قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد و لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا " – رواه البخاري -. إن موت العلماء مصيبة لا تجبر وثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار وذلك لأن العلماء هم مفاتيح الجنة لأنهم يدلون الناس عليها بما يعلمونهم من الهدى ويحثون عليه من العمل الصالح، وهم خلفاء الأنبياء لأنهم يبلغون رسالتهم من بعدهم ورثتهم لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم..
أسوق هذا وقد فجعت الجزائر بنبأ فقدان أحد رجالاتها الأبرار وعظيم من عظمائها، ألا و هو صاحب الفضيلة الشيخ أحمد سحنون الداعية الكبير والمربي الجليل وصفوة علماء الجزائر التي أنجبتهم،الذي ترك بصماته المتميزة في هذا العالم القاسي الذي طغت عليه المادة وحوربت فيه الفضيلة والأخلاق و القيم و ساد الجهل و البدع و التخلف وسالت فيه الدماء وأزهقت فيه الأرواح، الذي استأثرت به رحمة الله ليلة الإثنين 08 ديسمبر/ كانون الأول 2003 م الموافق لـ 14 شوال 1424 هـ، وقد كان لهذا النبأ وقع أليم على نفوس كل الجزائريين، ووفاته مصاب كبير وخسارة فادحة للأمة الجزائرية التي بدأت تفقد أجيالا من العباقرة والأعلام من المصلحين و رجال الدعوة و الشريعة أمثال البشير الإبراهيمي الفضيل الورتلاني، مالك بن نبي، مصباح الحويذق، عبد اللطيف سلطاني، عمر العرباوي وغيرهم، الذين أسهموا بعد استقلال الجزائر في بداية ستينيات القرن الماضي في نهضة الجزائر الإسلامية، وشاهدوا التطورات السياسية السريعة المختلفة التي ألمت بالأمة الجزائرية وتركت فيها جروحا عميقة، وعرفوا بالعلم الغزير و الفكر النير الحصيف وروح الجهاد و التطوع و الإخلاص، وقيضهم الله جلا وعلا لتخريج الرجال وتربية الأجيال الصاعدة فكانوا كالشمس للدنيا و كالعافية للناس .. وقد وري جثمانه الطاهر التراب بمقبرة سيدي يحي بلدية بئر مراد راس بالجزائر العاصمة في ظهيرة يوم الثلاثاء 09 ديسمبر / كانون الأول 2003 م الموافق ل: 15 شوال 1424 ه بعد أداء صلاة الجنازة عليه بمسجد أسامة بن زيد هو المسجد الذي كان يؤمه المرحوم طوال السنوات الأخيرة، وقد حضر مراسم الدفن عشرات الآلاف من المواطنين المحبين للشيخ رغم سوء الأحوال الجوية والأمطار الغزيرة التي تهاطلت وأثرت بشكل كبير في مستوى و عدد الحضور، إضافة إلى تأخر إعلان وفاته التي حرمت أيضا الآلاف من المشيعين من المسلمين الجزائريين من كل حدب وصوب من الوطن الشاسع للمشاركة في جنازة آخر علماء جمعية العلماء المسلمين تأثيرا وحيوية و فعالية في النسيج الإسلامي والدعوي بالجزائر.. الشيخ الطاهر آيت علجات أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين ورفيق درب الشيخ أحمد سحنون الذي أدى صلاة الجنازة امتثالا لوصية المرحوم، ألقى بالمناسبة الكلمة التأبينية أمام الجمع الغفير، تعرض فيه إلى خصال الفقيد ودوره البارز في جمعية العلماء قبل الثورة وبعد الاستقلال، وجهوده الجبارة في الدعوة إلى الله بالكلمة والقلم والنصح و التوجيه، فكان بحق أحد أقطاب الصحوة الإسلامية في جزائر الاستقلال، كما أخذ الكلمة أيضا الأستاذ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الذي تكلم عن البعد الوطني في حياة الشيخ، وأعطى شواهد حية وتاريخية عن مواقف بطولية تشهد له بالتفاني في خدمة أمته، مؤكدا بأن الشيخ امتاز عن غيره من أقرانه بأنه "مارس الجهاد بكل أنواعه: بالساعد والكلمة والقلم والتعليم " .. وبالمناسبة حضر ثلة من الدعاة والشخصيات الإسلامية والحكومية الحدث وكان من أبرزهم الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية للإنقاذ الشيخ علي بن حاج مع قياديين آخرين، وقد كان من الذين حملوا النعش على أكتافهم، والشيخ عبد الله جاب الله رئيس حركة الإصلاح وأعضاء من القيادة و النواب في البرلمان، والأستاذ أبو جرة سلطاني رئيس حركة مجتمع السلم وأعضاء من قيادة الحزب وغيرهم من الدعاة و الشخصيات الإسلامية المستقلة، وحضر عن الحكومة وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم ووزير الشئون الدينية والأوقاف بوعلام غلام الله ..
اللاحدث... لكي لا نقول التهميش والإقصاء، يبدو أنها الكلمة الأليمة والمناسبة التي تصور تعامل وسائل الإعلام والمسئولين على حد سواء مع مرض الشيخ أحمد سحنون أو وفاته، وكأن الرجل لا يمثل لهؤلاء إلا "بقايا تاريخ" أثقلته رمال النسيان وتراكمت عليه سنين العجز والمرض، إلى أن انتقلت روحه إلى بارئها.
ما معنى أن يحاط فنانو الفجور والسفور بالعناية و الرعاية من قبل مؤسسات الدولة، وتوضع تحت تصرفهم كل الإمكانيات للعلاج في الخارج وعلى نفقاتها، في الوقت الذي يبقى أحد علماء الأمة الأجلاء طريح الفراش وحبيس المرض لسنوات، وما معنى أيضا أن تسلط و سائل الإعلام أضواءها على فنانين عاشوا جل حياتهم في البلاد الأوروبية بعيدا عن معاناة الجزائريين اليومية، وتقيم لهم الأمسيات الساهرة، وتدفع لهم مقابل مجيئهم إلى أرض الوطن الأموال الطائلة من العملة الأجنبية، في الوقت الذي يضرب بسور من التعتيم والتهميش حول رجل ذنبه الوحيد أنه خدم بلده بإخلاص المجاهد العالم ؟؟. ألم يقل وفي الوقت الذي سكتت فيه كل الأصوات: "إن الأحداث الجارية في الساحة ليست مجرد طفرة أو وليدة رد فعل انتهازي فقط، بل تجد دوافعها وأسبابها من الوضع العام المتردي بسبب سياسة الترف والمباهاة والتبذير المتبعة على حساب المصالح العليا للشعب".
حينما يرفع – بضم الياء - أراذل القوم في هذا البلد إلى مصاف العظماء، ويُحط من قيمة رجالاتها ومفكريها، فلا ننتظر أن تتغير الأحوال أو تتبدل الأوضاع، ورحم الله القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي حين قال :
ومن يثنى الأصاغر عن مراد إذا جلس الأكابر في الزوايـــــا
و إن ترفع الوضعـــاء يومــــا على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل و الأعالــى فقد طابت منادمة المنايا
* من هو الشيخ أحمد سحنون؟
هو الأب الروحي للحركة الإسلامية في الجزائر بدون منازع، ولد في مدينة "ليشانة" بالزاب الغربي ولاية بسكرة سنة 1907 م حيث تلقى تعليمه الأول على يد والده، فحفظ كتاب الله عز وجل عن ظهر قلب في زاوية "طولقة" المشهورة وعمره لا يتجاوز 12 سنة، وأتقن الكثير من الفنون الدينية، كاللغة، والقوافي، والحديث والفقه المالكي .. جالس الشيخ محمد بن خير الدين– رحمه الله -، وتأثر بالعلامة ابن باديس رائد الإصلاح الديني وأخذ عليه الكثير.. واشتهر عن الشيخ إطلاعه الواسع وحبه للكتب واقتنائها، حيث كانت اهتمامات الشيخ في بداية مشواره العلمي والشرعي، بالأدب والشعر والقصة والنقد، وبرز في الشعر إلى مستوى التفوق والامتياز، واستغل هذه الموهبة بتوظيفها في دعوته الإصلاحية إلى الإسلام الحقيقي البعيد عن البدع والخرافات والتقاليد البالية.. وكان من العناصر الفعالة في الحركة الإصلاحية بعد انضمامه إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وإبان الاستعمار الفرنسي اشتغل مديرا لمدرسة "التهذيب الحرة" بالجزائر العاصمة بحي "بولوغين" سنة 1931م ..
كان من الكتاب البارزين في صحيفة البصائر، يدبلج (الترجمة) المقالات الفكرية، فالشيخ – رحمه الله – يتقن اللغة الفرنسية بطلاقة .. بعد اندلاع الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954م، التحق الشيخ أحمد سحنون بها دون تردد، بل عرف عنه حماسه الفياض وبغضه الشديد للمحتل الفرنسي، وعمل على تحريض الناس على الجهاد والتمرد على فرنسا، مستغلا بذلك وظيفته الرئيسية في إمامة الناس وتعليم القرآن وترشيد الناس، و اعتمادا على مكانته في نفوس المواطنين الذين كانوا يترددون إلى دروسه بمسجد بولوغين، وحبهم له لشجاعته وصلاحه وخلقه وعلمه .. في 24 ماي 1956 ألقي عليه القبض وحكم عليه بالإعدام وقضى مدة ثلاث سنوات بين السجن و المعتقل في انتظار تنفيذ حكم الإعدام، إلا أن قدر الله له الخروج من السجن لأسباب صحية سنة 1959 م بعد تسخير الله عز وجل لبعض الأشخاص الذين تمكنوا من تهريبه من العاصمة إلى سطيف حيث مكث فيها برهة من الزمن مختفيا، لكنه عاد من جديد إلى نشاطه و نضاله إلى غاية انتزاع الجزائر لاستقلالها في الخامس من جويلية 1962م .. أثناء سجنه التزم الشيخ المطالعة والكتابة و قرض الشعر، كما كان يتابع بشكل دقيق ومنتظم ما كان يصدر من "الشهيد" سيد قطب الذي كان مسجونا هو أيضا في تلك الفترة بالسجن الحربي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وخاصة تفسيره المتميز "في ظلال القرآن"، وكانت له كلمة مشهورة في هذا الشأن: (كان الظلال يخرج من السجن في مصر ويدخل السجن في الجزائر) لكن شتان بين سجن الاستعمار وسجن ما يسمى بالأنظمة الوطنية المنبثقة من حركة التحرر؟ا ..
أثناء الاستقلال لقب بشاعر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعين إماما بالجامع الكبير بالعاصمة وعضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى إلى غاية استقالته من جميع المناصب الرسمية بعدما حدث التحول في سياسة الحكم المنتهجة في تلك الفترة وخاصة عقب منع جمعية العلماء المسلمين من العودة إلى نشاطها المعروف والتضييق عليها، وفي نفس الوقت السماح للحركات والجمعيات اليسارية من النشاط والتعبير عن نفسها ومصادمة الواقع الجزائري المحافظ .. ابتعاده عن الوظائف الرسمية التي لا تجلب إلا الشؤم لأصحابها، مكنته من العمل الدعوي الحر فبدأت مسيرته الحرة من مسجد النصر ببلدية باب الوادي إحدى قلاع التيار الإسلامي، لينتقل بعدها إلى مسجد الأرقم بحي "شوفاليي" في أعالي العاصمة، أين سخرا الشيخان أحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني كل طاقتهما وجهودهما خدمة للدعوة إلى الله وتمكينا للشريعة الإسلامية واللغة العربية، وانتهاء بالمسجد الذي أمه إلى غاية آخر يوم من حياته أسامة بن زيد ببلدية بئر مراد رايس بالعاصمة..
أما إنتاجه الفكري والأدبي والدعوي، فكان غزيرا، ويمكننا أن نقسمه إلى قسمين، القسم الأول كل دروسه وخطبه الموزعة هنا وهناك من خلال الأشرطة السمعية، أما القسم الثاني فإصداره لديوان سنة 1977م عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع عن سلسلة شعراء الجزائر بعنوان "حصاد السجن"، وهو خلاصة لأشعاره التي كتبها أثناء فترة سجنه، تناول فيها عدة مواضيع تتعلق بالإصلاح الديني والاستقلال, وصدر له عن نفس الشركة الوطنية سنة 1981 م كتاب آخر بعنوان "دراسات وتوجيهات إسلامية" جمع فيه مقالاته التوجيهية التي كان يكتبها في جريدة "البصائر" لسان حال جمعية المسلمين الجزائريين، ويرجع الفضل في كتابة هذه الفصول وجمعها إلى فضيلة العلامة البشير الإبراهيمي، وقد كتب الشيخ أحمد سحنون في الإهداء من هذا الكتاب بأن: (من الإنصاف أن أسجل أن صاحب الفضل في كتابة هذه الفصول هو أستاذنا الإمام محمد البشير الإبراهيمي، فهو الذي عهد إلي بأن أضطلع بمهمة تحرير القسم الديني من "البصائر"، ونفخ في روح الثقة بالنفس حين أسند إلى هذه الأمانة العظمى ورآني أهلا لهذه المهمة الشاقة التي تهيبها كثير ممن سبقني إلى هذا الميدان، وشجعني برسائله القيمة التي كان يكتبها إلي من مصر معجبا بهذه الفصول مثنيا عليها .. أذكر من هذه العبارة وأنا أخجل: "إن ما تكتبه في البصائر هو حلية البصائر"), ويذكر حسب ما أفادنا به أحد المقربين منه، بأن للمرحوم أيضا كتابان آخران لم يطبعا بعد، كتبهما أيام محنة تجمع الطلبة بالجامعة المركزية سنة 1982 م عندما وضع مع المرحوم الشيخ عبد اللطيف سلطاني في الإقامة الجبرية، فألف ديوانا في الشعر للمرة الثانية مع كتاب آخر جمع فيه تراجم لبعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين سماه " كنوزنا"، ونأمل من الله الكريم أن يوفق المخلصين لذكرى الشيخ أحمد سحنون لإخراج هذين الكتابين في أقرب الآجال وهو أقل ما يمكنه أن نقدمه للصرح الشامخ أحمد سحنون شاعر جمعية المسلمين الجزائريين ..
شارك في بعض ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تنعقد في الجزائر، وكان أهمها مشاركته في ملتقى الفكر الإسلامي السابع بولاية تيزي وزو سنة 1973م، أين ألقي الشيخ سحنون محاضرة هامة بعنوان: "التشريع الإسلامي وتطبيقه على غير المسلمين".. في سنة 1982م نُظم تجمع كبير بالجامعة المركزية بقيادة ثلاثي الشيوخ أحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني وعباسي مدني بحضور عشرة ألاف مشارك، حيث أصدروا بيانا جماعيا بعنوان "الدين النصيحة"، ردا على الأحداث الأليمة التي حدثت داخل "الحرم الجامعي" وتنديدا بحملة الاعتقالات الواسعة التي مست عناصر التيار الإسلامي بالجامعة وخارجها، وهو أول ظهور سياسي منتظم للتيار الإسلامي، كقوة معارضة ذات وزن حقيقي في الساحة، أرعب خصومه التقليديين من الشيوعيين والتروتسكيين، وكان البيان سلميا من 14 نقطة جمعت أسباب الأزمة وحلولها في نفس الوقت ..
وقد أسهم الشيخ بإسداء النصح إلى مصطفى بويعلي الذي تمرد على الحكم القائم مع مجموعة من إخوانه، مبديا معارضته للعنف من أي جهة لعلمه بأن هذا الفعل لا يؤدي في الأخير إلا إلى مزيد من الأحقاد والرغبة في الانتقام، وهي دائرة مغلقة لا نهاية لها .. في سنة 1989م يؤسس الشيخ أحمد سحنون رفقة مجموعة من الدعاة والقيادات الإسلامية الصرح الدعوي الأول بعد جمعية العلماء المسلمين باسم "رابطة الدعوة الإسلامية"، كإطار عام يجمع كل التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية الإسلامية، وكان الشيخ – رحمه الله – حريصا أشد الحرص على استقلالية الرابطة الإسلامية من تأثيرات السلطة أو الأحزاب أو الشخصيات الإسلامية التي كانت تسعى إلى جر الرابطة إلى صفها، وقد حاول جاهدا أن يوحد التيار الإسلامي لمواجهة الحملة الشرسة ضد الوجود الدعوي الإسلامي و قانون الأسرة والحجاب ..
لكن مساعيه باءت كلها بالفشل المرير، وهو ما أثر بشكل كبير فيما بعد في انعزاله وبعده عن فعاليات التيار الإسلامي المشتت .. ومما يؤسف له أن الانحرافات التي عاشتها الحركة الإسلامية بعد مخاض أليم وصعب، من انقسامات وعداوات ومشاحنات وصدامات، خرجت جيلا ينكر فضل الرجال الذين أسسوا العمل الدعوي، ويجهل قدرهم، فكم من كلمات خرجت من أفواه سفهاء الأحلام في التجريح بالشيخ – رحمه الله – واتهامه في كل مناسبة بالخرف أو سوء العقيدة لكونه كما يدعون أنه "أشعري" وهو بريء من هذه الفرية و الأكذوبة، وكل متابع صادق قرأ له أو سمع منه يعلم علم اليقين بأن الشيخ يعتقد عقيدة أهل السنة والجماعة، وأيضا اتهامه باطلا بأنه "مالكي متعصب"، وأنه ليس "بعالم" فهو أقرب إلى "الشعراء" منه إلى العلماء، وهكذا سيل من الاتهامات الباطلة أقل ما يقال عنها أنها بإيعاز من جهات مريبة همها وديدنها تشويه قادة التيار الإصلاحي بأيدي البعض من أبناء الصحوة المغفلين ؟ا ..
ولم يمنعه سنه المتقدم من تسجيل أكبر موقف أسأل الله أن يحسب له في ميزان حسناته، عندما أشرف على تنظيم التجمع النسوي الضخم في 21 ديسمبر 1989 م تحت رعاية رابطة الدعوة الإسلامية، الذي حضره مليون امرأة، أطلق عليه أيضا المسيرة "المليونية"، وهذا لمطالبة المجلس الشعبي الوطني باسم الأغلبية الساحقة من نساء وحرائر الجزائر بتثبيت قانون الأسرة الصادر في سنة 1984 م باعتباره مستمدا في مجمله من الشريعة الإسلامية، وردا على المسيرات النسوية المنتمية إلى ما يسمى بالتيار الديمقراطي اللائيكي العلماني المطالبة بإلغائه، وهي المسيرات التي لم تجمع في أحسن أحوالها ثلاثة آلاف امرأة .. ومن الكلمات الخالدة للشيخ أحمد سحنون بهذه المناسبة قوله: (قانون الأسرة لا ينسخه إلا كفر بالله) .. ولا ننسى في هذا المقام الحزين الذي خصص لذكر أغلب مناقب المرحوم الشيخ أحمد سحنون موقفه الشجاع من المساجين السياسيين بعدما اشترك في تشكيل "لجنة الدفاع عن السجناء السياسيين" في بداية الأزمة التي كانت بين الطرفين المتصارعين الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة والسلطة آنذاك ..
* الرجل الذي تخلى عنه الجميع
كنت في أحيان كثيرة أجد نفسي منساقة إلى مقارنة الشيخ أحمد سحنون برجال "أصحاء" و"علماء" و"أصحاب مواهب" ساروا مع الدنيا فعاشوا مترفين، وتأقلموا مع الأوضاع الفاسدة فداروا معها وداهنوها .. أقارن بين جسد مقعد بفعل نوائب الزمن يشع حركة وإرادة وعزيمة فتتجاوب معه جموع غفيرة من أبناء الحركة الإسلامية رجالا و نساء، وبين علماء ودعاة في كامل قواهم الجسدية ماتت إرادتهم ونامت عزيمتهم، فلم ينتفع بما عندهم أحد، ويحضرني قول الشاعر:
ترى الرجــل الضـعــيف فتـزدريه وفي أثـوابـه أسد هـصـور
و يـعـجـبـك الطـريـر فـتـبـتــلــيـــه فيخلف ظنك الرجل الطرير
ولا وجه للمقارنة البتة معهم، فهو المثل الرائع لانتصار العقيدة في القلب و قوة العزيمة الصادقة رغم قيود الجسد و السن والمرض. إنه الرجل الذي ما بدل وما غير و بقي وفيا لمبادئه إلى آخر لحظة في حياته، ولم يستسلم للظروف اليائسة التي مرت بها البلاد، إنه الأستاذ الأشم، الشاعر الرقيق، والعالم الفذ الشيخ أحمد سحنون – رحمه الله - .. لقد قاوم بعناد أصيل محاولات تغريب الأمة وسلخها عن قيمها الحضارية على يد المستعمر الفرنسي ما استطاع على ذلك سبيلا مع ثلة من أقرانه في جمعية العلماء المسلمين ووقف كالجبل الأشم بعد الاستقلال أمام المحاولات المتكررة لتطويع العمل الإسلامي ليتأقلم مع الواقع المنحرف، إرضاء لأصحاب السلطان والمال والجاه، ورفض حجج و خطوات الذين آثروا التأقلم أو ساروا في خدمة السلطان ..
و كان لابد أن يدفع ثمن ما ذهب إليه، فاختار وحشة السجون و الإقامة الجبرية على المساومة والخنوع، وأصابته أمراض نالت من جسمه و لم تنل من عزيمته و ثباته، فتابع طريق البذل والعطاء العلمي والأدبي والدعوى، لا يمل و لا يكل، فكان أثره الطيب ترشيد الصحوة الإسلامية المباركة عبر خطبه ودروسه وكتابته العلمية والتوجيهية، وكان قبلة لمعاشر العلماء والدعاة من الداخل والخارج، للتشاور على خير البلاد والعباد، والعنوان "الوحيد" الذي كانت السلطات المتعاقبة تتصل به عندما تضطرب الأوضاع أو تشهد مواجهات ساخنة ..
الجزائر تدخل من الباب الواسع النفق المظلم الذي أكل اليابس والأخضر.. "النفق" الذي طالما حذر منه الشيخ احمد سحنون كل الأطراف المتصارعة آنذاك، سلطة وأحزابا وشخصيات مؤثرة من دخوله لأنه لا مخرج له، لكن لم يستمع إليه أحد، وذهبت صيحاته أدراج الرياح، ودخلت الجزائر بكاملها في دوامة عنف لا قبل لها بها، وأصبحت محل اهتمام كل الدوائر الأجنبية المعادية و المشبوهة، وتحت رحمة عدسات التصوير و شاشات التلفزيون ووكالات الأنباء و الأقلام المسمومة، بما تسجله من مجازر يومية و فتن ما ظهر منها و ما بطن ..
* أيادي الغدر تريد إسكات صوت الاعتدال والتعقل؟:
الفتنة الدموية طالت هي الأخرى الشيخ أحمد سحنون الذي نجا بقدرة الله تعالى وعنايته من محاولة اغتيال كان تعرض لها بداخل مسجد "أسامة بن زيد" بالعاصمة سنة 1996م، وأدخل المستشفى في حالة غيبوبة ونقل إلى العناية المركزة ليخرج منها بعد فترة متأثرا بالجروح التي تركت بصماتها في جسده النحيل وفي نفسيته الرهيفة إلى غاية وفاته، وبذلك تخطو الجزائر خطوة جديدة في المجهول الذي كان ينتظرها وكأن كل سنوات الفتنة والمواجهة لم تؤثر فيها، وليزداد الوضع تفاقما وحدة ..
* الشيخ يدعو إلى الاجتماع ونبذ الفرقة:
يعرف عن المرحوم الشيخ أحمد سحنون بأنه شاعر مرهف يحس بآلام شعبه، يداعب القوافي كما تداعب الأم وليدها، وخطيب قوي البيان وجريء في الصدع بكلمة الحق, وعامل في الدعوة على الله تعالى كرجل لا تثنيه المشاكل ولا تروعه التحديات ولا الخطوب.. عرف كيف يحافظ على يديه بيضاء من دماء الشعب التي خاض فيها الكثير من
"الدعاة" أو "طلبة العلم"، وأشباههم –باسم الدين زعموا– وعرف كيف يبقى بعيدا عن الخصومات والانشقاقات وكل التلاعبات في السر والعلن، سمعنا عنه في الصغر وقرأنا له في الكبر، وتذوقنا أشعاره ورأيناه في بعض الدروس بمسجد "الأرقم بن الأرقم" وغيره، عرفنا قوة موقفه وصراحته وقيمة تدخلاته في بعض التجمعات الشعبية في إطار
"رابطة الدعوة الإسلامية"، وفي الملتقيات الفكرية الإسلامية، وهل ينسى أحد ممن حضروا و سمعوا كلماته الرنانة والمفعمة بالصدق والأمل في التجمع النسوي "المليوني" لرابطة الدعوة الإسلامية الفتية: "إن شر الخلق هم الذين يريدون أن يحكموا هذه البلاد بغير الإسلام، إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب". .
* الأب الحنون..يفارق أبنائه والحسرة تعصر قلبه
الشيخ أحمد سحنون من أبناء الجزائر البررة والكل -من أبناء الحركة والدعوة الإسلامية الأصيلة- يشهد له بصدق السعي الأول والجد لجمع كلمة كل العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، بكل مشاربها وتوجهاتها، حماية لبيضة الإسلام ونقائه، فأصبح رمزا للوحدة والرباط لا للفرقة والاختلاف، فالجميع أبناؤه وفلذات كبده، لا هم له ولا حديث إلا في كيفية جمع الشتات وإصلاح ذات البين وتضييق هوة الخلاف الشاسعة بين مختلف التيارات الإسلامية والمدارس الفكرية، وقد كتبت إحدى الأخوات المسلمات وأجادت في مجلة "حقائق"، وهي تصف حال الشيخ أحمد سحنون مع الدعوة الإسلامية في الجزائر: "من ذكر الشيخ أحمد سحنون ذكر الوحدة والرحمة بالأمة، والإشفاق على الدعوة، فكم دمعت عيناه و صاح لسانه على واقع الفرقة والفساد، وهو على كبر سنه يأمل أن يفارق هذه الدنيا و قد ترك "أبناء متحابين و متعاونين" مجتمعين لنصرة الحق الذي قد تخذله الفرقة، فهل تتحقق أمنيته أم أن للسياسة حساب آخر؟".
* موقف الشيخ أحمد سحنون من الأحزاب الإسلامية
في بيان بعنوان "نداء الوحدة" الذي صاغه الشيخ أحمد سحنون مع إخوانه جاء فيه: "لا يحق لأي حزب سياسي إسلامي أن يدعي بان يساوي جماعة المسلمين التي لا يجوز أن تتعدد، ذلك أن الحزب السياسي عبارة عن تنظيم يلتقي فيه الأفراد على مبادئ مشتركة لتعبئة الجماهير من أجل أن تمكن لمشروعهم الذي يجسد مثلهم العليا .. ويحق لنا أن نتساءل عن المبررات التي تسوغ إنشاء أحزاب سياسية جديدة وتعدد صفوف المغالبة في وقت أصبح الإسلام غير موضوع للنقاش، وإنما الأمل الوحيد لخصومه هو تفتيت صف أنصاره وإذكاء روح الصراع بينهم بما ستفرزه التعددية السياسية من التعصب الذي ينسي الناس القضية المركزية و تصبح المصلحة الحزبية هي معيار المفاضلة "كل حزب بما لديهم فرحون" ". وفي نفس السياق يؤكد الشيخ بأنه: " لا خلاف أن الحزب السياسي الذي ينطلق في مشروعه من مقاصد الإسلام ونصوصه، ويجسد في مضمونه هموم الجماهير ومتطلبات العصر ويكون هدفه التمكين للإسلام أن يعود إلى توجيه الحياة، إن مثل هذا الحزب تحتم وجوده حتمية المغالبة السياسية وطبيعة المعركة القائمة اليوم بين المشروع الإسلامي وبين المشاريع الملتقطة من سلة الغرب، والمغالبة السياسية سلاح فعال ليس من الحكمة أن يشهره أنصار الإسلام " ...
ويصل الشيخ إلى أن: "المسلم الرسالي الذي ينطلق في تصرفاته من الضوابط الشرعية ينظر إلى مسالة إنشاء الحزب بمنظار المصلحة العليا للإسلام وللأمة، ذلك أن إنشاء الحزب قد يفتح مجالا جديدا لتوظيف الطاقات وتجنيدها، ولكن في نفس الوقت يحدث بؤرة جديدة للصراع و يفتت القوى المتماسكة فيتحول الصراع من صراع جهادي سلمي من اجل تحقيق المشروع الإسلامي إلى صراع فتنة تتواجه فيه القوى الإسلامية على حلبة المغالبة السياسية ولربما نسي الناس حينئذ القضية المشتركة، فأصبح الموقف الحزبي يقتضي ضرب المنافسين داخل الصف الإسلامي".
وفي حكم إنشاء الحزب يقول الشيخ : "إن إنشاء الحزب الإسلامي تحكمه المصلحة الشرعية، فهو في تصورنا فرض على الكفاية، إذا نهض به البعض سقط الحرج عن سائر المسلمين الذين يكون واجبهم آنذاك المساندة والدعم وشد الأزر والنصح والنصرة، وإما أن تعمد سائر الفعاليات الإسلامية إلى إنشاء الأحزاب فإن هذا مسلك قد يأتي بالنتائج العكسية، إذ سينشغل الصف الإسلامي بالصراع الداخلي عن المعركة الحقيقية ويتحول الواجب إلى محظور باعتبار النتائج المترتبة، ولهذا نوجه النداء إلى الضمائر الحية أن تنظر بعين الشريعة والمصلحة مهما كانت دواعي الإثارة الذاتية أو الموضوعية " ... من هذا "النداء" يتبين لنا أن أحزاب ما تسمى "بالإسلامية" فقدت هويتها، ولم تعد لها شخصيتها الذاتية التي تجسد إسلامها، ولا تنطبق عليها الأوصاف التي ذكرها الشيخ أحمد سحنون فهي متخلفة عن إسلامها وعصرها، تعيش عالة على الناس وعلى التاريخ، فهل حققت هذه الأحزاب ما تصبوا إليه وخاصة في العشرية الأخيرة، أم أن كراسي البرلمان واستوزار بعض أعضائها طفت على السطح على حساب "المشروع" و"الدعوة" و"النهج" ؟؟ - رحمك الله و أسكنك فسيح جنانه- وقد كنت سديد الرأي صائب التحليل منذ البداية، وقبل اشتعال الفتنة، ولكن لم تسمع كلماتك من هذه الجهة أو من الأخرى ..
* شهادات حية قيلت في الشيخ أحمد سحنون:
- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: "إن ما تكتبه في "البصائر" هو حلية "البصائر"".
- الشيخ فضيل الورتلاني: "لقد كنت ضيق الصدر من خلو "البصائر" من التوجيه الديني، وهي ميدانه وسوقه، ضيقا صرفني عن قراءة ما يكتبه الأستاذ أحمد سحنون، حتى وقعت في يدي الأعداد الأخيرة من جريدة "البصائر" فاجتذبني منها عنوان إلى قراءة ما تحته، فقرأت، فصادف مني هوى فأعدت قراءته, فأثر في تأثيرا أجرى دموعي، تأثرا بالمعاني وفرحا بظفري بما كنت أنشده من النوع الحي المشرق المنتزع من مأثور السلف في أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم .. وفي غمرة ذلك التأثر والإعجاب، تناولت رزمة "البصائر" التي كانت أمامي وأعدت قراءة ما فيها من كلمات الأستاذ أحمد سحنون، قراءة وتأملا وموازنة، فازددت إيمانا بأنها صنف واحد في الإصابة وحسن التنزيل، وعمق التحليل لأمراضنا النفسية وعلاجها بأخلاق أسلافنا الظاهرين، التي ملكوا بها أنفسهم أولا و ملكوا بها الكون ثانيا".
- الدكتور توفيق محمد الشاوي: يصف الدكتور توفيق محمد الشاوي في كتابه "مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي 1945م – 1995م" الشيخ أحمد سحنون بقوله: "إن هذا الشيخ الوقور يمثل جمعية العلماء الجزائريين التي قامت بدور تاريخي في بعث روح الأصالة العربية الإسلامية في هذا الشعب الذي جثم الاستعمار على صدره ما يزيد على مائة وثلاثين عاما, وما زال يستخدم عملاءه وأعوانه لتنفيذ خططه لاقتلاع التيار الإسلامي من إفريقيا كلها ومن الجزائر بصفة خاصة, ولم ينجح بسبب قوة الفكر والعقيدة التي يحرسها ويغذيها هؤلاء العلماء".
* أخيرا .. وليس أخيرا
هذه قصة حياة ملؤها الجهاد و العلم و التضحية والنصيحة.. بطلها الشيخ أحمد سحنون في حياته ومماته، رسمت خطوطها الكبرى في هذه المقالة المطولة، وأشرت من خلال السرد التاريخي إلى عدد من عبرها وإلهاماتها، مع إدراك مني لقصوري وقلة حيلتي في الإحاطة بكل نشاطاته ومواقفه في مسيرته الشخصية الطويلة التي وصلت إلى 96 سنة من العطاء.. وقد سقتها وفاء للشيخ أحمد سحنون – رحمه الله – الذي عانى العزلة والتعتيم الإعلامي في حياته ومماته، وقصد استخلاص العبر والمعاني من سيرة المرحوم، وأريد في الأخير أن ألفت أنظار القراء إلى المعاني الآتية في اختصار شديد:
أولا: المرحوم بذل جهودا مضنية في العمل التربوي بصمت وهدوء استمر عقودا من الزمان أتت ثمارها في كل حين، وهذا درس لكل الأجيال علماء ودعاة وطلبة علم و شباب وعامة للمثابرة على التبليغ والتربية ورص الصفوف بهدوء وروية و الابتعاد عن التشنج..
ثانيا: المرحوم لم يخضع ولم يستجب لما يمليه الآخرون، وهذا حري بنا أن نقتفي آثاره في الصبر و التحمل و طول النفس على الشدائد والمحن، فالأمة قد تستكين في جولة، ولكنها تعود إلى ما كانت عليه في جولات أخرى، وهي سنة كونية حكيمة ..
ثالثا: العلماء ورثة الأنبياء ونبض هذه الأمة، وما داموا على العهد تبقى الأمة حية ونبضات قلبها لا تنقطع, فالخير كل الخير يأتي منهم، أحياء كانوا أو أمواتا، وبهم تستعيد أمتنا الشروط التي تأهلها للنصرة، قال تعالى "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا".

6 تعليق حتى الآن ( اضف تعليقك على المادّة فوراً )
جزاك الله خيرا يا أخي يوسف | القرشي يقول...
و الله حقا إن موت هذه الأمة بموت علمائها و قادتها و كم فقدت الجزائر من خير دعاتها و علمائها و لم يؤبه لهم من طرف أجهزة الدولة و أمر كهذا جدير بالأمة أن تنسى أخيارها فلا تتأثر بهم و بأفعالهم و خصالهم الحميدة فتعيش متشردة غافلة كما يقال غنم بلا رعي و تبتعد عن دين ربها و موت العلماء هو النقصان الذي ذكره الله تعالى في كتابه - ونأتي الأرض ننقصها من أطرافها- و موتهم مصيبة على الأمة
رحم الله الشيخ الفقيد رحمة واسعة و أسكنه فسيح جنانه فقد أدى ما عليه و لم يتوانى و لو ساعة من حياته في خدمة الاسلام و المسلمين
خطبك يا سحنون لا ينسى و جرحك الغائر لا يؤسى
و اتجت لموتك أمة و قد غادرتها من بعد ما بنيت لها الأسى
تبا لدنيا يسطو عليها الردى لا ذنبا تبقي و لا رأسا
و أشكر الشيخ و الأخ الكريم يوسف على مقاله الرائع
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
قدرنا... | جمـــــال يقول...
رحم الله شيخنا. عاش غريبا و مات غريبا فطوبا للغرباء
فهذا قدر الحر بين العبيد
أفيقوا من الغرور | أبو صالح ع ن يقول...
السلام عليكم ورحمة الله
لا يسعني في هذا المصاب الجلل، من فقدان هذا العالم الجليل رحمه الله، إلا أن أقول: أن التاريخ يسجل ويشهد على
الخيانة والتنكر للصالحين من هذه الأمة، وبخس حقوقهم في حياتهم وبعد مماتهم، والذين لو طبقت توجيهاتهم
ونصائحم، لما وصلت الأمة إلى هذا الذل والهوان، والتبعية، والتفرقة، والإنذارات المتتالية من الله عز وجل.
فنتيجة للإعراض عن أمر الله تعالى، فإن كل ما نحصل عليه ظنا منا ظفرنا به، فقدناه في ثواني أوساعات معدودة. لقوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به، فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا، أخذناهم
بغتة، فإذا هم مبلسون.
فكل الأزمات المتتالية التي مرت بها الجزائر لها دليل قرآني، ابتداء من: انتفاضة ثمانية وثمانين، ومرحلة
الإرهاب المزعوم، سنين الجفاف، فيضانات عديدة وأكبرها طوفا باب الواد، الزلزال الأخير، والقائمة مفتوحة،
والله تعالى يقول: ولقد أخذناهم بالعذاب، فمااستكانوا لربهم، ومايتضرعون.
ومايؤسف له أن القائمين على الشعب الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، يقولون عن كل مصيبة انها
طبيعية، ويؤيدون في تخمينهم من قبل أيمة السلطة أو السوء إن شئت.
إن تهميش المصلحين الحقيقيين، وتغييبهم عن وسائل الإعلام، سواء كانوا جزائريين مثل: الشيخ سحنون رحمه الله
أو من خارجها، وما أكثرهم، مثل: عمرو خالد، الذين يقدمون تعاليم إسلامية قمة في الوسطية والإعتدال، تلك
التعاليم التي تنير طريق الإستقامة للأمة، وتبعدها من الإنحرافات التي ساهمت فيها وسائل الإعلام بقسط كبير
وهي عديدة، وتكاد لاتحصى، لأننا ارتمينا في أحضان الغرب، وسلكنا سبيله في كل شي تقريبا:فكل شيء مباح
باسم القانون:الربا، الخمر، الزنى، التبرج، الإختلاط، القمار، وأعظمها: حرية الإرتداد عن الدين، ويزعمون
أنهم مسلمون وليسوا بحاجة لمن يعلمهم دينهم، ولاحول ولا قوة إلا بالله.
التاريخ يسجل هذه المآسي، ويتحمل مسؤوليتها كل من كان السبب فيها.
فأنقذوا أنفسكم أيها المغرر بهم، كما كنتم تقولون إلى الإرهابيين. طهروا وسائل الإعلام من المنكرات والفواحش،
ما ظهر منها وما بطن. طهروا البنوك من الربا. طهروا السياسة من النفاق. أوقفوا النزيف المالي للزيارات
والجولات عبر العالم التي يقوم بها سيادة الرئيس، والذي يريد إعادة صورة ومكانة بلاده في الخارج. ولو أنفق
ربع ما صرف على تلك الخرجات في الإصلاح التربوي والخلقي، وأنزل الناس منازلهم من العلماء. لكان أنفع
وأجدى، ولعادت قيمتها أحسن مما كانت، لأنها كانت في مامضى حسب القول الشعبي: يامزوق من برا واش
حالك من داخل. وإذا لم يتخذ أي إصلاح في هذا الشأن، فإن تلك الأموال تعتبر عند مختلسة وحسابها سيكون
عسيرا عند الله تعالى.
اللهم اشهد، فإني قد بلغت.
رحم الله الشيخ | moussa يقول...
السلام عليكم
رحم الله الشيخ فقد جمع حوله العامة و الخاصة في حياته و مماته
قضية الحجاب | الحسن سرات يقول...
قضية الحجاب في فرنسا:
قطعة ثوب تغطي الرأس أم شجرة تخفي الغابة
الحسن سرات
المغرب
لا يمكن أن نفهم جوهر ما يجري هذه الأيام فوق الديار الفرنسية خاصة، وعلى القارتين الأوروبية والأمريكية عامة، من حملة إعلامية وسياسية واسعة ضد ارتداء الحجاب على أنه قضية خاصة بقطعة ثوب صغيرة تستر بها النساء والفتيات المسلمات شعور رؤوسهن فحسب، بل إن الأمر يتجاوز مجرد ثوب صغير إلى قضية أكبر من ذلك. وليست تلك القضية سوى الحضور الإسلامي في الغرب. لقد تجاوزت الحملة الثوب الرقيق إلى الإسلام دينا وحضارة وسياسة وتمثيلا، سواء في بلاده الأصلية، حيث انبجس نوره المبين ثم تمدد من جزيرة العرب إلى الصين شرقا وفرنسا غربا. أو في بلاد المسيحية والعلمانية كما واقع في هذا الزمان، لا يمكن أن نفهم جوهر الحملات المتتالية الموجات، إلا باستحضار الحضور الإسلامي القديم والحديث في قلب الديار الغربية، وليست قضية الحجاب مجرد قضية سترة رأس تغطي شعر المرأة المسلمة في المدارس والإدارات الفرنسية، بل هي الشجرة التي تخفي الغابة الكبرى. ما هذه الغابة إلا التدافع المتعدد الساحات والواجهات بين الإسلام والغرب: تدافع ثقافي سلمي أحيانا، وعسكري حربي أحيانا أخرى.
أسطورة بواتييه
بسرعة جنونية، ودون تريث ولا تعقل، تقفز إلى القشرة الدماغية معركة بواتييه الشهيرة كلما ذكر الإسلام في فرنسا، وينتصب الملك شارل مارتل بطلا فرنسيا ـ بل أوروبيا ـ دون منازع، بوقوفه حجرا محجورا أمام المد الإسلامي المغربي البربري، وإنقاذه أوروبا المسيحية من أن تصبح أوروبا الإسلامية، وهكذا تتقمص النفس ـ في هذا الزمان ـ أحداث قرون قد خلت من قبل، وتصبح باريس هي بواتييه اليوم وعلى عاتقها مهمة رد الغزو الإسلامي الجديد، لكن مع فروق كثيرة لا تسلط عليها الأضواء عن سابق عمد وترصد. وفي بعض الحالات يلبس "متطرفو العلمانية وحماة معبدها" بتعبير المؤرخ الفرنسي وعضو لجنة سطازي المكلفة بالنظر في "تطبيق أحسن للعلمانية" روني ريمون يسقط نظار العلمانية في التلبيس المتعمد فيخلطون بين الإسلام والمسيحية معتبرين كليهما شيئا واحدا: فهما دين والدين لا مكان له في العلمانية الفرنسية. ومعركة بواتييه ليست سوى أسطورة من الأساطير التاريخية التي صنعتها الكنيسة وضخمتها، ثم قامت الآلة الإعلامية ـ (الكنيسة الجديدة) بتثبيتها في الأذهان (انظر كتاب أستاذ التاريخ الوسيط بجامعة فلورانس الإيطالية فرانكو كارديني "أوروبا والإسلام". منشورات دار لوسوي ـ الطبعة الثانية يناير 2002 ص 14). لقد ذهب كارديني إلى أن هذه المعركة ليست حاسمة، ولم تضع حدا للامتداد الإسلامي التي اتخذ سبيلا ثقافيا واجتماعيا هادئا تمكن به من التغلغل في الأفراد والمجموعات. لكن أسطورة بواتييه لم يعد لها من بقايا سوى جانبها النفسي الرمزي، بعد انسلاخ أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، من الدين المسيحي، وفصله بعيدا عن الشأن العام، واضطهاد رموزه الخارجية وملاحقتها في مؤسسات الدولة العامة والخاصة. لقد تغيرت الصورة، وتبدل المشهد، بعد أن لم يعد الوازع الديني يحرك القارة العتيقة، بقدر ما أصبح تحركها الخريطة الجيوسياسية والاستراتيجيات المتوسطة والبعيدة المدى، في ظل احتكار الولايات المتحدة لقيادة الحلف الأطلسي، وإصرارها على إظهار الدافع الديني، بينما بقيت القارة العتيقة في الظل عارية من أية هوية ولا دافع، متذبذبة بين الانتماء التاريخي والواقع الحالي، وبالإضافة إلى رأي عام حيل بينه وبين المعرفة الكاملة بالعالم الإسلامي، وتولي الإعلام المغرض صناعة صور مشوهة مقلوبة لتحولات الإحياء الإسلامي، بالتمييز المصطنع بين مسلمين علمانيين ومسلمين متشددين.
صور استشراقية
استقبل الغرب عامة، وفرنسا خاصة، هجرة الإسلام إلى القارة العتيقة بذاكرة مشحونة بالمعارك الحربية والمواجهات السياسية بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي في حوض البحر الأبيض المتوسط مع أن الإسلام دين سماوي مثله في ذلك مثل الديانتين النصرانية واليهودية، ومع أن أوروبا كلها اليوم تعلمنت وأقصت الكنيسة ورجالها ولم يعد للدين أي وزن في قراراتها السياسية وأي مكان في دستورها المرتقب، وعلى الرغم أيضا من أن القارة العتيقة مدينة للمسلمين بنهضتها العلمية والثقافية عندما قام أتباع محمد عله الصلاة والسلام بنقل المعارف القديمة وبإبداع أرى جديدة ترجمت جلها إلى اللغات اللاتينية وشهدت على ذلك كل من روما وقرطبة. وبالإضافة إلى الذاكرة المشحونة تزاحمت في المنطقة الدماغية البصرية صور ذهنية سيئة للإسلام والمسلم. ومرة أخرى كان الإعلام المهيمن والاستشراق المتحيز وراء صناعة التحريف والتخويف.
في سنة 1989 قام معهد متخصص في إجراء استطلاعات الرأي (إيفوب) بتوجيه سؤال عن صورة الإسلام إلى كل من المسلين وغير المسلمين فكانت النتيجة متناقضة تماما: فقد ذهب الأولون إلى أن الإسلام مرادف للسلام والتقدم والتسامح، اعتبر الآخرون أنه دين العنف والعودة إلى الوراء والتزمت. وأعيد الاستطلاع في عام 1994 فلم تتغير النتيجة في شيء. لم يعد خافيا اليوم أن الغرب -تحت تأثير نظريات متطرفة- اتخذ من الإسلام خصما، إن لم نقل عدوا، غداة انهيار "إمبراطورية الشر السوفيتية"، فانتقلت الإمبراطورية الملعونة من اللون الأحمر إلى اللون الأخضر.
الهاجس الجزائري
الحالة الفرنسية لها علة أخرى في مواجهة الإسلام تتعلق بماضيها الاستعماري وما عانته مع المقاومة وجيوش التحرير، خاصة في الجزائر. وذلك ما سماه بعض المتخصصين بعقدة "ما بعد الاستعمار"، وتفسيرها أن فرنسا تحتضن مسلمين ذوي أصول جزائرية يذكرونها وهم على ترابها بهزيمتها وانهيار إمبراطوريتها الاستعمارية. فالهزيمة الفرنسية في الجزائر كانت سياسية أكثر من كونها عسكرية وتركت جرحا غائرا في الشخصية الفرنسية الوطنية (سيزاري: التمثلات الفرنسية للإسلام في كتابها "هل يجب الخوف من الإسلام؟"). ويكفي استقراء البرامج التلفزية الفرنسية خلال السنوات العشر السابقات لإدراك صعوبة تجاوز الذاكرة الفرنسية للهاجس الجزائري. ومن الطبيعي أن تتحفز النفس الفرنسية وهي تستقبل الجزائريين والمغاربيين القادمين إليها من المستعمرات السابقة، وتلجأ إلى التعبير ن الرفض بطرق ملتوية منها الحذر الشديد من الإسلام ولو كان فرنسيا، وتخشى ن فقدان الهوية الأصلية والانتماء، وترى في القادمين الجدد والدين الجديد تهديدا للجوهر والأصل. ولعل أقصى تعبير على ذلك هو مواقف وتصريحات الجبهة الوطنية التي يرأسها جان ماري لوبان وهي المواقف التي تلين قليلا لدى الأطراف الفرنسية الباقية وتتجنب التعبير المتطرف. وهناك تعبير آخر لهذا الشعور والهاجس الفرنسي يتمثل في موقف الحكومة الفرنسية من الأزمة الجزائرية غداة إعدام التجربة الانتخابية والانقلاب العسكري عليها بسبب الفوز الكاسح لجبهة الإنقاذ الجزائرية (الفيس) في سنة 1991، إذ أصبحت باريس حليفا واضحا للحكومة الجزائرية في مواجهتها للإسلاميين. و "الإرهابيين".
الإسلام في ديار العلمانية
لم يتجاوز الحضور الإسلامي في ديار العلمانية خمسين عاما من الزمان، تنقص أو تزيد قليلا، فقد توجه إلى البلدان الغربية أفواج من المهاجرين منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بحثا عن عمل يجلب عملة صعبة لبلدانهم الأصلية ويرفع مستواهم المادي والاجتماعي، أو سلوكا لطريق علم تجريبي أو إنساني ينفع النفوس والمجتمعات، أو هروبا من استبداد كالح الوجه واستحماء بالديمقراطية والحرية، أو ولوا وجوههم نحو الغرب سياحة في الأرض ونزهة يتوارى فيها سياح من نوع خاص عن عيون الإخوة المتدينين والمواطنين الفقراء. لكن الإسلام تحول من الجيل الثاني والثالث، من مهاجر غريب، إلى مواطن أوروبي يسعى إلى التخلص من جذوره الثقافية والسياسية الأولى، ليندمج في الثقافة الغربية والحياة السياسية العامة، وبذلك أصبح هذا الإسلام الأوروبي رقما صعبا داخل المعادلات الداخلية والدولية بالنظر إلى الصحوة الدينية المتزايدة للعالم الإسلامي، والنزعات التوسعية للولايات المتحدة، والصراع العربي الصهيوني حول فلسطين المحتلة والشرق العربي الإسلامي. وفي ظل هذه الأوضاع الدولية المتحركة صار المسلمون "الغربيون" بين كماشتي مراقبة مزدوجة، مراقبة دولهم الأصلية التي تخشى حرياتهم، ومراقبة الدول الأوروبية التي يعيشون بها وهي لا تريد أي مفاجأة ثقافية أو "إرهابية". أما على صعيد التحولات الذاتية الداخلية للمسلمين الأوروبيين، ولأنهم لأول مرة في التاريخ الإسلامي يصبح المسلمون أقلية في ديار الغرب على إثر هجرة اختيارية، فإن وضعهم الفريد هذا يجعل منهم طليعة رائدة في التثاقف والتعايش تحت ظلال علمانية تفرق بإصرار بين الدين والسياسة معتمدة في ذلك على قوانين تعود إلى العقد الأول من القرن العشرين، مثل قانون 1905 الفرنسي.
والوضع الفريد المشار إليها آنفا، جعل القادم الجديد (الإسلام) والأرض الجديدة (فرنسا) يدخلان في تحولات جديدة وولادات لم يسبق لها مثيل، فلم يقتصر التعديل والتغيير على الأجيال المسلمة المتلاحقة لتحافظ على الوجود، وتستنبت أشكالا إبداعية من التدين في مجال سياسي عام غير متدين، بل إن التغيير والتعديل أصاب مجمل المجتمع الغربي عامة والفرنسي خاصة. ولعل أهم تغيير جاء به الإسلام إلى عاصمة الثورة الفرنسية هو ما عبرت عنه الكاتبة المحنكة المنصفة جوسلين سيزاري بخلخلة التوازن بين المبادئ الثلاثة الكبرى للعلمانية "الوحدة الجمهورية" و"احترام التعدد الديني" و"حرية المعتقد" (انظر مقالها المنشور في شهرية "إيسيبري" حول الإسلام بأوروبا، يناير 1998 بعنوان: العلمانية الفرنسية والإسلام" ص 56 ـ 67).(انظر مقالها في ألترناشيف أنتيرناسيونال عدد شتنبر أكتوبر 2003 وفي لوفيغارو يوم 4 من شهر نونبر 2003.) أما الإبداع في أشكال التدين في قلب العلمانية الجزئية أو الشاملة ـ حسب تصنيف الدكتور عبد الوهاب المسيري ـ فقد ركز على كيفية المحافظة على جوهر الهوية الدينية، والالتزام الفرداني بالإسلام، دون التدخل في المجال السياسي العام أو زعزعة استقرار المجتمعات الغربية، وهو ما حافظ عليه المسلمون محافظة تامة.
الحضور الإسلامي الحديث في فرنسا لم يتجاوز نصف قرن من الزمان، ولكنه أيقظ المسيحية من جهة أولى وشعرت العلمانية تجاهه بشيء من التحدي، في وقت وصلت فيه فلسفة الأنوار والحداثة إلى الباب المسدود واتخذ التدين أشكالا جديدة استعرضها وحللها عالم الاجتماع فريديريك لونوار في كتابه الضخم "تحولات التدين" الصادر هذا العام. غير أن الحضور الإسلامي جاء ضمن رياح الصحوة التي هبت على المسلمين منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن. ومن هنا بدأت الأسئلة تتصاعد حول مكانة الدين في الدولة والمجتمع: هل استنفد اليد أغراضه وانتهى أمره؟ أم سيعود بقوة ليشمل المجال الخاص والمجال العام؟ وما العلاقة بينه وبين العلمانيات اليوم؟ هل تتسامح معه أم تحاربه؟ وهو هل يؤيدها أم يتحداها؟ هل يسددها أم يخطئها؟ هل يتخذ مواقف سياسية واقتصادية فضلا عن المواقف الاجتماعية والثقافية؟ أم يلتزم الحياد والانزواء؟
الحجاب: من 1989 إلى سنة 2003
قضية الحجاب التي تختزل قضية الحضور والمستقبل الإسلامي في فرنسا والغرب، شهدت شوطين كبيرين وساخنين، الأول عام 1989 والثاني عام2003، وبين الشوطين أوقات ضائعة لكنها داخلة في الحساب الزمني العام.
1989 سنة إسلامية
اعتبرت الكاتبة الفرنسية ميشيل تريبالات المؤيدة لمنع الحجاب في المدارس الرسمية سنة 1989بانها "إسلامية". وهذا عنوان فقرة من كتاب "الجمهورية والإسلام ل"ميشيل تريبالا" (مديرة أبحاث بالمعهد الوطني الفرنسي للدراسات الديمغرافية، وسبق لها أن كانت عضوا بالمجلس الأعلى للإدماج رفقة صديقتها جان هيلين كالتينباخ التي اشتركت معها في إنجاز الكتاب المذكور). وآخر سنة من ثمانينيات القرن الماضي اعتبرت إسلامية لكثرة قضايا الحجاب في فرنسا وأوروبا وتركيا. وتلك سنة التهبت فيها فرنسا وأوروبا بصدى الثورة الإيرانية وظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر وانفجار "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي وتحول كثير من شباب ضواحي المدن الفرنسية نحو الإسلام. وفي خريف تلك السنة تفجرت قضية الحجاب بفرنسا واحتلت كل شاشات التلفزيون الفرنسي رغم انشغال أكثر من 53% من الفرنسيين بانهيار حائط برلين وسقوط المعسكر الشيوعي وإسقاط الطاغية الشيوعي الروماني تشاوشسكو (22 دجنبر 1989). بدأ الانفجار في جريدة "لوكورييه بيكاريو" في الثالث من أكتوبر بعد أن أقدمت إدارة ثانوية "دوكريي" على طرد ثلاث تلميذات محجبات, لتتوالى الأحداث من بعد ذلك ابتداء من أسر التلميذات وانتهاء بسيدة فرنسا الأولى يومذاك "دانييل ميتيران" زوجة الرئيس المتوفى فرانسوا ميتران، مرورا بجمعيات مناهضة للميز العنصري وجمعيات مسلمي فرسا مثل التبليغ واتحاد المنظمات الإسلامية والفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا. ومنذ ذلك التاريخ وقضية الحجاب تسخن وتبرد حسب درجة حرارة الأحداث, إلى أن جاءت قضية تمثيلية المسلمين وتنظيم أنفسهم لتعيين مخاطب للحكومة. وما أن قبل المسلمون هذه الفكرة وتوجوا نحو تشكيل "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" حتى احتد النقاش من جديد وصوب الإعلام، المكتوب أكثر من غيره، النظر والكتابة نحو "الحجاب".
في مقال ظهر يوم 24 شتنبر في يومية "لوفيغارو" الفرنسية كتبت ميشيل تريبالا نفسها تشرح لماذا يحتد النقاش حول الحجاب الإسلامي بفرنسا أكثر من غيرها. وأوضحت أن الإجابة عن هذا السؤال مستحيلة من دون جولة تاريخية تعيد رصد المواجهة الحادة بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة وكيفية حلها. وقالت الكاتبة عن هذا الأمر: "أنجزت العلمنة بطريقة عنيفة وقوانين 1901 و1905 أبرزت معارضتها للكنيسة, فقانون 1901 يلزم الكنيسة بأن تحصل على موافقة من الدولة من أجل وجودها(...) ثم انتزع منها الإشراف على القوانين المدنية والمدرسة التي أصبحت ضدها فيما بعد" وإذا كان النزاع قد انتهى بين الطرفين وحل السلم فلأن الكنيسة أخذت بالضربة القاضية, وخضع الفرنسيون للعلمانية الغالبة وقوانينها, وتخرجوا من المدرسة التي تكفلت بهذا الأمر وأفرغت من كل مظاهر التعبير الديني.
وعلى الرغم من أن مجلس الدولة قد أصدر قرارا حول ارتداء الحجاب في المدرسة بعد طلب من رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق ليونيل جوسبان، فإن الباحثة تعتبر سلوك الوزير مناورة تجنب بها أن يكون في الصدارة، كما تعتبر قرار مجلس الدولة الذي أقر أن ارتداء العلامات الدينية لا يضر بالعلمانية في شيء قرارا يحرف العلمانية عن موضعها ومعناها. وتتحدث الكاتبة باسم الفرنسيين أجمعين معتبرة أنهم شعروا بالخيانة عندما حرف معنى العلمانية ليسمح لمظاهر التعبير الديني أن تحتل المجال العام والمجال المدرسي, وذلك ما استفاد منه الدين الإسلامي وحده، في وقت كانت فيه عملية استئصال التدين من المدرسة قد تمت على حساب الكاثوليكية. وتستحضر الكاتبة حيوية الإسلام وصحوته في مقابل حال الكنيسة المعلوم وتدرك أن الكفة مائلة لا محالة للأول، فتعبر عن ذلك قائلة بالحرف: "لا يفهم الفرنسيون لماذا طلبت منهم تضحيات كبيرة لما تعلق الأمر بالكنيسة، في حين لا يطلب الحد الأدنى من الإسلام عندما يأتي دوره. المبدأ الجميل للعلمانية الذي تربوا على احترامه لم يكن سوى وصفة لإسقاط الكنيسة ليس إلا".
وليست الخيانة مقصورة على مجلس الدولة في نظر الكاتبة، بل تتهم السياسيين أيضا بخيانة الفرنسيين بتخليهم عن مسؤولياتهم وتورد لهم مواقف وتصريحات دافعوا فيها عن حرية التدين أو اتخذوا موقفا محايدا.
وتعرب تريبالا عن تخوفها من تكرار ما حدث سنة 1989 وتتمنى أن يتغلب السياسيون على مجلس الدولة وألا يكلوا له النظر في النازلة من جديد، كما تخوفت من اللجنة الرئاسية المكلفة بمناقشة الموضوع من أن تخنق النقاش السياسي حسب تعبير الكاتبة. والحل في تقديرها هو توسيع النقاش حول الشخصية الوطنية الفرنسية وهضمها للعلمانية. وردت على الذين يقولون إن قانونا يمنع الحجاب سيكون تمييزيا ضد المسلمين لأنه سيطبق على الفتيات المحجبات فقالت: "العكس هو الصحيح. إذا كان المسلمون معنيين بقانون مثل هذا, فلأن كل الآخرين انتهوا إلى الاستسلام لقوانين اللعبة, وإذا ما تخلينا عن هذا ظلم عظيم للفرنسيين غير المسلمين الذين قبلوا الخضوع لهذه القاعدة العامة والتي لا يمكن أن يسثنى منها القادمون الجدد".
غير أن للقصة بدايات كانت منذ 1985 في "نويون" حيث ظهرت الفتيات المحجبات اللائي يرفضن دروس السباحة والرياضة والرقص، ثم تصاعدت في 1988 باكتشاف الانتماء الديني لعدة تلاميذ يتغيبون جماعيا عن أقسامهم بسبب العيد، وأخيرا انفجر المشكل عندما أجمع كل أعضاء مجلس إدارة ثانوية كريي على وضع حد لوضعية وصفت بغير المتسامح في شأنها، وطبقوا يومنا منشور 15 ماي 1973 الذي يمنع كل إعلان عن الانتماء السياسي والديني، وكذلك كل شكل من أشكال الدعوة في المؤسسات، ولما قامت الجمعيات المسلمة تحتج وتدافع عن حرية التعبير والتدين، اعتبرت مواقفها وتصريحاتها وحتى حضورها بمثابة "فتح إسلاميّ" للأرض الفرنسية، وتكاثرت الكتابات الصحافية والأكاديمية في هذا السياق، وتعتبر ميشيل تريبالا صاحبة كتاب "الجمهورية والإسلام بين التخوف والعمى" (بالتشارك مع جان هيلين كالتنباخ) نموذجا عن ذلك. ففي فقرة من كتابها حول الموضوع (فصل الحجاب والجمهورية) سمتها "فاعلون مسلمون جدد: الفاتحون" اعتبرت فيها الجمعيات والهيئات المسلمة المتدخلة مثل اتحاد المنظمات الإسلامية، والتبليغ واتحاد السباب المسلمين والفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا...) منظمات تسعى لأسلمة فرنسا وإدخال أهلها في الدين القويم (ص 192ـ 194). ولم تهدأ العاصفة إلا بعد أن رفعت القضية إلى المجلس الأعلى الفرنسي من لدن ليونيل جوسبان (الوزير الاشتراكي ورئيس الوزراء) لتتوقف الحملات والحملات المضادة.
سنة 2003 هي سنة الاعتراف الرسمي بالإسلام في فرنسا إذ تأسس فيها المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. المجلس الذي يعد المخاطب الرئيسي في قضايا المسلمين بفرنسا اجتهد وزراء سابقون في تأسيسه إلى أن كللت جهود وزير الداخلية الحالي نيكولا ساركوزي بالنجاح بعد أن استطاع جمع جميع المسلمين في هيئة واحدة تنطق باسمهم وتنظم أمورهم وتدافع عنهم وتحظى بالاعتراف الرسمي من لدن الحكومة الفرنسية. وبالموازاة مع مداولات التأسيس هبت حملة إعلامية جديدة حول هذا الأمر، وحول الحجاب الإسلامي من جديد. في هذا السياق الساخن شكل الرئيس الفرنسي لجنة سطازي، وإلى جانبها تشكلت اللجنة البرلمانية برئاسة رئيس البرلمان دوبري. اللجنة الأولى تشكلت من 20 من "الحكماء" وعملت لمدة 6 أشهر عقدت فيه 120 جلسة اجتماع. ويوم 11 دجنبر الأخير قدمت تقريرها للرئيس مقترحة عليه مجموعة من المقترحات حول الحجاب وحماية العلمانية وإدماج المسلمين. وكان الرئيس الفرنسي قد صرح في تونس يوم الجمعة 6 دجنبر بأن الحجاب يشكل عدوانا على العلمانية. ومن المنتظر أن تيخذ قرارا حول القضية يوم 17 دجنبر الحالي.
الحجاب: استغلال أم نضال؟
ذهب بعض المحللين والمراقبين إلى أن قضية الحجاب مفتعلة ليس إلا. واستند هؤلاء إلى معطيات لا يمكن تجاهلها، منها أن الأمر يتعلق بأقلية مسالمة لا تبحث سوى عن حقوقها وحرية التدين المكفولة بقوانين دولية وأوروبية، وأن المسار المنتظر لقانون –في حالة الموافقة على صدوره- طويل للغاية وله منعطفات مسطرية تستغرق وقتا ضروريا. كما أن المحللين ربطوا بين النقابات التعليمية وقضية الحجاب فتساءل الدكتور عبد الله على موقع "أمة كوم" عن سر سكوت الأطراف المتعلمنة في النقابات التعليمية عن مناقشة الحجاب مقابل إصدار القانون المانع في الوقت الذي كانت تتأهب فيه الأطر التعليمية لإضراب حول التقاعد عند بداية الموسم الدراسي الحالي. أما الاستغلال السياسوي فيتجلى في المنافع الانتخابية للأطراف المتدخلة في القضية ابتداء من الحكومة إلى الأحزاب المتنافسة، وانتهى إلى أن كل طرف يحاول تسجيل أكبر قدر من النقط وأن الحجاب أصبح قطعة انتخابية سياسية محضة لا علاقة لها بالعلمانية وحمايتها من قريب أو بعيد.
أي آثار مستقبلية؟
ربما كان القرار الفرنسي بمنع الفتيات المسلمات من ارتداء الحجاب مشجعا لبعض الدول العربية والإسلامية التي تمنع الحجاب في مؤسساتها وتحارب عقائد مجتمعاتها على المضي في هذا المنع، وربما كان اختيار الرئيس الفرنسي أن يعلن عن ميله إلى منع الحجاب في زارته لتونس مؤشرا على ذلك إذ عرف النظام التونسي بمحاربة الحجاب واضطهاد المتدينين والمتدينات. غير أن الاضطهاد في تونس والمنع في فرنسا لن يمنعا المسلمين في الدنيا بأسرها من الالتزام بأحكام ربهم واتباع أوامره واجتناب نواهيه مهما كانت التضحيات والتكاليف. ومن شأن مثل هذا القرار أن يزيدهم إصرارا على الاستمساك والمقاومة، وربما تجذرت بعض مواقفهم من فرنسا وتشددت أحكامهم في حقها بعدما كانوا يحسبونها صديقة لهم. ولاشك أن مثل هذا القرار لن يكون في صالح حوار الثقافات والحضارات وسيكون علامة سيئة تحسب على باريس التي لم تتأثر بأجواء الحادي عشر من شتنبر وحملة أمريكا على الإرهاب وانحرافا عن شعاراتها المرفوعة والمشهورة عن الحرية والإخاء والمساواة.
ومن الآثار المرتقبة لهذا المنع تزايد المدارس الدينية الإسلامية الخاصة وإقبال المسلمين عليها ليضمنوا لبناتهم حرية الشعائر الدينية، وذلك ما سوف يؤخر سياسة الاندماج التي راهنت عليها فرنسا منذ سنوات وجعلتها من أهدافها الكبرى، خاصة وأن المدرسة العمومية هي خير مجال وأكثره قدرة على تحقيق الاندماج مع المحافظة على مبادئ العلمانية والجمهورية.
في سنة 1989 يوم اندلاع الشرارة الأولى لقضية الحجاب كتب الأستاذ بورديو عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي المعروف أن قضية الحجاب ليست سوى ستارا يغطي قضية جوهرية هي هل تستطيع فرنسا وأوروبا أن تقبل القادمين من شمال إفريقيا وأن تدمجهم دون سلخهم من ثقافاتهم وديانتهم معترفة لهم بالمواطنة الكاملة والإنسانية المعتبرة في ظل شعارات الثورة الفرنسية "الإخاء والمساواة والعدالة". سؤال ما يزال مطروحا اليوم وغدا.
رحم الله الشيخ أحمد سحنون | مروان يقول...
هذه صورة أخرى للشيخ أحمد سحنون:

الشيخ علي بن حاج يشارك في حمل نعش الشيخ أحمد سحنون: