الفصل الثالث
الــبـيـعـــــــة
البيعــة العـامــة والبيعــة الخـاصــة :
البيعــة اصطلاح سـياسـي إسـلامي خلاصته أنه يجب على كل مسلم ديانة أن يبايع أميراً يطبق شرع اللـه عزوجل في المجتمع ، لأن الدين لا يقوم بدون ذلك وفي هذا يقول ابن تيمية يرحمه اللـه : ( لا يجوز للمسلمين أن يبيتوا ليلة بغير إمام يقودهم بكتاب اللـه وسنة رسوله ؛ وإلا كانوا آثمين ( مشروعية العمل الجماعي ، ص90) . والبيعة في مصطلحها الأصلي هي مبايعة إمام المسلمين ذي الشـوكـة ، وتسمى البيعة العامة ، حيث يبايع الإمام من أهل الشورى أولاً، وعندئذ يصير إماماً ، ويجب على المسلمين كافة مبايعته . أما البيعة لأمير جماعة إسلامية فهو عهد أو نذر ، ولا ضرر في تسميته بيعة إذ لا مشاحة في الاصطلاح ، فهذا عكرمة بن أبي جهل t ، عندما اشتدت الحرب على المسلمين يوم اليرموك ، ينادي بأعلى صوته من يبايع على الموت ؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام ، وضرار بن الأزور ، ومعهما أربعمائة من أبطال المسلمين وفرسانهم ، فدافعوا عن فسطاط خالد حتى أثبتوا جراحاً كلهم ، فتراجعت الروم أمام ثبات عكرمة وأصحابه (الوكيل ،67) ، وإن نقضها لا يزيد عن كفارة اليمين ، أمانقض البيعة العامة لإمام المسلمين فإنه يخرج من الملة ، ونقض بيعة أمير جماعة إسلامية معاصرة لا يخرج من جماعة المسلمين ، لأن جماعة المسلمين هي مجموع الجماعات الإسلامية المعاصرة وغيرها من الأفراد الملتزمين بالإطار العلمي لجماعة المسلمين([i]) . ويقول ابن تيمية كذلك ( إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، ولا يقوم الدين إلا بها (قمر الدين خان ، 50) ، والبيعة الخاصة هي المشاركة في العمل الجماعي ، لذا سيتحدث الباحث عن العمل الجماعي وحكمه في الشرع .
العمـل الـجمــاعـي
أخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب t ، أنه قال (... إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ، فمن سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم ، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم ) ( الدارمي ، 1/97 ) . فالفرد وحده لا يستطيع أن يقوم بأحكام الإسلام ، بل إن أكثر أحكام الإسلام تعالج الحياة الاجتماعية ، وما يتفرع عنها من سياسة واقتصاد وأسرة وجهاد ...الخ ، وإن ثلثي أحكام الفقه الإسلامي إنما ينط تنفيذها بجهاز الحكم في المجتمع الإسلامي . يقول ابن تيمية يرحمه اللـه (... فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلابالاجتماع ، لحاجة بعض الناس إلى بعض ، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي r :[ إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ] (جامع الأصول ، 5/18) . فأوجب r تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر ، تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع ، ولأن اللـه تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة . وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل ، وإقامة الحج ، والجمع ، والأعياد ، ونصر المظلوم ، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة (السياسة الشرعية ، 153) .
ويقول ابن تيمية أيضاً فقد أوجب r تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر منبهاً بذلك على ســائر أنواع الاجتماع (السياسة الشرعية ، 161) ، ويقول الشوكاني في (نيل الأوطار ، 8 / 265 ) : وهذا شرع لثلاثة في فلاة أو مسافرين فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ، ويحتاجون دفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى .
إذن لا إسلام بلا جماعة ، وليس الدين علاقة شخصية بين الفرد وربه فقط ، أي لا إسلاماً كاملاً بلا جماعة ، فالفرد وحده يستطيع أن يطبق جزءاً يسيراً جداً من الإسلام ، وثلثي الإسلام يعجز الفرد وحده عن تطبيقها ، فالإسلام يشمل علاقة الإنسان بربه عزوجل ، ثم علاقة الإنسان بالناس الآخرين ، وعلاقته بالكون ، ولأن الإنسان مدني بالطبع ، وقد فطره اللـه على ذلك الطبع ، والإســلام دين الفطرة ، ودين اللـه للبشرية كلها ، في كل زمان ومكان ، ولايقوم هذا الدين إلا في مجتمع ؛ هو المجتمع الإسلامي، ولكن لاجماعة بدون إمارة.
ومـن الملاحظ بين المسـلمين اليـوم أن مفهوم الطاعة والبيعة ضاع من أذهانهم ، ولا يـوجد إلا في أذهــان بعض الخاصة ، وعندما توجد تجدها مهزوزة ، وغير واضحة وثابته ، ولا يخطر في ذهن كثير من المسلمين أن مخالفتهم لأولي الأمر حرام شرعاً ، مثل عصيانهم لأوامر اللـه ورسوله .
التشرذم سرطان المسلمين المعاصرين
وغلب على أفراد المسلمين التشرذم والعزلة ، بل صار التشرذم فضيلة حتى أنهم إذا أرادوا مدح الرجل المعاصر قالوا هذا وحده لا يختلط مع أحد ، ولا يخرج من بيته ، ودخل الشيطان من هذا الباب باب العزلة بحجة الفتن فصار كثير من المسلمين كومة من حب الذات ، والسعي وراء الدنيا ، عندما أسقط من حساباته الاهتمامات الاجتماعية ، وحصر نشاطه في شخصه ومصالحه الخاصة فقط ، حتى تضخمت هذه الذوات المنفردة المنعزلة واصطدمت ببعضها ، وأصبح من المشهور أن الاتفاق بين المسلمين على أي شيء أصبح من الأحلام في زماننا هذا .
وغابت عنهم النصوص القطعية الدلالة والثبوت التي تأمرهم بالجماعة والبيعة وطاعة أولي الأمر ومنها ما أخرجه أحمد يرحمه اللـه عن الحارث الأشعري قال : قال رسول اللـهr:[... وأنا آمركم بخمس اللـه أمرني بهن ، بالجماعة ، والسمع والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في ســبيل اللـه ، فإن من خرج من الجماعة قيدشبر فقد خلع ربقة الإســلام من عنقه إلى أن يرجع... ، قالوا : يا رسول اللـه ، وإن صلى وصـام ؟ قال: وإن صلى وصـام وزعم أنه مسلم ] (أحمد ، 4/202) ، ويقـول عز وجل { واعتصموا بحبل اللـه جميعاً ولا تفرقوا ...} (آل عمران : 103) ، أي أمرهم بالجماعة ونهاهم عن الفرقة . ويقول عزوجل { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم } (آل عمران : 105) . أي ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضية في افتراقهم واختلافهم ، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم ( مختصر ابن كثير ) .
وعن معاذ بن جبل t عن رسول اللـه r قال: [ إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناصية ، وإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة ] ([ii]) ، وأخـرج أحمد عـن جـابر بن سـمرة t قال خطب عمر الناس فقال: [... من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ] ([iii]) . وقد صنف الإمام مسلم رحمه اللـه باباً سماه ( باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال ) وأورد فيه عدة أحاديث شريفة منها: عن أبي هريرة t عن النبي r قال: [ من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية... ] ([iv]) ، ويقول الإمام النووي رحمه اللـه أي مات على صفة من صفات الجاهلية ، وهي أنهم فوضى لا إمام لهم ، والمقصود بالإمام هنا أولي الأمر([v]) الذين فرض اللـه على المسلمين بيعتهم ثم طاعتهم ، فالإمام المبايع ثم المطاع في غير معصية ، هذا من الدين ، بل لا يقوم الدين إلا به كما يقول ابن تيمية أما الحاكم أو السلطان فضرورة دنيوية فقط .
ومـن أجـل المـحافظة على الجماعة ووحدتها والالتزام بها ؛ وإن بدا للمسلم فيها ما لا يرضيه أو يوافق عليه ؛ من أجل ذلك أمرنا رسول اللـه r فيما رواه ابن عباس t قال: قال رسول اللـه r :[ من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ، فميتة جاهلية ] ، لأن الصبر على شيء يكرهه المسلم من الأمير أهون من مفارقة الجماعة .
ومن الأمثلة على طاعة الإمام والمحافظة على وحدة الجماعة : التزام الصحابة رضوان اللـه عليهم بمصحف الإمام ، ورجوع عبد اللـه بن مسعود t عن التزامه بمصحفه ، ثم حرقه ليحفظ وحدة الجماعة والتزامها بمصحف الإمام . وندعو اللـه عزوجل أن يعين المسلمين على إيقاظ معنى البيعة والطاعة والولاء والبراء في ضمائرهم وأذهانهم ، وأن يربوا أطفالهم على ذلك في البيت والمسجد والمدرسة والمجتمع ، فالبيعة صفة من صفات المجتمع المسلم ، وركن من أركان السياسة الإسلامية .
الخـــلاصــــة
يقول ابن حزم في ( الملل والنحل 4/87 ) : اتفق جميع أهل السنة والمرجئة والشيعة والخوارج على وجوب نصب الإمام ، وأنه يجب على الأمة الانقياد لإمام عادل، يقيم فيها كتاب اللـه وسنة رسوله r ومن الأمثلة :
1- قوله تعالى{ وأن احكم بينهم بما أنزل اللـه ولا تتبع أهواءهم ..} ( المائدة 49 ) . وقوله أيضاً { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللـه وأطيعوا الرسول وأولي الأمـر منكم ... } ومن الأحاديث الشريفة عن عبد اللـه بن عمر t قال سمعت رسول اللـه r يقول: [ من خلع يداً من طاعة ، لقي اللـه يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ] ( مسلم ، الإمارة ) . ولا بيعة إلا لإمام يحكم بما أنزل اللـه تعالى . لكن كيف العمل الآن حيث لا يمكن تنصيب إمام للمسلمين ؛ لأن أعداء المسلمين لا يسمحون بذلك ؟
2- واهتمام الصحابة رضوان اللـه عليهم بهذا الأمر ومبايعة خليفة رسول اللـه r قبل دفن الرسول r ، وعبر أبو بكر الصديق t عن هذه الأهمية بقوله ( إن محمداً r قد مضى بسبيله ، ولابد لهذا الأمر من قائم يقوم به ، فانظروا وهاتوا آراءكم ) فهتف الناس من جوانب المسجد صدقت يا أبا بكر ، لعلمهم أنه لا يمكن للأمة أن تسير بدون قائد (حسين جابر 112) .
3- إجماع الأمة المسلمة على وجوب تنصيب الإمام ، كما ذكر الماوردي (ص35) ، والنووي (شرح مسلم ، 12/205)، وابن خلدون في مقدمته . وإجماع الأمة حجة ودليل شرعي لأن الإجماع أحد مصادر التشريع الإسلامي ، خاصة وقد عصم اللـه الأمة المسلمة عن الاجتماع على الخطأ ( ويقرر ابن تيمية أن عصمة الأمة مغنية عن عصمة الإمام ، لأن الأمم السابقة كانوا إذا بدلوا دينهم بعث اللـه نبياً يبين الحق ، وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها ، لذا كانت عصمتها تقوم مقام النبوة ، فلا يمكن أن يبدل شــيء من الديــن إلا أقام اللـه من يبين خطأه ، فلا تجتمع الأمة على ضلال كما قال r : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر اللـه وهم كذلك ] ([vi]) .
والآن نعـود إلى سـيرة المصطفى r نتزود منها مايخص البيعـة العـامـة ، والبيعـة الخاصـة :
البـيـعـة الـخـا صـة
1 ــ بيعـة العقبـة الأولـى :
يقول المباركفوري في الرحيق المختوم ( 129): ( قد ذكرنا أن ستة من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة (11) من النبوة ، وواعدوا رسول اللهr إبلاغ رسالته في قومهم . وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي ـ موسم الحج سنة (12) من النبوة يوليو 621م ــ اثنا عشر رجلاً فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله r في العام السابق، والسادس الذي لم يحضر هو جابر بن عبدالله بن رئاب ، وسبعة سواهم ، منهم اثنان من الأوس وعشرة من الخزرج . اتصل هؤلاء برسول الله r عند العقبـة بمنـى فبايعـوه بيعـة النسـاء ، أي وفق بيعتهن التي نزلت عند فتح مكـة ( والمقصود طاعته r فيما عدا الحرب ) ، روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول اللهr قال : تعالوابايعوني على أن لاتشركوا بالله شيئاً ، ولاتسرقوا ، ولاتزنوا ، ولاتقتلوا أولادكم ، ولاتأتوا ببهتان تفترونـه بين أيديكم وأرجلكم ، ولاتعصوني في معروف ، فمن وفى منكم فأجـره على الله ، ومن أصاب شيئاً فعوقب بـه في الدنيا فهو كفارة لـه ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فســتره الله ، فأمـره إلى الله ، إن شــاء عاقبـه ، وإن شـاء عـفا عنـه ، قال : فبايعته ــ وفي نسـخة فبايعناه ــ على ذلك .
2 ـ بـيـعـة الـرضـوان :
وهذه بيعـة خاصة كما سنرى ، لأن البيعة العامة كانت موجودة ، وإنما بايعوا على القتال والجهاد في سبيل الله ومناجزة مشركي مكـة ، وذلك لم بعث رسول اللهr يوم لحديبية عثمان بن عفان t إلى أهل مكـة يعلمهم بمقصد الرسول r والمسلمين وهو العمرة وليس القتال .
يقول المباركفوري (312) : ( واحتبسته قريش عندها (احتبست عثمان ) ولعلهم أرادوا ن يتشاوروا فيم بينهم في الوضع الراهن ويبرموا أمرهم ، ثم يردوا عثمان بجواب ماجاء بـه من الرسالة ، وطال الاحتباس ، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل ، فقال رسول اللهr لما بلغته تلك الإشاعة : [ لانبرح حتى نناجز القوم ] ثم دعا أصحابه إلى البيعـة ، فثاروا إليه يبايعونه على أن لايفروا ، وبيعته جمعة على الموت ثلاث مرات ، في أول الناس ووسطهم وآخرهم ، وأخذ رسول اللهr بيد نفسـه وقال : هذه عن عثمان ، ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه ، ولم يتخلف عن البيعة إلا رجل واحد من لمنافقين يقال له جـد بن قيـس .
أخذ رسول اللهr هذه البيعة تحت شـجرة ، وكان عمر آخذاً بيده ، ومعقل بن يسار آخذاً بغصن الشجرة يرفعه عن رسول اللهr ، وهذه هي بيعـة الرضوان التي أنزل الله فيها { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشـجرة ..} ـ الفتح 18ـ
الــبيـعــة الــعــامــــة
1 ــ بيعـة العقبـة الثانيـة :
وهي أول بيعة على إقامة الدولة المسلمة ، ويلاحظ هنا أن المسلمين (الأنصار ) بايعوا رسول الله r البيعـة العـامـة قبل قيام الدولة المسلمة ، ويستنتج منه أن البيعة العامة تعطى لأمير يسعى من أجل إقامة الدولة المسلمة ؛ في حالة غياب الإمام المسلم ( الخليفة ) ،وهذه البيعة يؤدي بها المسلم الواجب المناط بعنقـه [ ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ] ، فمن بايع أميراً يجاهد من أجل تطبيق شـرع الله عزوجل وإقامة الدولة المسلمة فمات مات على الإسلام الصحيح والعقيدة السليمة إن شاء الله تعالى .
يقول المباركفوري (133) : ( في موسم الحج في السنة الثالثة عشر من النبوة ـ يونيو 622م ـ حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفس،اً من المسلمين من أهل يثرب ، جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين ، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم ــ وهم لم يزالو في يثرب و كانوا في الطريق ــ حتى متى نترك رسول الله r يطوف ويطرد في جبال مكـة ويخـاف ؟
فلما قدموا مكـة جـرت بينهم وبين النبي r اتصالات سـرية ، أدت إلى اتفق القرقين على أن يجتمعوا في أوسـط يم التشريق في الشـعب الذي عند العقبـة حيث الجمرة الأولى من منـى ، وأن يتـم هذا الاجتماع في سـرية تامة في ظلام الليل .
ولنترك أحد قدة الأنصار يصف لنا هذا الاجتمع التاريخي ، الذي حول مجرى الأيام في صراع الوثنية والإسلام ، يقول كعب بن مالك لأنصاري t : ... فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحلنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحلنا لميعاد رسول الله r ، نسلل تسلل القطا مستخفين ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من نسائنا ... فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول اللهr حتى جاءنا ومعه (عمه ) العباس ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ وبعد أن تكامل المجلس بدت المحادثات وتكلم العباس ثم تكلم رسول الله r وتمت البيعة .
وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلاً قال جابر : قلنا يارسول الله على ما نبايعك ؟ قال : 1 ــ على السمع والطاعة في النشاط والكسل . 2 ـ وعلى النفقة في العسر واليسر . 3 ـ وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر . 4 ـ وعلى أن تقوموا في الله ، لاتأخذكم في الله لومة لائم . 5 ـ وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنـة( [vii]).
فقام العباس بن عبادة فقال : هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم . قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ... قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يارسول الله إن نحن وفينا بذلك ؟ قال : الجنـة . قالوا : ابسط يـدك فبسط يـده فبايعوه . فقمنا نبايعه فأخذ بيـده أسعد بن زرارة فقال : رويداً يا أهل يثرب ، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة ، وقتل خياركم ، وأن تعضكم السيوف ، فإما أن تصبروا على ذلك فخذوه ، وأجركم على الله ، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفـة فذروه ، فهو أعذر لكم عند لله ـ رواه أحمد من حديث جابر ـ
وبعد إقرار بنود البيعـة ، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة ، قال جابر : فقالوا يا أسعد ، أمط عنا يدك ، فوالله لانـذر هذه البيعة ، ولانستقيلها . وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل ، وتأكد منه ــ وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير ، وبالطبع فكان هو الرئيس الديني على هؤلاء المبايعين ــ فكان هو السابق إلى هذه البيعة . قال ابن اسحاق : فبنو النجار يزعمون أن أسعد كان أول من ضرب على يـده . وبذلك بدأت البيعـة العـامـة ، قال جابر : فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا البيعة ، يعطينا بذلك الجنـة ، وأما المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولاً وماصافح رسول اللهr امرأة أجنبية قط ـ صحيح مسلم بيعة النساء ـ
2 ــ يــوم فتـح مــكــة :
يقول المباركفوري ( 375) : ( وحين فتح الله مكـة على رسول الله r والمسلمين تبين لأهل مكـة الحـق ، وعلموا أن لاسبيل إلى النجاح إلا بالإسلام ، فأذعنوا لـه ، واجتمعوا للبيعـة ، فجلس رسول الله r على الصفا يبايع الناس ، وعمر بن الخطاب أسفل منـه ، يأخذ على الناس ، فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا ، وفي المدارك : روي أن النبي r لمـا فرغ من بيعـة الرجال أخذ في بيعـة النسـاء ـ وهو على الصفـا ، وعمر قاعد أسفل منـه ، يبايعهن بأمـره ، ويبلغن عنـه ــ فجاءت هند بنت عتبة (زوجة أبي سفيان ) متنكرة خوفاً من رسول الله r أن يعرفها ، لما صنعت بحمزة t يوم أحد ، فقال رسول الله : أبايعكن على أن لاتشركن بالله شيئاً ، فبايع عمر النساء على أن لايشركن بالله شـيئاً . فقال رسول الله : ولاتسرقن . فقالت هند : إن أبـا سفيان رجل شحيح ، فإن أنا أصبت من ماله هنات ؟ فقال أبو سفيان : وما أصبت فهو لك حلال ، فضحك رسول الله r وعرفها ، فقال : وإنك هند ، قالت : نعم ، فاعف عما سلف يانبي الله ، عفا الله عنك . فقال : ولايـزنـين . فقالت : أو تزني الـحرة !؟ فقال : ولايقتلن أولادهن . فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً ، فأنتم وهم أعلم ــ وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر ــ فضحك عمر حتى استلقى ، فتبسم رسول لله r . فقال : ولايأتين ببهتان فقالت : إن البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشـد ومكارم الأخلاق ، فقال : ولايعصينك في معروف . فقالت : والله ماجلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك . ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول : كنا منك في غرور ).
الفصل الرابع
التحـا لـف السياسي
الـحـلـف لـغـة :
الحلفاء هم الذين تعاقدوا على التناصر والتمالؤ على من خالفهم ، والمقصود بـه بين الجماعة المسلمة وتجمع آخر؛ ولو كان كافراً على عدو ثالث . يقول الإمام المحدث ابن الأثير : أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق .
الـحـلـف شـرعــاً :
يقول ابن الأثير : ( لاحلف في الإسلام ) أي ماكان تحالفاً على الفتن والقتال بين القبائل والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام ، أما ماكان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين فذاك قال فيه r [ وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شـدة ] وقد حالف رسول الله r بين المهاجرين والأنصار .
يقول الدكتور منير الغضبان (7) : ( ونحن نخلص إلى أن الحظر للحلف في الإسلام هو مايقوم على الاعتداء على الآخرين ، ومادون ذلك فهو جائز سواء كان بين فئتين من المسلمين أو كان بين المسلمين وغيرهم ، فقد حالف الرسول r اليهود في المدينة ثم حاربهم عندما نقضوا العهد ، كما صالح قريشاً بينما شـن هجومـه على يهود خيبر .
التحالف في مرحلة الضعف
1 ــ حلف أبي طالب مع رسول الله r :
لما نزل قوله تعالى ] وأنذر عشيرتك الأقربين [ دعا رسول الله r بني هاشم في المرة الأولى ، ثم الثانية يدعوهم إلى الإسلام ويقف أبو لهب في وجهه ، يمنعه من دعوته ، فقال أبو طالب : (ما أحب إلينا معونتك ، ومرافدتك وأقبلنا لنصحك ، وأشد تصديقاً لحديثك ، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم ، غير إني والله أسرعهم إلى ماتحب ، فامض لما أمرت به ، فوالله لاأزال أحوطك وأمنعك غير أن نفسي لاتطاوعني على فراق دين عبد المطلب ، حتى أموت على ما مات عليه). فقال أبو لهب : هذه والله السـوأة ، خذوا على يديـه قبل أن يأخذه غيركم ، فقال أبو طالب : والله لنمنعنّـه ما بقينـا ( الرحيق المختوم ص90) .
(وهذه ظاهرة برزت الآن من أهم ظواهر هذه المرحلة الجديدة هي ظاهرة النصرة رغم اختلاف العقيدة وسنرى أبعاد ها وكيف تبلورت فيما بعد ليكون كل بني هاشم والمطلب ـ عدا أبي لهب ـ وراء أبي طالب لحماية الرسول r ، وحاولت صفية ـ t ـ أن تحرك نخوة أخيها أبي لهب لعلها تثنيه عن حقده وحربه ، لكن دون جدوى ، ولكنها شفت صدر رسول الله r الذي يمتلئ أسى حين قالت : فوالله مازال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبي فهو هو ) ـ منير الغضبان ـ القيادية /1209)
ثم هددت قريش بشـن الحرب على أبي طالب إن استمر في حلفه وحمايته لابن أخيه ، وأراد أبو طالب أن يكف محمد r عن شيء من دينه ، فكان جوابه r [ ...لو وضعوا الشمس في يميني ... ) فقال أبوطالب اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً .
ثم أجمعت قريش على أن يقتلوا رسول الله r فبلغ ذلك أباطالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول اللهr في شـعبهم ومنعوه ممن أراد قتلـه ، فمنهم من فعل ذلك حميـة وعصبية ، ومنهم من فعل ذلك يقيناً وإيماناً ( السيرة النبوية لعبدالله بن محمد بن عبد الوهاب ص93) .
ثم كان حصار الشعب عندما كتبت قريش الصحيفة لمقاطعة بني هاشم وعلقوها في جدار الكعبة . فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم إلى أبي طالب فدخلوا في شـعبه ، وأقموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً ، حتى جهدوا وكان لايصل إليهم الطعام إلا سـراً .
وهذه نصوص السيرة النبويـة في حلف أبي طالب :
يقول المباركفوري (ص69) : ( وأول مافعل رسول الله r بعد نزول هذه الآية ] وأنذر عشيرتك الأقربين [ أنه دعا بني هاشم فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب فكانوا خمسة وأربعين رجلاً ، فبادره أبو لهب وقال : وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصبّاة ، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ، ... فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشـر مما جئت بـه ، فسكت رسول الله r ولم يتكلم في ذلك المجلس . ثم دعاهم ثانية وقال [ الحمد لله أحمده ، وأستعينه ، وأومن بـه ، وأتوكل عليه ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، ثم قال : إن الرائد لايكذب أهله ، والله الذي لاإله إلا هو ، إني رسول الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً ] فقال أبو طالب : ما أحب إلينا معاونتك ، وأقبلنا لنصحيتك ، وأشد تصديقاً لحديثك ، وهؤلاء بني أبيك مجتمعون ، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ماتحب ، فامض لما أمرت بـه ، فوالله لاأزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لاتطاوعني على فراق دين عبد المطلب . فقال أبو لهب : هذه والله السـوأة ، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم ، فقال أبو طالب : والله لنـمنعنّـه ما بقينا ).
قال ابن اسحق : ( مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك قد سـب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسـفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفـه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل مانحن عليه من خلافه ، فنكفيكه . فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً ، وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله r على ماهو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ( ابن هشام 265) .
ويقول ابن اسحاق ( فلما بادى رسول الله r قومه بالإسلام ، وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه ـ فيما بلغني ـ حتى عاب آلهتهم ، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، ,اجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون ، وحدب على رسول الله r عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله r مظهراً لأمره لايرده عنه شيء ، فلما رأت قريش ان رسول الله r لايعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب ىلهتهم ، ورأوا عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشر رجال من اشراف قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ، وأبو سفان بن حرب ، وأبو البختري ، وألأسود بن المطلب ، وأبو جهل عمرو بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، والعاص بن وائل السهمي ، أو من مشى معهم فقالوا : يا أبا طالب لإن لك سـناً وشـرفاً ومنزلـة فينـا ، ولإنا قد استنهيناك من ابن خيك فلم تنـهه ، وإنا ولله لانصبر على هذا ، من شـتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفـه عنا ، أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين .
عظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد ، فبعث إلى رسول اللهr وقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، فأبق عليّ وعلى نفسك ، ولاتحملني من الأمر ما لاأطيق ، فظن رسول الله r أن عمـه خاذله ، وأنه ضعف عن نصرته فقال : [ ياعم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك دونه ـ ماتركته ، ثم استعبر وبكـى ، وقام ، فلما ولى ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له : اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لاأسلمك لشيء أبداً وأنشد :
والله لن يصلـوا إليـك بجمعهم ــ حتى أوســد في التراب دفيــنا
فاصنع بأمـرك ماعليك غضاضـة ــ ( وأبشـر وقـر بذاك عيونــا)
ودعتوتني وزعـمت أنك ناصحي ــ ولقـد صدقت وكنت ثم أمينــا
لولا الملامـة أو حـذار مسـبة ـــ لوجدتني سمحاً بذاك مبينـا
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه ـــ من خير أديان البريـة دينا
يقول منير الغضبان ( التحالف ص15) ( ونحن هنا أمام صيغة جديدة طلب فيها أبو طالب ربط حمايته للرسول r بتقييد حرية الدعوة أو التخلي عن شيء من هذا الدين ، فرفض رسول الله r النصرة على هذا الأساس وتخلى عنها ، وتراجع أبو طالب فوافق على الحماية والمنعة بدون قيد أوشـرط . ولابد من الإشارة أن هذا الأمر تـم مع بقاء أبي طالب على شـركه ، ونفذ تعهده (بحماية الرسول r ) كاملاً ، ورغم كفر أبي طالب فهو لم يباد الإسلام بسـوء ، ووضع إمكانيته وثقله في جانب الإسلام ) .
قال ابن اسحاق :
ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله r وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، ذهبوا مرة أخرى إلى أبي طالب بعمارة بن الوليد وقالوا لأبي طالب : إن هذ الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً فهولك ، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك وسـفه أحلامهم ، فنقتلـه ، فإنما هو رجل برجل ، فقال : والله لبئس ما تسوموني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ، هذا والله لايكون أبداً . (مختصر سيرة الرسول r للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ص68) .
ولما رأى أبو طالب تألب قريش على ابن أخيه قام في أهل بيته من بني هاشم وبني المطلب ولدي عبد مناف ، ودعاهم إلى ماهو عليه من منع ابن أخيه والقيام دونه ، فأجابوه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم ، حمية للجوار العربي ، إلا ماكان من أبي لهب فإنه فارقهم وكان مع قريش ، واستطاع أن يدحر أخاه أبا لهب ، بحيث يبقى منبوذاً وحده مع أعداء قومه ، ولم ستجب له إلا بنوه ، بينما انضم كل الشباب الهاشمي والمطلبي إلى شيخهم وعظيمهم أبي طالب ، وقرت عين الزعيم الهاشمي بذلك ، فراح يفخر بهذا الجمع الضخم الذي سار كتلة واحدة لنصرة الأمين محمد بن عبدالله r وبرز الحزب الجديد الذي يكافئ الحزب الإسلامي ، حزب أنصار محمد r وفيه بضعة وأربعون رجلاً خلا النساء والعواتق في الخدور اللاتي كن على استعداد للموت حماية لسيدهم وشريفهم محمد بن عبدالله r ، ولاتزال كلمة صفية عمة رسول الله r ترن في أعماق البهاليل من بني هاشم : ( فوالله مازال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبي ، فهو هو ) ، وأروى بنت عبد المطلب عمته الثانية تقول لابنها طليب : ( إن أحق من وازرت وعاضدت خالك ، والله لو كنا نقدر على مايقدر عليه الرجال لتبعناه وذببنا عنه ) ، وتقول لأخيها أبي لهب : ( ...فقم دون ابن أخيك واعضده وامنعه فإن يظهر أمره فأنت بالخيار أن تدخل معه أو تكون على دينك ، فإن يصب كنت قد أعذرت في ابن أخيك ) فقال أبو لهب : ولنا طاقة بالعرب قاطبة ؟ جاء بدين محدث . ( الغضبان ، القيادية 1/ 248) .
ابو طالب يواجه موقف قريش :
وجعلت قريش تنشر في الموسم بين قبائل العرب أن محمداً ساحر ، يفرق بين المر وأبيه ، والمرء وابنه ن والمرء وزوجه ، فذاع صيت محمد r بين قبائل العرب ، وامنتشر ذكره في بلاد العرب كلها .
ولكن هذه الشهرة أقلقت أبا طالب ، زعيم الحزب الهاشمي ،وخشي أن تتحالف القبائل مع قريش ضد محمد وبني هاشم ، فقال أبو طالب شعراً يبين فيه أن بني هاشم لايسلموا محمداً حتى يهلكوا دونه ، ويستعيذ بكل الحرمات ومناسك الحج ، ثم يؤكد أنه وحزبه جميعاً فداء لمحمد بن عبد الله ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، ومن هذه القصائد :
كذبتم وبيت الله نترك مكة ــ ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً ــ ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حـولـه ــ ونذهل عن أبنائنا والحلائل
( والذي يعنينا من هذه القصيدة ، هو أثر هذه القصيدة العصماء على الدعوة ، فقد كان حزب الله ( المسلمون الأول ) سعيداً بهذه الحمية الهاشمية التي انتهت بفداء الحبيب المصطفى r ، وأصبح حب بني هاشم ديناً في عنق كل مسلم ، لأنهم اصبحوا حماة رسول الله r ، وعرفت العرب قاطبة أن رهط محمد وقبيلته غير مسلميه ، ولو قتل أبناؤهم وحلائلهم، فلم تعد لدى العرب الجرأة على الحلف مع قريش ضده ، ووقفوا متفرجين عما ينكشف الصراع بين محمد r وقومـه ، وفي ظل هذه الحماية ، كان رسول الله r يمضي في دعوته ، ساهراً على صحبه ، مقيماً مع حزبه ، يبني ويدعو ، وينير الدرب ، ويجاهد في سبيل الله ، وقد رأى هؤلاء المستضعفون جنده وحزبه ، ولو كان قومه بنو هاشم وبنو المطلب حمـاته ( الغضبان ، القيادية ، 1 / 296) .
إسـلام حمـزة ظاهـرة الحميـة الهاشـمية :
ومن هذه الحمية والنخوة القبلية التي أثارها أبو طالب لحماية رسول الله r إسلام حمزة بن عبد المطلب t ، فقد كانت بدايتها حمية قبلية لابن أخيه :
( عن محمد بن كعب القرظي قال : كان إسلام حمزة حمية ، وكان يخرج من الحرم ليصطاد ... ، فأقبل من رميه ذات يوم فلقيته امرأة فقالت : يا أبا عمارة ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل ؟ شتمه وتناوله وفعل وفعل ، فقال : هل رآه أحد ؟ قالت : أي والله لقد رآه الناس ، فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة فإذا هم جلوس ، وأبو جهل فيهم ، .... ثم جمع يديه بالقوس فضرب بها بين أذني أبي جهل فدق سنتها ( طرفها ) ثم قال : خذها بالقوس وأخرى بالسيف ، أشهد أنه رسول الله r ، وأنه جاء بالحق من عند الله .. ولما اسلم حمزة عز به رسول الله r والمسلمون ، وثبت لهم بعض أمرهم ، وهابت قريش ، وعلموا أن حمزة t سيمنعه )([viii])
(وكان هذا أول صدام بين الحزب الهاشمي وبين بني مخزوم قادة قريش ضدهم ، إنها معركة جاهلية تدور بجوار حزب الله لصالح هذا الحزب المرتبط بالله تعالى مباشرة ، والذي يتلقى تعليماته وقيمه ومفاهيمه من عند الله عزوجل ، ولم يكن حمزة يعنيه شيء من المعركة الدائرة بين قلاريش وابن أخيه محمد r ، خصوصاً بعد أن اتخذ شيخ بني هاشم أخوه ابو طالب قراره بحماية رسول الله r ، ولم يكن يفكر لحظة واحدة في التخلي عن حماية ابن أخيه والذود عنه ، لكن له خمرته ، وله شهوته ، وله شجاعته ، وشكيمته ، وعندما مضى ليصد ذلك التحدي الأحمق من بني مخزوم كان قد بلغت الحمية عند ذروتها ، فلا بد أن يثأر وينتقم ، وبعدها يفكر في العواقب ، إنها حمية الجاهلية الخالصة التي دفعته لأن يقول لأبي جهل بعد أن ضربه : ديني دين محمد ، أشهد أنه رسول الله ، فو الله لا أنثني عن ذلك ، فامنعوني عن ذلك إن كنتم صادقين ) الغضبان القيادية 1/ 297 .
ثم رجع حمزة إلى بيته ، فأتاه الشيطان فقال ك انت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ ، وتركت دين ىبائك ، للموت خير لك مما صنعت ، فأقبل على حمزة بثـه ، فقال : ماصنعت ؟ اللهم إن كان رشداً فاجعل تصديقه في قلبي ، وإلا فاجعل لي مما وقت فيه مخرجاُ . فبات بليلة لم يبت بمثلها ، من وسوسة الشيطان وتزيينه حتى اصبح ، فغدا على رسول الله r فقال : يابن أخي ، إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه ، وإقامة مثلي على ما لاأدري ماهو أرشد هو ؟ أم غي ؟ شـديدة . فحدثني حديثاً ، فأقبل رسول الله r عليه فذكره ووعظه وخوفه وبشـره ، قال : فألقى الله عزوجل في نفسه الإيمان بما قال رسول الله r فقال : أشهد أنك صادق ، شهادة الصادق العارف ، فأظهر يا ابن أخي دينك ، فو الله ما أحب أن لي ما أظلته السماء ، وأني على ديني الأول ، فكان حمزة ممن أعز الله به الدين ([ix]).
حـصـار الشـعب :
لما كثر المسلمون وظهر الإسلام أقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم ، فبلغنا أنه r قال للمؤمنين : [ تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم ] قالوا : إلى اين ؟ قال : إلى هاهنا واشار بده إلى الحبشة([x]).
وبدأ الخروج الجماعي أمام سطوة قريش بتوجيه نبوي ، بحيث لاتقع سلطة قريش عليهم ، ويكاد يكون جميع المسلمين قد مضوا إلى الحبشة . فقد هاجر من الخمسين الأوائل أربعة وعشرون ، وهاجرت الخمسون الثانية تقريباً، ولم يبق في مكة إلا النبي r ورهطه ، ورهط أبي بكر وعمر t ، وكان مجموع الباقين ستة وعشرين صحابياً .
ولما رأت قرش أن أصحاب رسول الله r قد نزلوا بلداً أصابوا فيه أمناً وقراراً ، وأن رسول الله r قد منعه قومه ، فأجمع المشركون على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشعب .
اجتمعت قريش فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب أن لايناكحوهم ، ولايبايعوهم ، ولا يجالسوهم ، ولايخالطوهم ، ولايدخلوا بيوتهم ، ولايكلموهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله r للقتل ، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق ، ( أن لايقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ، ولاتأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل ) ـ زاد المعاد 2/46ـ، تم هذا الميثاق ، وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة ، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب ، فدخلوا معه الشعب ، مؤمنهم وكافرهم ، فالمؤمن ديناً ، والكافر حمية ـ إلا أبا لهب ـ وحبسوا في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة . واشتد الحصار ، وقطعت عنهم الميرة والمادة ، حتى بلغهم الجهد ، وأكلوا أوراق الشجر والجلود ، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع ، وكان لايصل إليهم شيء إلا سـراً . وكان أبو طالب يخاف على رسول الله r ، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله r أن يضطجع على فراشـه ، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله ، فإذا نام الناس أمر أحد بنيـه أو إخوانه أو بني عمـه فاضجع على فراش رسول اللهr وأمره أن يأتي بعض فرشـهم .
يقول منير الغضبان ( المنهج الحركي ،ص24) : (لقد كانت حماية النبي r من القتل منوطـة ببني هاشم وبني المطلب ، ورفضوا تسليمه لقريش ، وتحملوا مصائب كادت تودي بهم ، ولم يتراجعوا عن هذه الحمايـة . وكان لهذا التحالف أثر في الفقه الإسلامي حيث أن سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم وبني المطلب ).
ويقول تكاد تكون قضية الصحيفة قضية الحزب الهاشمي الذي كان على رأسه أبو طالب ، بينما كان دور حزب الله ( المسلمين ) دوراً ثانوياً في هذا الموضوع ، وحصرت قريش هدفها في قتل محمد r ، ولكن أبا طالب وقف وقفة الأسود بصلابة لاتعرف المهاودة ، ولأن المعركة صارت قبلية أراد الرسول r لحزبه ان يتفرق ويتجمع في الحبشة حتى تنتهي المحنة ، وترك للحزب الهاشمي أن يحمل مسؤولية المواجة القبلية ، ولعلع r دفع الكثيرين إلى الحبشة خشية أن يخرج أحدهم عن طوره فيغتال بعض قيادات مكة ، وتقع الحرب على أساس قبلي ، وتضيع العقيدة في متاهات هذه الحرب وتعود البسوس من جديد، ووقف أبو طالب سيد بني هاشم مع بني هاشم وبني المطلب وقفة رجولة قلما يجود التاريخ بمثلها ، فقد تقبلوا الحصار ببطولة نادرة ، وتحملوا الجوع والشظف والفقر فداء لسيدهم محمد r ، وكان لهذا الثبات العظيم والإصرار على افتداء محمد r بالروح والدم من مهج الحزب اهاشمي قيادة وقاعدة ؛ أن بدأ الوهن يتسرب لصف مكة ، وبدأ الضمير الحي يهتز في قلب هذا المجتمع الجاهلي ([xi]).
وبعد أن خرجوا من الشعب ونقضت الصحيفة التي أكلتها الأرضة ، وتوفي أبو طالب .
قال ابن اسحاق ( 1/416) : (لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله r من الأذى ما لم تطمع بـه في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر التراب على رأسـه ، ودخل بيته ، والتراب على رأسـه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنـه التراب وهي تبكـي ، ورسول الله r يقول لها : لا تبكي يابنية ، فإن الله مانع أباك . قال : ويقول بين ذلك : مانالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب ) .
والشاهد هنا تحالف رسول الله r مع عمه أبي طالب وعمه على الشرك ، واستفادة الرسول r من قومـه بني هاشم وبني المطلب ، وبعضهم مازال على الشرك ، أي أن رسول الله r استفاد من العصبية القبلية السائدة يومذاك ، واستثمرها في سبيل الدعوة إلى الله عزوجل .
وحفظ التاريخ الإسلامي هذا الثناء على المشركين في مواقفهم العظيمة في حماية الدعوة ومساندتها ، والذود عنها وعن رجالها ، ولابد هنا من مراجعة لفقه التربية النبوية في هذا المجال ، فقد تختلط الأوراق أحياناً بين هذا الثناء وبين الموادة لمن حادّ الله ورسوله ، وبين المداهنة في العقيدة لتحقيق الحماية المطلوبة ، وما أحوج الدعاة إلى الله وقادة الحركات الإسلامية إلى تملي هذه المواقف وتدبرها ، بحيث لاتختلط الأوراق عندهم فينـزلقون بعيداً عن الإسلام وهم لايشعرون . لقد كان الصف المسلم كله وعلى رأسه قائده رسول الله r في جبهة واحدة مع بني هاشم ، مسلمهم ومشركهم ، ضد صف قريش الذي يود قتل رسول الله r ، وحقيقة ألمر أن هذا الجناح من المشركين الذي يمثله ابو طالب وقومه ، هم الذين وقفوا في خندق الصف المؤمن وانضموا له لحمايته ، وتحملوا الأذى في سبيله ، وتحملوا الجوع والحصار والتضييق لحماية قائده ، وكانوا على استعداد تام لأن يفنوا عن آخرهم قبل أن يسلموا محمداً r ، ونسالأ عن الثمن ؟ الذي قدمه رسول الله r ؟ إنه لاشيء . لقد بقي رسول الله r ومن معه من حزب الله ماضون في نشر عقيدتهم ، وغيضاح مبادئهم ، التي تتناقض مع عقيدة مشركي بني هاشم ، وزعيم الحزب الهاشمي أبي طالب نفسه ، بل كان أبو طالب في شعره كثيراً مايتكلم باسم المسلمين ويتحدث عن محمد رسول الله r وليس ابن أخيه فقط :
ألم يعلموا أنا وجدنا محمدا ــ نبياً كموسـى خط في أول الكتب
وأن عليه في العبـاد محبـة ــ ولا خير ممـن خصه الله بالحب
وقال أيضاً :
وقد علمت بأن دين محمد ـــ من خير أديان البرية ديـنا
تحالف بلا مساومة على العقيدة :
كانت وفاة أبي طالب بعد نقض الصحيفة بستة أشهر ، وقد قلبت وفاته الموازين كلها ، فكثير ممن كان يشارك في حماية الرسول r أو يمتنع عن إيذائه حرمة ومهابة لأبي طالب ، فمع وفاته بدأ الاعتداء العنيف على النبي r وبدأت محاولات قتله .
وفي لحظة عابرة تحركت النخوة في رأس عدو الله أبي لهب فقال لرسول الله r : اذهب يا ابن أخي ، وماكنت تصنعه وأبو طالب حي فاصنعه . وكان لهذا الموقف وقع الصاعقة على قريش فشرعت بذكائها لتدمير هذا الحلف ، ونجحت أيما نجاح عندما أو عزت إلى أبي لهب أن يسأل رسول الله r عن عبد المطلب . وكان رسول الله r بين أمرين ، والموقف حرج جداً ، فإما أن تستمر الحماية مقابل مهادنة بكلمة واحدة في دين الله ومساومة ... وإما أن تنهار الحماية كلها لو تحدث عن عبد المطلب بما لايرضيهم ، وما كان لرسول الله r أن يساوم على حساب العقيدة ، ولو كان في ذلك حمايته ليبلغ هذه العقيدة ... فقال لعمه أبي لهب : هو في النار . فقال : أبو لهب : مازلت عدواً لك أبداً . وعاد فانضم إلى معسكر قريش . ( الغضبان ، المنهج الحركي ، 27) .
( روى ابن سعد عن حكيم بن حزام وثعلبة بن صعير قالا : لما توفي أبو طالب وخديجة اجتمع على رسول الله r مصيبتان فلزم بيته ، وألّ الخروج ، ونالت قريش ما لم تكن تنال ولاتطمع فيه ، فبلغ ذلك أبا لهب فجاء فقال : يامحمد امض لما أردت ، وما كنت صانعاً ، إذ كان أبو طالب حياً فاصنعه ، لا واللات والعزى لايوصل إليك حتى أموت .
وسب ابن الغيطلة النبي r فأقبل عليه أبو لهب فنال منه ، فولى وهو يصيح : يا معشر قريش صبأ أبو عتبة ، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال : ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد ، قالوا : قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم .
فمكث رسول الله r اياماً يذهب ويأتي لايعترض له أحد من قريش ، وهابوا أبا لهب إلى أن جاء عقبة بن معيط وأبو جهل بن هشام إلى أبي لهب فقالا له : أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟ فقال أبو لهب : يامحمد أين مدخل أبي عبد المطلب ؟ قال : [ مع قومـه ] . فخرج أبو لهب إليهما فقال : قد سألته فقال : مع قومـه . فقالا له : يزعم أنه في النار . فقال : يامحمد ، ايدخل عبد المطلب النار ؟ فقال رسول الله r : نعم ومن مات مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار . فقال أبو لهب : لابرحت لك عدواً وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار ، فاشتد عليه هو وسائر قريش ([xii]).
حاول رسول الله r أن يعطي جواباً لاعاماً في البداية فقال [ مع قومـه ] ، لكن المتآمرين الكبار ، لن يدعوا هذا الجواب حتى يصلوا إلى جواب محدد ، وذلك حين قال أبو لهب : يامحمد ، أيدخل عبد المطلب النار ؟ فقال رسول الله r : نعم . والقضية الآن قضية عقيدة لاتحتمل الابهام ، ففي ذهن مشركي مكة جميعاً أنهم على ملة عبد المطلب ، فلو كان الجواب أنه في الجنة لاعتبروا أنفسهم جميعاً مثله ، وهو لم يدرك البعثة والرسالة ، وهم أدركوها ، (وبالتالي فلا حاجة لهذه الدعوة ماداموا هم وعبدالمطلب في الجنة ) وبذلك تربح الدعوة وقائدها حماية وتخسر العقيدة ، وتعطي بلبلة وانحرافا في اذهان المسلمين والمشركين على السواء . فلا مناص من القول [ نعم ، ومن مات على مثل مامات عليه عبد المطلب دخل النار ] ([xiii]).
حلف الرسول r مع مطعم بن عـدي :
عاد رسول الله r من الطائف ، ومكث في غار حـراء ، ثم بعث رجلاً من خزاعة يبحث للرسول r عن حليف ليدخل مكة ، ولما وصل الخبر إلى المطعم بن عـدي : قال : نعم ، ثم تسلح ودعا بنيـه وقومه فقال : البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت ن فإني قد أجرت محمداً ، ثم بعث إلى رسول الله r أن أدخل فدخل r ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمداً فلا يهيجه أحد منكم ، وانتهى النبي r إلى الركن فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ، ومطعم وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيتـه .
وقد حفظ رسول الله r ذلك لمطعم بن عدي ، وعرف مدى الخطورة التي عرض نفسـه وولده وقومه لها من أجله ، فقال عن اسارى بدر السبعين يوم اسرهم : لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له .
( فرغم العداء الفكري فرسول الله r يفرق بين من يعادي هذه العقيدة ويحاربها ، ومن يناصرها ويسالمها ، إنهم وإن كانوا كفاراً فليس من سـمة النبوة أن تتنكر للجميل .
والشاهد أيضاً أن المطعم بن عدي مشرك ، وقد حالف الرسول r وحماه ، واستفاد رسول الله r من حمايته لـه ،
لكن حلفه مع المطعم بن عدي كان لحماية شخصه r ، ولم يكن لتأمين حرية الدعوة كما كان حلفه مع عمه أبي طالب .
البحث عن حليف خارج مكـة :
وأمام هذا التطور انتهى النبي r إلى أن مكة لم تعد مكاناً آمناً لتبيلغ الدعوة ، وبدأ يبحث عن مكان آخر . فذهب رسول الله r إلى الطائف يبحث عن حليف في ثقيـف ينصره
ويحميه ليبلغ دعوتـه ، وأقام رسول الله r بين أهل الطائف عشرة أيام لايدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه ، فقالوا : اخرج من بلادنا ، وأغروا بـه سفهاءهم ، فلما أراد الخروج تبعـه سفهاؤهم وعبيدهم يسـبونه ويصيحون بـه ، حتى اجتمع لـه الناس فوقفوا له سماطين ( صفين ) وجعلوا يرمونه بالحجارة ، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء ، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه ( الرحيق المختوم للمباركفوري ) .
ثم عاد رسول الله r إلى مكة ، ودخل في جوار المطعم بن عدي كما رأينا ، وتابع النبي r بحثه عن مكان آخر غير مكة آمن للدعوة ، وقبيلة ذات شكيمة قادرة على حمايته ليبلغ رسالة ربـه ، وكانت الفرصة مواتية ، فلقد أهل موسم العام العاشر للبعثة ، وأزف شهر ذي الحجـة ، وابتدأت مرحلة التوجه إلى قبائل أخرى غير قريش وثقيف ، تكون قادرة على حماية الرسول r حتى يبلغ رسالة ربـه .
يقول المقريزي في إمتاع الأسماع : ( ثم عرض رسول الله r نفسـه على القبائل أيام الموسم ... بدأ بكندة ، ثم أتى كلباً ، ثم بني حنيفة ، ثم بني عامر ، وجعل يقول : من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي ، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالى ربي ؟! ... إنها دعوة صريحة بطلب الحماية من القبائل العربية لتبليغ دعوة الله عزوجل . ( ويفهم من هذه الدعوة أنه ليس من الضروري أن تسلم القبيلة ، إنما المطلوب أن تؤمن الحماية اللازمة له لتليغ دعوة الله عزوجل ، كما أن الذين هيؤوا له الحماية من قبل لم يكونوا مؤمنين جميعاً ، بل كان أبو طالب على رأسهم ولم يدخل في الدين الجديد .
الأمـر للـه يضعـه حيث يشـاء :
قال ابن اسحاق : ( وأنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بحيلاة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب . ثم قال : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال r : الأمـر للـه يضعـه حي ثيشـاء . فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا . لاحاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه ) ( المقريزي في امتاع الأسماع ).
لقد رفض رسول الله r أن يجعل لهم الحكم بعده ، لأن الحكم في الإسلام شــورى بين المسلمين ، ومما يؤكده أن رسول الله r توفي ولم يعين خليفة بعده ، بل ترك الأمر شـورى للمسلمين بعده . وهذه قاعدة هامة في الحكم الإسلامي ، وقد نقضت هذه العروة منذ بداية الخلافة الأموية . فالحكم للأمـة ( الشعب ) الذي يوكل ذلك إلى من يرضاه كما تـم في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .
ويعلق الغضبان فيقول ( يمكن للحركة الإسلامية أن تقبل حماية من مشرك في حالة ضعفها وعدم تمكنها ، ولكن أن تعطي هذا العدو الحق في أن يسود ويحكم باسمها ومن ورائها ويستغلها مطية لمآربه ؛ فهذا مرفوض في الميزان الإسلامي ) ص ـ 35 ـ
لن ينصر دين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه :
وكان اللقاء الثاني مع بني شيبان ، وبعد محادثات بدأها أبو بكر رضي الله عنه ،قال رسول الله r : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأني رسول الله ، وإلى أن تؤوني وتنصروني فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله ، واستغنت بالبالطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد .
وبعد محادثات وسؤال وجواب قال المثنى بن حارثة الشيباني : ( ... وإنما نزلنا على عهد أخذه عليناكسـرى ، لانحدث حدثاً ولانؤوي محدثاً ،وإني أرى أن هذا ألأمر مما تكرهه الملوك . فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا . فقال رسول الله r : ما أساـم الرد إذ أفصحتم بالصدق فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه ، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ، ويفرشكم نساءهم ، أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال النعمان بن شريك : اللهم لك ذلك ، غفتلا رسول الله r { ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداُ ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } ـ الأحزاب 45 ـ 46 ـ
( إن الحماية المشروطة أو الجزئية لاتحقق الهدف المقصود ، فلن يخوض بنو شيبان حرباً ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله r وتسليمه ، ولذلك فشلن المباحثات ) الغضبان ص 38 ـ
قال : ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبي r وكانوا صدقاً صبراً .
[xiv]
([i]) انظر : شرعية الانتماء للأحزاب والجماعات الإسلامية المعاصرة ، لمركز تطبيق الشريعة في إسلام آباد .
([ii]) أحمد (5/243) ، وقال الألباني في الطحاوية صحيح الإسناد .
([iii]) جامع الأصول (6/669)وأخرجه الترمذي برقم (2166) في الفتن باب ماجاء في لزوم الجماعة وإسناده حسن ، ورواه أحمد في المسند رقم (144ـ 177) ، ورواه الحاكم في الإيمان ، فالحديث صحيح من طرق صحيحة .
([iv]) مسلم (1848) في الإمارة ، والنسائي (7/133) في تحريم الدم ، وابن ماجة (3948) في الفتن ، وجامع الأصول (4/70) .
([v]) أولي الأمر هم أهل الحل والعقد إذا اجتمعوا ( أو اجتمع أكثرهم ) علىأ مر وجب على المسلمين طاعتهم ، ويقول الشافعية : إذا فقد الإمام تنصرف الإمامة إلى أعلم أهل زمانه ، ويرى الباحث أن أعلم أهل زمانه هم أهل الحل والعقد في الأمة ـ واللـه أعلم ـ انظر الغياثي للجويني ، وانظر جماعة المسلمين ... لصلاح الصاوي .
([vi]) ابن تيمية ، منهاج السنة (3/273)، والحديث الشريف أخرجه مسلم في الإمارة ، رقم (1930) .
([vii]) ـ رواه الإمام أحمد بإسناد حسن ، وصححه الحاكم وابن حبان ، انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص155، وروى ابن اسحاق مايشبه هذا عن عبادة بن الصامت ، وفيه بند زائد وهو ( أن لاننازع الأمر أهله ) انظر ابن هشام (1/454) .
[viii] ـ مجمع الزوائد للهيثمي ، 9/ 267 ، رواه الطبراني مرسلاً ، ورجاله رجال الصحيح .
[ix] ـ السيرة النبوية لابن اسحاق ، برواية يونس بن بكير ( 172) .
[x] ـ شرح المواهب اللدنية للزرقاني (1/ 314) .
[xi] ـ منير الغضبان ، التربية القيادية (1/ 372) بتصرف ,
[xii] ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ( 1 / 211) .
[xiii] ـ منير الغضبان ، التربية القيادية ،( 1/ 411) بتصرف .
|