[i]
التربيـة السـياسـية
في
الســـيرة النبـويـــــة
الدكتور : خالد أحمد الشـــنتوت
1421هـ/2000م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقـدمـــــة
إن الحمد لله وحده لاشريك له ، والصلاة والسلام على رسوله وبعد..
فقد بات واضحاً للناس أن العودة إلى الإسلام أمر حتمي ، أراده اللـه عزوجل ، وبشر به نبيه r ، قال تعالى في كتابه العزيز : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله [ ( التوبة : 33 ) ، وروى ابن حبان أن رسـول اللـه r قال: [ ليبلغن هذا الأمرما بلغ الليل والنهار، ولايترك اللـه بيت مدر ولاوبر إلا أدخله اللـه هـذا الدين، بعز عزيز أو ذل ذليل ، عـزاً يعز اللـه به الإسلام ، وذلاً يذل به الكفر... ] ([ii]). وروى مسلم وغيره أن رسول اللـه r قال:[ إن اللـه زوى لي الأرض (أي ضم وجمع) فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ] ([iii]). وعلق الألباني فقال: ومما لاشك فيه أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء . وثبت في أكثر من كتاب من كتب السنة أن رومية ( روما ) - وهي عاصمة إيطاليا اليوم - ستفتح على يد المسلمين ، وأنها لابد مفتوحة لصدق خبر الصادق المصدوق r بذلك الفتح ، ففي الحديث عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد اللـه بن عمرو بن العاص رضي اللـه عنهما وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية ؟ فدعا عبد اللـه بصندوق له حلق ، فأخرج منه كتاباً قال: فقال عبد اللـه: بينما نحن حول رسول اللـه r نكتب إذ سئل رسول اللـه r أي المدينتين تفتح أولاً : أقسطنطينية أورومية؟ فقال رسول اللـه r :[ مدينة هرقل تفتح أولاً-يعني قسطنطينية]([iv]) وعلق الألباني فقال: وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد أكثر من ثمانمائة عام من إخبار النبي r بالفتح ، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن اللـه تعالى ، ولابد ولتعلمن نبأه بعد حين . ولاشك أيضاً أن تحقيق الفتح الثاني يستدعي أن تعود الخلافة الراشدة إلى الأمة المسلمة وهذا مما يبشرنا به r(حسن علي جابر ، 137) . وأخرج البخاري وأحمد عن أبي هريرة t عن رسول اللـه r قال: [لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد اللـه هذا يهودي خلفي تعال فاقتله . إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ] ([v]) وروي عنه r أنه قال : [ تكون فيكم النبوة ماشاء اللـه أن تكون ، ثم يرفعها اللـه إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، تكون ماشاء اللـه أن تكون ، ثم يرفعها اللـه إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ماشاء اللـه أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ماشاء اللـه أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، ثم سكت ]([vi]).
ويقول سعيد حوى - يرحمه اللـه - ( في جند اللـه ، ص 47 ) : ( فالذي يبدو أن الملك العاض قد انتهى بانتهاء السلطنة العثمانية ، ويبدأ الملك الجبري من ذلك الوقت وحتى الآن ، ولا يزال مستمراً ومظهره تلك الانقلابات الكثيرة التي توصل بها أصحابها إلى الحكم غصباً عن إرادة الشعب وبدون رأي الأمة ، بـدأها كمال ( أتاتورك ) في تركيا ، وتتابعت في كل مكان ( من العالم الإسلامي ) ، ولكن اليقظة الإسلامية الحالية تبشر بأن ذلك لن يطول إنشاء اللـه . وعلى كل حال طالت المدة أم قصرت ، لا بد من تحقق وعد رسول اللـه r ) . والملاحظ اليوم تجمع اليهود من أقطار الدنيا ، من الشرق والغرب ، ومن مختلف القوميات والألسن والألوان ، من يهود روسيا إلى يهود أميركا إلى الفلاشا ويهود العرب ... يتجمعون في فلسطين ، حيث المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين عند المسلمين ليتحقق وعد رسول اللـه r ، ويهاجر اليهود إلى فلسطين ليبنوا فيها دولة قوية تحكم العالم كله - كما يخططون - ويريدون طرد المسلمين من المنطقة، أو استعبادهم وإذلالهم ، بعد إفسادهم وإخراجهم من إسلامهم ، وكاد أن يتحقق مخطط اليهود لولا لطف اللـه تبارك وتعالى ووعده : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون[( الصف : 9 ) . لولا ذلك لحقق اليهود أحلامهم، لكن لطف اللـه ورحمته بعباده ، ووعده أن يمكن لدينه الذي ارتضاه لعباده كافة وفق المسلمين في هذا العصر إلى الصحوة الإسلامية المعاصرة .
( وجاءت الصحوة الإسلامية في موعدها المقدور عند اللـه ، وكانت مفاجأة ضخمة لكثير من الناس،فوجيء بها المتغربون من المسلمين ، كما فوجيء بها أعداء المسلمين الذين بذلوا جهودهم لإخراج الأمة المسلمة من الإسلام ، وفوجئوا لأنهم أغفلوا قول اللـه تعالى] واللـه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون[( يوسف : 12) .كـما أغفـلوا قـوله عز وجل ] يريدون ليطفئوا نور اللـه بأفواههم واللـه متم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ ( الصف : 8-9 ) ( محمد قطب ، واقعنا المعاصر ، 364 ) .
وقامت الانتفاضة على يد حماس (حركة المقاومة الإسلامية ) التي آمنت أن قضية فلســطين قضيــة إســـلامية ، وليست ماركسية ولا قومية ، إنها إسلامية بكل ما تعنيه الكلمة ، بل إنها مركز الوعي الإسلامي المعاصر .
وسيغلب المسلمون اليهود كما وعد رسول اللـه r وذلك بعد أن يعود المسلمون إلى دينهم ، وتقوم الدولة المسلمة التي تقود الأمة المسلمة من جاكرتا إلى طنجة ، وعندما يعود المسلمون إلى إسلامهم ويطبقونه في حياتهم سيكونون أقوى أمة في العالم ، وعندئذ يهزمون اليهود ، ويروى أنه في إحدى روايات الحديث [ لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ... ] فيها زيادة تقول [ يقاتل بقيتكم الدجال على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه ] وقال ابن ضريم ( الراوي ) ولا أدري أين الأردن يومئذ ([vii]) .
وطريـق العـودة إلى الإسـلام هو الطريق الذي سلكه رسـول الله r وهو التربيـة،تربية الصغـار والكبار على الإسلام ، وقد تأكد اليوم فشل الطرق الأخرى، وبعضها كلف المسلمين آلاف الضحايا ، وأخـّر العودة إلى تطبيق الشريعة الإسـلامية. وتتلخص العودة إلى الإسلام بالمراحل التالية :
1ـ تـربيــة الفـرد المسلم . 2 ـ تكويـن الأسـرة المسـلمة .
3ـ إقـامـة المجتمع المسـلم . 4 ـ إقامـة الدولـة المسـلمـة .
5ـ عودة الأمة المسلمة كما أرادها اللـه خير أمة أخرجت للناس .
وقد قطعت الصحوة الإسلامية المرحلتين الأوليتين؛ على مدى نصف قرن أو يزيد، وتجاهد اليوم من أجل إقـامة المجتمع المسلم ، الذي لا بد أن تحكمه حكومة مسلمة، تحكم مواطنيها بالشريعة الإسـلامية وحدها ، بل إن الدولة المسـلمة أهم المؤسسات الضرورية للمجتمع المسلم .
ومن أجل إقامة الدولة المسلمة ، لابد من وجود المجتمع المسلم ، وبناء المجتمع المسلم قبل بناء الدولة المسلمة أمر شـاق ، ولكنه ممكن ، ولابد من هذا الترتيب، المجتمع المسلم ، ثم الدولة المسلمة ، وسيتضح فيما بعد ـ في هذا البحث ـ ماهو المقصود بالمجتمع المسلم .
وطريق العودة إلى الحياة الإسلامية هو التربية ، والتربية السياسية ضرورية لإقامة المجتمع المسلم كما هو في كتاب الله وسنة رسوله r .
ويبدو للباحث أن المسلمين - اليوم - يجهلون مساحات واسعة من إسلامهم،ومما يجهلونه :
التربية السياسية وهي جزء أساس من التربية الإسلامية ، التي لا بد من السير في طريقها للوصول إلى المجتمع المسلم ثم الدولة المسلمة ، وعندما نقرر أن التربية هي الطريق الإسلامي للعودة إلى الإسلام ، نتذكر أن التربية الإسلامية شاملة ، للفرد والمجتمع ، ومن أهم جزئياتها التربية السياسية .
ومما لابد من ذكره أن بعض فصائل الحركة الإسلامية حاولت إقامة الدولة المسلمة عن غير طريق التربية الإسلامية ، لأن طريق التربية طريق طويل وبطيء وشـاق اليوم حيث دخلت عوامل مربيـة كثيرة ، تشارك البيت والمدرسـة والمسجد في مهمة التربية ، وأهمها الفضائيات و( الانترنت ) التي انتشرت انتشار النـار في الهشيم .
ومما زاد الأمـر تعقيداً أن أعداء الإسلام اليوم أدركوا أن سلاحهم الوحيد في محاربة المسلمين هـو تشـويه إسلامهم ، بعد أن أدركوا أنه لاسبيل لمحاربة الإسلام بوسائلهم التقليدية الماضية كالسيف ونشر الإلحاد وتنصيب العملاء في بلاد المسلمين ، ولم يبق أمامهم سوى نشـر مفاهيم غير صحيحة عن الإسلام كما أنزلـه الله عزوجل في الكتاب والسـنة ، وقد تهيأت عدة مؤسسات بحثية أكاديمية ممـولة بالمليارات لهذا الغرض ، وهو بث السـموم في العسـل ، لنشـر مفاهيم غير صحيحـة عن الإسلام ، تجعل الوصول إلى الإسلام الصحيح الذي أنزلـه الله عزوجل أمـراً ليس سهلاً . لذا ينبغي على الباحثين المسلمين أن يشمروا عن ساعد الجـد والجهاد من أجل نشـر مفاهيم الإسلام الصحيحة بين المسلمين لتحصنهم من سـموم أعداء المسلمين ، ومن هذه المفاهيم الضرورية اليوم مفهوم التربية السياسية الإسلامية .
والتـربيـة السـياسـية :
ركـن أساسي من أركـان التربية الإسلامية ، لأن الإسـلام ديـن للفـرد والمجتمع ، ولا يقـوم مجتمع بلا سياسـة ، لـذا لا بد من إعـداد الفـرد المسلم إعـداداً سـياسـياً ، فالتربية السـياسية : ( تعد المواطنين لممارسة الشئون العامة في ميـدان الحياة ، عن طـريق الوعي والمشاركة ، وعن طريق إعدادهم لتحمل المسئولية ، وتمكينهم من القيام بواجباتهم ، والتمسك بحقوقهم ... وتبدأ التربية السياسية في مرحلة مبكرة من العمر ، وتستمر خلال سنوات العمركله ( عثمان عبد المعز ، ص13 ) .
والتربية السياسية ضرورية للمجتمع المسلم الذي ( ... ظهرت فيه لعوامل عديدة ومتداخلة : مشكلات عدم الانتماء واللامبالاة بالآخرين ، والإحجام عن المشاركة السياسية ، فالتربية السـياسـية تكـون شعور العضـوية في الجماعة والإحساس بالآخرين ) ( عثمان عبد المعز ، ص 13 )، وهذه المفاهيم التي سبق ذكرها نشرها أعداء المسلمين بوسائلهم الكثيرة بين المسلمين ، حتى صارت المشاركة في الشؤون العامة نقيصـة ، وأحياناً كثيرة جريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام أحياناً كما في بعض الأقطار المسلمة ([viii]) .
( والتربية السياسية هي إعداد المواطن الصالح الذي يعرف واجباته فيؤديها من تلقاء نفسه ، طاعة لله عزوجل ، وطمعاً في ثوابه ورضاه سبحانه وتعالى ، كما يعرف حقوقه فيسعى للحصول عليها بالوسائل المشروعة ؛
التي بينتها شريعة اللـه عزوجل . والتربية السياسية تبني مجتمعاً متماسكاً منظماً كالبنيان المرصوص ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.والتربية السياسية جزء أساس من التربية الإسلامية ؛ لأن التربية الإسلامية شاملة تعد الفرد ليكون عضواً صالحاً في المجتمع ، وهي جزء من التربية الاجتماعية . وبدون التربية السـياسية تحصل الفوضى والتفكك في المجتمع ، وتستطيع عند ذلك الأحزاب الدنيوية ؛ والعصابات السياسية التسلط عليه وامتصاص خيراته ، واستعباد أبنائه وإذلالهم ، كما يتسلط عليهم أعداؤهم فيسومونهم أصناف العذاب ، ويذيقونهم شـر الحياة الدنيا ، كما هو حال المسلمين اليوم - ولاحول ولاقوة إلا باللـه - ([ix]).
وقد تبين للباحث من خلال متابعته للصحوة الإسلامية في العالم ؛ ضعف الوعي السياسي لدى العاملين في الدعوة الإسلامية ، وخاصة عدم وضوح الخطوات الرئيسية لإقامة المجتمع المسلم . وعندما نتفق على ضرورة التربيـة السـياسـية وحاجتنا الماســـة إليها، نجـد أنفسنا مضطرين للبحث عن ( المنهج ) الذي نربي الأفراد وفقاً له ، وهذا المنهج لا بد أن يستخلص من كتاب اللـه وسنة رسوله r ، وفي الطريق إلى المجتمع المسلم ؛ لابد من وعي أفراد الصحوة الإسلامية لهذه التربية السياسية ، التي سيحاول الباحث الحالي تتبـع آثارها من السيرة النبوية ، وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، فقد أمرنا ربنـا عزوجل أن نقتدي برسول الله r فقال سبحانه وتعالى ] لقد كان لكم في رسول الله أسـوة حسـنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً[ ـ الأحزاب 21 ـ ، كما أوصانا رسول الله r أن نأخذ بسيرته وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ، فعن الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ r ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَعَظْتَنَا مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ فَاعْهَدْ إِلَيْنَا بِعَهْدٍ فَقَالَ « عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَسَتَرَوْنَ مِنْ بَعْدِى اخْتِلاَفًا شَدِيدًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَالأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ »([x]).
و السياسة جزء أساس من الإسلام ، والسياسة الإسلامية تختلف عن السياسة غير المسلمة ، ولابد للمجتمع المسلم من سياسة مسلمة ، كما لابد للمجتمع المسلم من تربية إسلامية ، واقتصاد إسلامي ... كي يبقى المجتمع مسلماً ، أما الترقيع واستيراد النظم والفلسفات من غير المسلمين ؛ لنطبقها في المجتمع المسلم ،فإنها مصيبة عظيمة تلحق الضرر الكبير بالمجتمع المسلم .
والسياسة المسلمة نستخلصها من كتاب الله وسنة رسوله r ، وفي القرآن الكريم قواعد سياسية عامة ، فالشورى فريضة { وشارورهم في الأمر } ، وطاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله { ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ...}، وغير ذلك .
وفي ســيرة المصطفى r دروس ومواقف سياسية مفصلة ، يجب على العلماء والدعاة دراستها ونشـرها لطلاب العلم ، وللمسلمين كافة ، ليعرفوا مبادئ السياسة المسلمة ، كي تساعدهم على تمتين العلاقة بين الفرد والمجتمع في الدولة المسلمة .
ولأني مهتم بالتربية السياسية أردت أن أبحث عنها في سيرة المصطفى r ، وسوف نلاحظ أنها موجودة بكثرة ، فالسيرة مفصلة لما أجمل في القرآن الكريم ، الذي جاء على شكل قواعد عامة ، وقد حفظ لنا ربنا عزوجل الذكر كما وعد سبحانه وتعالى ، كما حفظ لنا سيرة المصطفى r مفصلة ؛ لنستفيد منها في ما أجمل في الذكر الحكيم .
فلندرس سيرة المصطفى r ونقتفي أثـره في التربية السياسـية التي ربـى بها أصحابـه ، وسوف نجد الهجرة للمحافظة على الدعوة سـمة من سمات سيرة النبي r ، كما نجد التحالف والاستفادة من الواقع الموجود ضمن دائرة العقيدة ، كما استفاد رسول الله r من حماية عمه أبي طالب وهو على دين قومـه . كما نجد أن ضرب اقتصاد العدو أول عمل قام به المسلمون بعد الهجرة ، ثم نجد فقه الشـورى والاستشارة ، وأن الاستشارة معلمة ، أما الشورى فهي ملزمة ، وأهمية الشورى ومكانتها في سيرته r ، كما سنجد اهتمامه r بتربية القادة ، حيث أعـد الخلفاء الراشدين وكثيراً غيرهم الذين حملوا الدعوة بعده r ونشروها في العالم أجمع ، وسوف نجد في سيرته r دروسـاً عظيمة نحن في أشد الحاجـة إلى تعلمها وتقليدها لننهض بمجتمعنا المسلم ، ونعود بـه إلى الإسلام الصافي كما انزلـه الله عزوجل على رسـوله r . الفصل الأول
الإسـلام و السـياسـة
تمـهيـد :
سيطـرت الكنيسة على الحياة كلها في أوربا خلال العصور الوسطى ، والكنيسة لا تمثل ديناً سماوياً بل هي نتيجة للتبديل والتحريف الذي أدخله البشر وخاصة اليهود على الإنجيل ، حتى صارت الكنيسة معادية للحياة . يقول دريبر الأمريكي في كتابه ( النزاع بين العلم والدين ) : ( دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين - المنافقون هم اليهود الذين أظهروا إيمانهم بالنصرانية ليحطموها - ، الذين تقلدوا وظائف خطيرة ومناصب عالية في الدولة الرومية ، ومنهم قسطنطين الفاجر الظالم ، ونشأ دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء )([xi]).
لذا فإن أوربا - شرقها وغربها - وامتدادها في أمريكا تكره الدين كله ، وتنفر من سيطرة الدين على واقع الحياة ؛ لما لاقت من سيطرة الكنيسة في العصور الوسطى من ظلم وإقطاع وأتاوات ورهبانية تصادم الفطرة ، بينما ترتكب في بعض الأديرة أبشع المحرمات ، ثم جاءت مهزلة صكوك الغفران ، ثم كانت الطامة الكبرى عندما وقفت الكنيسة في وجه العلم ، وأحرقت بعض العلماء وعذبتهم باسم الدين ، فلما قامت النهضة الأوربية ؛ قامت على عداء مع الدين ، وحصرت الدين داخل الكنيسة ، وفرضت عليه الإقامة الجبرية داخلها ، فالاقتصاد والسياسة وكل مايتعلق بالحياة لاصلة له بالدين ، وكاد ينحصر عمل الدين في دفن الموتى ، يقول (روسو): إن المسيحي لاتشغله سوى أمور السماء وحدها ، ووطن المسيحي ليس في هذا العالم. ( عبد الكريم الخطيب ، ص 105 ) .
وقام أعداء الإسلام من يهود وصليبين وملحدين ومنافقين بمحاولة إدخال الإسلام تحت مفهوم الدين الذي تمثله الكنيسة ؛ ليحصروا الدين في المسجد ، ويعزلوه عن الحياة ، وإذا واجه أعداء الإسلام بعض الصعوبات في عزل الإسلام عن العلم أو الاقتصاد في أذهان المسلمين ، فقد وجدوا الأمرسهلاًجداً عندما دعوا إلى عزل السياسة عن الإسلام ، وأقنعوا كثيرًا من المسلمين بأن الإسلام لايتدخل في السياسة ، لأن السياسة هي الكذب والخداع والغش ( المكيافيليية ) ، وهذا لا يليق بالدين أن يقترب منها . حتى قالوا عن لسان الشيخ محمد عبده يرحمه اللـه أنه قال : أعوذ باللـه من السياسة ، ومن لفظ السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس ..([xii]). وقال السادات في عصرنا هذا : ( لاسياسة في الدين ، ولا دين في السياسة ) ، فما هي علاقة الإسلام بالسياسة ؟ وهذا يتطلب منا تعريف الإسلام ، وتعريف السياسة لمعرفة العلاقة بينهما .
تعريـف الإســـلام :
الإسلام هو الانقياد والخضوع والقبول لما أتى به محمد r ( المعجم الوسيط ) والاستسلام لله في أمره ونهيه على لسان الوحي، ويفضل الباحث أن يشتمل التعريف على جملة ( الانقياد التام ) فيكون التعريف : الإسلام هو الانقياد التام والخضوع لما أتى به محمد r ، ويفضل الباحث هذه الإضافة ( الانقياد التام ) لأن بعض المسلمين يفوتهم الانقياد لله عزوجل في حياتهم السياسـية والاقتصادية والاجتماعية ، وربما ترسب في ضمائرهم - نتيجة الغزو الفكري - أن الإسلام هو الشعائر التعبدية فقط ( الصلاة والصوم والزكاة والحج ) ، وينسون أن الإسلام يشمل الدين والدنيا ، وأنه دين ودولة ، وعبادات ومعاملات ، قال تعالى:{ ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } ( النحل : 89 ) ، وعن ابن مسعود رضي اللـه عنه قال : ( قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء ، وقال مجاهد كل حلال وحرام ، وقول ابن مسعود أعم وأشمل ، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ماسبق ، وعلم ما سيأتي ، وكل حلال وحرام ، وما يحتاجه الناس في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم... ) ( مختصر تفسير ابن كثير للصابوني ) .
وكل مايحتاجه المسلمون في حياتهم الدنيوية من أحكام سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها ، موجود في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، على شكل أحكام أساسية ومبادئ مرنة لتستوعب كل زمان ومكان ، ولا يكون المسلمون مسلمين بشكل صحيح وتام ؛ إلا إذا انقادوا لله عزوجل انقياداً تاماً في دينهم ودنياهم ، في صلاتهم وصومهم وزكاتهم وحجهم ، وبيعهم وشرائهم ، وجدهم ومرحهم ، وفرحهم وترحهم ، وزواجهم وجهادهم ، ومعاملاتهم الاقتصادية ، ومؤسساتهم السياسية ، وكل مايحتاجه مجتمعهم من أحكام سياسية واقتصادية ليكونوا خير أمة أخرجت للناس كما أرادهم اللـه عزوجل.
إلا أن مشكلة بعض المسلمين اليوم هي الفهم الجزئي للإسلام،وبالتالي لاينقادون لله انقيادًا تاماً ، بل ينقادون للـه في بعض أمورهم ، ومن الأمور التي ينقادون فيها لغير اللـه الأمور السياسية ؛
لأنهم لا يعرفون أن الإسلام يشمل السيـاسة ، بل كثير منهم لا يريد الاقتراب من السياسة لأن أعداء الإنسانية نشروا في العالم أجمع مفهوماً للسياسة ينافي الإسلام ، لذلك ابتعد كثير من المسلمين عن السياسة .
فهل مارس رسول اللـه r السياسـة ؟ وتولى إدارة شؤون المجتمع المسلم ؟ وهل سار الخلفاء الراشدون رضي اللـه عنهم على سنته فقادوا المجتمع المسلم ؟ أم أنهم ترفعوا عن السياسة !!؟ كما يفعل بعض أدعياء العلم اليوم !؟ وتركوا السياسة لرجال السياسة وهم من غير العلماء والدعاة !؟
وقد روي عن رسول اللـه rأنه قال : [ إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ] ([xiii]) كما أخرج مسلم يرحمه اللـه أن رسول اللـه rقال : [ ... ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ] ([xiv]) وقال الإمام النووي يرحمه اللـه :
( أي مات على صفة من صفات الجاهلية ، وهي أنهم فوضى لاإمام لهم ) . وتعطى البيعة للحاكم المسلم الذي يتولى سياسة المجتمع المسلم وتدبير شئونه وأموره، أما بالنسبة للحديث الأول فإنه إذا كان الأمر باتخاذ أمير في السفر ، فإنه في الحضر أولى ؛ لأن شئون الحياة في الحضر أكثر وأوسع ، والحاجة إلى الأمير أشد مما هي في السفر .
يقول الإمام البنا رحمه اللـه : ( إن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذاكان سياسياً بعيد النظر في شئون أمته ، مهتماً بها ، فالمسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعنى بكل شئون أمته. ويقول البنا رحمه اللـه إننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشئون أمتنا ونعمل لاستكمال الحرية)([xv]) . ويقول الدكتور محمود أبو السعود ( وهو من إخوان البنا رحمه اللـه)( إن السياسة جزء من العقيدة ، وإن الإسلام الذي فرغ الإخوان أنفسهم للدعوة إليه وتطبيقه ؛يحتم عليهم أن يصلحواالمجتمع الذي يعيشون فيه ، ويحدد لهم حقوقهم وواجباتهم إزاء الحاكم ، ويأبى عليهم الخضوع للظلم والاستبداد ، والذل والصغار )([xvi]). ويقول البنا يرحمه اللـه رداً على من يتهم الإخوان بالسياسة : ( لأن المسلم يومذاك يترفع عن السياسة ) يقول :( ندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام ، وأحكام الإسلام ، وهدى الإسلام ، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا ) ثم يقول : ( وإن للإسلام سياسة في طيها سعادة الدنيا وصلاح الآخرة ، وتلك هي سياستنا لا نبغي عنها بديلاً ) ( رسائل البنا ، ص 146 ) .
وكل من يدرس بإمعان حياة شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه اللـه ، سيجد أنه كان قائد جماعة تلتزم بأوامره ، وتحارب تحت لوائه ، وكان بمثابة إمام لها ، وكان يطبق الحدود الشرعية فيما يستطيعه ، ويغير المنكر باليد واللسان ، ويبث أنصاره في كل مكان، وقام بدور الإمام العام ( الخليفة ) في غيبة الإمام الراشد ، وأعلن الحرب على التتار ، وتصرف شيخ الإسلام في ذلك تصرف مرشد أمة وقائد جماعة من الأنصار ، وإمام عامة ([xvii]) .
تعـريف السـياســة
السياسة في اللغة تولي الرياسة والقيادة ، وساس الناس تولى رياستهم وقيادتهم ، أما ساس الدواب راضها وأدبها ، وساس الأمور دبرها وقام بإصلاحها ، والسائس رائض ( مروض ) الدواب ومدربها ، والجمع ساسة وسواس ( المعجم الوسيط ) . السائس إذن هو الرجل الذي يتولى ترويض الخيول والعناية بها ، ويدربها على عملها ، ومن التمعن في عمل السائس نجد ما يلي :
1ـ يتقرب السائس إلى الحصان بتقديم الطعام والماء إليه عدة أيام متتالية ؛ حتى يألفه الحصان ، ثم يداعبه فيمرر يده على ظهره . والمعروف أن المهر ( الحصان الصغير ) يقفز ويجمح إذا لمسه إنسان ما ، وخاصة إذا لمس ظهره وكأنه يجن إذا مد أحدهم يده على ظهره .
2ـ يهدف السـائس من تقربه للحصان إلى ترويضه كي يحقق الغاية التي وجد الحصان من أجلها ، فيصبح أليفاً يمتطي الإنسان ظهره ، ويحمل عليه أمتعته .
3ـ لا يستخدم السائس العنف مع الحصان ، ولو استخدمه مرة واحدة لفشل في مهمته ؛ لأن الحصان أقوى من السائس بدنياً ، ولا يتمكن السائس من هدفه بالعنف ، كما يتعطل الحصان عن تحقيق غايته .
ولـدى عـامة العرب ، وخـاصة في شمـال إفريقية ، وأخص العامة الذين لم يتلوث فكرهم بالجاهلية الأوربية الحديثة ، تعني كلمة سياسة عندهم ( اللطف واللين والتمهل ) وهي عندهم مناقضة للغضب والعنف ، ويقول العامة افعل ذلك بالسياسة أي افعلـه بلطف وتمهـل بلا غضب ولا تسـرع ، وإذا رأى أحـدهم زميله متعجلاً قـال له : ( بالسياسة ) أي باللطف واللين والتمهل .
فما علاقة اللطف واللين والتمهل بالسياسة ؟
بما أن السياسة قيادة الجماهير ، والجماهير معظمهم من عامة الناس ، تغلب عليهم الفطرة ، إذا لاطفهم السياسي باللين ؛ وتودد إليهم بتأمين مصالح دينهم ثم دنياهم ، فإنهم يحبونه ويثقون به ويسمعون منه ، فيسهل عليه قيادهم . ويتضح لنا منذ الآن أن العسكرية مفهوم مناقض للسياسة ، فالعسكرية تقوم على العنف والغضب ، لأن الغضب لازم للمقاتل ، بينما تقوم السياسة على اللطف واللين ، ويحاول العسكري تحقيق هدفه في أقصر وقت ممكن ، وبالسرعة القصوى ، بينما يمشي السياسي نحو هدفه بالتمهل ، والسرعة البطيئة . ومما يؤكد ذلك أن الحرب تبدأ عندما تفشل السياسة ، وإذا قامت الحرب قطعت العلاقات السياسية لأنهما متناقضان لايجتمعان معاً. فالسياسي يقود الأمة، والعسكري يدافع عنها فيقتل أعداءها، ويذود عن حدودها ، والسياسي يقود العسكري أيضاً لأن الجيش قطاع من قطاعات الأمة .
فمن هو السياسي إذن ؟ هل هو ضابط كبير ؟ أم هوضابط متقاعد ؟ أم هو الأستاذ الجامعي ؟ وخاصة ذاك الذي يدرس العلوم السياسية ؟ وبالتالي هل السياسة علم أم فن ؟ المقصود بالسياسة علم أي أنها معلومات تدرس وتكتسب ، أما السياسة فن أي أنها قدرات فطـرية كالشـعر وغيره من الفنـون التي لا يمكن اكتسابها إذا لم يفطر الإنسان عليها، وقد تعددت الإجابات ومعظمها تلتقي حول إجابتين :
1 ــ السياسـة علـم :
علم يدرس في الجامعات ، وقد خصصت له كليات العلوم السياسية ، والاقتصاد السياسي ، والإدارة السياسية ، حيث يتعلم الطلاب كيف يقودون الجماهير ، ويركز في هذه الكليات على دراسة الجماعة وأساليب القيادة الجماعية ، وعلم النفس الاجتماعي ، وتاريخ الدول .. إلخ ، ولاتنفصل السياسة في الجامعات عن الاقتصاد ، ويتخرج المتعمق في هذه الدراسات ( بعد الدكتوراة ) كخبير في السياسة ، لكن هل يستطيع كل متخرج من هذه الكليات أن يكون سياسياً ناجحاً ، أي قائداً لامعاً تنقاد له الجماهير !؟ والجواب على هذا السؤال تواجهه صعوبات كثيرة ، مشاهدة في الواقع ، فكثير من أساتذة الجامعات لا يصلحون لعمل سوى المحاضرات والبحث العلمي ، وقد يفشل في إدارة مدرسة ابتدائية مكونة من عشرة فصول فقط ، كما نجد عدداً من الزعماء اللامعين قادوا جماهير أمتهم ، وكسبوا ثقة الجماهير ولم يدخلوا الجامعات أبداً ، ومنهم (هتلر) قديماً و(فاليسا) حديثاً وغيرهم
.
2ــ السـياســة فـن :
أي أن السياسي موهوب بالفطرة ، زوده الخالق عزوجل بعدة قدرات كالذكاء والحزم والحكمة وقوة الإرادة والجرأة والجلد وغيرها ، فأهلته هذه الصفات للقيادة ، يقول أرسطو : ( بعض الكائنات خلقت للإمرة ، وبعضها للطاعة ، تتصف الأولى بالعقل والتبصر ، والثانية بالخصائص الجسمانية لتنفيذ الأوامر ) ( عبد الكريم الخطيب ، ص 55 ) . كما أن بعض الناس وهبوا قدرات فطرية جعلتهم شعراء ، أو خطاطين ، وسبق القول أن بعض القادة ليس لهم حظ وافر من العلم ؛ ومع ذلك كانوا قادة لامعين .
إلا أننا - على ضوء الإسلام - لا نستطيع أن نقول للرجل الموهوب سياسي لامع، إن لم يكن متفقهاً في الدين ، فالعلم ( وخاصة العلم الشرعي ومنه السياسة الإسلامية ) شرط من شروط الإمام المسلم ( الخليفة ) ، وشرط أيضاً من شروط أهل الحل والعقد ، وشرط من شروط الولاة والعمال ( الأمراء ) أيضاً ( الماوردي ، ص 30 ) .
ونخلص من ذلك إلى أن السياسة علم وفن معاً ، والسياسي الناجح هو ذلك الرجل الموهوب بالصفات اللازمة كالصبر والذكاء وقوة الإرادة وغيرها ، ونال حظاً وافراً من العلم الشرعي ، ثم العلوم الإنسانية ، وخاصة علم السياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس ، ثم درس الإدارة ومارسها لفترة كافية ، عندئذ ينضج ويصبح سياسياً لامعاً يقود الجماهير المسلمة نحو خيرها في الدنيا والآخرة .
3 ـ السياسـة الإسلامية :
السياسة المسلمة : هي قيادة المسلمين إلى مافيه خيرهــم في الدنيا والآخرة ، يقول الفنجري : ( فالسياسة في الإسلام هي علم إدارة شؤون الرعية ورعايتها ، والمعنى الحقيقي لكلمة سياسة هو قول الرسول r :[ وكلكم مسؤول عن رعيته ] ( أحمد شوقي الفنجري ص58 ).
فقد خلق اللـه الناس لعبادته وحده دون غيره ، يعبدونه عزوجل في كل لحظة من حياتهم ، يعبدونه في صلاتهم وسائر الشعائر التعبدية ، ويعبدونه في حياتهم الخاصة والعامة ، في زراعتهم وصناعتهم وتجارتهم ، في حربهم وسلمهم ، في مساجدهم ومدارسهم وشوارعهم ، وفي كل مؤسساتهم الاجتماعية ، وفي كل لحظة من حياتهم ، والسياسة الإسلامية هي قيادة الجماهير المسلمة لتحقيق هذه العبادة ، وجعلها خالصة لله عزوجل ، وحده لاشريك له ، كما جاء به محمد r ، يقول الماوردي : ( والذي يلزمه أي الإمام من الأمور العامة عشرة أشياء أولها حفظ الدين على أصوله المستقره وما أجمع عليه سلف الأمة ، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه ( عن الدين ) أوضح له الحجة ، وبين له الصواب ، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل ، والأمة ممنوعة من زلل ) ( الماوردي ، ص 51 ).
وللسياسة الإسلامية أهداف عالمية منها :
1ـ أن تعبد البشرية رباً واحداً فتتحقق الغاية من خلق الجن والإنس ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ـ ( الذاريات : 56 ) .
2ـ أن يعم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البشرية جميعاً ] كنتم خير أمة أخرجت للنـاس ، تأمـرون بالمعروف وتنهـون عن المنكـر وتـؤمـنون باللـه...[ ( آل عمران : 110 ) .
3ـ تبليغ البشـريةكـافة دعوة الإسـلام]وكذلك جعلناكـم أمة وسـطاً لتكـونوا شهداء على الناس [ ـ ( البقرة : 143 ) .
4ـ أن تــزول الفتـنـة مـن الأرض كـافة ]وقاتلـوهم حتى لا تكـون فتنة ويكون الدين كله لله [ـ ( الأنفال : 39 ) .
5ـ فتح البشرية جميعاً وقبولهم لحكم اللـه عزوجل ( حسين جابر ، ص 131 ) .
السـياسـة جـزء مـن الإســلام
وفي الختـام يتضح أن السياسة جزء من الإسلام ، ويتضح أن الإسلام لا يقوم بأفراد ، بل في مجتمع ، وكل مجتمع لابد له من سياسة ، وقد أخرج الدارمي موقوفاً عن عمر رضي اللـه عنه أنه قال : [ ...إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ... ] ( الدارمي (1/79) ، انظرحسين جابر ، الإهداء ) . فالإسلام لايقوم بأفراد ، والفرد وحده لايقيم صلاة الجماعة ، ولا يقيم أسرة مسلمة أو مجتمعاً مسلماً ، ولا يجاهد أعداء اللـه إلا في جماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ...وهذه هي السياسة ، فلا يكون المجتمع مسلماً بدون سياسة مسلمة كما سنرى .
ومن التاريخ والواقع نجد أعداء المسلمين جماعات ، بعضها دول وبعضها عدة دول مجتمعة ، وقد زال الاتحاد السوفياتي واتحد الغرب مع الشرق غير المسلم ، ليكونوا قوة واحدة في وجه المسلمين ، بما يسمى النظام العالمي الجديد ، وعلى المسلمين أن يجاهدوا الخطر بما يوازيه ويكافئه ، وعلى المسلمين أن يتحدوا لمواجهة هذه الأخطار العالمية المتمثلة بالصهيونية والصليبية ، لذلك لا بد من السياسة للمسلمين كي توحد أمتهم في وجه أعدائها .
ويقول الفنجري : الإسلام لايفرق بين السياسة والدين ، بل إن العمل السياسي الصالح خير عند اللـه ثواباً ومنزلة من مزيد من العبادات فرسول اللـه r يقول : [ عدل حكم ساعة خير من عبادة سبعين سنة ] ([xviii]).. ويقول عزوجل :] الذين إن مكناهم في الأرض أقامـوا الصلاة وآتـوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهـوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ـ ( الحج : 14) .
واللـه تعالى يربط بين الصلاة وهي فريضة تعبدية والزكاة وهي ضريبة اقتصادية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو ممارسة سياسية ( أحمد شوقي الفنجري ، ص 61 ) .
ويقسم أبو حامد الغزالي علوم الحياة إلى قسمين :
1ــ علوم غير متصلة بالدين كالطب والحساب وغيرهما .
2ــ علوم متصلة بالدين ومنها علوم الفقه والتوحيد وعلم السياسة وعلم الاجتماع ، وهكذا يعتبر فقهاء الإسلام أن السياسة فرع من علوم الدين ( المرجع نفسه ، ص 62 ) .
ابـن تـيميـة والسـياسـة :
يقول عبد الرحمن عبد الخالق : ( كل من يدرس بإمعان سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية سيجد أنه كان قائد جماعة تلتزم بأمره ، الذي يوجهه إليها كأمر وليس موعظة ، وكانت جماعته عاملة قائمة للدعوة والجهاد في سبيل اللـه ، متآلفة ومتعاونة ينصر بعضها بعضاً ويوالي بعضها بعضاً ، وكان رحمه اللـه إمام أمة يطبق الحدود الشرعية فيما يستطيعه ، ويغير المنكر باليد واللسان ويبث أنصاره ودعاته في كل مكان ) . ( مشروعية العمل الجماعي ، ص9 ) .
كما ركز ابن تيمية رحمه اللـه على الإصلاح السياسي من خلال أمور ثلاثة :
الأول : بناء تصور سليم للحكم الإسلامي .
الثاني : إقامة حكومة قوية .
الثالث : بعث روح الجهاد والمقاومة لمواجهة الأخطار الخارجية .
ويتضمن كتابا السياسة الشرعية ، والحسبة في الإسلام الجانب الأول ، أما الجانب الثاني فقد حاول إقناع أمراء المماليك بأفكاره حول الحكومة القوية ، وكان بعض الأمراء من تلامذته مثل كاتوغا المنصوري ، وكان في الصف الأول من المعركة عندما لاح خطر المغول ، وشارك في الحملة ضد الباطنيين في جبل كسروان ([xix]) .
وقال تعالى : ] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر[ ـ ( آل عمران : 104 ) ، واللام في ] ولتكن [ للأمر ، والأمر للوجوب وقال العلماء المقصود أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشــأن ، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمـة بحسبه ( تفسير ابن كثير ) ] ولتكن منكم أمة [ أي ليكن بعضكم دعاة إلى الخير ( الإسلام ) ، ويقول بعض العلماء أيضاً ] ولتكن منكم أمة [ أي ولتكونوا أمة داعية إلى الخير ، أي كلكم وليس بعضكم ، فالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات كل فرد مسلم .
ويقول سيد قطب ( في الظلال (1/444) ) : وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة إلى ( الخير ) غير ذي سلطان ، فإن ( الأمر والنهي ) لا يقوم بهما إلا ذو سلطان... إنه لابد من سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر ، سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل اللـه وحبل الأخوة في اللـه ؛ لتحقيق منهج اللـه في حياة البشر ... ومن ثم فلا بد من جماعة لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ، وقيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته ، كما قامت الجماعة المسلمة الأولى في المدينة ، وعلى مثل ذلك الإيمان والأخوة يقوم منهج اللـه في الأرض في كل زمان .
العمـل الجمـاعـي هـو العمـل السـياسـي
وعن ابن عمر رضي اللـه عنهما قال خطبنا عمر بالجابية فقال : يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول اللـه r فينا ، قال : [ أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب ، حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ، ويشهد الشاهد ولا يستشهد ، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ، عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، من سرته حسنته وساءته سيئته ؛ فذلكم المؤمن ] ([xx]).
فالجماعة هم الملتقون في اللـه ، المؤتلفون على دينه مهما كان عدد الجماعة ضئيلاً، وأشد ماتكون الحاجة إلى الجماعة عندما يعم الفساد ويطغى الباطل ، وعلى هذا فالعمل في جماعة لإعادة حكم اللـه في الأرض فرض لازم في عنق كل مسلم ، لأن معظم تكاليف هذا الدين جماعية ، ولايستطيع المسلم أن يمارس دينه كما يريد اللـه إلافي مجتمع مسلم . وكذلك مالايتم الواجب إلابه فهو واجب ، فإعادة الخلافة إلى الأرض فرض ، والعمل من أجل قيامها فرض أيضاً .
ويقول تعالى : ] والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير[ ـ ( الأنفال : 73 ) . أي إن لم يتول المؤمنون بعضهم بعضاً كما يتكاتف الكفار جميعاً عليهم وينصر بعضهم بعضاً ضد المؤمنين فإن فتنة الشرك تعم الأرض بانتصار الباطل (صادق أمين ، 30 ) ، وكل أمر لا يتم إلا بالاجتماع عليه فالجماعة له واجبة ، كما هو مقرر في أصول الفقه ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالجماعة فرض للقتال ، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين ، ولاتقوم الدعوة إلى الإسلام إلا بجماعة ، ليكون الدين كله لله .
ولايجوز للمسلمين أن يبيتوا ليلة بغير إمام يقودهم بكتاب اللـه وسنة رسوله r ، وإلا كانوا آثمين ( مشروعية العمل الجماعي ، 9 ) ، وقد أجل صحابة رسول اللـه r وفيهم العشرة المبشرون بالجنة ، أجلوا دفن رسول اللـه r حتى بايعوا أبا بكر الصديق t ، ولم يبيتوا بدون خليفة . فالسياسة من الإسلام ، ولايقول خلاف ذلك إلا أحد ثلاثة :
1ــ مسلم يترك السياسة لأنها على حد زعمه تلهي عن اللـه وعن الدار الآخرة .
2ــ مسلم يترك السياسة سياسة ، لأن الدولة الإسلامية في نظره ستقوم نتيجة إيصال الإسلام إلى كل إنسان ، وتربيته عليه ( سعيد حوى ، جند اللـه 395 ) .
3 ــ مسلم رأى بطش أعداء اللـه بالمسلمين ، أو ناله بعض ذلك ، وتحمل ما لا يخطر في الذهن من ألوان العذاب والخوف والألم ، ثم رأى أن أعداء المسلمين لا يلحقون أذاهم وتعذيبهم بمن يبتعد عن السياسة من المسلمين لذلك آثر السلامة العاجلة ، متعللاً بضعفه أمام الطغاة .
4 ــ ومن الدعايات المغلوطة أن العمل السياسي والتنظيم بدعة ، وهذا إدعاء ينكره الشيخ عثمان عبد السلام نوح في كتابه الطريق إلى الجماعة الأم إذ يقول: ( والذي أعرفه أن السـلفيين لا ينكرون النظام ، بل لهم مسئولون لتنظيم الدعوة والدروس وغيرها ) ( ص 178 ) . ويقول : ( فعلاً إن الجهاد الصحيح لا يقوم إلا بإمارة ونظام وأنه واجب علينا الأخذ بالأسباب وإعداد القوة حسب الاستطاعة ) ( ص 181 ) .
مـنــاقــشـــة :
أما القول الأول فيدل على أن صاحبه يفهم السياسة كما يراها في حياته المعاصرة، وعندئذ لا يلام على ابتعاده عن السياسة ، لأنها في نظره كذب وخداع ونفاق ... الخ ، لكن طلاب العلم لا يعذرون ، وينبغي أن يميزوا بين الإسلام والجاهلية ، في كل شيء ، وخاصة في السياسة .
وأما القول الثاني ، فهو وجهة نظر ، وأصحابها مجتهدون ؛ يثابون مرة واحدة لأنهم أخطؤا الاجتهاد ، إذ لا يكفي أن نربي الأفراد على الإسلام ، بل لابد من ربط هؤلاء الأفراد مع بعضهم لإقامة المجتمع المسلم ، وهذا الربط هو ( السياسة ) ، ويتضح خطأ القول الثاني في أيامنا هذه ، حيث كثر الأفراد المسلمون حتى صاروا أغلبية في بعض المجتمعات ، ومع ذلك يعيشون في مجتمعات تنتشر فيها المحرمات ، ويجاهر بالفواحش ؛ كالربا والزنا والخمور ، وبكلمة موجزة تجد الأقلية غير الملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية ( المنظمة ) تحكم الأكثرية المسلمة ( المتشرذمة ) التي تتمنى تطبيق الشريعة الإسلامية ، تحكمها بغير ما أنزل اللـه .
وأما الفريق الثالث فنسأل اللـه عزوجل أن يجنبنا والمسلمين كافة الفتن ، وأن يشملنا برحمـتـه ولا يبتلينا كما ابتلى هؤلاء الأخوة ، وأن يحفظ تفكيرنا بعيداً عن انفعالاتنا ، وأن يجعل عقـولنا مع كـتابه وسنـة رسوله ، وأن يثبتنا والمسلمين كافة على دينه ، وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا عليه إنـه سمـيع مجيــب .
هـل العمـل السـياســي فـرض كفــايـة ؟
يفهم بعض المسلمين أن العمل السياسي ( الجماعي ) فرض كفاية ، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين ، وهذا صحيح ... لكن فات هؤلاء أن فرض الكفاية يسقط عن الباقين إذا قام به البعض ( أي استطاعوا القيام به ) فصلاة الجنازة مثلاً يستطيع عشرات المسلمين أن يكفنوا الميت ويدفنوه ( أي يقومون بما يجب على المسلمين نحوه) ، لذلك يسقط هذا الفرض الكفائي عن الباقين ؛ لأن عشرات المسلمين استطاعوا إتمامه على الوجه الأكمل . أما العمل السياسي ( حالياً على الأقل ) فإنه معدوم أو شبه معدوم، وبما أن الهدف من العمل السياسي كبير جداً ( وهو إقامة الخلافة المسلمة وبتعبير آخر تطبيق الشريعة الإسلامية ) لذلك لن يسقط هذا الفرض عن أحد من المسلمين ، يقول الشيخ سعيد حوى يرحمه اللـه: ( فما دام حكم الإسلام غير قائم الآن ؛ فالعمل السياسي فرض عين على كل مسلم ، وإذا كانت الفوضى لا تقيم حكماً ، فالنظام فريضة ، وكل ما يحتاجه المسلمون لإقامة الحكم الإسلامي فهو فريضة ، وهذا كله يطلق عليه اسم العمل السياسي ( سعيدحوى ، جند اللـه ، ص 397 ) .
ويرى الدكتور أحمد شوقي الفنجري أن العمل السياسي فرض على كل مسلم ، وقد فهم ذلك من قوله تعالى : ] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [ ( آل عمران : 104) ... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من الممارسة السياسية ، وهي فريضة على كل مسلم ؛ لايمكنه التهرب منها بالسلبية والانطواء والعزلة ، وعلى كل مسلم أن يهتم بشئون المسلمين العامة وقضاياهم السياسية ، وعليه أن يدرس مشكلاتهم على اختلاف أسبابها وأنواعها ... وكل من يحاول العزلة عن مشكلات المسلمين ومآسيهم ومطالبهم مدعياً أنه يريد التفرغ للعبادة وحدها وللدين وحده ، فهذاهو المكذب بالدين ، وهذا هو التدين الكاذب الذي يرفضه الإسلام ، ويقول سيد قطب رحمه اللـه في ظلال الآية : ] أرأيت الذي يكذب بالدين [ ، ( إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ، ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر ، مالم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد ، مؤدية بهذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح ، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى . كذلك ليس هذا الدين أجزاء متفرقة موزعة منفصلة ، يؤدي منها الإنسان ما يشاء ويدع منها مايشاء ، إنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره ، وتكاليفه الفردية والاجتماعية ، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود على البشر .
ويقول الأستاذ الإمام : ( فأولئك الذين يصلون ، ولايأتون من الأعمال إلامايرى الناس مما لايكلفهم بذل شيء من مالهم ، ولايخشون منه ضرراً يلحق أبدانهم ، أو نقصاًيلم بجاههم ،... فخاصة المصدق بالدين التي تميزه عن سواه من المكذبين ؛ العدل والرحمة وبذل المعروف للناس ، وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هي احتقار حقوق الضعفاء ، وقلة الاهتمام بمن تلدغهم آلام الحاجة ، وحب الأثرة بالمال ، والتعزز بالقوة ( تفسير المراغي ، (30/250) ، ط 1964م ) .
ويقول الرازي:( قال المحققون فـي الملاءمة بين قوله تعالى] يراءون [ وقوله ] ويمنعون الماعون [ كأنه تعالى يقول : الصلاة لي والماعون للخلق ، فما يجب جعله لي يعرضونه على الخلق ، وما هو للخلق يسترونه عنهم ، فكأنه لايعامل الخلق والرب إلا على العكس ( التفسير الكبير للرازي ، (16/ 116) ) .
ويقول رسول اللـه r: [ المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لايخالط الناس ولايصبر على أذاهم ] ([xxi]) . ويقول r : [ الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ] ([xxii]) ، أي أن عماد الدين وقوامه النصيحة ، وننصح أئمة المسلمين بطاعتهم وإعانتهم على الحق ، ونذكرهم به ، وننبههم في رفق وحكمة ولطف ، فإنه لا خير في أمة لا تنصح لحاكمها ، ولا تقول للظالم أنت ظالم ، ولا خير في حاكم يكم أفواه الناصحين ، وأما النصيحة لعامة المسلمين فتكون بإرشادهم لمصالحهم في أمر آخرتهم ودنياهم ( مصطفى البغا ، ومحي الدين مستو ، ص37) .
لماذا أهمل المسـلمون السياسـة ؟
يظهر للمتابع وسائل الإعلام المعاصرة أن الشيعة يهتمون بالسياسة أكثر من أهل السنة والجماعة ، وللعمل الجماعي ؛ والتكافل الاجتماعي دوركبير عندهم ، أكبر منه عند السنة فما سر ذلك ؟
ترى الشيعة أن اللـه سبحانه وتعالى هوالحاكم المطلق للكون ، وأنه قد ألزم عباده بأوامر ونواهي لخيرهـم في الدنيـا والآخـرة ، ولذلك عين لهم إمـامـاً ليجعل الأوامـر والنـواهي نافـذة التطبيق ( قمر الدين خان ، ص 53 ) .
يقول فقيه الشيعة الحلي : (.. ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة، فنصب أولياء معصومين منصوصين ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطئهم ، فينقادون إلى أوامرهم لئلا يخلي اللـه العالم من لطفه ورحمته )(قمر الدين خان ، ص 70) . وترى الشيعة أن اللـه أمرالنبي r بتعيين علي بن أبي طالب كأول إمام للأمة من بعده ، وأن علياً t عنه قد حدد خلفاءه حتى الإمام الثاني عشر ، وهذا هوالإمام المنتظر. وخلاصة ذلك كله أن الإمامة ( العمل الجماعي ) عند الشيعة من أصول الدين ، لأنها واجبة بالنص والتعيين من اللـه ورسوله ، وهكذا فطاعة الشيعي للإمام هي طاعة ( أولي الأمر ) التي أمر اللـه بها كما يفسر الشيعة الآية : ] يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللـه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ ( النساء : 95 ) ، قالوا أولوا الأمر هم الأئمة المعصومون الإثني عشر ( تفسير القرطبي ) .
أما أهل السنة والجماعة فيرى بعضهم أن الإمامة ليست من أصول الدين ، وليست واجبة بالنص ، ولم ينص عليها في القرآن الكريم ، ولا في الحديث الشريف ، وإنما هي واجبة بالإجماع المعتمد على العقل . وجاء ابن تيمية رحمه اللـه ليؤكد وجوب الإمامة فقال : ( إن ولاية أمرالناس من أعظم الواجبات في الدين ، بل لا قيام للدين إلا بها )(قمر الدين خان ، ص 54).
وخلال العهد الأموي والعباسي عندما شاع علم الكلام قدمت أفكار تقلل من أهمية الإمامة منها :
يقول المعتزلة : الإمامة واجبة بالعقل وليس بالشرع ولا تقوم إلا بإجماع الأمة ، ومن الواضح أن قولهم هذا موجه ضد الشيعة . كما تصور بعض المعتزلة إمكانية قيام المجتمع واستمراريته بدون الإمامة إذ يقول الأصم : ( إنه إذا تكافى النـاس من التظالم لاستغنوا عن الإمام ) وماعدا الروافض ؛ تجمع المدارس الفقهية والدينية على أن من الجائز أن لا تقوم الإمامة على الأرض . أما الخوارج فقد رأوا أنه إذا أمكن تطبيق الشرع في المجتمع بدون أية سلطة دنيوية عليا ، فإن المجتمع لا يعد محتاجاً إلى إمام لتطبيق الشرع . ويرد الإمام النووي يرحمه الله في شرح( كتاب الإمارة من صحيح مسلم ) على ذلك فيقول ( وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل وأما ماحكي عن الأصم أنه قال لا يجب وعن غيره أنه قال يجب بالعقل لا بالشرع فباطلان ( جميع النقول السابقة من قمر الدين خان ، ص 50ـ54 ) .
المـلـك العــاض
ومما ساهم في إبعاد المسلمين عن السياسة الملك العاض الذي ابتليت به الأمة المسلمة ، حيث افترق السلطان عن القرآن ، فانصرف العلماء إلى الفقه ، وحصروه في فقه الشعائر التعبدية فقط ، ثم المعاملات ، ولم يتطرقوا إلى فقه السياسة إلا في حالات نادرة جداً ، فقد أخرج أحمد عن أبي أمامة الباهلي عن رسول اللـه r قال : [ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، فأولها نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة ]([xxiii]) . فقد نقض الحكم العاض مبدأ الحكم الإسلامي، عندما حادوا عن الشورى ، وسكت العلماء اجتهاداً منهم ، لأن في سكوتهم كما رأوا ضرراً أقل من عدم سكوتهم ، وتبين الآن أن سكوتهم ذاك ألحق أضراراً بالغة بالمسلمين ، وأن كلامهم في السياسة يومذاك أقل ضرراً من سكوتهم .
وساد الفكر الإرجائي ، والفكر الطرقي ( الصوفي المتطرف ) وهو انسحاب من الحياة الاجتماعية ومازال هذا الانعزال مستمراً لدى كثير من المسلمين حتى يومنا هذا .
الملك الجبري ( الديكتاتوريات ) :
ثم انتهى الملك العاض ، ( ويبدو أنه انتهى بسقوط الخلافة العثمانية ) وترحم الناس عليه ، ودخل العالم الإسلامي في الملك الجبري ، فسادت الانقلابات العسكرية في معظم أقطار العالم الإسلامي ، وتسلط العساكر على الشعوب المسلمة ، وخنقوا الحريات وكموا الأفواه ، وحكموا شعوبهم بالدبابة والمدفع وراجمات الصواريخ وقاذفات اللـهب ، وهدموا المساجد أحياناً ، واضطهد العلماء المسلمون ، حتى أن ( زياد بري ) أحرق عدداً من العلماء المسلمين في الساحة العامة ، وكذلك فعل الحكام الشيوعيون في كابل ، وغيرها من المدن الأفغانية .. وقضت هذه الديكتاتوريات على كل من له أدنى اهتمام في السياسة والحياة الاجتماعية ، فشجعت العلماء على عزلتهم ودفعت سائرالمسلمين إلى البعد عن السياسة ، والبعدعن الحياة الاجتماعية .
المـكيـافيلليــة :
ومما أبعد المسلمين عن السياسة مفهوم المكيافللية ، الذي جعل السياسة كذباً وخداعاً ومراوغة ، وجعل الغاية تبرر الوسيلة ، حتى صارت كلمة ( سياسي ) تعني ماكر ومخادع ، فساعد ذلك على ابتعاد العلماء المسلمين عن السياسة ، ووازى ذلك مفهوم فصل الدين عن الدولة تقليداً للغرب .
ثم عمت الصحوة الإسلامية معظم أرجاء العالم الإسلامي ، واجتازت هذه الصحوة مرحلة الفرد المسلم ، والأسرة المسلمة ، وهي الآن بصدد تكوين المجتمع المسلم ، وهنا وجدت الصحوة نفسها بحاجة ماسة إلى قيادة الجماهير المسلمة لأنها الطريق الوحيد نحو إعادة الخلافة . عن النعمان بن بشير عن حذيفة قال : قال رسول اللـه r : [ تكون النبوة ماشاء اللـه أن تكون، ثم يرفعها اللـه إذا شاء أن يرفعها . ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، فتكون ما شاء اللـه أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها . ثم يكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء اللـه أن يكون ثم يرفعه . ثم يكون ملكاً جبرياً فيكون ما شاء اللـه أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها . ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت ]([xxiv]) . وذلك الطور هو الملك العاض الذي انتهى عام (1924) عند سقوط الخلافة العثمانية ، وبدأ الملك الجبري الذي تعايشه أمتنا الآن في صورة الانقلابات العسكرية ، ولا ندري متى يرفعه اللـه ؟ لتسعد البشرية قاطبة بالطور الجديد ، ذلك الطور هو الخلافة على منهاج النبوة . الذي تصبو إليه الأمة الإسلامية والبشرية كافة ، لأنه وحده الذي يملك حل مشكلاتها .
الفصل الثاني
التربيـة السـياسـية
التربية السياسية هي إعداد الفرد المسلم ليكون مواطناً صالحاً في المجتمع المسلم ، يعرف واجباته فيؤديها من تلقاء نفسه ، طمعاً في ثواب الله عز وجل ، قبل المطالبة بحقوقه ، كما يعرف حقوقه فيسعى إلى اكتسابها بالطرق المشروعة .
والتربية السياسية جزء أساس من التربية الإسلامية ، لأن التربية الإسلامية تربية شاملة للفرد والمجتمع ، وهذه التربية السياسية واجب اليوم ؛ من أجل إعداد اللبنات المسلمة الصالحة لتكوين المجتمع المسلم ، وهي ركن أساس من أركان التربية الإسلامية لأن التربية الإسلامية تشمل التربية الروحية ، والتربية العقلية ، والتربية الجسدية ، والتربية الوجدانية ، والتربية الاجتماعية ( ومنها التربية السياسية ) ، والتربية العسكرية ، والتربية الاقتصادية ...إلخ ، فالإسلام دين للفرد وللمجتمع ، ولايقوم مجتمع مسلم بدون سياسة مسلمة ، فالتربية السياسية ( تعد المواطنين لممارسة الشئون العامة في ميدان الحياة ، عن طريق الوعي والمشاركة ، وعن طريق إعدادهم لتحمل المسؤولية ، وتمكينهم من القيام بواجباتهم، والتمسك بحقوقهم ، وتبدأ التربية السياسـية في مرحلة مبكرة من العمر ، وتستمر خلال سـنوات العمر كله) ( عثمان عبد المعز ، 13 ) .
ولا بد أن تسهم جميع المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت والمدرسة والأندية ووسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزة ، والجامعات والمكتبات العامة ؛ في إعداد المواطنين المسلمين إعداداً سياسياً ، كي يقوم المجتمع المسلم .
ومما ابتلي به المسلمون خوفهم من السياسة ، وابتعاد العلماء والدعاة المسلمين عنها ، بعد أن شـوّه مكيافللي مفهومها ، وبعد أن سبق إليها العلمانيون والملحدون وأعداء المسلمين ، وصاروا ينظرون إلى البلدان التي خربها تصارع الأحزاب السياسية فيها ؛ كما حصل في لبنان خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين ، ويظنون أن كل بلد سوف يشجع العمل السياسي سوف يحصل لـه ما حصل في لبنان ، وهذا مجانب للصواب ، لقد حصل في لبنان ماحصل ؛ لأن الشعب يجهل السياسة ، ولم يرب َ ذلك الشعب ولاغيره التربية السياسية التي تعد المواطن المسلم كي يقدم واجباته نحو المجتمع طاعة لله عزوجل وطمعاً في ثوابه ، كما أنه يطالب بحقوقه بالطرق المشروعة .
إن تصارع الأحزاب بالبندقية دليل مؤكد على جهل أهل ذلك البلد بالعمل السياسي، فالعمل السياسي ليس عملاً عسكرياً ، بل يبدأ العمل العسكري عندما يفشل العمل السياسي ، وعندما نجد صراعاً مسلحاً في بلد ما ، هذا دليل واضح ومؤكد على تخلف أهل هذا البلد في العمل السياسي، وحاجتهم الماسـة إلى التربية السياسية .
ومما لاريب فيه أن بلدان أوربا الغربية ، وأميركا الشمالية متقدمة في العمل السياسي ، لذلك لم نسمع عن صراع مسلح ذي بال في أوربا الغربية أو أميركا الشمالية ، فالانتخابات والتعددية السياسية وتداول السلطة وحرية الرأي والعقيدة ، من البدهيات الراسخة فيها .
وســائل التربية السياسيـة
ويربى الأفراد التربية السياسية الصحيحة من خلال المؤسسات الاجتماعية التالية :
1 ـ الأســرة :
حيث تدرب الأسرة أولادها على طاعة الأب والأم وربطها بطاعة الله عزوجل ، وهذا تمهيد لغرس مفهوم البيـعة عند الناشئة :
الطـاعـة هي البيعـة
البيعة اصطلاح سياسي إسلامي خلاصته : أنه يجب على كل مسلم ديانة أن يبايع أميراً يطبق شرع اللـه عزوجل في المجتمع ، لأن الدين لايقوم بدون ذلك ، ( ولا يجوز للمسلمين أن يبيتوا ليلة واحدة بغير إمام يقودهم بكتاب اللـه عزوجل وسنة رسوله r ؛ وإلا كانوا آثمين ([xxv]) . وقد شغل صحابة رسول اللـه r وفيهم العشرة المبشرون بالجنة شغلوا باختيار خليفة للمسلمين قبل دفن رسول اللـه r ؛ لما يعرفونه من أهمية الأمر وخطورته ، والبيعة في مصطلحها الأصلي هي مبايعة إمام المسلمين ذي الشوكة ، وتسمى البيعة العامة ، حيث يُبايع الإمام من أهل الشورى أولاً ، وعندئذ يصير إماماً ، ويجب عندئذ على كافة المسلمين مبايعته .
1-ومضمون البيعة سواءً كانت عامة أو خاصة هو الطاعة ، فمن يبايع الخليفة يتعهد بطاعته في المنشط والمكره ، مالم يؤمر بمعصية . ومن يبايع أميراً ما فإنه يعاهده على الطاعة في غير معصية اللـه ، والطاعة هي البيعة عندماتصدر من المطيع تلقائياً بدون إكراه . ويقصد بها المطيع رضا اللـه عزوجل . وأن يكون المُطاع مسلماً .
فالشاب المسلم يطيع والديه رغبة في ثواب اللـه عزوجل ، بدون قسر من أحد ، وتجده يبالغ في طاعتهما ، ويحذر مخالفتهما ، طمعاً في ثواب اللـه عزوجل ، وهكذا تكون الطاعة بيعة .
من الطاعـة إلى البيعـة
ينشأ الطفل في البيت ، وينغرس فيه أن طاعة الوالدين من طاعة اللـه عزوجل ، فعن عبداللـه بن عمرو بن العاص رضي اللـه عنهما أن رسول اللـه r : قال (( رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد )) ([xxvi]) .
ثم يدخل الطفل المدرسة بعد أن غرس البيت في ذهنه أن طاعة المدرس مثل طاعة الأب ، لأن المدرس هو الأب الروحي للطالب فعليه طاعته . وفي المدرسة يتعلم الطالب أن طاعة ولي الأمر من طاعة اللـه عزوجل ، وقد أمر بها اللـه سبحانه وتعالى فقال عزوجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللـه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ... } ، فقد أخرج البخاري يرحمه اللـه عن أبي هريرة t أن رسول اللـه r قال : (( من أطاعني فقد أطاع اللـه ، ومن عصاني فقد عصى اللـه ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني )) ([xxvii]) . ويقول سبحانه وتعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع اللـه ... } [ النساء 80 ] .
وهكذا ننتقل منطقياً وتربوياً مع نشأة الطفل ، من طاعته لوالديه بعد ربطها بطاعة اللـه عزوجل ، إلى طاعته لولي أمره مع ربطها بطاعة اللـه عزوجل ، وبذلك نصل إلى مجتمع مسلم ، ينفذ أفراده واجباتهم طمعاً في ثواب اللـه عزوجل ، ويمتنعون عن مخالفة الشرع وما أمر به ولي الأمر مخافة عقاب اللـه سبحانه وتعالى الذي يراهم ، حتى لو غفل ولي الأمر عنهم ، كما هو حال الفتاة التي امتنعت عن خلط اللبن بالماء ، لأن أمير المؤمنين نهى عن ذلك ، ولأن اللـه يراها
وسائل البيت المسلم لغرس فضيلة الطاعة عند الناشئة
1 ـ قوامة الرجل في البيت المسلم
البيت مجتمع صغير ، والأب أميره ، وليست الأم لأن اللـه عزوجل يقول]الرجال قوامون على النساء بما فضل اللـه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [ [ النساء :34 ] . والزوجة المسلمة تتقرب إلى اللـه عزوجل بطاعة زوجها ، فعن أبي هريرة t أن رسول اللـه r قال : (( لو كنت آمر اً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها )) [ أخرجه الترمذي برقم 1159 ، وصححه ] والسجود تمام الطاعة ، أي أن الزوجة لا تخالف زوجها ، وتطيعه في غير معصية اللـه عزوجل .
وقوامة الأب في الأسرة من القيم الإسلامية الأساسية ، ويجب على الأم المسلمة أن تكون قدوة حسنة لبناتها ، فتنغرس في نفوسهن فضيلة الانقياد للزوج عندما يصبحن أمهات في المستقبل . وقوامة الرجل في الأسرة صفة أساسية من صفات الأسرة المسلمة ، الأسرة المتزنة التي تقدم للأمة جيلاً صالحاً ، لذا يجب على البيت المسلم أن يربي بناته على قوامة الرجل ، وهذه بعض المعالم علها تساعده في هذه المهمة .
1- إذا طلب الأطفال من أمهم أمرما ( كالذهاب إلى الحديقة مثلاً ) ، فلا بد أن تتريث في اتخاذ القرار بمفردها ، وعليها أن تقول لهم : نستأذن أباكم عندما يعود إلى البيت ، فهو أميرنا ، وإذا سمح لنا نذهب كما تريدون ، ومع تكرار التلقين تنغرس هذه القيمة المزدوجة عند الأطفال وهي :-
أ - طاعة الأولاد لأبيهم ، وعدم الخروج من المنزل إلا بإذنه ومعرفته .
ب - طاعة الزوجة لزوجها ، وترسيخ مبدأ قوامة الرجل عند البنات في الأسرة .
2- تطلب إحدى صديقات الأم منها زيارة صديقة ثالثة لهما فتجيبها الأم على مسمع من أولادها وبناتها سأطلب من زوجي إذناً فإن وافق لي ذهبت معك ، وعندما تطلب هذا الإذن يفضل أن يكون أمام الأولاد ، فإذا سكت لا تلح عليه ، وتخبر صديقتها أمام أطفالها بأن زوجهالم يسمح لها . وتحرص الأم على أن لا تخرج من البيت بدون إذن زوجها .
3- عندما يأمر الأب أفراد الأسرة بأمر ما ، تسارع الأم إلى تنفيذ الأمر ، لتكون قدوة صالحة أمام أطفالها ، وحثهم على سرعة التنفيذ ، وعندما يشعر الأطفال بذلك يتربون على معنى قوامة الرجل في الأسرة .
4- تلقن البنات في البيت المسلم هذه القيم الإسلامية مثل الآية الكريمة { الرجال قوامون على النساء } والأحاديث الشريفة التي تؤمر الزوجة بطاعة زوجها .
طاعة الوالدين من طاعة اللـه وهذا أساس البيعة
عن عبداللـه بن عمرو بن العاص رضي اللـه عنهما أن رسول اللـه r قال : (( رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد )) ([xxviii]) .
ويتضح من النصوص الكثيرة أن طاعة الوالدين والسعي من أجل كسب رضاهما واجبة على المسلم ، والمسلم العاقل يسعى جاهداً لكسب رضاهما ، ليفوز بالنهاية برضا اللـه عزوجل وهو غاية ما يرجوه المسلم .
قال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ... } جاء في أضواء البيان [ 3/496 ] أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده ، وقرن ذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وجعل بر الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا ، المذكور هنا ذكره في آيات أُخر كقوله في النساء : ] واعبدوا اللـه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً [ وفي سورة البقرة : ] وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللـه وبالوالدين إحساناً وفي سورة لقمان : ] أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } .
وعندما تتربى الأجيال من أولاد وبنات على هذه الفضيلة ، تنغرس لديهم فضيلة الطاعة ، التي تتطور فيما بعد من طاعة الوالدين إلى طاعة الأمير ثم الإمام المسلم ، لأن في كل منهما النصوص الواضحة والثابتة
طاعة الأمير المسلم من طاعة اللـه وهذه هي البيعة
قال تعالى في كتابه العزيز : ] من يطع الرسول فقد أطاع اللـه ... [ [ النساء : 80 ] وعن أبي هريرة t قال : قال رسول اللـه r : (( من أطاعني فقد أطاع اللـه ، ومن عصاني فقد عصى اللـه ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني )) ([xxix]) .
هذه نصوص واضحة لا يختلف عليها إثنان ، ومثلها النصوص المتعلقة بطاعة الوالدين ، والمسلم العاقل يعرف أن مخالفة الوالدين عقوق من أكبر الكبائر ، ومخالفة الأمير إثم ومعصية لله عزوجل .
تأكيد البيت المسلم لأولاده على طاعة المدرس
ومن أجل نقل اتجاه الطاعة من الوالدين ليشمل المدرس ومدير العمل فيما بعد ، يكرر الوالدان على مسامع أولادهم وجوب طاعة المدرّس والمدرّسة . ويكرر الوالدان زيارة المدرسة للتأكد من سلامة موقف أولادهم تجاه المدرس ([xxx]) . ويربط الوالدان بين المدرس والوالد أوالوالدة ، من أجل توسيع طاعة الوالدين لتشمل المدرسين .
خـلاصــة
وهكذا نبدأ بغرس طاعة الوالدين ، ثم نربطها بطاعة اللـه عزوجل ، ونلقن الأطفال أن طاعتهم للوالدين فيها ثواب من اللـه عزوجل ، ثم ندخل طاعة المدرس مع طاعة الوالدين ، ثم مدير المدرسة ، فمدير العمل ، ثم طاعة أمير البلد . وهكذا نربي أفراد مسلمين لمجتمع مسلم ، يقوم بالبيعة ويؤدي حق اللـه عزوجل فيها . ويكون كالبنيان المرصوص كما قال عنه رسول اللـه r . وعندما نربي مسلمين يطيعون والديهم طاعةً لله عزوجل ، ويطيعون مدرسيهم طاعةً لله عزوجل ، ويطيعون أمراءهم طاعةً لله عزوجل ، عندئذ نصل إلى المجتمع المسلم الذي وصفه رسول اللـه r بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
2 ـ المدرســة :
والمدرسـة مجتمع وسـط في كمـه وتنوعـه ، بين البيت والمجتمع ، وفي المدرسـة أنظمـة ولوائـح تختلف عن البيت ، وفيها مسـؤولون كالأب ، ولكنهم ليسوا آباءً بكل معنى الكلمة ، يتعاملون من التلاميذ بلطف وموضوعية وهذه بعض مظاهر التربية السياسية في المدرســة :
1 ـ طاعة التلاميذ للمدرسين ، وطاعة المدرسين لمدير المدرسة ، تنمي عند الناشئة فضيلة الطاعـة التي غرسـها البيت ، وحبذا أن يكرر المدرس أمام التلاميذ مقولة ( إذا وافق مدير المدرسة ) ، ليبين للتلاميذ أن المطاع هو مدير المدرسـة ، وليعرف التلاميذ أن كل مجتمع صغير أم كبير لابد له من أمير مطاع .
2 ـ نظام المدرسة ، مثل التوقيت اليومي للحصص ، وزمن الفسحة الكبيرة ، وبداية طابور الصباح ، وزمن الانصراف ، وتوزيع التلاميذ على الفصول ، ثم توزيع التلاميذ داخل الفصل الواحد حسب أطوالهم ، وحسب حالاتهم الخاصة .....إلخ هذه الأمور تزرع لدى الناشئة أن النظام ضروري للمدرسـة ، ومن ثم الدسـتور والقوانين ضرورية للمجتمع ، وكما أنه يجب على التلاميذ طـاعـة الأنظمـة في المدرسـة ، فإنه يجب على المواطنين طـاعـة الدستور والقوانين في المجتمع ، والمجتمع الفاضل هو المجتمع الذي تحترم فيه القوانين والدستور .
3 ـ يدرب التلاميذ على التسيير الذاتي ، وهو انتخاب مجلس إدارة لكل فصل ، وفي هذا الانتخاب تدريب عملي على الانتخاب الذي سيمارسونه في المجتمع ، ثم تدريب عملي على الإدارة ، حيث ينتخب مجلس إدارة للفصل يتكون من رئيس ونائب للرئيس ، ومسؤول ثقافي يتابع مكتبة الفصل وأنشطته الثقافية ، ومسؤول رياضي ، ومسؤول صحي ...إلخ .
4 ـ تنمى فضيلة العـدالــة عند التلاميذ من خلال التقييم ، ومنح الدرجات للتلاميذ ، عندما يهتم المدرسون بهذا التقييم ، ويعطون كل تلميذ الدرجة التي يستحقها ، فتكون الدرجات عندئذ معبرة عن جهد التلاميذ ، وعندما يحصل التلميذ الذكي والمتفوق والمجد الذي بذل جهداً كبيراً في المذاكرة ؛ يحصل على الدرجـة التامـة يشـعر هو وزملاؤه أن الجد والاجتهاد أوصله إلى هذه الدرجـة ، وسيكون ذلك دافعاً لـه ليستمر في جـده واجتهاده ، وحافزاً لزملائه كي يقلدوه في الجد والاجتهاد . أما التلميذ المهمل ، والذي يشاغب خلال الحصة ولاينتبه لشـرح المدرس ، فعندما يحصل على درجـة ضعيفـة ، يعرف هو كما يعرف زملاؤه أن المشاغبة والاهمال أوصلاه إلى هذه الدرجة الضعيفة ، كما يؤكد ذلك توزيع الجوائز والمكافآت على التلاميذ المجدين والمتفوقين ، داخل الفصل الواحد ، وعلى مستوى المدرسـة في طابور الصباح .
3 ـ المســجد :
للمسجد مكان الصدارة في المجتمع المسلم ، قال تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } [ آل عمران : 96 ] . قال ابن كثير يرحمه الله [1/383] : ( يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس ، أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم ، يطوفون به ويصلون إليه ، ويعتكفـون عـنده ، ( للذي ببكة ) يعني الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام ) .
كما أن رسول اللهr لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قبــاء حتى بدأ ببناء مسجد قباء ، وهو أول مسجد بني في المدينة كما ذكر ابن كثير يرحمه الله ( 3/209) . وعنـدمـا واصـل سـيـره إلى قلب المدينة ( يثرب - يومذاك ) كان أول عمل قام به هو بناء مسـجده r ([xxxi]) . وهذا يدل على المكانة العظيمة للمسجد في المجتمع المسلم ، فهو بيت الله ، وكفاه شرفاً بهذا النسب { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } [ الجن :18 ] .
وظـائف المسـجد في المجتمع المسلم
للمسجد وظائف متعددة في المجتمع المسلم أولها وأهمها إقامة الصلاة وهي الركن الثاني من أركان الإسلام ، حيث يلتقي المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة ، بعد أن يسمعوا النداء إليها مذكراً بتوحيد الله ( الله أكبر .... أشهد أن لاإله إلا الله .... ) .
والوظيفة الثانية للمسجد التربية الإسلامية ( الروحية والعقلية والسياسية والجسدية ... ) ونشر العلم ، وتعليم المسلمين ما ينفعهم في آخرتهم ، ثم ما ينفعهم في معاشهم . وعندما انطلق العلم من المسجد كان مباركاً خالصاً لله عزوجل ، ومن ثم نشأت الكتاتيب في المسـاجد ، ثم تحولت إلى مدارس وجامعات ([xxxii]).
وفي المسجد تعقد المؤتمرات لمناقشة أحوال الأمة وما يواجهها من مشكلات ، وفيه تتخذ قرارات الشـورى وفيه يجتمع أهل الحل والعقد لرسم السياسة العليا للمجتمع ، كما كان في عهد رسول الله r ، والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .
ومن المسجد كان العلماء يسيرون الجيوش المسلمة للدفاع عن المسلمين ، فهذا ابن تيمية والعز بن عبد السلام - يرحمهما الله- يقودون المسلمين لمواجهة التتار ، وحتى أثناء الحملة الفرنسية على مصر كان علماء الأزهر يقودون المسلمين في مصر لمواجهة الفرنسيين مثل عبدالله الشرقاوي ، والإمام أحمد الدردير ، وكان للأزهر دور كبير في ثورة (1919) ضد الإنجليز ووقفت الدوريات العسكرية الإنجليزية أمام الأزهر لتمنع العلماء والطلاب من المظاهرات ([xxxiii]) .
هذه بعض وظائف المسجد في المجتمع المسلم ، ولايسمح المقام للتفصيل ، لأننا سنعود للحديث عن التربية السياسية في المسجد :
الصـلاة والـتربيـة السـياســية
وللصلاة فوائد كثيرة منها التربية السياسية التي تربي الفرد المسلم ليكون مواطناً صالحاً في المجتمع المسلم ، ويمكن تعريف التربية السياسية بأنها : إعداد المواطن الصالح للمجتمع المسلم ، الذي يعرف واجباته فيؤديها تقرباً لله عزوجل ، ويعرف حقوقه فيطالب بها بالطرق المشروعة ، ومن المسلمات أن الإنسان لا يعيش بدون مجتمع ، والمجتمع سابق على الفرد ، فلايوجد الفرد إلا ضمن مجتمع ، ولا يستطيع الفرد أن يحقق وجوده الإسلامي إلا ضمن المجتمع ، وثلاثة أرباع الفرائض والواجبات الإسلامية لاتتم بدون مجتمع مسلم ([xxxiv]) .
المسـجد وصلاة الجماعـة
وللمسجد أهمية كبيرة في تماسك المجتمع ليبقى حياً كالجسد الواحد كما وصفه رسول الله r عندما قال : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) ([xxxv]) . وكيف يتراحم المسلمون إذا لم يرَ بعضهم بعضاً !!؟ لذلك كانت صلاة الجماعة ليلتقى المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة ، ويعيش الفرد المسلم متفاعلاً مع المجتمع ، ولاينعزل عنه .
( إن أهم رسالات المسجد لقاءات المؤمنين في رحابه خمس مرات يومياً في عبادة وتذاكر وتراحم ، وتعاون ، متماسكين كصفوفهم في الصلاة ، وصلاة المسلم في المسجد أفضل من صلاته في بيته أو سوقه ، فعن أبي هريرة t عن النبي r قال : (( صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً،وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لايخرجه إلا الصلاة ،لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه خطيئة ، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ماكانت الصلاة تحبسه ، وتصلي عليه الملائكة مادام في مجلسه الذي يصلي فيه ، اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، مالم يحدث فيه )) ([xxxvi]) . ويتعلم المسلم في المسجد الكثير ، ومنه اتباع النظام والتعود عليه ، عند تسوية الصفوف ، القدم بالقدم ، والكتف بالكتف ، كما يتعلم التواضع ، فالفقير بجوار الغني ، كتف بكتف ، وقد يكون الإمام أقل الناس مالاً ، والمأموم أكثر منه ثراء ([xxxvii]) .
وقد رغب رسول الله r في صلاة الجماعة ، وحث المسلمين عليها فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال : (( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة )) ([xxxviii]) . وعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال : (( لو يعلم الناس مافي النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون مافي التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون مافي العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)) ([xxxix]) .
هذه الأحاديث الشريفة وغيرها كثير ، تحض المسلمين على صلاة الجماعة في المسجد ، لأن في صلاة الجماعة طاعة لله ورسوله ، ثم تربية روحية ، وتربية سياسية ينتج عنها التكافل الاجتماعي والتوادد والتراحم ، حتى يصبح المسلمون كالجسد الواحد .
الإمـام والمصـلون فـي المســـجد
ولصلاة الجماعة في المسجد قيم ومعاني إسلامية كبيرة وكثيرة ، منها هذا الموقف العظيم ، حيث يصطف المصلون خلف الإمام ، والإمام أقرؤهم لكتاب الله ، وليس أغناهم ، أو أعظمهم جاهاً ، أو أشـرفهم نسـباً ، وكلهم ينفذون تعليماته رغبة في ثواب الله عزوجل ، يتابعونه ولايسبقونه ، يركعون بعد أن يركع ، ويسجدون بعد أن يسجد ، يطيعونه طاعة لله عزوجل ، ورغبة في ثواب الله عزوجل عندما يقبل صلاتهم .
وقد يدخل المسجد مسبوق أقرؤ من الإمام ، فيلتحق بالجماعة حالاً ، وقد يدخل المسجد أمير والإمام شـاب يافع فيلتحق بالجماعة فوراً ، وينفذ أوامر الإمام في الصلاة ، لأن المسلم يعلم جواز إمامة المفضول ، وما أعظم هذا المعنى في المجتمع المسلم ، فالإمام في الصلاة ـ وهي أعظم شعائر الإسلام ـ يجوز أن يكون مفضولاً ، وفي المصلين خلفه من هو أفضل منه ، وأحق منه في الإمامة ، ومع هذا تجوز إمامة المفضول ، وصلاة الجميع صحيحة مقبولة إن شاء الله . فمتى ينتبه المسلمون إلى هذا ، فينظرون إلى الإمامة ـ أي إمامة ـ بأنها تكليف وليست تشريفاً ، والمهم أن يوجد إمام ، فلا صلاة جماعة بدون إمام ، ولامجتمع مسلم بدون إمام . وإمام مطاع يتقرب الناس إلى الله بطاعته كما يتقرب المصلون إلى الله بطاعة إمامهم في الصلاة . وينظر إليه المواطنون في المجتمع ، كما ينظر المصلون إلى إمام الصلاة .
وقد يخطأ الإمام ـ إمام الصلاة ـ بالقراءة فيرده أقرب المصلين إليه ، بصوت لايكاد يسمعه غيره، وما أشبه هذا بتقديم النصيحة إلى أمير المسلمين ، فالأمير يخطأ لأنه بشر ، والمسلم مأمور بنصيحة الإمام كما وصى رسول اللهr : (( الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال : لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم )) ([xl]) . ولا خير في أمة لاتنصح لحاكمها ، ومسؤولية العلماء والمصلحين في نصح الحكام أكبر وأعظم ، ومن آداب النصيحة أن تكون سـراً ، قال بعضهم : من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة ، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه ، والمؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير .
خطبـة الجمعــة والتربيـة السـياسـية :
ومـن أكبر جوانب التربية السياسية في المسـجد خطبـة الجمعـة ، عندما يكون الخطيب كفؤاً لها ، حيث يجتمع لصلاة الجمعة مالا يجتمع في صلاة الجماعة ، وكثير من المسلمين يتقاعسون عن صلاة الجماعة ، ولكنهم يحضرون صلاة الجمعة ، وأمام هذا العدد الكبير فإن الخطيب الداعية يستطيع أن يبث الوعي السياسي في أذهان المسلمين من خلال خطبة الجمعة ، عندما يعالج قضايـا السـاعـة مـعالجــة إسـلاميـة ؛ محددة بكتاب الله وسنة رسوله r ، ومن نافلـة القول أن للإسلام حكم في كل قضية مستجدة ، ويجب أن يعرف المسلمون حكم الإسلام فيها ، وخطبة الجمعة من أعظم الوسائل لتعريف المسلمين بحكم الله عزوجل في تلك المستجدات . ومن منا لا يذكر الشيخ عبد الحميد كشك يرحمه الله ، و أثره في بث الوعي بين المسلمين من منبر يوم الجمعـة .
ومن آداب صلاة الجمعة أن يغتسل المسلم ويلبس ثياباً نظيفة ويتطيب ، ويبكر إلى المسجد ، وينصت المصلون إذا صعد الإمام المنبر ، ويستمعون لـه ، وإنه لمنظر رائع عندما ترى الألوف من الناس ينظرون إلى الخطيب صامتين يسمعون كلامه ، فقد أخرج البخاري يرحمه الله عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال قال رسول الله r : [ لايغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ، ويدهن من دهنه ، ويمس من طيب بيته ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ماكتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام ، إلاغفر لـه مابينه وبين الجمعة الأخرى ] البخاري ـ 2/208 في الجمعة .
فما أعظم هذا الملتقى الأسبوعي حيث يلتقي المسلمون ، ويتصافحون بعد الصلاة ، وقد وعظهم الخطيب ، وذكرهم بما يحيي القلوب ، كما علمهم حكم الله في قضية من قضايا الساعة.
المسـجد والانتـمـاء:
يبحث الفتى عن الرفقة لأنها تغذي حاجة نفسية ملحة عنده ، وينتقي أقرانه من الفتيان المشابهين لـه في الطبـاع ، ويختارهم ممـن يكثر لقاؤه بهم ، وأقران المسجد يلتقي بهم خمس مرات في اليوم والليلة ، بالإضافة إلى درس تحفيظ القرآن ، ومن خلال هذه المعايشة ينتقي الفتى المواظب على المسجد أقرانه من رواد المسجد .
وليتمكن العاملون في المسجد من الإشراف على هؤلاء الفتيان تشكل لهم أسـر مسجدية يشرف عليها الإمام والمدرس ومن يعاونهم من أهل الحي ، وتهدف هذه الأســر المسجدية ‘إلى توفير جماعة أقران صالحة للفتى ، حيث يمارسون أنشطتهم ضمن المسجد ، وتحت إشرف العاملين فيه( خالد شنتوت ، تربية الشباب المسلم ، ص 70) .
يقول الشيخ محمد قطب يحفظه الله : ( لم يعد الفتى متمركزاً حول ذاته ، إنما صار مشغولاً بالآخرين ، ومن أين يبدأ الإصلاح ، ومن هذا الخيط يسعى الشباب إلى ( الانتمـاء ) ، كما تتسارع الجماعات والأحزاب إلى جذب الشباب إليها من هذا الخيط ذاته ( منهج التربية الإسلامية 2/259) .
ويقول أيضاً : ( لابد من انتماء الشباب إلى الجماعة ، لأن هذا الشعور الجماعي فطري لدى الإنسان ، ولأن الحاجة إلى الانتماء من الحاجات الأساسية لدى الشباب . )( ص 287)
وعندما ينتمي الشاب إلى المسجد يكون انتماؤه إسلامياً ، ويسـد الطريق على الأحزاب العلمانية والهيئات الملحدة التي تخرب عقائد الشباب .
5 ـ المخيمات والمعسكرات :
وفي هذه المخيمات والمعسكرات يتعلم القادة فن القيادة بالممارسة العملية ، كما يتعلم الأخرون فن الانقياد السليم ، وهذا الأخير يكاد يكون مفقوداً في حياتنا المسلمة المعاصرة ، حيث نجد كثيراً من الناس ينقادون وهم كارهون ، أو غير مبالين ، أما في المجتمع المسلم ، فالمقود له دور إيجابي في مساعدة القائد ، ولايكون القائد ناجحاً إلا إذا كان يقود أفراداً ناضجين يفقهون العمل السياسي ، وبالتالي يفهمون كيف يقادون . ولنا في خالد بن الوليد رضي الله عنه قدوة حسنة ، لما وصله كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب عـزلـه عن قيادة جيش المسلمين بعد معركة اليرموك المشهورة والتي انتصر فيها خالد بن الوليد قائد جيش المسلمين رضي الله عنه على الروم أكبر امبراطورية عالمية يومذاك ، وصله الخطاب فامتثل لأمره وسلم القيادة لأبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ، واستمر في القتال ضد الروم ، وعبر الشاعر على لسان خالد في ذلك الموقف بقوله :
نقاتل كي يرضى الإله بنا لانقاتل كي يرضى عمر
وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لِمَ لاتكون مثل عمربن الخطاب ؟! فقال رضي الله عنه : لأن عمر رضي الله عنه كان أميراً عليّ وعلى أمثالي ، وأنا أمير عليك وعلى أمثالك .
(2) الألباني ، الأحاديث الصحيحة (1/7) صححه ابن حبان ، وتحذير الساجد (ص121)، والمدر : الحضر ، والوبر : البدو .
([iii]) الألباني ، الأحاديث الصحيحة (1/7) ، ومسلم (8/171) ، وأبوداود (4/97) ، والترمذي (2/27) وقال صحيح ، وأحمد (5/278) ، وفي جامع الأصول (11/316) .
([iv]) أخرجه أحمد (2/176) والدارمي (1/126) ، وفي المستدرك في عدة مواضع منها ( 3/422)وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، ووافقهما الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/8) .
([v]) صحيح البخاري (4/51) ، ومسند أحمد (1/11) واللفظ له ، وجامع الأصول (10/381) .
([vi]) رواه البزار ، وأخـرجه الطبراني في الأوسـط ، ورواه أحمد في مسنده واللفـظ لـه ، (4/273) . والسلسة الصحيحة للألباني (1/8) رقم (5) .
([vii]) رواه الطبراني والبغوي وابن سعد عن نهيلك بن ضريم ( كنز 327/14) .
[viii] ـ نص المرسوم (49) لعام (1980) في سوريا على إعدام كل من انتسب لجماعة الإخوان المسلمين ، وقد نفذ هذا المرسوم وتم إعدام بضعة عشر ألفاً من خيرة أبناء المجتمع السوري في سـجن تدمر خلال عقد الثمانينات ( انظر كتاب تدمر : شاهد ومشهود ) .
([ix]) خالد شنتوت ، كيف نربي أولادنا على الشورى ، ص 12 .
[x] ـ سنن ابن ماجة ، المقدمة ، باب اتباع سنة الرسول r وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ،رقم الحديث (44) .
([xi]) انظر أبو الحسن الندوي ، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ومن هؤلاء الذين حرفوا النصرانية شاؤول اليهودي الفرنسي الذي صار اسمه (بولس) ، وتعتبر المسيحية الحالية من صنع بولس ثم قسطنطين ، انظر كتاب ( بابوات من الحي اليهودي ) لبواكيم برنز ويتفاخر المؤلف ببولس ويقول عنه أنه حـــرر المسيحية من القيود التي وضعها المسيح ( ص 47 ) ، لأن المسيحية ليست ديانة عالمية وإنما بعث اللـه عيسى لبني إسرائيل ، فقد عمل بولس على انفصال المسيحية عن اليهودية وجعلها أممية مخالفاً بذلك تعاليم عيسى عليه السلام الذي قال ( إلى طريق أمم لاتمضوا ، وإلى مدينة للسامريين لاتدخلوا، بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بني إسرائيل الضالة ) ( انظر إصحاح متى 10ــ 5،6 ) فالدعوة المسيحية ليست عالمية ، بل جاءت لانتشال بني إسرائيل من المادية التي طغت على الجوانب الروحية عندهم ( انظر كتاب المسيح الدجال لسعيد أيوب ص 93 ، طبعة دار الاعتصام ) .
([xii]) أحمد شوقي الفنجري ، ص 57 ، والباحث يتعجب من صدور هذا الكلام من رجل فاضل كالشيخ محمد عبده يرحمه اللـه ، الذي أصـدر مع جمال الدين الأفغاني صحيفة العروة الوثقى في باريس ، للدفاع عن المسلمين وقضاياهم ، ومن المعروف أن الأفغاني وعبده سلكا طريق العمل السياسي لإصلاح المسلمين ، لذلك فإن الباحث يشك في نسبة هذا الكلام للشيخ محمد عبده يرحمه اللـه .
([xiii]) سنن أبي داود (3/2496) ، وجامع الأصول (5/18) وقال الأرناؤوط إسناده حسن .
([xiv]) جزء من حديث في صحيح مسلم كتاب الإمارة .
[xv] ـ حسن البنا ، رسالة إلى الطلاب ، ص 8،10 بتصرف .
[xvi] ـ محمود أبو السعود ، مقدمة لكتاب ميتشل عن الإخوان المسلمين.
([xvii]) عبد الرحمن عبد لخالق ، مقتطفات من الصفحات 9،19 .
([xviii]) العجلوني ، كشف الخفاء ، ( 2/75 ) رواه الديلمي عن أبي هريرة ، وأسنده من طريق أبي نعيم . . وأخرج الطبراني في المعجم الكبير ( 3/209 ) عن ابن عمر قوله r ( أحب الناس إلى اللـه تعالى أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى اللـه عزوجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً ، ولئن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ( يعني مسجده r ) شهراً ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت اللـه قدمه يوم تزول الأقدام، قال الألباني (وهذا إسناده ضعيف جداً ، لكن قد جـــاء بـإسناد خـير من هذا ، فـرواه ابن أبــي الدنيا في قـضــاء الحـوائج ( ص80 ، ورقم 36 ) ، وابن عسـاكر ( 11/440/1 ) من طرق عن بكر بن خنيس عن عبداللـه بن دينار عن بعض أصحاب النبي r ، وإسناده حسن ، السلسلة الصحيحة للألباني ( 2/608 ) رقم (906) .
([xix]) ماجد عرسان الكيلاني ، هكذا ظهر جيل صلاح الدين ، ص 54 بتصرف .
([xx]) الترمذي ، وقال حسن صحيح غريب (9/10) وفي جامع الأصول (6/669)، قال الأرناؤوط : ورواه أحمد في المسند رقم (114، 127) ، والحاكم في الإيمان من طرق صحيحة ، فالحديث صحيح .
([xxi]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (388)، ورواه أحمد (5/365) ، وقال الألباني : السند صحيح كلهم من ثقات رجال الشيخين ( السلسة الصحيحة (2/652) رقم (939) .
([xxii]) مسلم ، كتاب الإيمان ، باب رقم (55) .
([xxiii]) أحمد (5/251) وقال الألباني : رواه الحاكم وصححه ، وإسناد أحمد صحيح (صحيح الترغيب والترهيب (1/229) رقم (571) .
([xxiv]) أحمد (4/273) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد : (5/189) رواه أحمد والبزار أتم منه ، والطبراني ببعضه في الأوسط ، ورجاله ثقات ( السلسة الصحيحة للآلباني رقم (5) (1/8) .
([xxv]) عبد الرحمن عبد الخالق ، ص 9 .
([xxvi]) الترمذي ( 1900 ) في البروالصلة ، والبخاري في الأدب المفرد ، وإسناده صحيح ، وصححه ابن حبان والحاكم . ( جامع الأصول 1/401 ) .
([xxvii]) البخاري ( 13/99 ) في الأحكام ، ومسلم في الإمارة ، وفي جامع الأصول ( 4/64 ) ، والنسائي ( 7 / 154 ) .
([xxviii]) الترمذي ( 1900 ) في البروالصلة ، والبخاري في الأدب المفرد ، وإسناده صحيح ، وصححه ابن حبان والحاكم . ( جامع الأصول 1/401 ) .
([xxix]) البخاري ( 13/ 119 ) ، رقم ( 1737 ) ، في الأحكام ، ومسلم ( 1835 ) في الإمارة .
([xxx]) وفي واقع الأمر لا تتم العملية التربوية بشكلها الصحيح إلا إذا أطاع الطالب المدرس في غيرمعصية اللـه ، ومن أسباب تقهقر العملية التربوية المعاصرة انحسار احترام المدرس من قبل الطلاب ، لانخفاض قيمته الاجتماعية حيث انقلبت موازين المجتمع بسبب غلاء المعيشة ، وانحدرت مكانة المدرس الاجتماعية إلى ما دون الحرفي والفلاح الذي يملك قطعة صغيرة من الأرض ، واضطر المدرس أحياناً كثيرة للقيام بأعمال أخرى إضافة إلى التدريس ليسد عجزه المعيشي .
([xxxi]) عبد الله قادري ، دور المسجد في التربية ، دار المجتمع جدة 1407 هـ ، ص 65 .
([xxxii]) عبد اللطيف بن دهيش ، الكتاتيب في الحرمين الشريفين وما حولها ، ط 1 ، مكتبة النهضة الحديثة ، مكة المكرمة ، 1406هـ ص 15 .
([xxxiii]) علي محمد مختار ، دور المسجد في الإسلام ، دعوة الحق ، جمادى الأولى ، 1402هـ ، العدد 14 ، ص 78 بتصرف .
([xxxiv]) خالد شنتوت ، كيف نربي أولادنا على الشورى ، مطابع الرشيد بالمدينة المنورة ، 1418هـ ، ص5 .
([xxxv]) البخاري 1/27، ومسلم 2586 .
([xxxvi]) البخاري 2/113، ومسلم 649، وغيرهما .
([xxxvii]) علي محمد مختار ، [ مرجع سابق ] ، ص 48 بتصرف .
([xxxviii]) البخاري 2/109في الجماعة ، ومسلم رقم 650في المساجد وغيرهما .
([xxxix]) البخاري 2/116، ومسلم رقم 437 ، وغيرهما .
|