إلى بيروت سراً في تموز/1956م ، وتعاون معه الحزب القومي السوري، فقدَّم له سيارة وحرساً، وترأس (الرئيس السابق لسوريا) عدداً من الاجتماعات ، حضرها أقطاب المؤامرة وزعماء الحزب السوري القومي، إلا أن الشيشكلي آثر الانسحاب أخيراً ، إذ تبين له أنه ليس له أنصار بسورية وفي 22/12/1956م ، كُشفت المؤامرة، ونشرت قائمة بأسماء المشاركين فيها تضمنت أسماء 47 متهماً على رأسهم : أديب الشيشكلي وصلاح أخوه، وإبراهيم الحسيني والشريف ناصر خال الملك حسين، وحسن الأطرش وهايل السرور ومنير العجلاني ومخائيل إليان، وغسان جديد، وعدنان الأتاسي، إذ تآمروا مع النظام العراقي لقلب نظام الحكم بسوريا(12) .
وقد هُرّبت الأسلحة إلى داخل سوريا، ودفع للسياسيين وضباط الجيش، وحصل هجوم إسرائيلي على الأردن، لإعطاء ذريعة للجيش العراقي للتحرك نحو الأردن وليدعم انقلاب سوريا(13) .وافتتحت المحاكمة في 8/1/1957م، على مدرج جامعة دمشق ، وكان العقيد عفيف البزري رئيساً لتلك المحكمة العسكرية، وتراوحت الأحكام بين الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة علماً أن معظمهم كان خارج سوريا(14) . يقول خالد العظم عن هذه المؤامرة : " أولى تلك المؤامرات اكتشفت في أواخر عام 1956م ، إبان حوادث قناة السويس، فألقي القبض على النائبين منير العجلاني وعدنان الأتاسي وآخرين ، وحكمت المحكمة المؤلفة برئاسة عفيف البزري بالإعدام على الأتاسي وسامي الحكيم وهايل سرور أحد مشايخ البدو، وعلق التنفيذ على تصديقه من قبلي، باعتباري وزيراً للدفاع ... وتشاورتُ مع القوتلي وعبد الناصر حيث كنا في مصر، واتفقنا على استبدال ذلك الحكم بالأشغال الشاقة ... وكان بطل حلف بغداد في سوريا، وعميل نوري السعيد ، هو (مخائيل إليان) الذي هرب إلى لبنان عند اكتشاف المؤامرة، ولحق به كثيرون كفيصل العسلي ... وتشكلت في بيروت كتلة من المدنيين والعسكريين السوريين ، راحوا يمدونهم بالأموال الطائلة وبالأسلحة والذخائر، وقد اشترت هذه الكتلة عدداً من النواب ومشايخ العشائر، وتحالفوا مع جماعة الحزب القومي السوري ، وبدأوا محاولات لتأليب أركان الجيش السوري ... "(15) .
(10) تأملات في الحياة السياسية السورية: غسان إمام/ الشرق الأوسط العدد “5600” في 29/3/1994م .
(11) أديب الشيشكلي: هاني الخير/ص147 - 150، في مقابلة مع عبد الحميد الخليل في 7/تموز/1995م وينظر الصراع على سوريا/ باتريك سيل/355 – 356 .
(12) الانقلابات العسكرية في سوريا: أبو عزة/ص265 وتصريح إيفلاند رئيس المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط في كتابه “جبال من رمل .
(13) أديب الشيشكلي: هاني الخير/ص150 – 151 .
(14) ينظر: مذكرات خالد العظم/ الجزء الثاني/ والانقلابات العسكرية في سوريا/ ص265 - 266، وص270 .
تكتلات كبار الضباط
وخلال هذه المرحلة، بدأت تكتلات كبار الضباط تبرز بقوة .. فهم يكرهون حزب الشعب، ولذلك لجأوا إلى الرئيس عبد الناصر لإقامة الوحدة بين مصر وسوريا، وليتخلصوا من الصراع بين كتل الضباط، فذهبوا سراً ودون علم الحكومة، وألحوا على عبد الناصر إعلان الوحدة وبسرعة(16) . وكان قد تم اتفاق بين الضباط لاقتسام المراكز الأساسية في الجيش على النحو التالي :
- العقيد عفيف البزري : رئيساً للأركان - العقيد أمين النفوري : نائباً لرئيس الأركان - المقدم مصطفى حمدون : رئيساً للشعبة الأولى (شؤون الضباط) - المقدم عبد الحميد السراج : رئيساً للشعبة الثانية (أمين القوات المسلحة) - المقدم أحمد عبد الكريم : رئيساً للشعبة الثالثة (العمليات والتدريب) - المقدم أكرم ديري : قائداً للشرطة العسكرية ، وكان هؤلاء يمثلون التكتلات الثلاثة الرئيسية كتلة النفوري وفيها طعمة العودة الله ، وأحمد عبد الكريم وجادو عز الدين،كتلة السراج ومعه البعثيون كتلة الضباط الدمشقيين : وتضم أكرم ديري ورفاقه(17) .
كما تضاعف عدد المنضمين للكلية العسكرية في حمص خلال فترة الاستقلال (1946 - 1958م) ، والقادمين من الأرياف ، والطبقات الفقيرة وخاصة من أبناء الأقليات الطائفية ، فقد وجدت هذه الفئات من الطوائف (النصيرية - الدروز – والإسماعيلية) فرصتها الذهبية في الانضمام لتلك الكلية العسكرية في حمص ، نظراً لضيق المجالات الأخرى السياسية والاقتصادية أمامها ، ولذلك أصبحت أغلبية المنضمين إليها من أبناء هذه الأقليات الطائفية ، بينما انشغل أهل السنة وشبابهم في العمل التجاري ، الذي كان يدر عليهم أرباحاً كبيرة .. كان وجود هؤلاء النفر في إدارة الكلية ، قد جعلهم يتحكمون في سياسة القبول للمتقدمين الجدد ، بذلك صارت الأكاديمية العسكرية في حمص بؤرة خطيرة للنمو والتوالد في النفوذ الطائفي ، وهذا لم يمنع بطبيعة الحال وجود بعض الضباط السنة في الكلية المذكورة ، ولعل انقلابات حسني الزعيم والحناوي والشيشكلي ، وجميعهم سنة ولبعضهم قرابات كردية ، كانت من بعض الوجوه محاولة لتصحيح الوضع الطائفي داخل الجيش السوري(18) .
(15) المرجع السابق .
(16) الانقلابات العسكرية في سوريا: محمد أبو عزة/ص273 – 274 .
(17) مجلة الدعوة المصرية، العدد (71) الحلقة الثانية بعنوان: تقرير سياسي عن التوزيع الطائفي في حزب البعث والجيش في سوريا .
|