تصويت

ما تقييمك للموقع ؟
 

المتواجدون الآن

يوجد حاليا 144 زوار 
الشيخ محفوظ بقلم الغنوشي

الشيخ محفوظ نحناح معلم من معالم الطريق

بقلم : الشيخ راشد الغنوشي

محفوظ محمد نحناح

تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة لرحيل الشيخ محفوظ يرحمه الله عن دار الفناء إلى دار الخلود، تاركاً وراءه، ليس مجرد أسرة وأصدقاء يعتصرهم ألم، مع مرور الأيام تخف وطأته وينصرف كلٌّ إلى معتاد حياته، بل لقد خلّف الرجل الحريص جداً على أناقة مظهره العصري، وأشد من ذلك حرصاً على أناقة وتفرد عبارته وأسلوبه، خلّف وراءه نهجاً في الفكر والحركة، تولى ترجمته في حركة صاغها على عينه، وسط أمواج التاريخ العاتية التي كانت تعصف بالجزائر، وبخاصة خلال تسعينيات القرن الماضي، فكان الشيخ، الربان الماهر الذي يمخر بمركبته ومن عليها، تعتورها هوج الأمواج العالية تكاد تلقي بها على الصخور تفجرها تفجيراً، فكان همه الأعظم استبانة المسارب الآمنة المتعرجة، ليحمل نفسه وتلاميذه على السير وفقها، في تصميم عنيد على إنقاذ جماعته من كوارث الاصطدام، والجزائر من المحارق التي ورّطها فيها مغامرون دمويون من خبيث وساذج.
ورغم ما تعرض له خط السير الذي انتهجه وأصر عليه إصرار صاحب العقيدة على معتقده، من حملات نقدية بعضها صادر من أحبة مشفقين، وبعضها صادر من خبثاء متآمرين استئصاليين اهتبلوا الفرصة للانفراد بالدولة والمضي بكل إمكاناتها المادية والثقافية والاقتصادية والعنفية لاستخدامها معاول تفكيك وتدمير لكل إرث الإسلام بالبلاد وحضارته رغم كل ضغط وتهديد فقد مضى الربان على هدى ما رسم من خط سير، لو ألقيت عليه نظرة لألفيته جملة من المقاربات والخطوط المتعرجة الدقيقة تلتف حول الصخور البادية والمتخفية تحت الأمواج العاتية كان الربان على أتم الوعي بها ومواقعها وأخطارها.
وتكفي مطالعة سريعة في مخطط السير من خلال واحدة من الخرائط التي اختطها قلم الشيخ تمثل وثيقة مهمة تدرك من خلالها حراجة الموقف ودقة منعرجات الطريق. والوثيقة المشار اليها أحد كتب الشيخ يحمل عنوان: "معاً نحو الهدف". عرض فيها بالتفصيل أكثر من مائة مَعْلم متقابلة ترسم معالم طريق ما دعاه "الحركة الواعية".
وقد عرّف الحركة الواعية بأنها "تلك التي تنظر إلى الواقع بموضوعية، وتنظر إلى الذات بموضوعية وتستعمل أدواتها التغييرية بواقعية أيضاً، وتأخذ بعين الاعتبار ألوان النفسيات والأمزجة والمخلفات والتطلعات المستقبلية والتحولات التاريخية والتشكيلات السياسية، فلا تتبرم ببطء سقيم الفكر ولا تنزعج من مستعجل غشيت عينه الشبهات" (ص1).
"الوعي بالحركة هو تسييجها وحمايتها ممن يخطط لافتراسها أو مما يفقدها المناعة" (ص2).
وبعد تحديد دقيق لمواصفات الحركة الواعية حدد موقع الفرد فيها، وتصورها للعمل الجماعي المؤسسي، حدد موقفها من أنواع اللائكية "العلمانية المتطرفة".. وبعد ذلك رسم طريق سيرها في ضوء معالم دقيقة:
"الحركة الواعية بين المنهج الدعوي والمنهج الدموي".
"الحركة الواعية بين الفجر الصادق والفجر الكاذب."
"الحركة الواعية بين التهوين والتهويل".
"الحركة الواعية بين الانفعال والانضباط".
"الحركة الواعية بين السلطة والمعارضة".
"الحركة الواعية بين الملكية العامة والخوصصة".
"الحركة الواعية بين الظهور والضمور".
"الحركة الواعية بين الاستئصالية والأصولية".
"الحركة الواعية بين تصورين للتغيير"، شاجباً مواقف الذين يتصورون "أن عملية التغيير الواجبة شرعاً وسلوكاً تفرض أن تتحول الساحة الجماهيرية إلى برميل بارود لا يهدأ له حال حتى يثخن في الأرض ويحيلها خراباً يباباً: الاستقرار معدوم، الرؤوس مقطوعة، الجسور منسوفة، العشار معطلة، والبحار مسجرة، والدماء جارية، والفوضى على جميع الأصعدة عارمة والأرض محروقة والنجوم منكدرة والثقة منعدمة"(ص172).
"بعضهم يمارس هذا التصور عن قناعة عقدية يلبسه لباس الجهاد، وبعضهم يمارسه بتأييده المادي أو المعنوي لأنه يجد فيه متنفساً وشفاءً للغليل ورغبة في الثأر.. وهو تصور يقصي من ساحة الصراع أفكاراً أخرى، وكأن الساحة لم يولد فيها سوى الاستئصال أو التطرف أو الغلو الذي لا يكلف صاحبه سوى الاستشهاد أو الانتحار.
أما الشهادة على الناس فدونها خرط القتاد.. مع أن الساحة تتسع لألوان من وسائل التغيير المشروعة إلا أنها لا تنسجم مع ضيّقي الأعطان. ولقد كان نزوع السلطة إلى الانفراد وبالاً عليها. والحق أن الثمار اليانعة لا تأتي إلا عبر فكرة التعدد والتعايش، وهو ما تشهده الأنظمة المزدهرة والمستقرة.. ولذلك وجدنا أن الإسلام فتح نوافذ الرأي الثاني والمخالف من خلال الشورى الضيقة والموسعة، بل حتى مع المخالفين. وهكذا يدرك أبناء الحركة الواعية أن طريقهم ينطلق من تصور شامل لعملية التغيير العميقة وهم يسيرون هكذا معا نحو الهدف"(ص174 المصدر نفسه).
لقد أبحر الشيخ بسفينته وسط الأمواج العاتية وابتغى لنجاتها كل سبيل؛ غير مبالٍ بسخط هذا أو ذاك، مشدوداً إلى هدفه في الوصول بها إلى ساحل النجاة، خصوصاً أن مصير السفينة الوطنية ينعكس ليس على الحركة وحسب بل يشمل جملة المشروع الإسلامي بل الإرث الحضاري الإسلامي العربي المهدد بل الدولة جملة كانت في مهب العواصف، والرجل حريص كل الحرص لا على تفجيرها لأن قراصن استولوا عليها وإنما إنقاذها، والشيخ بهذا التصور المتوجس مما تجره الفتن من كوارث حسبما أفادته عبرة تاريخنا، يمثل امتداداً لإرث عُلمائي سني عريق في تغليب جانب الأمن والاستقرار وتجنب الفتنة، حتى مع تحمل ألوان من المظالم، لا تغلق الطريق نهائياً على محاولات الإصلاح الهادئ المتدرج عبر النصح والإرشاد، والتعويل على التربية بديلاً عن الثورات والانقلابات والمغامرات غير المأمونة، ولذلك كان المعلم النهائي لخط سير السفينة "الحركة الواعية" واقعاً بين "الصعود الوعر والسقوط الحر".
وسبيل استمرار الصعود وتجنب السقوط الحر عبر الاستعجال والمغامرة إنما هو التربية، تربية الأمة والحرص على صفها مرصوصاً. فوسط الرياح العواتي والفتن وأنواع البلاء لا يثبت غير أصحاب المبادئ. إن عواتي الزمن وما أكثرها لا يمكن أن يصمد لها إلا من كانت أرجلهم ضاربة في الأرض.
ومثل هؤلاء كمثل الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ففي كل الأحوال هؤلاء يحفظون الود والوفاء للجهة التي ربتهم، منفتحون على غيرهم في الأرض وفي السماء.
وإن مصلحة الإسلام ومصلحة الدعوة في طول الصبر على تربية الصف الصلب تربية عملية تنفذ إلى القلوب والأفكار وتنوع الأساليب وتتكيف بحسب مقتضى الحال، كالسنبلة قد تنحني ولكن لا تنكسر مستفيدة من سلبيات غيرها وإيجابياته.
إن الحركة بذلت وسعها وسط الأمواج العاتية والفتن الطامة أن تتقفّى خطى الرسالة الأولى وهي إقناع النفوس ودعوتها بالحسنى وتلطيف أجواء الرسالة أمامها وتحسين موقعها الأيديولوجي.
الحركة الواعية تدرك أن المعاناة والمصابرة وتحمل العقوق وهاضمي الحقوق شرط مجابهة التحديات درءاً لمفسدة السقوط الحر أو السهل. والتجارب لمن أراد قائمة، فلنسر معاً نحو الهدف"؟ (ص174وما بعدها، المصدر نفسه).
وهكذا، سواء عليك، أوافقت الرجل أم تباينت معه، فهو مستيقن بنهجه مرابط عليه واضح فيه، ماضٍ على بصيرة صوب هدف نهضوي حضاري إسلامي تعددي معلوم، ماضٍ إليه في تصميم لا يصرفه عنه صارف، عبر طريق مرسوم: مسار إصلاحي، محدد المعالم، عموده الفقري تربوي: كلمة طيبة ودعوة بالتي هي أحسن وصبر ومصابرة على وعورة الطريق، وتأكيد لسنة التعدد وحذر من منزلقات الاستعجال ومكائد الاستدراج إلى محرقة العنف ظالماً أو مظلوماً وإغراءات الانفراد، وهو نهج كما ذكرنا علمائي أصيل تولت جماعة الإخوان بقيادة الإمام الشهيد حسن البنا إحياءه وتطويره وتوسيع نطاق عمله واهتمامه، حتى استوعب هموم المجتمع والعصر في إطار منظور اسلامي واسع، غير أنه مهما اتسع ظل سداه ولحمته تربية الفرد والأسرة والمجتمع والأمة تربية عقدية ربانية تبقى نهج التغيير الأساسي وهدفه.
ولقد أمكن للشيخ المربي القائد السياسي أن يحفظ بفضل الله، وسط الأنواء، ليس جماعته وحسب، حتى غدت مكوناً أساسياً من مكونات الخريطة الثقافية والسياسية للجزائر، بل أيضاً أن يمنع أن يُختطف الإسلام من قبل جماعات التشدد أو يُنبذ ويُقصى ويُستأصل من قبل الاستئصال اللائكي، كما كان إسهامه معتبراً في حفظ كيان الدولة الجزائرية، ومنع اختطافها من طرف الاستئصاليين بادعاء انفراد الدفاع عنها يوم اهتزت الأرض من تحت أقدامها بأثر سهام الاستئصال من كل جانب.
رحم الله الشيخ محفوظ رحمة واسعة وجزاه الله عن الاسلام وأهله كل خير

 

 
RocketTheme Joomla Templates