المتواجدون الآن
يوجد حاليا 34 زوار
|
تسابقتِ القواعدُ الجوية في إكمال جاهِزِيَّتِها، كما تسابقتِ الرَّاقصاتُ في التَّوَدُّدِ إلى (لطفي حبيب)، وما إن اكتملتْ جاهزيةُ القواعد الجوية حتى ظفرت (سهير زكي) بلقبٍ من المفتش العام كانتْ تَعتَزُّ به وتشمخ رأسَها عالياً أمام الراقصات، وهو لقب (راقصة السلاح الجوي المصري)، وَأُلصِقَتْ عشراتُ الصور لها على جدران نادي الضباط في قاعدة أنشاص الجوية، حتى بادر بعضُ الطيارين فأطلق اسمَها على طائرته تَبَرُّكاً بها!.- بَقِيَ ثلاثة أيام للحفلة. قال أحدُ الطيارين الصغار وهو يقفز فرحاً كطفل.- هل عرفتَ نُجومَها ؟ قال آخر.- (سهير زكي) وفرقتها، و(شريفة فاضل) وفرقتها، و(حلومة) طبعاً.- لكن نحن الصغار مالنا دور.- لا ، لقد سمعتُ أنهم سَيُحضِرون عدداً كافياً من الفنانات والراقصات، لا تنسَ أن مبدأ تكافؤ الفرص من أهم مبادئ الثورة.- وضباط الصَّفّ ؟- سَيَصرِفُونَهم إلى الحراســة والمناوَبـة، لأنه لا يجوز أبداً أن يَلهُوَ الضابط أمام مَرؤُوسيه.- وَمَن يَقُوم بالخدمـة ؟- سَيَأتون بعُمَّال مدنيين من الفنادق. * * * بدأ وصولُ الضيوف ظُهر الخميس، بعضهم يَصِلُ جَوّاً من القواعد البعيدة، والبعض برّاً، والتقى الزملاءُ ليُعيدُوا أيامَ الكلية الجوية وحكاية المستجدّ والمتقدم، وكانت طائرةُ المفتش العام بصحبة الفريق (لطفي حبيب) آخرَ ما وصل، حيث استقبلهما قائدُ قاعدة أنشاص الجوية، مع حرس الشرف وجوقة الموسيقى. ونزل (لطفي حبيب) يَمُدُّ قامته الطويلة عندما يَرُدُّ على تحيات كبار الضباط الذين اصطَفُّوا لاستقباله، بينما وقف (آرام) ينظر إلى جمال الترتيب والحركة عند حرس الشرف. دخل المدعوون قاعةَ الطعام حيث مُدَّتْ أصنافُ الأطعمة وباقات الزهور تحت إشراف مهندسي الديكور، وتنافستْ كؤوس الشراب بسيقانها الممشوقة كتنافُسِ المَدعُوَّاتِ في الخضوع بالقول وَتَكَسُّر الصوت في جرس الكلمات الفرنسية وتمايل الأجساد كالأفاعي الماسونية.- لا أرى الطعميةَ بين هذه الأصناف. قال أحدُهم ضاحكاً.- الطعمية مُنعَتْ من دُخول نادي الضُّباط لأنها قُوتُ الشعب، ولا يجوز أن نأكلَ قُوتَ الشعب. أجابه آخر، وساد الضحكُ.- أمَّا هذه الأطعمة فإنها أجنبية، لذلك سَنَفتِكُ بها، ونَنقَضُّ عليها بلا رحمة.- هل تَرَى اللحمَ المحمر؟ إنه يهودي، لذلك سأمزِّقُه بأسناني. ثم رَفَعَ (صدقي) الكأسَ بيده، فرفع الحاضرون كؤوسَهم وأصغوا له وهو يقترب من مكبِّر الصوت:- بِصِحَّـة رائـد القوميـة العربيـة. وَدَوَّى تصفيقٌ حادٌّ ثم رُفِعَتِ الكؤوس، وقال ثانيةً:- كأس الأمـة العربيـة. ثم تلاه (آرام) فقال:- بصحة نســورِنا أبطالِ الميج. وتتالَتْ الكؤوس، و(سهير زكي) تتمايل، ويمسح ثوبها ثياب الجنرال. الرقص والغناء على الأنغام، وتصفيق الحاضرين، بعد أن تفرَّقَتِ المدعُوَّاتُ بين الحاضرين حسبَ توجيهات مهندسي الديكور، واختلطت الأصواتُ بالضحكات على مختلف الموجات، وراقصة هَزِّ البطون تهتزُّ على المسرح، فَتَهتزُّ أدمغةٌ كبيرةُ الحجم يَحسبُها الناظرُ رؤوساً رُكِّبَتْ فوق أكتاف تناثرتْ عليها الطيورُ والسيوفُ والنجوم، وتنطلق ألسنةُ الطيارين تَصِفُ المشهدَ الذي بدأ يَزِيغُ أمامَها وسط تراقُصِ السرابِ، فيقول أحدُهم:- تشكيلٌ من طائرات الميراج، تقودها فانتوم. فيجيب آخر:- بل تشكيل من طائرات الميج تقودها ميج 21. ثم ترتفع الأَكُفُّ تُصَفِّقُ مع النَّغم والإيقاع. في صباح اليوم التالي استيقظ (آرام) يُراجِعُ نجاحَهُ ليلةَ أمس، ويضع المُسَوِّغاتِ لِتَكرارها حتَّى تُصبِحَ عادَةً شهريةً لمصرَ كُلِّها، أو لقوَّاتها المسلَّحة، وإن لم يكن فَلِسلاح الجوِّ المصري على الأقل. وكان ذلك، إذ أصبح صغارُ الطيارين ينتظرون موعدَ الحفلة بفارغ الصبر، ليلتقوا بالكبار وينافسوهم فيما هم فيه من الضلال والفسق، وتسابقتِ الفناناتُ والراقصات إلى صالات القوات المسلحة، يُرِدْنَ رِضا (آرام نوير) المفتشِ العام لسلاح الجو المصري، فتنهالُ عليهنَّ مزاريب المالِ والشهرة، وارتفعتْ مكانةُ (آرام نوير) في قلوب كبار الضباط والمسئولين الذين أصبح يحضر لهم نصيبَهم الخاصَّ من أوربا على متن طائرات السلاح الجويِّ خاصة، ولو أدَّى الأمرُ إلى إرسال طائرة لتنقل (سوزي) أو إحدى وصيفاتها من باريز إلى (صدقي) وأترابه. وزاد عددُ الفنانات في مصر، لأن أموالَ (آرام) لا تنضبُ، بل تنهمر غزيرةً وتزداد غزارةً، وتربَّع الفنانون والفناناتُ على قِمَّةِ هرم المجتمع المصري، بعد أن أخلاها الباشواتُ الذين دمَّرتهم الثورة المصرية، وأصبح حَيُّ الزمالك ملكاً للفنانات والفنانين الذين احتلَّتْ أسماؤهم وصورُهم الصفحاتِ الأولى من المجلاَّت والصحف، تنقُلُ أخبار طلاقهم وزواجهم، وأخبار كلابهم وقططهم، وكم تستهلك في اليوم من اللحم الأحمر. * * * كانت تلك الحفلاتُ في عام 1965م، واستمرَّت حتى ليلة الخامس من حزيران 1967م، وفي هذه الفترة ازدهرت حياةُ الفنانات والفنانين وكلابهم وقططهم في مصر، وكذلك كبار الضباط والفراعنة الجدد، ووصلت حياةُ معظم الشعب المصري إلى أدنى مستويات الحياة البائسة، بل كان الألوف منهم يتمنون الموتَ الذي بَخِلَ به قادةُ الثورة عليهم، دعونا نستمع إلى أحد نُزَلاء السجن الحربي عام 1965م، في قضية الإخوان المسلمين في تلك السنة، وهو يُنقَلُ من سجن أبي زعبل إلى الحربي، بعد أن قضى فترةً في سجن القلعة، الذي جاء إليه من سجن المباحث العامة، ثم استقرَّ أخيراً في ليمان طرة، يقول: "... وَدَّعني كلُّ مَن في العنبر في أبي زعبل، وداعَ شخصٍ يُساقُ إلى الموت، عندما عرفوا أنني ذاهب إلى السجن الحربي، والأمر الذي أفزعني هو أنني رأيتُ الجلاَّدين يرقُّون لي، وينظرون إلى الذَّاهبين للسجن الحربي نظرةَ شفقة، على الرغم من قساوة قلوبهم، أي أن ما يدور في الحربي أثارَ الشفقةَ في قلوبٍ متحجِّرة، وُضِعنا في قيد من حديد كل اثنين معاً، ثم ربطوا القيدَ في جنزير طويل، وعصبوا أعيُننا، في جَوٍّ من الرَّكلِ والرَّفسِ والسَّبِّ القبيح، وبعد أن مشتِ الشاحنةُ، قال أحدُ حُرَّاسنا: سيكون حظُّكم من السماء لو نزلت الشاحنةُ في الترعة ومتُّمْ كلُّكم. ودعونا الله أن يستجيب... ولما وصلنا رفعوا العصابات عن أعيننا، وكانت حفلة الاستقبال، وهي تقليد من تقاليد الحربي، حيث ضربونا ضرباً مبرحاً كاد يودي بحياتنا، ثم وَجَّهونا للحائط عُراةً بلا ثياب، وجاءوا بالكلاب المفترسة التي تلعق دماءنا التي تسيل من الجروح، كنا عشرين نزيلاً جديداً ذلك اليوم، أتينا من أبي زعبل، فأحضروا لنا خمسين جندياً يتناوبون علينا الضربَ والصفع المبرح المميت، وكان يقفُ بجواري شيخٌ عجوز مُحَطَّم لم يحتمل الصفعَ فسقط على الأرض، ووجدتُ نفسي أنحني إليه وأواسيه وقلبي يتمزَّق، والرجل العجوز يرسل أنيناً ويتوسل ثم.. سكت إلى الأبد، رحمه الله. لذلك أخرجوني من الصَّفِّ وضربوني حتى فقدتُ الوعي، ولَمَّا أَفَقتُ وجدتُ نفسي ضمنَ كومةٍ من لحم زملائي، والكلابُ تَلِغُ في دمائنا بشراهة ووحشية، وكم نالت الكلابُ من لحومنا ذلك اليوم. وفي المخزن رقم (6) حُشِرَ خمسةٌ وأربعون منَّا في حجرة أبعادها اثنين في ثلاثة، كانت تفوح منها رائحةُ البول والبراز والصديد، وتنطلقُ منها الأنَّاتُ الخافتةُ المكتومة، فالتعليمات تَقضِي بعدم صدور أي صوت، وإلاَّ فسوف تدخل الكلاب الجائعة التي تثيرها رائحة الجروح، ولقد دخلنا المخزنَ وليس فينا واحد إلاَّ وبه جروح تسيل منها الدماءُ بلا توقُّف. فُتحَ البابُ وصاح جنديٌّ: مَن يريد الذَّهابَ إلى دورة المياه؟ وتشجَّع أحدُنا وكان لواءً في الجيش وطلب الذَّهابَ إلى المرحاض، فأخرجه الجنديُّ بعد أن مَرَّ على جُثثِ زملائه المُكَوَّمةِ دون ترتيب، وأمام باب المخزن ضربَ هذا اللواء ضرباً موجعاً، ثم أتت الكلابُ ونهشت من لحمه أمامنا، ثم أَلقوهُ في بئر، وقبل أن يغرق أخرجوه وأدخلوه إلينا يقطر ماءً ودماً، وتركوه يرتجف حتى جفَّتْ ملابسُه، وما كان من الرجل إلاَّ أن تَبَرَّزَ وبالَ على نفسه وهو بيننا، وصارت رائحةُ اللواء تزكم الأنوف... وفي هذه الليلة المباركة شربتُ البول لأول مرة في حياتي بعد أن كدتُ أموت من العطش... ثم فُتحَ البابُ وَنُودِيَ على اللواء مع مطلع النهار، وأعادوه يحمله أربعةٌ من الجنود، وقد تمزَّق جسدُه من السياط، وأكلت الكلابُ من لحمه، وكانت ملابسُه غارقةً في الدماء، كان جسده كلُّه جرحاً غائراً ينزف دماً من كل مكان، ومع أناته الخافتة أرسل اللواءُ صرخةً عظيمة خُيِّلَ إلَيَّ معها أن جنبات السجن قد ارتَّجَتْ، ثم سكن إلى الأبد رحمه الله. وكانت خسائرُنا في هذه الليلة وحدَها اثنين من القتلى، وأكثر من أربعين جريحاً من أساس خمس وأربعين في المخزن (6). ثم رأيت مجموعةً من الجنود تنهال ضرباً على شيخ وهو يصرخ ويستغيث، ثم سكت الشيخُ بعد أن بحَّ صوتُه، وظلت يداه مرفوعتين إلى السماء الصافية، وعلى الجدار المواجه صورتان بالزيت لعبد الناصر وعبد الحكيم عامر. جاء (الروبي) بسيل من الشتائم يحمل وعاءً قذراً أعطانا منه قرصاً من الطعمية لكلِّ واحد، وخمسة أرغفة للخمسة والأربعين معتقلاً، وكوباً واحداً من الشاي للجميع. فُتِحَ البابُ وقَذَفوا لنا معتقلاً جديداً عائداً من التحقيق بعد علقة تُركَ بعدَها في العراء يومين، فجفَّتْ جروحُه وتقَيَّحَت، وهبَّتْ منه رائحةٌ كريهة كأنها صادرة من قبر، وتكوَّم الرجلُ بيننا وهو يصرخ: رجلي يا ناس.. الحقوني يا ناس.. النار.. النار.. حاموت.. ألا يوجد فيكم مسلم؟ والله ما أعرف حاجة عن الإخوان.. الله يلعن السياسة.. يا ناس أنا عربجي.. واحد يطفي النار اللي في رجلي. كانت قدمُه اليُسرَى ملتهبةً وممتلئةً بالصديد، ولم نكن نملك إلاَّ الدعاء له، ثم فعل شيئاً عجيباً، رأيناه يتبرَّزُ ويدهن رجلَهُ ببرازه، عَلَّهُ يُطفئُ نارَها المستعرة، ولَمَّا لم ينفعه ذلك، جُنَّ وأكل بُرازَه، وصرخ صُراخاً عالياً، ثم صار يُنادي زوجتَهُ وأولاده بأسمائهم ويطلب أن يُسامحوه ويغفروا له، ثم اختَلَجَ جَسَدُهُ وأسلم الرُّوح، كان ذلك في الليل، وفي الصباح وَجَدْنا على وجهه ابتسامةً تهزأ بعبد الناصر وزبانيته، وتدلُّ على رضاه بعد الموت. وفي هذه الليلة كان جوفي يحترق من العطش، واضطررت لشرب كمية كبيرة من البول الذي كنا نجمعه في أوعية المطاط الموجودة في المخزن. قَضَيتُ عاماً في السجن الحربي لم يتركني الموتُ لحظةً واحدة، بل كنتُ أُواجِهُ كلَّ لحظة، وكانت أكثر اللحظات أمناً تلك التي يُقفل علينا بابُ المخزن رغم الرائحة الكريهة المنبعثة من البراز والبول والصديد". * * *(6) حرب التحرير الشعبية، هذه اللازمة كانت تُرَدِّدُها إذاعةُ دمشق عشرات المرات في اليوم الواحد، ولا يجرؤ مسئولٌ - كبيراً كان أو صغيراً - التحدثَ أمامَ الجمهور إلاَّ ويكرِّر هذه اللازمة، حرب التحرير الشعبية عن وعي أو غير وعي، ففي حرب العصابات الطويلة التي يقوم بها الشعبُ يقلق المستعمر ويضطر إلى الرحيل، تماماً كما حصل في الجزائر عندما قامت ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م ضدَّ حلف الأطلسي كله، مما أنهك فرنسا واضطرها للانسحاب عن أرضه، بعد سبع سنوات ونيف من الحرب، واستقَلَّت الجزائر بعد أن قدمتْ مليوناً ونصف من الشهداء رحمهم الله. وقد انطلقت الرصاصةُ الأولى من منظمة فتح الفلسطينية كبداية لحرب التحرير الشعبية في الفاتح من عام 1965م، وكانت حدودُ الأردن وسوريا منافذَ للفدائيين، يضربون اليهود ثم يعودون إلى قواعدهم، وقد بَثَّتْ عملياتُهم الرُّعبَ والقلق والذعر في قلوب اليهود، وصار اليهودي يتوقَّع وجودَ الفدائي في الحافلة أو النادي أو أينما ذهب وحَلَّ، وقامت هذه العملياتُ بِكَبحِ جماح الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خاصة من أوربا وأمريكا، وكانت الضفة الغربية آنذاك تحت إشراف الحكومة الأردنية، والضفة أعظم منطقة لإقامة قواعدَ سريةٍ للفدائيين، حيث تشكِّلُ حدوداً طويلةً مع العدوِّ يسكنُها الفلسطينيون، وقد أقلقتِ اليهودَ حتى اضطروا للهجوم في وضح النهار على قرية السموع في نوفمبر 1966م بالدبابات والطائرات وفصائل المشاة. * * * كان الفلسطينيون يُنَفِّذُون حربَ التحرير الشعبيةَ بأرواحهم، وكانت الأردن تتلقَّى ضربات اليهود الانتقامية، وكان النظامُ البعثيُّ السوري يملأ أبواق الإذاعة وصفحات الجرائد اليومية بحرب التحرير الشعبية، ويقول فيها: إن العرب لا يخافون أمريكا لأن حرب التحرير الشعبية تهزم أمريكا كما هزمتها في فيتنام. وكانت سـوريا هي الـمحرضة على الحرب، فقد أدلـى وزيـر الدفاع السوري وقائــد سلاح الطيران اللـواء حافـظ الأسـد بتصريح لصحيفـة الثـورة السورية يوم (20 /5 / 1967م ) جاء فيه : ( .. إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الاجراءات الكفيلة بتنفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل تردها إلى صوابها ... إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان . إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات المسلحة السورية أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان، وإنما للمبادرة في عملية التحرير ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي إننا أخذنا بالاعتبار تدخل الأسطول السادس الأمريكي وإن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة، وهناك إجماع فـي الجيـش العـربي السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية . وإن سلاح الجو السوري تطور تطور كبيراً بعد ( 23/2 /1966م ) من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات، وهي من أحدث الطائرات في العالم، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب. وفي يوم 7 أبريل (1967م) الذي يحتفل فيه البعثيون بعيد تأسيس حزبهم اخترقتِ الطائراتُ الإسرائيلية الأجواءَ السورية، وحلَّقَتْ فوق العاصمة دمشق، وأسقطتْ سِتَّ طائراتٍ سورية، رُقِّيَ على إثرها (مردخاي هود) قائدُ سلاح الجَوِّ الإسرائيلي إلى رتبة جنرال. أما سوريا فاتخذت ذلك ذريعةً لِتُعلن أنها في قلب المعركة وحدَها، تشير إلى عبد الناصر وتغمزه لأنه يضع قوات الأمم المتحدة بينه وبين العدو، حتى زاد الغمزُ واللمزُ في عبد الناصر الذي رَكِبَ رأسَه وأمر بسحب قوات الطوارئ الدولية، واحتلَّتِ القواتُ المصريةُ مواقِعَها في سيناء ([1])، ونشطت البواخرُ المصرية في إعادة الجنود المنهكين المهلهلين من اليمن إلى سيناء. (وأرسل عبد الناصر قواته في صورة مظاهرة علنية لدرجة أنها اجتازتْ شوارعَ القاهرة في وضح النهار إلى سيناء، والعلنية هذه مقصودة لإشعار العالم أن هناك أزمة، ومن المستحسن تَدَخُّل الأطراف الدولية للحيلولة دون هجوم إسرائيل) ([2]). * * * وبات من المؤكَّد أن إسرائيل تُعدُّ لهجومٍ على سوريا قد تَصِلُ فيه إلى دمشق، لذلك سارع أزلام النظام الأسدي إلى عبد الناصر، وتظاهروا بنسيان خلافاتهم معه من أجل عقد اتفاقية الدفاع المشترك، كما حضر الملك حسين إلى القاهرة من أجل تصفية الأجواء العربية، ومن أجل معاهدة الدفاع المشترك اضطر عبد الناصر وتحت إلحاح النظام السوري إلى سحب قوات الطوارئ، ونشر القوات المصرية في سيناء بعد سحبها من اليمن. * * * عندما مالت نسمات أيار (مايو) إلى الدفء، أيقن العربُ أن إسرائيل تعد لهجوم تطمع من خلاله في التوسُّع والاستيلاء على أرض جديدة، لذلك تَمَّ الاتفاقُ على أن تبدأ مصرُ هجومَها ليلةَ الجمعة 25/5/1967م، لأن البدهيات العسكرية تعرف أن نصر اليوم غالباً لِمَن يتمكن من الضربة الجوية الأولى. وباتت الطائراتُ المصرية على مدارجها مستعدةً للإقلاع مع أول ضوء في الصباح، لكن مكالمةً لاسلكية تمت بين (آرام) والموساد قبل يوم (ي) المصري بأربعٍ وعشرين ساعة، لعلم (آرام) بساعة ( س ) المصرية، لذلك قبل أول ضوء كانت الطائرات الإسرائيلية في سماء الأرض المحتلة تحيط بها، فألغي الهجومُ المصري لانعدام عنصر المفاجأة، وهي ضروريةٌ للضربة الجوية، وبات من المؤكد - لمن يَعقِل - أن جاسوساً يهودياً في القيادة المصرية أو أكثر من جاسوس، لكن لو كانوا يعقلون. في يوم 28/5/1967م كان (آرام نوير) وعبد الناصر وسائر القيادة المصرية في طائرة نقل عسكرية متوجِّهة إلى سيناء، وقد أبرق (آرام) إلى الموساد قبل يوم كامل عنها، وكان ينتظر صاروخاً يُسقط الطائرةَ بين الحين والآخر، لكن عاد إلى القاهرة بعد انقضاء جولة الرئيس رائد القومية العربية، ولم تسقط طائرته مع علم الموساد بها، ودهش (آرام) من تخطيط الموساد، بل حنق عليهم، لماذا لا يضربون الطائرةَ ويُنهُون الحربَ دون إراقة دماء غير دماء القادة؟! أليس عبد الناصر عدوَّنا اللدود كما يقول ونقول؟! لماذا لا نقتله وقد سَنحتِ الفرصةُ أن نقتلَهُ مجاناً؟! أم أنهم لا يثقون بي؟! ويل لهم وألفُ ويل.. لقد بعثوني للقضاء على سلاح الجَوِّ المصري، وهذه الطائرةُ تَضُمُّ قادةَ الأسلحة كلَّهم، والقائدَ الأعلى لهم، فلماذا لم يضربوها؟!!!. بناءً على طلب الموساد وصل (آرام) عن طريق استامبول إلى تل أبيب ليلةَ 30/5/1967م، وهي أبشع ليلة خطط فيها لإذلال العرب والمسلمين، وفي قاعة العمليات العسكرية وقف (آرام) ينظر إلى (موشي ديان) وزيرِ الدفاع الجديد، و(ليفي أشكول) و(مردخاي هود) و(دافيد أليعازر) و(فيشل).- منذ ستة عشر عاماً بدأت الموساد عملياتها الفذَّة في تاريخ الجاسوسية، وقد قاربت على تحقيق كامل أهدافها، بل أكثر مما رجوناه. قال (فيشل).- فَرِّغْ لنا ما تحفظه في ذهنك على الخارطة يا (آرام). قال (ديان). فتقدَّم (آرام) إلى مُصوّر كبير فَرَّغ عليه الوحدات المصرية البرية والجوية من حيث العدد والعدَّة، وأماكنها وأسماء قادتها، وجاهزيتها، ثم وَجَّهَ إليه (ديان) و(أليعازر) عدداً من الأسئلة أجاب عنها، وَوُضِعتْ إشاراتُها على الخارطة، ثم قال له (هود).- إلى أي ساعةٍ تستمرُّ حالةُ الاستنفار في القواعد الجوية؟- حتى السابعة صباحاً بتوقيت إسرائيل.- وبعدها؟- في السابعة والنصف يخلع الطيارون ملابسَهم الجويَّةَ، ويَنصَرِفون إلى الطعام، وكذلك المسئولون عن الرادار.- وَمَنْ يَبقَ عند الرادار؟- لا أحد ، وتُغلَقُ الأجهزةُ لمدة نصف ساعة.- أي حتى الثامنة بتوقيتنا؟- نعم.- أنت متأكد أنهم يُغلقون الرادار لنصف ساعة؟- نعم ، وقد عرفتُ ذلك من الجولة التفتيشية التي قمتُ بها.- هذا غير معقول. وهنا يتدخَّل (فيشل) فيقول:- أليس من دورنا خلال ستة عشر عاماً أن نجعل هذا معقولاً؟ وانتبه (مردخاي هود) إلى (فيشل)، وقد ذُهِلَ تماماً، وأردف يقول:- لو تأكَّد لي ذلك فإني أُصرُّ على تغيير ساعة (س).- نعم ، كل ما يقوله (آرام) صحيح، وأنا أثقُ به. ثم يقول (ديان):- وماذا ستفعل يا (آرام) الآن؟- الحفلة يا سيدي الجنرال.. الحفلة. يضحك (ديان):- أيّ حفلة يا (آرام) ؟ ويتدخل (فيشل) ويقول:- لقد عوَّدْنا الطيارين المصريين على حفلة شهرية منذ عدة سنوات، وقد حُرِمُوا منها منذ ثلاثة شهور،والآن لو تمكَّن (آرام) من إقامة الحفلة عاشَتْ إسرائيل.- أُقيمُ الحفلةَ إذا ساعدتُموني بتصريحاتِكُم التي تُؤَكِّدُ فواتَ وقت الحرب، ليُفَكّ الاستنفارُ هناك ونقيم الحفلة.- ولكن لماذا تُقامُ الحفلة ؟!- قلتُ لقد تعوَّدنا عليها، أولاً: كما أننا منتصرون. ثانياً: إذا أعلنتم فواتَ وقت الحرب. المهم وَقِّتُوا لي الحفلة ورمزها كوثر، حَدِّدُوا لي الليلة. وبناء على ذلك تعدَّلتْ ساعةُ (س) الإسرائيلية من أول ضوء إلى 7,15 بتوقيت إسرائيل، بناءً على اقتراح (هود) وموافقة (فيشل)، أما رئيس الأركان فقد عارض لأنه يَثِقُ بمقدرة الطيارين اليهود، وكان يطمع في تدمير الطيارين المصريين داخلَ طائراتهم. * * *(7)في الأول من مايو 1967م ([3]) استقبل الملك حســين في عمان الفريق أول عبد المنعم رياض ، وأفصح له عن مخاوفه بأن إسرائيل والولايات المتحدة تريد جر مصر إلى حرب تدمر فيه القوات المصرية ، وتحطم صورة عبد الناصر كزعيم عربي ، وقال الملك حسين بأن سوريا قد تكون الطعم الذي يتم فيه استدراج عبد الناصر ، وطلب الملك حسين من الفريق رياض نقل هذه الرسالة بسرعة لعبد الناصر .عاد رياض للقاهرة ، وقدم تقريره التحريري عن سفره ، ولكن الرسالة وصلت عبد الناصر بعد ثلاثة عشر يوماً وبالتحديد ظهر الأحد (14/5/1967م) ، واجتمعت القيادة العسكرية المصرية برئاسة المشير عبد الحكيم عامر ، وقررت إيفاد الفريق محمد فوزي إلى سوريا للتحقق من حشود إسرائيل عليها ، وعاد ليؤكد عدم وجود حشود عسكرية على سوريا ، ومع ذلك تقرر رفع درجة الاستعداد العسكري في مصر ، ودفعت تشكيلات قتالية إلى شرق قناة السويس ،ويدعي هيكل أن الوصول المتأخر لرسالة الملك حسين ، لم يستطع إيقاف تداعي الأحداث .اقتنع عبد الناصر بأن إسرائيل تريد مهاجمة سوريا وإسقاط نظامها التقدمي ، ولم يتراجع عن دخول الفخ الأمريكي الإسرائيلي ، وطلبت مصر من الأمم المتحدة سحب قوات الطوارئ الدولية ، وأعلن يوم (22/5) أمام حشد من الطيارين في قاعدة ( أبو صوبر ) إغلاق مضائق تيران ...وفي يوم الجمعة (2/6/1967) في اجتماع القيادة العامة للقوات المسلحة الذي حضره عبد الناصر ، قال عبد الناصر إن معلومات الاستخبارات تقول أن العدو سيشن الحرب خلال بضعة أيام ، ثم رجح أن يشن الحرب يوم الاثنين (5/6) ، ثم التفت إلى الفريق (صدقي محمود ) قائد القوات الجوية ، وأمره أن لاتكون مصر هي التي تبدأ العدوان ، وأن عليها الاستعداد لتلقي الضربة الأولى ، ثم تـرد بعدها ، فدهش الفريق صدقي ، وقال لاتوجد قوات جوية في العالم ، سوى أمريكا والاتحاد السوفياتي ، تستطيع أن تتلقى الضربة الأولى ، ثم تـرد بعد ذلك ، لأن الضربة الأولى ستفقدنا قـدرة الـرد ، ومطاراتنا لاتوجد فيها ملاجئ لحماية الطائرات ... وقال الفريق صدقي : كلامك يعني إلغاء الخطة ( أسد ) التي تهدف احتلال قطاع إيلات ، والنقب ، وعزله بواسطة وحدات الصاعقة المصرية ، مدعومة بتشكيلات من الدبابات والقوات البرية ، والاتصال براً بالقوات الأردنية .ورد جمال عبد الناصر على صدقي محمود بأنه إذا بدأنا العدوان سنعطي الولايات المتحدة الحق في أن تبدأ الحرب علناً مع إسرائيل ... يقول جمال الدين حسين ([4]) : وللأسف الشديد أن عبد الناصر لم يكن مدركاً أن الولايات المتحدة لا تنتظر هذه الذريعة ، كي تشارك في الحرب مع إسرائيل . عندما اتخذتِ القواتُ المصرية مواقعَها في سيناء، وأغلقت مضائق تيران، ساد عندها الشعورُ بالنصر وكأن المعركة انتهت، ساهم في ذلك بعضُ المحللين العسكريين الأجانب، الذين قالوا إن إسرائيل خسرت الحربَ سلفاً، لأنها سمحت للقوات المصرية باتخاذ مواقعها في سيناء وإقامة التحصينات على مدى عشرة أيام، كما ساهمت إسرائيلُ في ذلك عندما سُئِلَ (موشي ديان) قبل الحرب بيومين أو ثلاثة، فقال: "لقد فات وقتُ الحرب، وأُفلِتَ الزِّمامُ من يد إسرائيل، وسنحاول أن نُعَوِّضَ بالسياسة ما خسرناه في الحرب"، وتناقلتْ وكالاتُ الأنباء العالمية هذا التصريح الذي رُبِطَ بإثارة العطف العالمي إلى جانب اليهود، لأن عجلة الدعاية الإسرائيلية لا تفصل السياسة عن الحرب، وقد دارت بكلِّ قوتها في اتجاه يقول : إن مصر تريد تدميرَ إسرائيل، والعرب يريدون رَمْيَ اليهود في البحر. وقد ساعدت تصريحاتُ قادة البعث السوري من إذاعة دمشق هذا الادِّعاءَ اليهودي. * * * دخلت (سهير زكي) دارَ (آرام) بصحبة (الفريق لطفي حبيب)، وقد تكدَّرَ لونُها واحتدَّتْ نبراتُ صوتها:- منذ عدة سنوات وأنا أبتكر تقليعات في الرقص جديدة لأرقصَ بها في يافا، واليوم عندما حان الوقتُ سترقص (نجوى فؤاد) بدلاً مني؟- من أين لك هذه الأخبار يا سوسو؟- من المقربين لها.- كيف تصدقين والجنرال حَيّ ؟!- الجنرال ينسى صاحباته لأنهُنَّ كثيرات.- لكلِّ قاعدة شواذ، وأنت شواذ قاعدتي. أجاب (الفريق لطفي )، وتابع:- فأنت الوحيدة التي دام عشـقي لها عدة ســنين، اطمئني يا سوسو، وجهِّزي تقليعاتك، سترقصين قريباً جداً.- لماذا لا تزحفون وترمونهم في البحر؟ الناس يقولون انتصرتْ مصر، ومعظم الفنانين والفنانات يعدُّون برامجَ النصر التي سَتُقامُ على شواطئ حيفا ويافا، أما الحفلات الشعبية في الأحياء فقد بدأت. * * * اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي، وقالت الأخبار إنه ناقش قضايا زراعية وصناعية واقتصادية، ولم يتطرَّق لشؤون الحرب - على ذمة أخبار إسرائيل - وشوهد الجنودُ الإسرائيليون في شوارع مدن الأرض المحتلة يغادرون وحداتهم العسكرية في إجازات إلى بيوتهم، وكانت أعدادُهم كثيرةً بحيث شوهدوا في كافة أرجاء الأرض المحتلة، وانتشر أن زمن الحرب قد فات، وأن أمريكا قد تعهدت بفتح مضائق تيران بالقوة لضمان حياة إسرائيل، لذلك سيسافر (زكريا محيي الدين) يوم الخامس من يونيه إلى واشنطن لهذا الغرض، وإن لم توافق مصر فإن أمريكا ستطلب قوات دولية تفتح بها خليج العقبة بالقوة وتحميه ليبقى ممراً دولياً. أما في مصر فقد عرف الناسُ أن (زكريا محيي الدين) سيسافر إلى واشنطن، ليملي على اليهود شروطَ النصر، حيث أن أمريكا هي ولي أمر إسرائيل التي انتشرت حوله القوات العربية على جبهات مصر وسوريا والأردن، وإن لم تتداركْ أمريكا الأمرَ وتحلّ الأمر سياسياً سيلقي العربُ اليهودَ في البحر!. * * * أما إذاعة دمشق فلا بديل لحرب التحرير الشعبية التي تدكُّ قصورَ الخيانة والعمالة في الأردن - حسب قول دمشق - والرجعية والإقطاع في الداخل والخارج، ثم بعد ذلك ترمي اليهودَ في البحر، وفي نيسان أو أيار( 1967م) نظم اتحاد الطلبة في مدينة حمص محاضرة في سينما الأوبرا حضرها مئات الطلاب، وقد وصف لي شاهد عيان هذه المحاضرة يقول واصفاً المقدم مصطفى طلاس: ( دخل المقدم أبو فراس بلباس المغاوير وقفز من أمام المسرح ليصل إلى مكان المحاضر فارتفع التصفيق للبطل المغوار، وبدأت المحاضرة فقال المقدم أبو فراس بعد أن علق خريطة على الجدار وأمسك بيده عصاخاصة بكبار الضباط قال: سوف تتحرك قواتنا باتجاه الجنوب لتدك قصر الرجعية([5]) أولاً، ثم نتجه غرباً في اليوم الثاني، وخلال هذين اليومين تكون القوات المصرية اجتازت سيناء ووصلت إلى ساحل فلسطين، وفي اليوم الثالث سوف نطبق فم (الكماشة) على الصهاينة و...)، فصاح الطلاب مرة واحدة (ونرميهم في البحر )،فعلا الهتاف ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أهدافنا وحدة حرية اشتراكية، الخلود لرسالتنا وللجيش العقائدي) ...إذن كانت سوريا هي المحرضة على الحرب، فقد أدلى وزير الدفاع السوري وقائد سلاح الطيران اللواء حافظ الأسد بتصريح لصحيفة الثورة السورية يوم (20 /5 / 1967م ) جاء فيه : ( .. إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الاجراءات الكفيلة بتفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل، تردها إلى صوابها ... إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان. إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات المسلحة السورية أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان، وإنما للمبادرة في عملية التحرير ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي، إننا أخذنا بالاعتبار تدخل الأسطول السادس الأمريكي!!! وإن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة، وهناك إجماع في الجيش العربي السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية . وإن سلاح الجو السوري تطورتطوركبيراً بعد(23/2 /1966م ) من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات، وهي من أحدث الطائرات في العالم، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب. * * * مضى شهران والقواتُ المصرية في حالة تأهُّبٍ حَرَمَها من الحفلة الشهرية، فضجر الطيارون ونفد صبرُهم بعد أن اعتادوا عليها لعدة سنوات تطالعهم مع بداية كلِّ شهر فيعيشون مع آثارها وفي انتظارها بقيةَ الشهر، أمَّا وقد خَفَّتْ حِدَّةُ الاستنفار الكامل إلى الثلثين، فالوقت مناسب للحفلة، وأصبحت الحفلةُ هي الشغل الشاغل لـ (آرام نوير) الذي كادتْ نفسُه تُمسك عن الطعام، لأن التفكيرَ في الحفلة مَلَك عليه نفسَه.- الحفلة يا سيادة الجنرال.. لا تنس أن نُسُورَنا في حالة تَأَهُّبٍ منذ شهرين. قال (آرام).- لكن أما سَمِعتَ التقريرَ عن سيناء اليوم؟- ماذا ؟ وكاد قلبُ (آرام) يخرج من صدره.- ثلاثة ضباط كبار مع وثائقهم ضَلُّوا الطريقَ بسيارتهم وضاعوا في سيناء.- ولماذا أنتَ قَلقٌ ؟! سوف يحرقون ما عندهم وانتهَى الأمر.- معهم وثائق كثيرة وخطيرة ، ولم تُعلِنْ إسرائيل أنها أَسَرَتهُم.- سيعودون غداً إن شاء الله.. المهم أن نعود إلى الحفلة.- أين نقيمها ؟- أقترح أن نُوَزِّعَها على مكانين، أنشاص في الداخل، وبير كفكفا في سيناء، مائتان من النسور في كل واحدة، والثلث الباقي سيكون في إجازة ليلية، وقد يحضرون معنا في أنشاص إن شاءوا.- كما تريد يا (آرام). نشط المفتشُ العام خلال عدة ساعات، فأرسل كميات من الويسكي والشمبانيا إلى كل من نادي أنشاص وبير كفكفا ، كما وصلت (سهير زكي) إلى أنشاص، و(نجوى فؤاد) إلى بير كفكفا ، وتَمَّ شحنُ أكثر من مائتي فنانة وراقصة ووصيفة إلى بير كفكفا ، وأكثر من ذلك إلى أنشاص.- وافَقَ جميعُ قادة القواعد على الحضور، ما عدا (شحاتة عبد العظيم) قائد قاعدة أسوان. قال (آرام).- لا ، إن شاء الله ما يأتي إلى هنا، إذا وافق يذهب إلى بير كفكفا ولا يأتي معنا.- لم يُوافقْ ولم يَسمَحْ لأَحدٍ من طياريه.- دَعهُم ، لا يضرون ولا ينفعون، وسوف ينقم عليه طيارُوهُ لأنه حَرَمَهُم ما عَوَّدناهم من رفاهية وسعادة.- الحفلة يجب أن تكون في ليلة الخامس من يونيه سيدي الجنرال.- كما تريد يا (آرام). * * *(8) عندما يعتاد الآدميُّ على سلوك معيَّن ثم يُحرَمُ منه تتشكَّلُ لديه رغبةٌ قويةٌ تتناسبُ قوتُها طرداً مع قوةِ العائق الذي يمنع هذه الرغبةَ من الإشباع، فالحرب أو التأهب للحرب كان عائقاً أمام رغبة الطيارين المركَّبة في الحفلة المعتادة، حيث يَشبعون من الطعام والشراب والجنس والاجتماع وحب الـذات وتوكيدها بطرق منحرفة جعلها التَّكرارُ مألوفةً لديهم، لذا كانت فرحتُهم كبيرةً جداً عندما اجتمع في قاعدة أنشاص مائتا طيار وأكثرُ من مائتين من الضباط الجوِّيين، جاءوا من قواعد مصر الداخلية، وكذلك مثلُهم أو أقل في قاعدة بير كفكفا في سيناء، اجتمع بها عناصرُ القواعد المتقدمة. كان (آرام) و(الفريق لطفي) و(سهير زكي) في أنشاص، ومَن يمثِّلُهم مع (نجوى فؤاد) في بير كفكفا ، وبعد أن توارت الشمسُ هلعاً مما ترى، ومن الخطر المنتظَر، صعد المفتشُ العام المنصةَ يُعلنُ عن برنامج الحفلة، وقد أشار إلى مفاجأة خبأها إلى حينها، ثم صُفَّتْ أصنافُ الأطعمة، وتوزَّعتِ الزائراتُ اللاتي كان عددُهُنَّ يَفوقُ عددَ الضباط الحاضرين، وانتقتْ كلُّ واحدة شريكَ دعارتها تلك الليلة، وَوُزِّعَتْ زُجاجاتُ الويسكي وقطعُ الثلج التي نُقِلَتْ جَوّاً من القاهرة إلى بير كفكفا وأنشاص. وتنافَسَ اللحمُ بين المحمَّر على الموائد، والمحمر في الوجوه الشاحبة، والمضطرب في أجساد الراقصات، وتطايرت رائحةُ أُمِّ الكبائر تُفرغُ الرؤوسَ من بقايا عقلٍ وحياء، فتمتدُّ الأيدي والأَرجُلُ معاً، تماماً مثل ذَواتِ الأربع!. * * * بين الحين والآخر يتَّصلُ (آرام نوير) هاتفياً ببير كفكفا لِيَطمَئنَّ على سَير الحفلة هناك كما خَطَّط، ويسمع من خلال الهاتف عَزفَ الموسيقى وقهقهة السُّكارَى، ثم يُعَبِّرُ عن أَسَفِهِ لعدم تَمَكُّنه مُشاركتهم، لأنه لا يستطيع أن يحضر في مكانين بآنٍ واحد، لكنه يَثِقُ بأعوانه المُخلِصِين الذين يهمُّهم الترفيه عن سلاح الجَوِّ المصري. * * * كان (شحاتة عبد العظيم) يتقطَّعُ أَلَماً وغيظاً وحسداً على هذا الحمق الذي يجري في أنشاص وبير كفكفا ، وهو الذي أُبعِدَ عن سلاح الجَوِّ إلى باريز ثم أُعيدَ إليه، لكن قائداً لقاعدة أسوان البعيدة عن القاهرة وعن قصر القبة ومنشية البكري، كان (اللواء شحاتة) يكره (الفريق لطفي ) كثيراً، ويظنُّ أنه غيرُ سَوِيٍّ وغير طبيعي، حتى أنه لم يستبعد عمالتَه لليهود، لأن الملذات عنده أهمّ ما في الدنيا، وأكثر ملذَّات الدنيا عند اليهود، لذلك اتَّصلَ عدةَ مرَّات بالفريق (محمد فوزي) رئيسِ الأركان العامة، يحثُّه فيها على عدم الموافقة على إقامة الحفلة، كان آخرها عندما قال له (فوزي):- يا ابني ، أنت مهمـوم أكثر من اللازم ليه؟ هو أنـا وأنت مسئولون عن مصر وحدنا؟ لقد أقامها (الفريق لطفي حبيب) وهو فريق مثلي، ولم يرجع إلى أحد.- غريب ! كيف لا يرجع لك يا سيدي الفريق؟!- لا غريب ولا عجيب يا لواء (شحاتة)، (الفريق لطفي ) من المقرَّبين ومدعوم بدون قيود من المفتش العام، ولذلك كلمته كلمة واحدة وليست كلمتين.- سيدي مَن هذا المفتش العام بالله عليك؟ وما هي رُتبتُـه؟- سامحك الله (يا شحاتة).. أنت صحيح كما قال (لطفي) عنك، أنت مثالي، المفتش العام يا (شحاتة) مدعوم بالدولار، وأي رتبة تَقِف أمام الدولار، إنه يملك رصيداً غير محدود من الدولارات...!!- يا سيدي نحن في حكومـة ولاَّ بورصـة؟!- لا ، حكومة، لكن حتى الرئيس و(زكريا محيي الدين) يَثِقُون به، أليسَ الرئيس هو الذي عَيَّنَه؟- نعم .- إذن هو المفتش العام لسلاح الجوِّ المصري.- وهل نبقى الآن مكتوفي الأيدي والطيارون يشربون الخمر الآن؟- لا ، لا ، سنحاول تفريقَ الحفلة بالحكمة. * * * عندما اتصل الفريق (فوزي) بالفريق (لطفي) يرجوه أن يُوقِفَ الحفلةَ فوراً، وأن يذهب الطيارون إلى النوم، أجاب (لطفي) بصوت مخمور:- أنا فريق ولاَّ عربجي؟! يا سيدي !!! أنا قائد السلاح الجوي أم طرطور؟! وأغلق سماعةَ الهاتف، بينما ضرب الفريق (فوزي) كفاً بكفٍّ وهو يقول: لا حول ولا قوةَ إلاَّ بالله. بعد أن أغلق (لطفي) الهاتف في وجه الفريق (فوزي) قال للمفتش العام:- الفريق (فوزي) يطلب مِنَّا أن نذهب إلى النوم، غريب والله، نحن صغار ولاَّ تحت الوصاية؟! لازم ننام الساعة التاسعة، هو يظن أننا في الكلية ؟! ويرفع الكأس ويردِّد: ... وما أطال النومُ عمراً... فتقترب الراقصةُ منه تُنَمِّي عندَهُ الموهبـة، وتشجعه على تَفَتُّحِ ميولـه. في تمام الواحدة ليلاً نفدت صناديقُ الويسكي المستوردة بالعملة الصعبة لحساب القوات المسلحة ومِن ميزانيتها، لكنَّ الظَّمَأ لم يُطفَأ، ولم تكفّ الدولارات المقتَطَعة من قُوت الشعب المحروم الذي يُعاني الألم والحرمان والقهر، وَتَلَفَّتَ الشاربون إلى كؤوسهم الفارغة، فأشار المفتش العام إلى أحد أعوانه الذي صعد المنصة، وقال:- لأنكم ما زلتم عطاشـاً، تُمعِنُونَ النظرَ في كؤوس فارغة وقد نفدت مُخَصَّصاتُ الحفلة من الشراب، إلاَّ أنَّ...! (وصمت برهة). فهاج الحاضرون يُرَدِّدون (إلاَّ أنَّ...!) ، فيتابع:- إلا أن المفتـش العـام أحضَرَ لنا من حسابه الخاص عدداً من صناديق الشمبانيا لنشـربَ ونتابع الحفلة في هذه الليلة العظيمة، ليلة الفرح والطرب ونُحييها حتى الضُّحَى. فَيُرَدِّدُ القطيع : عـاش المفتش العـام، عـاش عـاش. وكان الهتاف متكسِّراً في أفواه السُّكارَى، بينما وُزِّعت صناديقُ الشمبانيا لتفرغ في البطون المسعورة. بدأت فرحةُ النصر تعبثُ بانتباه (آرام)، فها هو تَمَكَّن من تَسكِير أربعِمائة طيار في ليلـة كــوثـر، هذه الليلة الفريدة في التاريخ، بل فريدة في الدهر كله، ليلة سَيُذَلُّ فيها العربُ والمسلمون إلى ما شاء الله، بل لم يكن يَحلُمُ أن يخلط الطيارون الويسكي بالشمبانيا حيث يصيبهم خبل لا ينفك عنهم قبل أربع وعشرين ساعة، وعند ذلك بدأ دماغُه يدور، فقام إلى صنبور الماء وغطس رأسَه بالماء البارد لمدة دقيقة، فعاد إليه الانتباهُ، وقال لنفسه:- كيف أتأكد أنني في واقع وليس حلماً، لقد حلمتُ طيلة ستة عشر عاماً بهذه الدقائق، فهل ما زلت أحلم؟ أم أن الحلم أصبح واقعاً؟ أصحيح أنني تمكَّنتُ من ذلك كلِّه؟ أنا.. أضحك على مصر كلِّها، وأُسكِرُ أربعَمائة طيار في هذه الليلة؟! كـوثـر.. حيث يبدأ الهجوم الجوي الإسرائيلي بعد بضع ساعات ...!!! ويعود إلى الماء البارد ويستحم به لِيُذهب الدوارَ الذي بدأ يحسُّ به، ثم يقول لنفسه:- لقد أحسستُ بالدوار، وأنا الذي اعتاد الشرابَ وتخليطَ الشراب منذ عشرات السنين، فكيف هؤلاء الأولاد الذين يشرب بعضُهم للمرة الثانية أو الثالثة أو حتى الخامسة؟ ومعظمهم يخلط الشرابَ للمرة الأولى في حياته؟ إنهم الآن لا يُمَيِّز أحدُهم بين رجله أو ذراعه أو عصا قيادة الطائرة....!!! ويتأكد (آرام) أنه في واقع وليس في حلم، ويبدأ بتحاشي الشراب، لكنه يتظاهر به، فيرفع الكأسَ ثم يُعيدها على حالها بعد أن فَقَدَ الجميعُ ملكةَ الإدراك والملاحظة. * * * في الثانية والنصف ليلاً تناثـرتْ كلماتٌ هنا وهناك تقول : أين المفاجـأة ؟ أين المفاجأة؟ ولَمَّا وَصَلَتِ المفتشَ العام صَعِدَ إلى المنصة، وقال :- المفاجـأة أيها النسورُ البواسل هي هذه اللعبة الظريفة الخفيفة، تعلمون أن اليهود الأنذال حرمونا من مشاهدة منظر كُنَّا نحلم به ونعدُّ له منذ سنوات، لأنهم انهزموا سَلَفاً ولم يُمَكِّنونا من مشاهدة الميج تَنقَضُّ على الميراج، لكن.. إذا حُرِمنا ذلك في الواقع، فَلَنْ نُحرَمَ منه في الخيال، خاصة وأن المرء أحياناً يَصعُبُ عليه تمييزُ الواقع من الخيال. ويَسُودُ القاعـةَ صَمتُ الشَّوق لهذه المفاجأة، فيتابع (آرام):- نسورُنا البواسل هم طائرات الميج، والمدموزيلات طائرات الميراج، أما القتال فإنه قتالٌ ليلي بالأشعة تحت الحمراء.. وتعالَتِ الضحكاتُ وتحفَّزتِ الطائرات وتناثرتْ عباراتُ المدح والثناء لهذه العبقرية الفَذَّة المبتكِرة لكلِّ وقت ما يناسبه، وتعالت صيحات: الله يفتح عليك.... ويتابع (آرام):- سأطفئُ النورَ طِيلةَ المعركة، وهي نصف ساعة فقط، حيث يُسقِطُ طيارو الميج طائرات الميراج كلَّها، ونأمل أن نفتح النورَ في الثالثة، وسأبقى حارساً للنور، لأن القتال كما قلتُ ليلي، فهل أنتم موافقون؟- موافقون.. موافقون.. موافقون.. نعم موافقون. ثم أطفأ (آرام) النورَ، وقال: بدأت المعركة...!!! * * * وعلى مدى ثلاثين دقيقة كان الصراخ المفتعلُ والعـواء والمـواء، وأصناف أخرى من النباح والخوار والنهيق أحياناً، وأصناف أخرى يخجل القلم أن يَصِفَها.- الثالثة إلا خمس دقائق، سنتفح النورَ في الثالثـة. ثم فتح النورَ في الثالثة، وعاد العزفُ والرقصُ والطرب، وعاد السكارى الفاشلون يبحثون في الصناديق الفارغة عن زجاجة مملوءة، وفي الزجاجات الفارغة عن بقايا يطفئون بها النـار. وفي الرابعة صباحاً وصلتْ سـريةٌ من الشرطة العسكرية يقودُها عقيد اقترب من الفريق (لطفي) وحيَّاه، ثم قال:- سيدي ، لَدَيَّ أمرٌ خَطِّيٌّ من الفريق (فوزي) بتفريق الحفلة.- وإذا ما تفرقنا؟ رَدَّ (لطفي) بصوت مخمور.- آسف أن أستخدم القوة. قال ذلك والألم يعصره، وقبضة يده تتحفَّزُ لِتَصفَعَ الفريقَ (لطفي) قبل أن تصفع الأمةَ الإسلامية كلَّها.- بالقـوة ! وشحب وجهُ الجبان (الفريق لطفي)، فأسرع (آرام) إليه، وهمس: انتهت الحفلة.- لكني لا أقبل الوصايةَ من أحد. أجاب (لطفي)، وأضاف بلهجة مخزية:- أنا قائـ...ـد سـ...ـلاح الجـ...ـو المصـ...ـري، وأنا حُرُّ التَّصـ...ـرف فيه!- سأذهب إلى بير كفكفا ، وآمل أن تبلغهم الآن أن يناموا، سأستعمل القوةَ معهم حال وصولي إن وجدتُهم يسهرون. ثم حيَّاهُ بقرفٍ وانصرف إلى طائرته.- ألو ، بير كفكفا ، هل شبعتم؟ انصرفوا إلى النوم، وَلَمَّا يَصل إليكم غلامُ (فوزي) قولوا له: أمرنا الفريق (لطفي) أن ننام، ونحن نتلقَّى الأوامرَ منه وليس منكم. ثم قام الفريق (لطفي) مُتَثاقلاً يُعلنُ عن نهاية الحفلة، فانصرف الحاضرون إلى طائرات النقل التي أوصلتهم إلى قواعدهم. * * * عندما كانت الميج تنقَضُّ على الميراج في بير كفكفا وأنشاص، انقَضَّ السفيرُ الروسي على عبد الناصر في الثالثة صباحاً، وحسب تعليمات موسكو جاء السفير الروسي إلى بيت عبد الناصر وطلب إيقاظَهُ من النوم لِيُسلِّمَهُ برقيةً من موسكو تُلِحُّ فيها ألاَّ تبدأ مصرُ الحرب، لأن الذي سيبدأ الحربَ سيخسَرُ القرارَ السياسي والرأيَ العام العالمي، لذلك يجبُ ضَبطُ النفس وعدمُ الانفعال، وألاَّ تكون مصر هي البادئة بالحرب، وعندما طَمأَنَ عبد الناصر موسكو بأن مصر لن تبدأ الحرب، وأن (زكريا محيي الدين) مسافر بعد ساعات إلى واشنطن من أجل التفاهم حول تيـران، عند ذلك شعر السفيرُ الروسي بالارتياح، وعاد إلى بيته في الرابعة صباحاً وهو ينظر في ساعته كأنه يَستَحِثُّها على الجري، لأن ساعات العرب والمسلمين واقفة، بل نائمة، فلتسبقها في هذه الغفلة من الزمن. * * * قبل الخامسة وصل (الفريق لطفي) و(آرام) إلى فيللا (آرام)، ومعهما (سهير زكي) وإحدى وصيفاتها، وانفَرَدَ كلٌّ بكلبته بعيداً عن الآخر، ونظر (آرام) إلى عاهرته العارية وقد غَلَبها النومُ الذي هَرَبَ من مُقلَتَيْ (آرام)، لأن الساعات الأخيرة في الانتظار تكون مضطربة، وخاصة إذا كان انتظارَ ستةَ عشر عاماً. ونظر إلى جسدِها العاري وقال: الآن مصرُ عاريةٌ أمام سلاح الجوِّ الإسرائيلي، تماماً مثل هذه العارية أمامي، وأنا الذي عريتُ هذه من ثيابها، كما عريتُ مصر من سلاحها الجوي. * * * نهض الفريق (لطفي حبيب) في السابعة من صباح يوم الخامس من يونيه 1967م من فراشه مُخَلِّفاً فيه (سهير زكي)، نهض وهو يَفرُك عينيه الحمراوين، مهدوداً من التعب، وهو يَوَدُّ لو ينام ثلاثة أيام متواصلة، لكنَّ وعداً من المشير (عبد الحكيم عامر) أجبره على ذلك، وقبل الثامنة كان في المطار لِيُشارك المشير في رحلته التاريخية إلى سيناء. بعدَهُ بدقائق استحمَّ (آرام نوير) لآخر مرة في القاهرة، واتَّصل بالمطار:- ألو.. مدموزيل فيفي.. صباح الخير يا أمورة.- يسعد صباحك يا بيه، صباح الفلّ والياسمين. ونظَرَتْ إلى أعلى وهي تُرَدِّد: يا فتَّاح يا رزَّاق. فقد عوَّدها أن ينقدَها ضِعفَ راتبها الشهري كلَّما حَجَزَتْ له مقعداً على الطائرة، مما جعلهنَّ يتنافَسْنَ على تقديم أيِّ خدمـة له.- ممكن تحجزي لي في أول طيارة إلى أثينا.- من عينيّ الاثنتين يا بيــه.- سأكون عِندَك في السابعـة والنصف. وما هي إلاَّ خمس دقائق حتى حجزت له فيفي في الطائرة المنطلقة إلى أثينا في تمام الثامنة. * * *(9) في حوالي الرابعة صباح الخامس من حزيران تجمَّعتْ لدى الدوريات الأمامية لوحدات نطاق الأمن مشاهداتُ أنوار وسَماعُ أصوات عربات في مناطق فتح وحدات العدوّ واستعداده للهجوم، ووصلت هذه المعلومات إلى مكتب مخابرات العريش، وهو مركز استطلاع تعبويّ للجيش، فأرسل في الحال إشارةً إلى قيادته العُليا بمكتب وزير الحربية (شمس بدران)، واستقبلَها الضابط المناوب، وأرسلها إلى المشير، حيث كان نائماً في مقر القيادة العامة بمدينة نصر، تسلَّمها المقدَّم (علي شفيق) مديرُ مكتب المشير وعَرَضَها عليه في غرفة نومه، ولم يُعَلِّقْ عليها المشير، وَعلم فيما بعد أنها وصلتْ إلى هيئة العمليات في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة، أي بعد الضربة الجويـة. وفي الثامنة بتوقيت مصر أقلعتْ طائرةُ نقل عسكرية، على متنها المشير و(لطفي حبيب) وغيرهما من القادة يوم الخامس من يونيه، مُتَّجِهَةً إلى بير ثمادة في الجبهة، لذلك أمرت القيادة مُمَثَّلةً بغرفة العمليات كافَّةَ أسلحة الدفاع الجوي بعدم إطلاق النار، وقالت: "يُمنَعُ التَّصَدِّي لأيِّ طائرةٍ في الجَوِّ، لأن المشير وكبارَ القادة في رحلة إلى سيناء.."، وهكذا بَقِيتْ طائرةُ المشير ومعظم أفراد القيادة معلقةً بين السماء والأرض بعد أن ضَرَبَتِ الطائراتُ الإسرائيلية مدارجَ الهبوط، وطائرة المشير معلقةٌ في الجوّ، بينما تسبقُها طائراتُ إسرائيل إلى ضرب المدارج، والأمر ساري المفعول بمنع التَّصَدِّي لأَيِّ طائرةٍ في الجَوِّ خوفاً على حياة الفيلد ماريشال الغاليـة!. واستمرَّت طائرةُ المشـير أركـان حرب (عبد الحكيم عامر) القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ومعه (لطفي حبيب) قائد سلاح الجوّ، تحوم في سماء مصر، ومئات الطائرات اليهودية تُنفِّذُ ضربَتها التاريخيةَ، حتى كاد أن ينفدَ وَقُودُها، فَهَبَطَتِ اضطراراً في أحد المدارج المُعَطَّلـة!. * * * وفي نفس الساعة الثامنة بتوقيت مصر السابعة بتوقيت إسرائيل، أقلعَتِ الطائراتُ اليهودية من قواعدها في الأرض المحتلة غرباً فوق البحر المتوسط على ارتفاعٍ مُنخَفِضٍ جداً، كي تُفلِتَ من الرَّادار المصري، حتى وَصَلت مرسي مطروح، فانعَطَفَتْ يساراً، وتوزَّعَتْ على قواعد مصر الجوية كما توزَّعت عليها عام 1956م، ومعظم قادة الأسراب ما زالوا في الخدمة أو استُدْعُوا إليها، وَوَصَلَتِ الأفواجُ الأولى فوق القواعد المصرية في الثامنة وعشر دقائق، فوجدتِ الطائرات مَصفوفةً بشكلٍ مُتقَنٍ على المدارج، طائرات عارية في العراء، دفع الشعبُ المسكينُ ثَمَنَها لِيُدافِعَ بها عن كر امته، وكانت قذيفة لواحدة منها تُفَجِّرُ الأُخرياتِ المصفوفات على نفس الخط، وَتُوَفِّرُ الوقتَ والجهدَ والذخيرةَ على اليهود، ولم تكن أيُّ طائرة مصرية مقاتلة في الجَوِّ آنذاك. وَلَمَّا أقلَعَتِ الطائراتُ اليهودية ارتَسَمَتْ ظِلالُها على شبكة الرادار الأردني في الثامنة بتوقيت مصر، وبعثت الإشارة إلى القيادة المصرية تقول: "في الثامنة أقلعت طائرات يهودية كثير ة جداً..."، ولكن.. نامتْ نواطيرُ مصر عن ثعالبها فبشمن وما تفنى العناقيـد وربما منعت الباخرةَ ليبرتي وصولُ برقية الأردن، لكن ولو وصلت، هل يستطيع المخبولون من السُّكر أن يُقلِعُوا بطائراتهم خلال خمس دقائق؟ لقد حاول بعضُ الطيارين ذلك، لكنَّ الشَّظايا المتناثرةَ من الطائرات المتفجِّرةِ على المدارج قَتَلَتهم قبل أن يصلوا إليها. والقاعدة الوحيدة التي نَجَت هي أسوان، التي لم يَرْضَ قائدُها (اللواء شحاتة عبد العظيم) -قائدُ سلاح الجَوّ بعد الخامس من حزيران- أن يُشارك في الحفلة اللعينة، ولم يَسمحْ لِطيَّاريه بالمشاركة فيها، وعندما ارتسمت على شاشة الرادار عندَهُ طائراتٌ كثيرة ثم تَعطَّل الرَّادار، اتَّصَلَ بالقيادة ولم يردَّ عليه أحد، وكرَّر الاتصالَ دون جدوَى، فأدرك الخطرَ، وأمر كلَّ طيَّاريه بالإقلاع بطائراتهم إلى السودان فوراً، وما إن فرغَتْ قاعدةُ أسوان حتى جاءت طائراتُ اليهود تُعَطِّلُ مَدرَجها. * * * قبل الثامنة صعد (آرام) سُلَّمَ الطائرة الجاثية على مطار القاهرة الدولي، وأسند ظهرَهُ إلى المقعد يُحاوِلُ أن يُرخِيَ أعصابَهُ المشدودة، وَيُذهِبَ عنه القلقَ المُتَحَفِّز، خاصة وقد أكمل مهمَّتَهُ على أحسن وَجه، وقد قطع مُعظَمَ طريقِ النَّجاة، ولم يَبقَ إلاَّ أن تُقلِعَ الطائرة. وعندما نظر إلى ساعته التي تُشيرُ إلى الثامنة، شحب وجهُهُ، وبدأ يربط حزامَ المقعد كأنه يَحُثُّ الطائرةَ على الانطلاق، وفي الثامنة وعشر دقائق سَمِعَ أصوات انفجارات رَقَصَ لها قلبُه فرحاً، وصار يُدَندِنُ في سِرِّهِ، ولم يبق إلاَّ أن تُقلعَ الطائرة. مضت ربعُ ساعة والطائرةُ جاثمة، وتَعَجَّبَ الناسُ وقلقُوا من أصوات الانفجارات، وتَذَمَّرُوا من الشركة ومن مواعيدِها. وبعد أن انتهت الموجةُ الأولى التي تَرَكَتْ مدرجَ مطار القاهرة الدولي للموجة الثانية، واكتفَتْ بتدمير المدارج الاحتياطية فقط، على عكس العادة المُتَّبَعـة، بعد الثامنة والربع قالت المُضِيفةُ بصوتٍ مُرتَجِف: آنساتي سادتي.. نعتذرُ عن هذا التأخير الخارجِ عن إرادتنا، نرجوا أن تَشُدُّوا الأحزمة، لا تُدَخِّنُوا.. شكراً. وضحك (آرام) عندما شَعَرَ بالطائرة ترتفع عن أرض مصر، أرض مصر التي عاش عليها ثلاثة عشر عاماً، وَرَدَّدَ في سِــرِّه:- وُلِدتَ من جديد يا (باروخ ماندل).. سأَتناوَلُ غداءً دسماً في أثينا، وسأقضي وقتاً سعيداً هانئاً قبل العودة إلى أرض الميعاد . * * *وفي الواحدة من صباح الثلاثاء (6/6/1967م) نقلت محطة صوت إسرائيل وقائع المؤتمر الصحفي للجنرال ( مردخاي هود ) قائد السلاح الجوي الإسرائيلي في بيت سوكولوف بتل أبيب ليعلن عن : 1- يقول دمرنا اليوم (416) طائرة للعدو ، بعضها على الأرض ، وبعضها في معارك جوية .2- خلال الضربة الجوية لمصر دمرنا (19) مطاراً مصرياً ، و(25) محطة رادار ، و(309) طائرة قتال مصرية .3- ودمرنا( 60 ) طائرة لسوريا ، و(12) في العراق ، وطائرة واحدة لبنانية من طراز هنتر .4- وكانت خسائرنا : (19) طياراً منهم ( 8) قتلوا ، و(11) مفقوداً . وتم إخطار أهل المقتولين ، والمفقودين . كما خسرنا (19) طائرة مختلفة في المعارك . * * *وعلى الرغم من أن سلاح الجو الإسرائيلي بدأ هجومه على مصر في الصباح،(في السابعة والربع صباحاً )، ولم يترك لحماية سماء الأرض المحتلة ومطاراته سوى اثنتي عشرة طائرة فقط،ولوُُ شـن هجومٌ جوي عربي(سوري عراقي أردني)؛على مطارات العدو بعيد السابعة صباحاً وحتى الثانية عشرة لدمرمطارات العدو، واعترض طائراته عند عودتهامن سماء مصر بدون وقود وذخيرة، ومن السهل إسقاطها عندئذ . ولكن الطائرات السورية - وسوريا هي الداعية إلى الحرب - نفذت أول وآخرهجوم في الثانية عشرة ظهراً، أي بعد أن فرغ الطيران الإسرائيلي من تدمير السلاح الجوي المصري وهي ست ساعات!!!!ولم نسمع عن غارة سورية ثانية بعد تلك الغارة على مصافي حيفا. ونجد الجواب في كتاب ( حربنا مع إسرائيل ) للملك حسين إذ يقول :كنا ننتظرالسوريين فبدون طائرات الميغ لايمكن قصف مطارات إسرائيل الجوية، ومنذالتاسعة والنصف اتصلت قيادة العمليات الجوية بالسوريين، فكان جوابهم أنهم بوغتوا بالأحداث !!! وأن طائراتهم ليست مستعدة !!! وأن مطاراتهم تقوم برحلة تدريبة !!! وطلبواإمهالهم نصف ساعة، ثم عادواوطلبوا إمهالهم ساعة، وفي العاشرة والخامسة والأربعين كرروا الطلب نفسه فوافقنا، وفي الحادية عشرة (أي بعد فراغ العدو من القضاء على سلاح الجو المصري)لم يعد بالإمكان الانتظار!!، فأقلعت الطائرات العراقية وانضمت إلى سلاحنا الجوي لتساهم في المهمة، ولذلك لم تبدأ عملياتنا الجوية إلا بعدالحادية عشرة ( أي بعد فراغ الطيران الصهيوني من تدمير الطيران المصري ) .يقول الملك حسين: (فوت علينا تأخر الطيران السوري فرصة ذهبية كان يمكن أن ننتهزها لمصلحة العرب، فلولا تردد السوريين!!! لكنا قدبدأنا عمليات القصف الجوي في وقت مبكر،ولاستطعنا اعتراض القاذفات المعادية، وهي في طريق عودتها إلى قواعدها بعد قصفها للقواعد المصرية، وقد فرغت خزاناتها من الوقود ونفذت ذخيرتها، وكان بإمكاننا حتى مفاجأتها وهي جاثمة على الأرض تملأ خزاناتها استعداداً لشن هجمة جديدة، فلو قيض لنا ذلك لتبدل سير المعركة وتبدلت نتائجها، وتغير مجرى التاريخ العربي، كل ذلك الأمل فوته علينا السوريون .الزمن وحده سيكشف تفسيراًلأمورعديدة، لكن ماتأكدت منه أن الطيران السوري لم يكن جاهزاً للحرب يوم(5) حزيران، وكانت حسابات الإسرئيليين صحيحة، عندمالم يتركوا سوى اثنتي عشرة طائرة لحماية سمائهم، بينما استخدموا كل سلاحهم الجوي لضرب مصر). انتهى كلام الملك حسين . * * *وهكذا انتهت حرب الساعات الست ، التي حطم سلاح الجو الصهيوني السلاح الجوي المصري فيها ، ليسيطر الصهاينة على سـماء المعركة ، وليقتل الصهاينة بضعة عشر ألف جندي مصري ، ومئات الأردنيين والسوريين ، ويحتلون سيناء كلها ، والضفة الغربية ، والجولان، وفي الأسبوع التالي كانت إذاعة النظام السوري في دمشق تؤكد أن الصهاينة لم ينتصروا في الحرب ؛ لأنهم أرادوا إسقاط النظام التقدمي في دمشق ولم يستطيعوا ...!!! * * * تمت * * * وإلى اللقاء في رواية دماء على القناة
([1]) عندما سافر المشير عامر إلى باكستان عام 1966م، أرسل مِن هناك برقيةً شفرية إلى عبد الناصر يقترح إرسالَ قوات إلى شرم الشيخ، ولم يعرف سبب ذلك وقتذاك، ولا الآن. انظر: مذكرات محمد فوزي - حرب السنوات الثلاث.([2]) أحمد بهاء الدين . وتحطَّمت الأسطورة عند الظهر . ص38.[3]- انظر كتاب الانفجار قصة حرب يونية لمحمد حسنين هيكل ، وكتاب حرب الثلاث سنوات للفريق أول محمد فوزي .[4]- كاتب صحفي في أسرة العرب .([5]) وهكذا من بدهيات النظام الأسدي أن محاربة الرجعية أهم من محاربة إسرائيل، وكنا نظن ذلك على سبيل الكناية والمبالغة، حتى تأكد لنا أنه على سبيل الحقيقة، فقد حاربوا المسلمين وقتلوا العلماء ودمروا المساجد، ولم يعكروا أمن إسرائيل بعد. وقتلوا عشرات الألوف من أبناء الحركة الإسلامية ( الرجعية كما يسمونها )، والصهاينة ينعمون بالأمن في الجولان .
|
|