رفـاق الســـوء رواية تربويـة كان صوته في الهاتف مرتجفاً وهو يقول : ـ خالد أريدك في أمر عاجل ، بل إن أمواج العبرات واضحة وهي تعصف بصوته ؛ فتخرجه عن هدوئه المعتاد . وقد اقترب من الخمسين ، عاش شطراً كبيراً منها يكرس جهوده لتربية أولاده الستة ، حتى دخل بعضهم الجامعة ، ومازال الآخرون في المدارس الثانوية والإعدادية . وكان يردد على مسامع زملائه كل يوم حديث رسول الله r [ إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ]([1]). فتح خالد باب بيتـه ليدخل صديقه ، ودهش لما رأى ( أبا حسان ) وقد احمرت عيناه ، وانحدرت الدموع تبلل لحيته الكثة المهذبة ، واختنق صوته فلم يستطع أن ينطق بكلمة واضحة . ـ خيراً يا أبا حسان ، خيراً إن شاء الله ، ماذا جرى ؟ وجاء صوت أبي حسان من قلبه المكدود والمفعم بالألم : ـ ولدي ، يا خالد ، ولدي عمر،لم نـره منذ ثلاثة أيام ، ثم غلبته الدموع فانحبس صوته. ـ عمر شاب يا أبا حسان ، وهو شاب مؤدب ومتدين لا تخف عليه ، هيا اجلس وخذ كأساً من الماء ، ثم نفكر سوية وبهدوء ، ولن أتركك حتى تجده سليماً إن شاء الله تعالى . ومرت سلسلة سريعة من الذكريات ترسم لخالد ملامح شخصية عمر ، الطالب المثالي الذي درس عنده في العام الماضي ، كان من الطلاب المتفوقين ، وكان قليل الاختلاط بالآخرين ، حتى الطلاب الملتزمين بدينهم ، فقد كان متحفظاً من الجميع ، وسرعان ما تذكر خالد أن عمر في الثالث المتوسط هذا العام ، أي بداية مرحلة الأقران ، المرحلة الحتمية التي لابد أن يمر بها الفرد خلال مراحل نمـوه النفسي والاجتماعي . ولم يقطع هذا الشريط سوى وجه أبي حسان الذي يبعث على الأسـى والألم ، فقال خالد : ـ متى غادر البيت ؟ وإلى أين ؟ ومـع مـَن ؟ ـ سافر يوم الخميس صباحاً مع بعض الأولاد من أقاربه ، قال لي : سنذهب إلى العمرة ، ونعود مساء غد (الجمعة ) ، وهانحن بعد ظهر يوم السبت ولم يعد أحد منهم !!! ـ هل سألتم بعض الأقارب في مكة لعله رآهم ؟ ـ سألنا ، وكان الجواب : أنه لم يرهم أحد ولم يسمع عنهم أحد . ـ تأخروا يوماً واحداً ، والغائب حجتـه معـه يا أبا حسان ، لا تقلق سوف يعودون بعد قليل سالمين غانمين إن شاء الله تعالى . و ... وقطع حديثهم رنين الهاتف فأسرع خالد وأمسك السماعة ، فسمع صوت أحد أولاد أبي حسان يسأل عن والده ، فقال فرحاً : ـ وصل عمر ، بشـر يا ولدي ؟ ولكن صوت المتحدث لم يكن منبئاً بما يـسر ، بل يحمل ألماً وقلقاً كبيرين ، ثم قال : لو سمحت أكلم بابا إذا كان عندكم ؟ أعطى خالد السماعة لزميله وتسمرت عيناه على ملامح وجهـه . ـ الشرطة ..!!! ماذا يقولون ؟ ـ قالوا : ابعث والدك يقابلنا في المخفر ..!!! وضع السماعة بعد أن امتلأت بنحيب ولده ، فماذا ستقول لهم الشرطة يا ترى !!؟ أهو ميت بعد حادث في الطريق ؟ أم هو في المستشفى مسجى في العناية المركزة ؟ شـد أبو حسان نفسـه حتى وقف حائراً ، فأسرع خالد ومشى معه خارج البيت قائلاً : ـ سلّم الأمور لله يا أبا حسان ، وكاد أن يختنق صوت خالد بآخر كلمة نطقها ، لذلك لزم الصمت ، فسارا معاً إلى سيارة خالد ووصلا إلى المخفر ، وبعد لحظات كان الضابط المناوب يرجو خالداً أن يتركهما قليلاً ، خرج خالد من المكتب إلى الصالة ، وما هي إلا لحظات حتى سمع ارتطام جسد أبي حسان بالأرض ؛ بينما يحاول الضابط المناوب مساعدته . دخل خالد فرأى أبا حسان في غيبوبة ، وقد أسرع الضابط إلى الهاتف يطلب الإسعاف ، وبعد لحظات حاول كل منهما مساعدته على التنفس ؛ ثم وصلت سيارة الإسعاف فنقلته إلى المستشفى العام . التفت خالـد إلى الضـابط المناوب الذي رافقهما حتى اطمأن على الإجراءات اللازمة وقال : ـ هل حصل مكـروه لعمر ؟ حادث سيارة في الطريق ؟ أم ماذا ؟ فأجاب الضابط وهو يزفر زفرة حـرى : ضبط عمر مع رفاقه يتعاطون المخدرات في البر يـوم الخميس الماضي...!!!! . ما أن لامست هذه الكلمات ذهـن خالد حتى كادت الدهشة أن تذهب بوعيـه ، فراح يتمتم بغير وعي : ـ عمر !!! غير معقول أبداً ، عمر طـالب مؤدب ، مـحافظ على دينـه ، طـالب متفوق ، يهتم بـه والده كثيرا ً . * * * * * ومرت الأيام فتحسن أبو حسان قليلاً ، وسمح له الطبيب المعالج بالخروج على الدراجـة ؛ ليزور عمر في السـجن ، وأصر خالد على مرافقتـه على الرغم من محاولة أبي حسان أن لا يذهب معهم ، إلى سجن المخدرات ، يالـه من عار كبير ، كيف يراه الناس بلحيتـه وهيئتـه ، ومعه خالد المدرس مربي الشباب ، كيف يراهم الناس ذاهبين إلى سجن المخدرات !!؟ وبعد ... كان اللقاء المـر ، والصورة المؤلمة لعمر بثياب السجن ، حليق الرأس ، يبكي كطفل صغير وهو يدفن رأسـه في صـدر والده ، بعد أن قبل يـديـه وقدميـه ثم قال بصوت ممزوج بالبكاء : ـ كنت أرغب أن تكون لي ( شـلة ) مثل غيري من الشباب ، ولما دعوني إلى رحلة اقترحت أن تكون رحلة عمرة ، فرفضوا في البدايـة ، ثم وافقوا وقررنا السفر للعمرة ، وفي الطريق جلسنا في إحدى الاستراحات نتناول الطعام ، وما أن شربت الشاي حتى شعرت بنعس عجيب ، وأحلام أشد عجباً ، وعندما كنت أفيق بين الفينة والأخرى فأرى رفاقي في حالة يرثى لها ، ما كنت أصدق ما أراه ، وما كنت أعرف ماذا أفعل ، وكيف الخلاص ، وماذا حل بي وبرفاقي ، ولماذا لا نتابع السـفر إلى مكـة !!!؟ وما دريت إلا ورجال الشرطة يمسكون بنا ،ويقيدونا ، ثم أحضرونا إلى قسم مكافحة المخدرات ، وعند التحقيق معي أقسمت لهم أنني لا أعرف المخدرات ، ولم أتناولها ، ولكنهم لم يصدقوني وقال لي الضابط : ـ نتائج المختبر تقول أنكم تعاطيتم المخدرات ، كلكم والكمية التي تعاطيتها أنت قليلة جداً ، ويبدو أنها المرة الأولى ، وإذا كان القانون يحبس زملاءك عشر سنوات ، فإنه يحبسك ثلاثاً فقط ، لأنها المرة الأولى . وعندما صرخت من الغضب وقلت له : ـ ما ذنبي أنا ، يبدو أنهم قدموها لي دون علمي ؟ فقال الضابط بحزم وهو يـدق بيـده منفعلاً : ـ ذنبـك يا عمر أنك مشيت معهم ، وكان عليك الابتعـاد عن رفاق السـوء والمخدرات . تعليق تربوي : يتضح من هذه القصة أن ( الشـلة ) أو جماعة الأقران مرحلة ضرورية وربما ( حتميـة ) يمر ها كل إنسان في مرحلة المراهقة ، والأب الحصيف المطلع على مبادئ التربية وعلم نفس النمـو ، يضع ولده ( بطريقة غير مباشرة ) في شـلة حسنة ، قبل أن يضع الولد نفسـه في شـلة سيئة ن فتفسـده وتضيع جهود البيت خلال مرحلة الطفولة ... وأفضل طريقة لوضع الولد في شلة حسنة وصالحة ، إلحاقه بالمخيمات والمعسكرات الاسلامية التي يشرف عليها مربون مسلمون .... ملاحظة هذه القصة جعلتها مقدمة لكتابي : كيف نحمي أولادنا من رفاق السوء والمخدرات ... ومن يريده يطلبه مني لأرسله له عبر الايميل مجاناً .... الدكتور خالد أحمد الشنتوت [1] ـ مسلم ( 1631) في الوصية ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته .
|