بسم الله الرحمن الرحيم
أطفال في شوارع حماة
قصة واقعية، تصور حياة واحدة من مئات الأسر في مدينة حماة خلال العام (1981-1982)
الإهداء : إلى أرواح مئات الشهداء الذين وقفوا بشجاعة فريدة في التاريخ ضد أعتى طاغية عرفه تاريخ المسلمين .
والأدب هو تعبير عن الحياة بصورة جميلة ، والأدب الواقعي ، تعبير عن الواقع الذي حدث ، وهو ضرب من التاريخ ، مع ضرورات أدبية أحياناً .... ومع أن الكاتب لايوافق على أسلوب العنف للحركة الإسلامية ، لكنه يصور ما جرى ، مظهراً بطولات لايتحملها البشر العاديون .... واضطهاد واستبداد لايأتي من بشر عاديين ...لكنه حدث فعلاً في شوارع حماة ...
(1)
ترك أبو حسن عمله في دمشق، وتهيأ ليعود إلى بلده حماة، فقد طالت غربته عنها، وشده الشوق إلى مرابع الطفولة والشباب، إلى نواعيرهاالتي تعزف لحناً تراثياً ألفه الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد، حتى صار جزءاً من ذاكرة المواطن الحموي، وشده الشوق إلى علمائها يجاهدون في مساجدها لتربية الشعب الحموي على الإسلام، ولم تستطع بضع عشرة سنة في دمشق أن تنسيه آذان الفجر المميز في حماة، حيث يبدأ الحاضر بالتشويق ثم الآذان، وما أن ينتهي مؤذنو الحاضر حتى يبدأ مؤذنو السوق بالتشويق والآذان، وهكذا يدوم الآذان في حماة قرابة نصف ساعة كل يوم تكفي لإيقاظ المراهقين من نومهم، وكان آخرها نداء مميز من مسجد السلطان للمؤذن الشيخ مصطفى الرهوان ..... .
وصارأبو حسن يعد العدة للرحيل، فها هو يذهب إلى إعدادية الشيخ صالح فرفور الشرعية للبنات، ينقل أوراق ابنتيه الكبيرتين عائشة وسميرة إلى المدرسة الشرعية للبنات بحماة المقرر افتتاحها هذا العام المقبل ( 79- 1980 ) في حماة، جوار مسجد الشيخ محمد الحامد رحمه الله .
أما منى وفاطمة فما زالتا في المدارس الابتدائية، وكذلك حسن، وعندما تصل روعة إلى سن المدرسة ستدخل في حماة، أما جنينهم المنتظر فستكون حماة مسقط رأســـه .
ودع أبو حسن ستة عشر عاماً في دمشق، استطاع فيها أن يربي بناته على التقوى ومخافة الله، وكانت صلة الأسرة مسـتمرة بشـيوخ العلم، من الدعاة والداعيات، فكانت الأسـرة أسـرة مسلمة تربت على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، درس مع أولاده وزوجته المتمسكة بدينها فقه الجهاد، حتى صار الأطفال يتمنون لقب شهيد كأغلى ما يتمناه المرء في الدنيا .
كان يعيش بين عمله كخياط لإحدى الشركات الصغيرة، يعمل لها في بيته، لذلك كان إشرافه على تربية أولاده رائعاً، مع أن زوجته كانت مثال الأم المسلمة بل المجاهدة، التي يهمها تربية أولادها وبناتها على الإسلام، وكان يتردد على مسجد زيد بن ثابت الأنصاري في دمشق، حيث الشــيخ عبدالكريـم الرفـاعــي رحمه الله، يتلقى الفقه والتـزكيــة فيه ويصقل روحه وعقله بكتاب الله وســنة رســوله صلى الله عليه وسلم .
كما كانت أم حسن وبناته عائشة وسميرة، يتسابقن إلى دروس النساء المسلمات عند الحاجة منـى، تستنير قلوبهن بنور التقوى، ويستقيم سلوكهن بنور الإسلام .
* * *
- السلام عليكم ورحمة الله، جئت أودعكن، يا آنساتي، لأننا سنرحل إلى حماة، قالت عائشة .
- كيف تتركينا يا عائشة، أجابت إحدى المدرسات .
- سنعود إلى حماة، إلى بلدنا فقد اشتاق والديَّ إلى مرابع الصبا والشباب، وأتيت لأسحب أوراقي إلى ثانوية البنات الشرعية بحماة .
- كم يحزننا فراقك، يا ابنتي، أدعو الله أن يحفظك، قالت المديرة .
وخرجت عائشة بعد أن دمعت عيناها حزناً على فراق مدرساتها اللاتي أحببنها لما وجدنه فيها من ذكاء وإخلاص للعلم، ناهيك عن قوة الشخصية وجمال الخلقة وحسن السيرة .
- هذه الطالبة، لا تموت إلا شهيدة، والعلم عند الله، قالت مدرسة الحديث .
- كيف ؟
- لقد حفظت عن طواعية كل باب الجهاد في الحديث، ما أن تسمع الحديث مرة واحدة إلا وتحفظه، خاصة أحاديث الجهاد .
- وكذلك في فقه الجهاد، تعرف أكثر من كثير من الفقهاء الذين حصروا اهتمامهم في فقه الطهارة فقط وما يتعلق بأحكام الحيض والنفاس، كي لايغيظوا السلطان .
- الحقيقة، هذه حورية، أما ترون جمالها، إنها حورية تمشي على الأرض .
في الطريق، بعد أن ضمت إحدى سيارات النقل الصغيرة كل ما يملك أبو حسن من حطام الدنيا كان أبو حسن يستعرض السنوات الماضية القليلة وكأنه يبحث عن تعليل لما يجري في حماة منذ ثلاث سنين ونيف .
* * *
في عام( 1964 )عرف الشيخ مروان حديد رحمه الله أن عصابة متسترة بحزب البعث سـتصل إلى الحكم، وأنهم سـوف يصبون حقدهم على المسـلمين وعلى الإسلام، حقدهم الذي لا يقل عن قتل حجاج بيت الله الحرام وهم يطوفون بالكعبة يوم عيد الأضحى، عندما قلع القرامطة الحجر الأسود من مكانه وأخذوه معهم إلى موطنهم في الإحساء.
لما عرف ذلك مروان، أراد أن يجاهدهم بالبيان، فاعتصم بمسجد السلطان، ليحث من مناراته الحمويين على الإضراب، حتى إذا امتد الإضراب إلى بقية المدن السورية، ودام زمناً كافياً تسقط حكومة العسكر التي تسلمت الحكم بانقلاب عسكري يوم (8/3/1963م)، وتعود سوريا إلى الديموقراطية التي عاشت فيها في الخمسينات، وفي عهد الانفصال، ولما هدموا المسجد فوق رأسه ورؤوس التلاميذ الذين كانوا معه ؛ غيروا منهج مروان في العمل الدعوي، غيروه من الجهاد بالبيان إلى الجهاد بالبنان، من جهاد البيان والعمل السياسي، إلى جهاد البنان والعمل العسكري، لقد دفعوه إلى السلاح بقوة، ليحققوا مارسمته دوائر الصهيونية والماسونية العالمية، عند ما تقتل الشباب المسلم والعلماء والدعاة لأنهم حملوا السلاح ضد الدولة،و تأكد له أن هذه العصابة لا ينفع معهم إلا السلاح، لذلك بدأ بتدريب إخوانه الصغار على السلاح وعلى التضحية بالروح في سبيل العقيدة وحماية المسلمين من شر هذه العصابة .
وعندما عرفت الدولة ذلك عام 1973 واعتقلت أربعة آلاف من المربين المسلمين، بعد أحداث الدستور، حيث ألغى حافظ الأسد دستور(1951) ووضع دستوراً يحقق أطماعه في الحكم الفردي،والاستئثار بالسلطة وحده، وطلب من الشعب أن يؤيد هذا الدستور، فتكلم العلماء في المساجد وبينوا الأخطار في الدستور الجديد، وأعلنوا رفضهم لهذا الدستور، وخرجت مظاهرات في حماة وغيرها تعلن هذا الرفض، فكشر الأسد عن أنيابه، واعتقل بضعة آلاف من المواطنين، معظمهم من الإخوان المسلمين، لأنهم أعلنوا رفضهم لهذا الدستور، وبينوا الانحرافات الخطيرة فيه .
وطاردت الشيخ مروان لقتله وليس اعتقاله فقط، لذلك اختفى مروان عن الأنظار وأسرع في إعداد إخوانه للجهاد المسلح، واستمر في ذلك يعمل ليل نهار، حتى تمكنت الدولة من كشف نواياه وعرفت أنه يوجد تنظيم مسلح في أوائل 1975، ولذلك بدأت الدولة بالتصفية الجسدية لبعض المعتقلين وبدأت تطارد بعض الشباب الصغار الذين لا سابقة لهم في الدعوة .
* * *
وفي (1975م) اعتقل شابان في بساتين حماة، أحدهما عصفور والآخر الزلف، وراح الرائد محمد غـرة مدير الأمن القومي في حماة يعذبهم حتى ماتوا تحت سياط التعذيب، وفي حركة مازلت أبحث عن تفسيرها سلمت جثثهم لذويهم ؛ وآثار الكدمات واضحة في صدورهم ورؤوسهم، وشاع الخبر وانتشر بين الحمويين، وسمع رفاقهم فقرروا أن لايسلموا أنفسهم لو طلبتهم وحدات الأمن ..
هؤلاء الشباب الذين عرفوا أن إلقاء القبض عليهم يعني قتلهم مجاناً لحساب السلطة الحاقدة، فروا وتواروا عن الأنظار، وقرروا أن لايسلموا أنفسهم إذا جاءت سيارات الأمن تطلب أحدهم، بل قرروا الاشتباك معها بالسلاح ليموتوا في الهواء الطلق، بدلاً من الموت في أقبية التعذيب، وبدأ الجهاد المسلح في 16/2/1976 حيث كانت الرصاصة الأولى في رأس الرائد محمد غرة مدير الأمن القومي بحماة .
واستمرت عمليات قنص عملاء وأزلام السلطة بإيقاع منتظم وتخطيط عال طيلة السنوات الثلاث التالية، تخطيط تندهش له العقول وتنفيذ يتم بأعصاب هادئة وعزيمة ثابتة، وكانت السلطة تقول هؤلاء عملاء النظام العراقي، حتى مجزرة مدرسة المدفعية بحلب التي كانت تنفيس حقد دفين لمدة طويلة عند بعض العسكريين المسلمين، وتخطيط عاطفي ارتجالي لبعض القادة الطليعيين، حيث تغير رد السلطة بعدها، كما تغيرت المعادلة.
* * *
اعتقل الشيخ مروان في المزرعة بدمشق في صيف 1975 بعد معركة دامت نهاراً كاملاً، استخدمت السلطة طائرات الهيلوكبتر في آخر النهار ونزلت على سطح العمارة، في الوقت الذي نفذت فيه ذخيرة الشيخ فاعتقل مثخناً بالجراح، ليعذب سنة كاملة في السجن، هبط فيها وزنه من (120) كلغ لأنه كان طويلاً جداً يرحمه الله، هبط وزنه إلى (50) كلغ فقط، ثم يقتل أثناء التعذيب فينال أحلى أمانيه رحمه الله، خاصة وقد سمع وعرف عن عدة عمليات نفذها إخوانه رجال الطليعة المقاتلة .
وآلت قيادة المجاهدين إلى الدكتور عبدالستار الزعيم، الذي قاد الأخوة بإيقاع مرتب ثابت حتى استشهاده صيف 1979 رحمه الله، على الطريق العام بين حمص ودمشق .
* * *
وصلت السيارة مدينة أبي الفداء، وانعطفت من إحدى الشوارع المتصلة بشارع العلمين إلى عمارة مكونة من ثلاث شقق، كل واحدة في طابق، وسكن أبو حسن مع والده وأخيه في هذه العمارة.
عرف أبو حسن أن السلطة ستقتل كل من يتمسك ويلتزم بدينه، ويقول لها هذا خطأ لايجوز، وسمع بحكاية الأخوين عصفور و زلف، اللذين استشهدا تحت سياط التعذيب بعد أن قبض عليهما بسلاحما في بساتين حماة، وعرف أن زملاءهم قرروا أن لايسلموا أنفسهم إذا طلبتهم وحدات الأمن، بل يشتبكون معها ليموتوا في الهواء الطلق، في ميدان المعركة، في الشارع، خير من الموت في أقبية المخابرات تحت سياط الجلادين ...
وعرف أبو حسن أن أمامه حلين لاثالث لهما، إما أن يعد نفسه للجهاد والدفاع عن الدين والنفس والعرض، أو الرحيل والهجرة من البلد، ولما كانت حماة عزيزة على نفسه، وقد ترك العيش في دمشق من أجل العيش فيها، وساد لدى الشباب المسلم أن الخروج من البلد في هذه الآونة تولي يوم الزحف، وقد توعد الله من يتولى يوم الزحف، لذلك اختارأبو حسن الخيار الأول، وفي صباح اليوم التالي اتصل بإخوانه، وبدأ التدرب على الرمي والأسلحة حتى أجادها فعاد إلى بيته، ودرب أم حسن وبناته عائشة وسميرة، وقد زادت فرحتهن وسرورهن بالتدرب على الكلاشن والرمانات اليدوية الدفاعيـة والهجوميـة، وما هي إلا أسـابيع حتى ولدت أم حـسن جنينها فسمياه ( رامي ) حيث كانت عقولهما معلقة بالرمي وإتقان إصابة الهدف .
كما دعوا الله أن يكون له من اسمه نصيب فيكون رامياً ماهراً، يرمي أعداء الله ويزيح الطواغيت من درب الدعوة الإسلامية .
* * *
في عام (1980م) كان تصدي الشباب المسلم في سوريا للسلطة التي قررت القضاء عليهم وأعلنت مراراً أنه لاينفع معهم إلا الاستئصال، كان التصدي للطغاة في أوجه، فقد برعوا في الدفاع عن أنفسهم، وقرروا أن يقتلوا عملاء السلطة الذين يقودون المخابرات إلى بيوتهم، وباعـوا نفوسـهم ودينـهم بثمن بخس، وكان الإخوة ينفذون عمليات ناجحة جداً، بحيث يقنصون الشخص المطلوب الذي يلقى مصرعه رضاً وقبولاً لدى كافة الشعب .
وكان الشعب بجميع فئاته راضياً عن عملهم ومؤيداً لهم، ويفتح أبواب بيوته وأسواقه لهم، كي يختبئوا بعد تنفيذ عملياتهم ضد جواسيس السلطة وعملائها . وكان الأخ الطليعي يطلق رصاصة واحدة في قلب المخبر أو الجاسوس، بعد أن يتأكد من شخصيته بأن يناديه باسمه الشخصي فيلتفت المخبر لاشعورياً، عندئذ تنطلق رصاصة واحدة، غالباً من مسدس كاتم الصوت، في قلب الجاسوس، فيسقط
أرضاً بينما يمشي الأخ المجاهد بضع خطوات حتى يدخل أول زقاق فيدخله، وقد يلقي مسدسه في أحد الدكاكين في طريقه، وبعد دقائق قليلة تصل الوحدات الخاصة الموجودة في كل مكان من حماة، ولكنها لاترى أي شخص معه مسدس، أو يجري أو مضطرب، فيضيع الجاني ويصعب العثور عليه، وكانت معظم عملياتهم عام (1980) تتم في ساعة الذروة عند خروج الطلاب إلى مدارسهم والموظفين إلى مكاتبهم، بعد عملية رصد دقيقة وكافية .
ثم بدأ الأخوة يوجهون إنذارات لبعض العملاء والبعثيين السنيين يطلبون منهم التوبة وإعلان انسحابهم من الحزب أمام المصلين في مسجد السلطان أو مسجد الشيخ علوان بعد صلاة الجمعة .
كما بعث المجاهـدون أمـراً إلى مديـري المدارس يطلبون فيه عدم ترديد شعار الحزب، وإقامة صلاتي الظهر والعصر في المدرسة على أن يؤم المدير الطلاب، وأن تخصص في كل مدرسة قاعة خاصة مفروشة للصلاة .
ونفذ المدراء كل هذه التعليمات تنفيذاً فورياً، وكانت أي أوامر تكتب في ورقة ما يوقع تحتها باسم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين تنفذ من الجهة الموجهة إليها فوراً .
ورفع علم أخضر كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فوق ثانوية عثمان الحوراني في الحاضرثلاثة أيام دون أن يجرؤ أحد على إنزاله .
وفي 8/3/1980 خطب حافظ الأسد خطاباً تبين فيه أنه في غاية الانهيار، أعلن فيه أنه مسلم وأدى الشهادة علناً أمام المشاهدين، وكان يتمنى لو يعرف ماذا يريد الإخوان المسلمون ؟ كما اعترف أن من الإخوان المسلمين رجال عقلاء يريدون الدعوة إلى الله عزوجل، وصرح أنه معهم ويؤيدهم، قال حافظ الاسد يومها : ( أريد أن أوضح أمراً يتعلق بحزب الإخوان المسلمين في سوريا، الإخوان المسلمون في سوريا ليسوا جميعاً مع القتلة، بل كثير منهم، القسم الأكبر منهم ضد القتلـة ويـدين القتل، وهذا القسم يرى أنه يجب أن يعمل من أجل الدين ورفع شأن الدين لا من أجل أي هـدف آخر . هؤلاء أيها الشباب لا خلاف لنا معهم إطلاقاً، بل نحن نشجعهم، نحن نشجع كل امرئ يعمل من أجل الدين ومن أجل تعزيز القيم الدينية ولهؤلاء الحق بل وعليهم واجب أن يقترحوا علينا وأن يطالبونا بكل ما من شأنه خدمة الدين ورفع شأن الدين ونحن لن نقصر بل لن نسمح لأحد أن يسبقنا في هذا المجال ).
ثم بعث الأخ أمين يكن يرحمه الله إلى الأردن ؛ ليفاوض الإخوان،وجاءته طلباتهم وهي الإفراج عن جميع السجناء السياسيين، وإلغاء المرسوم (49)، وإلغاء قانون الطوارئ، والسماح للمهاجرين بالعودة من غير البوابة الأمنية، والسماح بتشكيل أحزاب سياسية، وانتخابات ديموقراطية نزيهة ومراقبة عربياً ودولياً،ومثل ذلك ...
وقد لبى حافظ الأسـد بعضها مثل الإفراج عن بعض المعتقلين، وقد بدأ نفسه بتنفيذ البند الأول من بنود التفاوض، وكان يطمع في المصالحة والمهادنة، بعد أن أخافه رصاص المجاهدين وأقض مضجع العصابة كلها .
حتى ذلك الحين كانت المعركة بين المجاهدين وقوات الأمن كالمخابرات العسكرية والأمن القومي والأمن السياسي، وقد بان فشلها تماماً وسيطر المجاهدون على حماة وحلب تقريباً في أذار 1980 .
في أواخر أذار (1980) قررت السلطة قمع المجاهدين بقوة الجيش النظامي فأمرت اللواء(47 دبابات) المعسكر منذ عدة سنوات على مشارف حماة لهذا الغرض، وأمرته بتطويق مدينة حماة وعزلها عن القطر والعالم عزلاً كاملاً .
أحاطت الدبابات مدينة حماة، وقطعت الدخول أو الخروج إليها ثم وزعت المدينة على وحدات اللواء وأعطيت الشريعة لوحدة من الوحدات الخاصة يقودها الرائد خالد الأحمد وهو ابن قرية تل قرطل على مشارف حماة، وهو أحد ذراري السنيين الذين خدموا عصابة النظام الأسدي أكثر من غيره .
ساد منع التجول في المدينة، وتعطلت كل حركات الحياة فيها، وكان الجنود يدخلون البيت فيتفقدون بطاقات السكان فيه، ثم يتحرون المنزل بحثاً عن السلاح، وقد يخرج الرجال كلهم إلى أرض الدار ليأخذوا علقة بالخيزرانات أمام أطفالهم ونسائهم .
أما الرائد خالد الأحمد فقد قال لمرؤوسيه :
هذا حي الشريعة، هو حي الإقطاعيين، الذين كانوا يأكلون لحمنا ودمنا في الريف، لا ترحموا أحداً فيه، حتى أساتذتي الذين درسوني في ثانوية ابن رشد وأكثرهم في هذا الحي إن وجدتموهم لا ترحمونهم .
- افتح الباب يا ......
- أهلاً وسهلاً، خير إن شاء الله .
- أنت رجعي كبير، ما عملك ؟
- مدرس تربية إسلامية في ابن رشد، وخطيب مسجد السلطان .
- ( يضحك ساخراً ) أنت واحد من الذين وصانا بهم معلمنا، هيا انبطح يا ....
ونزلت الخيزرانات على قدمي الشيخ ...... وهو الرجل الرزين الهادئ الوقور الذي ما بخل على الناس يعلمهم ويبـين لهم متلطفـاً معهم حتى مع أمثال هؤلاء ما كان قاسياً، وهو الذي تتلمذ على الشيخ محمد الحامد رحمه الله، وقد رزقه الله صبراً وسعة صدر يغبط عليهما، ومع ذلك أسالوا الدم من قدميه وكسروا الخيزرانة عليهما حتى تركوه يزحف أمام أطفاله ونسائه .
* * *
في العمارة التي سكنها أبو حسن، كانت إحدى قواعد المجاهدين في حماة، وكان أبو حسن أحد عناصرها، وقد قامت الدولة بالتمشيط بحثاً عن هذه القواعد التي يسرع إليها المجاهدون بعد تنفيذ العملية ويختفون فيها .
ومنذ اليوم الثاني للتمشيط بدأت حرارة رامي مولودهم الذكر الثاني بعد أربع بنات، بدأت حرارته ترتفع، لكن أنى الخروج من القاعدة في وقت يمنع فيه التجول، والجيش على الأبواب يصلون أي باب يفتح وابلاً من الرصاص والقذائف .
- رأسه مثل النار، وتضمه إلى صدرها بينما تذرف الدمع أم حسن .
- اصبري يا أم حسن، ولتكن ثقتك بالله أكثر من الدواء .
- لكن ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم ك تداووا عباد الله، فما من داء إلا وله دواء .
- نعم، ادع الله أن يسمح بالتجول غداً، ونأخذه إلى الطبيب .
- لو نحصل له على أي مخفض للحرارة .
- ما كنا نحسب هذا الحساب، ضعي له كمادات من الماء البارد، وتوكلي على الله .
- ( وهي تجهش بالبكاء ) أبو حسن، رامي يموت ...
- لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، سلمت أمري لله، يا رب أفوض أمري إليك .
وتمر ثمان أيام على هذا المنوال، يموت رامي كل ليلة، ثم يعود إلى الحياة في النهار مع الكمادات الباردة التي تقلل حرارة دماغه الملتهبة، وفي اليوم الثامن بعد أن جلى اللواء – 47 – والوحدات الخاصة عن حماة، وسمح بالتجول لمدة ساعتين كل يوم أسرع أبو حسن بابنه رامي إلى الطبيب .
- لا حول ولا وقوة إلا بالله، ما كان عندك أي خافض للحرارة .
- حاولنا تخفيضها بكمادات الماء البارد .
- كم يوماً بقي على هذه الحالة ؟
- منذ اليوم الثاني للتمشيط .
- يعني سبعة أيام هكذا .
- نعم، كل ليلة نقول مات .
- مسكينة أمه، كم تعذبت عليه، وقد وصل الالتهاب فيه إلى السحايا،وأنكهتها، لكن الله قادر على كل شيء .
عاد أبو حسن يحمل رامي وقد تفتت قلبه حزناً، ثم وضعه بين يدي أخته عائشة التي راحت تضمه وتقول : أنت من ضحايا السفاح أسد، والله لأنتقمن لك يا أخي ثم غلبتها الدموع والعبرات .
أما رامي فقد تعطل جزء من دماغه فصار نموه بطيئاً جداً، وصل عمره ثلاث سنوات وكأنه ابن عدة شهور .
( 2 )
ترك قاسم ثانوية عثمان الحوراني وهو يعلم لوحده أنه لن يعود إليها بعد الآن، وسيبقى طلابه عدة أيام بدون مدرس، ثم تبحث المديرية عن مدرس للرياضيات بدلاً من قاسم ... الذي توارى عن الأنظار .
ولد عام 1956، لوالد قاس، فكان قاسم صبياً شرساً قبل العاشرة من عمره إذ كان والده يحرضه على استعمال السلاح منذ الصغر، وكان يسلمه المسدس والبندقية، لذلك كان أهل الحي يتحاشونه وينفرون منه .
هكذا كان قبل العاشرة، أما بعد أن هداه الله إلى مروان حديد ليكون أحد أشباله في دوار الجاجية، ثم يتعلم الصلاة وتلاوة القرآن فقد انقلب قاسم رأساً على عقب، وأصبح خجولاً تتورد وجنتاه كلما تحدث مع الناس، محباً لأبناء حيه ويغار عليهم فأحبه أهل الحي وأدهشهم منظره وهو يجمع أبناء الحي في المسجد يعلمهم الوضوء والصلاة والقرآن وكان لسان حالهم يردد ( سبحان مغير الأحوال) .
نشأ قاسم ... في مدرسة مروان حديد منذ صغره، وكان من أذكى الطلاب وأنبلهم في ثانوية الحوراني، وقد زادته جمالاً لحية شقراء في وجهه الناصع البياض، وعينان زرقاوتان تشعان بالنور والمحبة لكل من ينظر فيهما .
ثم درس ( ر. ف . ك ) في حلب منذ اندلاع الثورة الإسلامية، وعاش في حلب ضمن أسر الإخوان المسلمين، وعرف الإخوة المجاهدين فيها الذين كان يؤكد لهم دائماً ضرورة الالتزام بقرار الجماعة وعدم مخالفتها، وكان يرفض الانضمام إلى صفوف الطليعة، التزاماً بقرار جماعة الإخوان المسلمين .
وفي آذار ( 1980 ) بعد أن اشتد الصراع بين السلطة والمجاهدين، تأكد لقاسم أن السطة تبحث عنه، والمشكلة أن شباب الإخوان وشباب الطليعة يصعب الفصل بينهما، وعندما يعتقل أحد الشباب، وتحت التعذيب الذي لايحمله بشر، يقدم أسماء للمخابرات بوعي أو بدون وعي، ولما تأكد له أن وحدات الأمن تبحث عنه، وقد تقبض عليه في ثانوية عثمان الحوراني، حيث كان مكلفاً ببعض حصص الرياضيات للأول ثانوي، عندئذ نفذ صبره، وتصرف بقناعته وبايع الطليعة المقاتلة، مخالفاً أوامر جماعة الإخوان المسلمين، ورفض أن يخرج من البلد وهو الرأي الراجح لدى عقلاء الإخوان المسلمين، الذين تطلبهم وحدات الأمن، كانوا يسارعون إلى الخروج من البلد، وقد سهل الله السفر إلى الأردن أو العراق أو لبنان بالهوية الشخصية، وساعد هذا الإجراء رجال الإخوان المطلوبين لوحدات الأمن، ساعدهم على الخروج من سوريا ..
لذلك ترك قاسم ثانوية الحوراني التي كانت له فيها ساعات خارج الملاك، وتوارى عن الأنظار .
كانت أم قاسم سعيدة جداً بابنها الذي تمنت أن يكون مجاهداً في سبيل الله، وها هو الآن يحمل الكلاشن ويقبل رأسها كلما زار أسرته قائلاً : - ادع لنا يا أماه بالنصر أو الشهادة فترفع أكفها إلى السماء وتدعو أن يتقبل الله جهاده .
* * *
بدأت وحدات الأمن تركز بحثها عن مخابئ الأخوة شباب الطليعة المقاتلة المطلوبين لوحدات الأمن العسكري وغيره، فكل أخ ورد اسمه في التحقيق مع من يقع أسيراً لدى المخابرات، يتوارى عن الأنظار، وبعبارة أخرى كل أخ على صلة بأخ أسير كان يتوارى عن الأنظار، لأنه يتوقع ورود اسمه في التحقيق، كما أن وحدات الأمن تداهم بيت المطلوب أو مكان عمله، بعد أن يكون قد غادره إلى غير رجعة ... وهكذا صار في مدينة حماة عشرات الأخوة المطلوبين، اختبأوا في أماكن عرفت فيما بعد باسم قواعد المجاهدين، وكانت هذه المخابئ مزودة بأسلحة للدفاع عندما تصل وحدات المخابرات إليها، ليموت الشباب المسلم في الهواء الطلق، يموت في الشارع، في ميدان المعركة ؛ بدلاً من الموت في أقبية المخابرات تحت تعذيب الجلادين ...
وصار لكل قاعدة أمير، وفيها عدد من الأخوة المتوارين عن الأنظار، ينتظرون الفرج، كأن تتغير خطة السلطة، وتكف عن ملاحقتهم، وكان العدد يصل إلى عشرة مجاهدين، لايخرجون من القاعدة إلا لضرورة قصوى ....
وكثر المخبرون ضعاف النفوس، وما أكثرهم في كل مكان، وفي كل شعب، خاصة إذا عمدت السلطة إلى بذل المال لهم، المال الذي يعبدونه من دون الله ... ورأى الأخوة أن هذه (القواعد) سوف تنكشف للمخبرين بسهولة، كما جرى في حلب في رمضان(1400هـ) حيث تمكنت وحدات المخابرات من اختراق الطليعة في حلب، واستدلت على هذه المخابئ، وتمكنت من القضاء عليها، بماعرف يومها ( نزيف القواعد )، وأدى إلى تصفية الطليعة المقاتلة في حلب، حيث انتهت تماماً في منتصف (1981)، وجعل السلطة تخطط للضربة القاضية في حماة...
إذن رأى المجاهدون أنه إذا وجدت امرأة تخرج من هذه (الشقة) وتدخل إليها يومياً، كي يتوهم المخبرون أن هذه الشقة مسكونة بأسرة عادية، وهذه ربة الأسرة يرونها تخرج وتعود لها؛ فإن هذا سيحمي القواعد من الانكشاف لوحدات الأمن، وستبقى مدة قد يقضي الله أمراً كان مفعولاً ...
* * *
ــ لا حل لهذه المشـكلة إلا بـزواج أحدنا، وإحضـار زوجته لتســكن معه في القاعدة، قال أمير القاعدة .
- ومن ترض بمثل هذا الزواج، أجاب قاسم .
- الله يقيض لنا، من تقبل، القضية صعبة، ويلزمها مؤمنة على طراز الصحابيات، فأين هي ؟ .
- لنعرض الأمر على أميرنا هشام .
وفي جلسة صغيرة ضمت عدداً من أمراء القواعد مع أمير المجاهدين في حماة الأخ هشام، تحدث هشام :
- المخبرون كثر، والدولة تغري ضعاف النفوس بالمال الكثير لكل من يساهم في إلقاء القبض على أحدنا، ألم تسمعوا بالمرأة التي صنعت طعاماً ( سختورة ) ودعت ابن أختها المطلوب من الأمن، ولما صار عندها، أخبرت الأمن فداهموه في بيتها وألقوا القبض عليه، وحصلت خالته على خمسين ألف ليرة سورية، لذلك القواعد مهددة من عيون المخبرين، ولا حل لها إلا بزواج مجاهد من كل قاعدة وإحضار زوجته لتسكن معه في القاعدة .
- أين اللاتي يفهمن هذا يا أخي هشام ؟
- هل تتزوج يا قاسم ؟ عروسك عندي .
- إذا كان الزواج يخدم الجهاد، نعم .
- وأنت يا غسان ؟
- إذا كنا بايعنا على بذل أرواحنا في طاعة الله، فهل نخالف الأمير في زواجنا !
- بارك الله فيكما يا أخي، والله أعرف ابنتي أخ مجاهد، رأيتهن يوم ساعدنني مع أمهن وأبيهن في إطفاء الحريق الذي شب في القاعدة .... يتمناهن كل مجاهد، ما فترت عزيمتهن حتى أخمدت النار، وهن يحملن أوعية الماء وسط الدخان والحرارة.
- متى نذهب إلى أخينا، ونطلب أيديهن ؟
- على مهلك أخي قاسم، ويسود الضحك .
* * *
- جئنا نخطب إحدى بناتك يا أخي أبا حسن .
- أهلاً وسهلاً بكم .
- ما شروطكم ؟
- أن يكون مجاهداً، وأن لا يخرج من حماة .
- وما المهر ؟
- قلنا أن يبقى في حماة، ولايهرب ويتولى يوم الزحف كما فعل غيره، ممن يسمون أنفسهم عقلاء !!!
- وننتظر الفرج من الله وهو على كل شيء قدير ....
- نقرأ الفاتحة .
وفي اليوم الثاني عقد قران قاسم على عائشة ... بعد أن قالت عائشة :
- لا أريد مهراً، أشتري به فراشاً يغتصبني الأوغاد فوقه، لا أريد سريراً وخزانة وغرفة طعام، لا أريد ذهباً يقطع الجندي يدي ليأخذه ويسلبه، لا أريد ما تتسابق إليه بنات المسلمين اليوم من حطام الدنيا وكأنهن ما سمعن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( الدنيا جيفة وطلابها كلاب )، مساكين هؤلاء الناس كنزوا الأموال وبنوا العمارات وفرشوها بأثمن المفروشات ـ ثم ... سلموها للطغاة يحتلونها، وينهبونها، ويغتصبون أعراض المسـلمين على أرائكـها، ما قيمة الأثـاث الذي لا تحرسه البندقية، أي مجتمع يعيش في عالم اليوم بلا بندقية، أم ظنوا أن تحرسهم بنادق عدوهم ! .
- لا أريد، كما تطلب بنات المسلمين، ثلاث أساور مبرومة، وطوق ثعبان و ... أريد كلاشن وعشر رمانات يدوية فقط، أدافع بها عن عرضي وشرفي إذا وصل الأوغاد إلي ... ولا أريد رجلاً ذا كرش ترهلت أردافه من كثرة الأكل والنوم، يعرف طرق الكسب الحرام ويتقن اللف والدوران، وإن كان فيه آثار تقوى أتقن الحيل الشرعية ... ليملأ بطنه من السحت، أما سمع أن ما نبت من السحت فالنار أولى به .
فقال أبوها : بارك الله بك يا ابنتي، وأسأل الله أن يبلغك ما تريدين وأن يستر عليك في الدنيا والآخرة .
قدم لها قاسم سواراً من ذهب، هذا هو المهر المسمى شرعاً، وأكدت وهي تضحك أن يسلمها رأسين من رؤوس عصابة المافيا، مافيا السلطة الأسدية، أزلام المخابرات والوحدات الأمنية، قبل الزفاف .
وفي تموز ( 1980 ) استعدت عائشة للذهاب إلى قاعدتها الجديدة، وبصمت ووقار ركبت مع أمها المجاهدة وأختها سميرة وأبيها وكلهم من المجاهدين، فأوصلوها إلى قاعدتها الجديدة، تنتظر أن يصل إليها قاسم .
وفي قاعدة أخرى ألبس الإخوة قاسماً ثياب العرس، وسرحوا له شعره وعطروه ثم أعطوه بعض الهدايا الرمزية، ودعوا له، وودعهم مضطراً أن يغادر القاعدة إلى قاعدته الجديدة، التي ستضمه مع عائشة وعشرة من المجاهدين .
- قف، قال له جندي من الوحدات . فوقف قاسم ثم قال : هل تسمح لي أن أمر إلى الجانب الآخر ؟
- مر بسرعة، فانطلق قاسم يمشي بين عناصر الوحدات يقطع الشارع .
- قف، وصوب البندقية نحوه، صرخ أحد الضباط .
وقف قاسم، ثم قال : لقد سمحتم لي أن أمر من الشارع .
- ضع الكيس على الأرض، ولا تتحرك وإلا قتلتك، قال الضابط، فوضع الكيس على الأرض .
- ارفع يديك عالياً، وأمر بعض الجند أن يأخذوه إلى العمارة حيث جمع عدد من الرجال على إثر مقتل ثلاثة من العصابة الطاغية قبل ساعة واحدة، يريدون أن ينتقموا منهم، كما نصحهم الخبراء ( الخبثاء ) الروس .
وفي طريقه إلى العمارة، رأى الناس ينقادون أذلاء لجنود الوحدات الخاصة، وهم يساقون إلى الموت دون مقاومة، تماماً مثل الأغنام التي تقاد إلى المذبح بسهولة .
ورأى قاسم عدداً من الضباط والجنود ومن كلاب السلطة ( المخبرين ) كذلك، فدعا ربه أن يرزقه الشهادة، وبدأ لون وجهه يتغير .
- قف، قال الضابط، تعال ياعسكري، فتشه، بينما احترس الضابط مصوباً بندقيته على قاسم .
- اقترب الجندي ليمد يده على بطن قاسم حيث المسدس، وما هي إلا ثانية كلمح البصر ضرب قاسم يد الجندي بيده اليسرى فشل يده اليمنى عن الحركة، وتناول قاسم مسدسه فقتله، وقتل الضابط المحترس في أقل من عشرين ثانية، ثم قفز إلى الكيس فأخذه ودخل الزقاق الضيق، ورشات الرصاص عليه مثل المطر، لكن لم تصب منه شيئاً، بينما دهش الجند والضباط الذين شغلوا بنقل الضابط والجندي اللذين فارقا الحياة فوراً لأن ضرب المجاهدين لا يخطأ القلب .
وكان الزقاق الضيق آنذاك قلعة يصعب على الوحدات أو السرايا دخولها خوفاً من جرهم إلى كمين فيها، لذلك تركوه وما جرؤوا على متابعته .
- من يدق الباب ؟ - افتحي أنا قاسم ( بصوت خافت ) .
- الحمد لله على السلامة، ما لك ملهوف ، - لا، أبداً، لقد قتلت ضابطاً وجندياً الآن أما سمعت الرصاص .
- نعم، سمعت رشات كثيرة من الرصاص .
- هذه الرشات كانت علي بعد أن انسحبت إلى الزقاق الضيق بعد أن قتلتهم .
- ضابط، ( وهي تضحك فرحة ) - وجندي أيضاً، وكلاهما من عصابة السلطة، أنا متأكد من ذلك، المهم، هل أعجبتك شقتنا يا زوجتي العزيزة – نعم، لكنها كبيرة جداً، ماذا نفعل بها ؟
- لا، ليست كبيرة، بعد يومين فقط سيكون لك عشرة أبناء، يومين فقط وتخلفين عشرة رجال مرة واحدة، سبحان الله !!، رجال من المجاهدين، يسكنون معنا هذه الشقة، وستكونين أم المجاهدين .
- الله أكبر لقد تحققت أحلامي يا قاسم، كنت أحلم بك منذ خلقت، أريد رجلاً مجاهداً صحابياً في القرن العشرين، وقد تحقق حلمي بفضل الله .
- سيكون لك شرف إعداد الطعام لعشرة مجاهدين، مطلوبين من وحدات الأمن، لايستطيعون الخروج من الشقة نهاراً، وعند الضرورة القصوى ينتقلون في الليل، وإذا جاءت السلطة انسحب المجاهدون إلى مخابئهم المعدة باتقان داخل الشقة، بينما تتكلمي مع رجال الوحدات وتموهي عليهم الحقيقة، كما ينبغي أن تخرجي كل يوم مـرة أو أكثر تحضري الذخيرة وتنقلي الأسلحة والدواء والأوامر من قاعدة إلى أخرى .
- لقد تزوجنا على هذا، فهل تذكرني ؟ - نعم، إن الذكرى تنفع المؤمنين .
- اللهم اجعـلنا من المؤمنيـن، يا رب، ثم تدخل إلى غرف الشـقة وتضحك وهي تقول :
- هذه غرفة الاستقبال، وتلك غرفة النوم، ثم غرفة الطعام وتلك خزانة بستة أبواب.
- أين الخزانة ؟ ، لقد رأيت الغرف فارغة، ولم أر أي خزانة .
- أضحك على بنات المسلمين اليوم اللاتي يشترطن الخزانة أم ستة أبواب ولا يشترطن من يدافع عنها، أما أنا وأنت فتكفينا غرفة واحدة، فيها فراش وغطاء ووسادة وحصيرة وبندقيتان وعشرين رمانة يدوية، ولو حصلنا على قاذف فهذا يعادل ما يسمونه ( كاديلاك ) .
ما ظننت أنك تتكلمين بهذا القدر، هيا أعلمك فك وتركيب الكلاشن .
- أعرف ذلك لقد علمنا والدي، فهو مجاهد أيضاً من فضل الله .
- نِعم الأب المجاهد يا عائشة، فوالله ما ظننته إلا صحابياً هذا الرجل .
- هذه قاعدتنا، هذه النافذة تطل على الشارع ... الذي يحتمل أن تأتي معه آليات العدو، لذلك فهذه النافذة أهم مرصد لدينا، يقف خلفه رامي القاذف عند القتال الأخير من القاعدة، أما تلك الكوة الصغيرة فقد صُنعت خصيصاً للقنص في الساحة المقابلة لقاعدتنا. هل ترين ذلك العمود الصغير من الخشب، إنه أقرب قاعدة إلينا قد نتلقى منها إشارات ضوئية عند الضرورة .
أعتقد أن باب الشقة صمم خصيصاً للقاعدة، - نعم، إنه لا يفتح حتى بالبندقية أو الرشاش الخفيف وهذا يؤخر دخول الجنود إلى الشقة ريثما نتدبر الأمر في الداخل .
بعد يومين، تعرفت فيهما عائشة على قاعدتها الجديدة، وعرفت مخابئها وأسلحتها والطرق إليها، دق الباب، فقال قاسم : هيا بدأ دورك، وركض مع بندقيته إلى المخبأ .
نظرت عائشة في الشقة، ثم تفقدت غطاء شعرها وهي تقترب من الباب، ثم ترد بصوت خافت : من ؟ أجاب :- مصطفى، عادت مسرعة إلى قاسم وهمست له ... فقال : لا تخافي هو الابن الأول، ففتحت له الباب ثم دخل ملثماً حتى كاد يصل قاسم كشف عن وجهه بحيث لا تراه عائشة، وعانق قاسم – مبروك يا أخي، - الحمد لله على سلامتك .
وتوالى أبناء عاشة حتى قاربوا العشرة بعد يومين من زواجها، وقد نظمت القاعدة بدقة حيث وضعت ستارة في الصالون يمكن رفعها بسهولة، تحجب غرفة عائشة عن بقية القاعدة، بينما وزعت أعمال الحراسة على النوافذ والمناوبة في الليل والتدريب كما كان يجري في غيرها من القواعد الكثيرة في سوريا الحبيبة .
كانت إحدى الغرف للنوم، والثانية للتدريب والاجتماعات للتداول في رسم وتنفيذ عمليات الدفاع عن القاعدة، أما الثالثة فكانت مستودعاً للذخيرة والأسلحة والعتاد، والرابعة لعائشة .
كان كل شيء في القاعدة منظم، يقول الأمير فينفذ الجميع، والجميع يتسابق إلى التدريب والحراسة وما كنت تسمع أو ترى تذمراً إلا عندما يختار أمير القاعدة مجاهدين لتنفيذ عمل ما، قد يوصلهم إلى الشهادة، ترى الآخرين يتذمرون، ولسان حالهم يقول : لم تحابيهم علينا ؟ ترسلهم وتحرمنا من هذا الخير، حتى إن أحدهم كان يترقب خروجه في العملية القادمة، لكن أمير القاعدة لم يرد تكليفه بها، بل كلف غيره، فبكى وهو يترجى أميره أن يتلطف به ولا يحرمه ما يتمناه .
* * *
منذ ربيع عام (1980م ) بعد سيطرة الحركة الجهادية على حلب وحماة، حتى كان المقاومون في حلب يوزعون مجلة النذير علناً، وعلى مرأى من رجال المخابرات بلاخوف منهم، وكانوا يمشون في شوارع حلب بأسلحتهم، كماكانوا يعطون التعليمات للشعب لينفذها في حماة، كالانسحاب من الحزب وإقامة الصلاة في المدارس، ومنع ترديد شعار حزب البعث في المدارس ...إلخ، وبعد خطاب الرئيس في آذار عام (1980م) الذي أظهر مدى ضعف السلطة في مواجهة الحركة الجهادية، بدأت السلطة تستخدم الجيش بكثافة، وبشكل مباشر في قمع الحركة الجهادية، وكانت المعركة فيما سبق تدور بين أجهزة الأمن كالمخابرات العسكرية، والأمن السياسي، والأمن القومي،وأمن القوى الجوية، وفصائل الحزب والعمال والفلاحين المسلحة، وبين المقاومين المسلمين.
وتقدمت ألوية من الوحدات الخاصة، بعد فرز عناصرها،وطوقت مدينة حماة في نهاية آذار(1980م)، وعزلت المدينة عن العالم، وعزلت الأحياء بعد ذلك بعضها عن بعض،وفتشت بيوت حماة بيتاً بيتاً على مدى أسبوع تقريباً، وكانت تبحث عن السلاح، وعن أسماء أعضاء من الحركة الجهادية، متوارين عن الأنظار، ومطلوبين لوحدات الأمن، توصلت إليها سلطات الأمن بواسطة التحقيق مع المعتقلين،وتعذيبهم بشكل وحشي، وأغلب ظني أن هذا التمشــيط لم تعثر الســـلطة من خلاله على أي عنصر ممن تريدهم، كمالم تعثر على أية قاعدة للمقاومين، إلا أن بعض الضباط أهانوا الأهالي وعاملوهم بقسوة ونذالة، كما فعل الرائد خالد الأحمد - ( وهو من ذراري السنة، من قرية تل قرطل قرب حماة) ـ بأهالي حي الشريعة بحماة () . وهكذا مشطت حلب وإدلب وجسرالشغور عدة مرات، ولم يجد ذلك التمشيط نفعاً، واستمرت الكفة راجحة في جانب الحركة الجهادية .
* * *
- كيف تبحثون عن أفراد الطليعة أيها الناس ؟ كم مرة مشطنا المدينة ؟، قال علي حيدر قائد الوحدات الخاصة، والمكلفة بتدمير المجاهدين في حماة والقضاء عليهم .
- ياسيدي، ما بعرف، كأنهم جان يختفون تحت الأرض، دائماً أبعث خيرة العناصر ولا يعودون بشيء، أجاب النقيب سرحان .
- ولك سرحان، أنت تفتش بيدك، أو تجعل الجنود يدخلوا قبلك .
- يا سيدي، كيف تريد، أغامر بروحي وأنا القائد، دائماً أضع الجنود بالأول وأنا أسمع وأراقب عملهم .
- ولك، ما عندك شجعان، ما عندك الرقيب كاسر، والعريف مشهور، كم صار لك وأنت تعلفهم ؟ حتى صاروا مثل البغال، اعتمد عليهم، يمكن الجنود ما يصدقوا معانا .
- ولكن نخسرهم يا سيدي، وهم عناصر أمن مهمة .
- لا تخاف، الجبل بيفرخ كثير، والماكينات شغالة، اسمع، اليوم أريد أن تكبسوا بعض الأماكن التي يشير إليها عملاؤنا من الحمويين، تعال انظر على الخريطة، هذه العمارة فيها شقة يتردد إليها شباب مشكوك في أمرهم، يجب مداهمتها قبيل الفجر، والدخول إليها مهما كلف الأمر .
- حاضر سيدي .
وفي آخر الليل تحرك المجرمون من مراكزهم قرب العمارة في مجموعة من الجند تزيد على العشرة يقودها النقيب سرحان، وتضم كل من الرقيب كاسر والعريف مشهور، اللذين جمعا شحماً ولحماً في جسديهما يعادل حجم البغل، وتحركت مجموعات أخرى إلى أحياء أخرى بحثاً عن المجاهدين الذين ما زالوا يختفون عن أعين السلطة، مما أذهل السلطة والخبراء الروس المتخصصين في مكافحة الثورات الشعبية والذين ساهموا بسحق ملايين المسلمين في القوقاز وتركستان وأوزبكستان، استنفرتهم السلطة العميلة السورية فجاؤا متحمسين للقضاء على المسلمين في سوريا كما قضوا عليهم في تلك البلاد .
وكان آخر تقرير قدمه هؤلاء الخبراء الروس يفيد أن المدينة ( حماة ) كلها أو معظمها متعاونة مع الطليعة المجاهدة، وهم ينصحون بضرب أي حي في المدينة تقع فيه عملية اغتيال لأحد المخبرين ضرباً مؤلماً، بحيث إذا وقعت عملية للمجاهدين في حي ما وعجزت السلطة عن القبض على الجاني تقوم السلطة بجمع خمسين رجلاً من أهل الحي وقتلهم في الحال أمام أهل الحي وما زالت السلطة تناقش هذا الاقتراح على مستوياتها العليا .
- في تلك الليلة، كان في قاعدتهم عدد من الإخوة، البعض ينام والآخر في مهمة الحراسة، أما عائشة وقاسم فكانا في غرفتيهما يغطان في النوم قبيل الفجر حيث يحلو النوم عندما يشتد البرد، وما إن رأى حارس القاعدة العربات المصفحة تدخل في الشارع حتى ذهب إلى أمير الجماعة : - أخي، أخي، هل صحوت ؟ . – نعم، ماذا ؟
- إن شاء الله خير، سيارات عسكرية للوحدات تدخل في شارعنا، - عد راقبها وأعلمنا من مكانك بسرعة .
وأيقظ الإخوة بسرعة ليدخلوا مخابئهم، كما أيقظ قاسم ليدخل معهم وطلب من عائشة أن تتصرف كما تم الاتفاق عليه مسبقاً، وعندما تأكد الحارس من توجه الدورية إلى قاعدتهم دخل المخبأ، وتركت عائشة وحيدة في الشقة .
- ( طرق شديد على الباب ) افتحوا الباب وإلا دخلنا بالقوة ( قال النقيب سرحان ) .
- أنا وحدي في البيت، كيف تدخلوا علي وحدي وأنا امرأة لوحدها، أجابت عائشة .
- افتحي الباب يا ... وإلا كسرناه .
- قلت لك أنا وحدي، كيف تدخل ؟
وكانت عائشة تناور بهذه الإجابات ريثما تأتيها الإشارة من قاسم بأن كل شيء على ما يرام ويمكنها أن تفتح الباب .
- ( يزداد الطرق والدق على الباب، بحيث يوقظ الجوار ) – افتحي الباب يا ...
- طيب، ادور على المفتاح، قفلته من يومين ونسيت مكانه، انتظر دقيقة أدور عليه.
- افتحي الباب يا ... يا ... يا ... ويتلفظ النقيب سرحان بألفاظ جديدة على العربية، فما كان لـه أن يضيف لقاموس اللغة إلا نشازاً كلمات وسخة وقذرة تأنف الأذن من سماعها، لكنه اعتاد على سماعها صباح مساء وأصبحت عادية في حياة زبانية السفاح أسد، حتى إن أحدهم ليقولها لابنته وزوجته، وأمه ثم تراه يضحك ويعتذر لها ويقول : ظننتك من حمـــاة .
- اكسروا الباب، يا مشهور حاول كسر الباب، فيضع البغل مشهور كتفه على الباب ويدفع بكل قوته، ولكن عبثاً، وبلا فائدة، فيعاود النقيب سرحان الصراخ :
- افتحي الباب يا ... لقد هربتي المجرمين، والله لأقطعنك قطعاً قطعاً، سنكسر الباب وندخل، وتقول عائشة في نفسها خسأت أيها النذل ـ قاسم لك بالمرصاد ــ . ثم تفتح الباب وقد لبست حجابها وتقول : لقد نزل جنودك من السطوح، فهل وجدوا شيئاً ؟، من هم المجرمون !!!؟، أنا أسكن مجرمين !!!؟
- أنت لم تفتحِ الباب لولا الجنود، يا ...
- لا، أنا كنت أدور على المفتاح، أنت ماذا تريد، تفضل فتش الدار إذا ما تصدقني .
- لقد هربتيهم يا ...
ثم رفع النقيب سرحان يده اليمنى وصفعها بكل قوته على خدها، فرماها أرضاً وسال الدم من فمها، ثم داس برجله في بطنها ودخل إلى صالة البيت بينما راح مشهور وكاسر يدخلان الغرف واحدة واحدة ثم عادوا بسرعة .
- سيدي لم نجد شيئاً . – هل تأكدتم جيداً ؟ - نعم .
رشوا عليها الماء لتستيقظ، ولما رشوا الماء على وجه عائشة نهضت ولملمت غطاء شعرها فقال لها النقيب : - أين المجرمين ؟ - لا يوجد أحد هنا .
- لمن هذا البيت ؟ - هذا بيت ... – ماذا يقربك ؟ - أبي .
- أين هو ؟ - في دمشق . – أين أخوك فلان ؟ - في حلب بالجامعة .
- وأين بقية إخوتك ؟ - مع والدي . – أين والدك ؟ - قلت لك في دمشق .
- في أي مكان ؟ في صيدناية . – عند من ؟ - عند زميل له اسمه أبو ...
- ما هو اسمه الكامل ؟ - لا أعرف إلا هذا الاسم له . – لماذا تقفلين الباب ؟
- لأني وحدي أخاف من الأشرار . – منا أم من الأشرار ؟ - لا أنتم رجال الأمن تحافظون على الأمن فكيف أخاف منكم ؟ - هل تحبين الأسد ؟ - نعم . والحزب ؟ نعم .
- لماذا ؟ لأنه أعطى الحرية للمرأة، وبنى مصانع الدجاج والإسمنت في حماة، _ لماذ تلبسين هذا الثوب ؟ - هذه عاداتنا . – هل أنت غضبانة علينا ؟ - لا، أنتم من واجبكم البحث عن المجرمين .
- ثم ذهبوا عند أذان الفجر، وما زال الإخوة بخير داخل مخبأهم، ولما اطمأنت إلى ذهاب العدو، أخبرت قاسم الذي طمأن الإخوة المجاهدين على ذهابهم وعادت القاعدة إلى وضعها ووقف الحارس عند نافذة الحراسة يرقب آليات العدو وهي تعود من حيث أتت تجر أذيال الحيرة والتساؤل .
أما عائشة فقد مرضت لمدة عشرين يوماً، ولم يمنعها مرضها من الذهاب إلى الصيدليات تشتري من كل واحدة بعض الأدوية المضادة للجروح والتهاباتها وبعض المواد اللازمة للإخوة في عملياتهم حيث يقوم مكتب إعداد المتفجرات بتفريغ المواد من الأدوية لاستخدامها في صناعة أسلحته وعقاقيره وعلى الرغم من مرضها كانت تخرج مرتين كل يوم تنقل الأوامر عند الضرورة والأسلحة والذخيرة من قاعدة إلى أخرى .
- مضت أربع شهور على زواجنا، ولم تحملي يا عائشة، قال قاسم .
- ولماذا أحمل يا قاسم، وهل ينبغي للمسلمات أن يلدن في مثل هذه الأحوال، ومن يربي الولد ؟
- الله هو المربي . – إنما عنيت يا قاسم أن الأولاد يشدون الأبوين إلى الدنيا .
- أما سمعت بأبي خالد، رحمه الله الأخ المجاهد عدنان شيخوني، الذي وضعوه تحت التعذيب يكاد يشرف على الموت أمام أبنائه وزوجته، وظنوا أن منظر أولاده وهم يبكون لحاله سوف يفت في عزيمته فينطق بما تريد السلطة، وقد أحضروا أسرته كلها من حلب إلى دمشق لترى تعذيبه، ولكنه كان يقول لأولاده ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ولم يفتح فمه إلا بلا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى يئس الجلاوزة فكفوا عن تعذيبه، ثم قيض الله له ولستة عشر من إخوانه بالفرار من سجن كفر سوسه، فعاد إلى صفوف المجاهدين، حتى اصطفاه الله بالشهادة .
- ولكن، كل إخوانك أرباب الأسر مثل هذا البطل الشهيد ؟
- - كثير منهم هكذا .
- على كل حال، ألا تجد أن الذين لا أولاد لهم أسرع في تلبية نداء الجهاد ؟
- ليس دائماً .
- كيف ذلك ؟
- لو تعرفين الأخ ( أبا حسان ) ما قلت مثل ذلك .
لو عرفت أخاً مثل ( أبي حسان ) لما قلت ذلك، ترك أولاده العشرة، والتحق بكتيبة المجاهدين ولا تظني أنني لا أنتظر منك ولداً يرثني ويحمل بندقيتي بعدي .
- تريد مني ولداً، يا قاسم، ومن يربيه ؟ - قلت لك : الله هو المربي .
- ادع الله إذاً أن يرزقنا ( محمود ) فقد لاحظت أنني حامل منذ شهر .
- صحيح، ولماذا لا تخبرينني ؟ - ظننت أن هذا يخلق لك المتاعب في غير وقتها .
- سامحك الله، إنني أنتظر محمود ( أبا قاسم ) منذ الآن .
* * *
أما سميرة، الأخت الأصغر من عائشة , ذات الستة عشر ربيعاً فقط، كانت أجمل من زهرة سوسن في حديقة أم الحسن تتمايل على غصنها مع نسمات نيسان الحالمة على ضفاف العاصي وقد تعقلت مياهه وهدأت في نيسان بعد فيضانات آذار السنوية قبل بناء سد الرستن، سميرة خطبت لغسان أخ قاسم في الله وزميله في كتيبة المجاهدين المسلمين الذين رفعوا رأس المسلمين عالياً بعد أن استنسر البغاث واستأسد الفأر .
درس غسان في حلب مع قاسم، ثم علم مادة الرياضيات من خارج الملاك في قرية كرناز قبل أن يتوارى عن الأنظار ويكرس حياته ووقته وروحه للجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد طلب من وحدات الأمن، بعد مر ذكر اسمه من الأخوة الأسرى .
كان وسيماً تزين وجهه لحية شقراء، وعيناه لامعتان بالذكاء وسرعة البديهية ممشوق القامة، أقرب إلى السمنة .
كان غسان في القاعدة .... أميراً لها، وكانت القاعدة من أهم قواعد المجاهدين في حماة إلا أن أفـرادها كلهم عزاب، لذلك تقرر أن يتزوج أحدهم بسرعة لحماية القاعدة، وكان دور غسان فخطبت له سميرة المجاهدة أخت المجاهدة بنت المجاهد والمجاهدة .
- لقد جئت لأصحب سميرة معي اليوم، يا أبا حسن .
- بدون أي حفل ولو كان متواضعاً .
- كان بودي أن نحتفل وتحضر عائشة وأخي قاسم، لكن القاعدة مهددة وقد وصلتنا معلومات من استطلاعنا خلف صفوف العدو يفيد أنهم قد يداهمون القاعدة بحثاً عن المجاهدين، وإذا لم تكن سميرة موجودة فقد كشفت القاعدة .
- إذن تأخذها معك اليوم، يا غسان اذهبا لوحدكما، تحاشيا الاصطدام بالدوريات ومد أبو حسن يده إلى مهجة قلبه سميرة فضمها إلى صدره ثم قال ( أودعتك في خزائن الله الذي لا تضيع ودائعه ) ثم قبلها على مفرق شعرها وقدمها لزوجها غسان فخرجا لوحدهما .
مشـت ســميرة، وهي تقارن موكب عرسها هذا بموكب أعراس بنات الحي والجيران، عندما تأتي السيارة المزينة، تمشي وراءها سيارات عديدة، وتدخل النسوة إلى بيت والدها ثم ترتفع الزغاريد في عنان السماء، حتى إذا خرجت العروس بثوبها الأبيض الفضفاض يجر على الأرض، ثم يدور موكب السيارات في معظم شوارع حماة، يتفاخرون ويقولون هذا سنة إعلان النكاح، وما دروا أن إعلان النكاح في المساجد عندما يوزع الشراب أو السكر، من يعلن زواج ابنته اليوم بالمسجد، يا خيبته إن فعل .
ثم تذهب العروس إلى عريسها الذي يأتي من حفلة زملائه سكراناً، وهذا تقليد عندهم حتى تنتشر رائحة الخمر في الحي بأكمله في تلك الليلة، ومن هو الزوج، قد يكن عميلاً من العملاء الذين ركب الطغاة على ظهورهم وحملوا عليهم أمتعتهم حتى وصلوا إلى السلطة . إنها سعيدة بهذا الزفاف ثم إنها تمشي الآن مع مجاهد، تهتز روسيا وأمريكا من ذكر اسمه .
- بم تفكرين، همس لها غسان . – ضحكت، بأشياء عادية .
- انتبهي، أرى كثيراً من الجلاوزة، خذي حذرك، لو اضطررت إلى الاشتباك ابتعدي عني .
- مجرد ما أوقفنا أحدهم وطلب الهوية سأضربه . وعلينا الإسراع إلى أقرب زقاق ضيق، لأنهم لا يدخلون وراءنا الزقاق يخافون من الكمائن، إياك أن تخافي وترتبكي، سوف أضربه ثم أقتل رفيقه بينما تنسحبي إلى أقرب زقاق أشير لك عليه ثم أتبعك حالاً .
- ألا استعمل مسدسي ؟ - إذا اقترب منك أحد، أليس هو محرر وملقم الآن .
- بلى . – إذاً لو اقترب منك أحد وهو يطلب الهوية تقفين بخفة تضربينه بقلبه كما تدربت .
كان غسان وزوجته سميرة قد وصلا إلى سطوح السوق الطويل حيث يقطعان طريقاً غير مأهول وغير معروف إلا لأهالي البلد، ومع ذلك كان هناك ثلاثة من عناصر الوحدات يرابطون فيه وقدعرفوا أن المجاهدين اتخذوه معبراً لهم .
- إنهم ينتظروننا، ولن نتراجع الآن، مجرد تراجعنا أطلقوا علينا النار، لنتحدث أنا وأنت ونحن نمر، وكأننا خطيبين عاشقين لا علم لنا بما يجري حتى إذا طلبوا منا الوقوف ننفذ ما تفاهمنا عليه .
- أنا أشك فيهما، يا سيدي الملازم أول، قال الرقيب .
- لماذا - إنها محجبة .
- كل الحمويات محجبات . – هذه تثير شكوكي . – أوقفهم إذاً، أما أنا فأقول إنهما عريسان أو حبيبان لا غير .
- قفا، أنت وهي، ارفع يديك عالياً، ولا تتحرك . قال الرقيب وهو يصوب سلاحه تجاه غسان بينما بقي الضابط في مكانه .
- حاضر، ورفع غسان يديه، بينما تظاهرت سميرة بالخوف، فقالت : الله يطول عمرك، نحن ما لنا علاقة بأحد، نحن عروسان جديدان، وانتبه الرقيب نحو سميرة وما زال يقترب منهما وهما واقفان .
- هات هويتك، - اقترب حتى أعطيك إياها، كيف أرميها لك من هنا .
وقام الضابط والجندي الآخر يمشون نحوهما، وأصبح الرقيب على بعد خمسة أمتار فقط، أما الآخران فعلى بعدعشرة أمتار عنهما . قال غسان :
تسمح أنزل أيدي لأخرج لك الهوية . – نعم، فمد غسان يده في جيبه وبلمح البصر وبعون الله كانت الكلاشن ذات الأخمص الحديد تلعلع برأس الرقيب طلقتها الأولى وبقلب الضابط والجندي عدة طلقات أخريات، بينما نظر إلى سميرة التي أمسكت مسدسها بيدها تصوبه تجاههم وهي تنسحب إلى أقرب زقاق .
وبسرعة البرق تلها من يدا اليسرى مسرعاً نحو الزقاق حتى توارى عن الشارع ركضا معاً عدة خطوات، ثم قال :
- خمس دقائق فقط ونصل قاعدتنا، عندما ننتهي من الزقاق سنمضي طبيعيين، هل أخفيت المسدس، لا تنس اتركيه محرراً واحذري من السقوط فوقه . – لا تخف، أنا عروستك يا بطل .
- وأخيراً وصل موكب العروس ودخل القاعدة، فاستقبل الإخوة أخاهم غسان، يقبلونه ويهنئون أميرهم على سلامته وقد أقلقهم سماع طلقات قليلة قبل قليل فطمأنهم:
- كانوا ثلاثة وقتلتهم بفضل الله، لذلك لن يعرف العدو إلا بعد فوات الأوان وقد فات والحمد لله، ها نحن وصلنا بخير، يريد مني الهوية، بعد أن تركت لهم الشوارع العامة ومشيت على سطوح السوق، لكنهم ينتظرون هناك وكأنهم عرفوا أننا نستخدم ذلك الطريق .
على كل حال لا يستبعد، بل من المحتمل جداً أن تقوم السلطة بتمشيط هذا الحي بعد قليل بغية الكشف عن المجاهدين الذين قتلوا الثلاثة عناصر من الوحدات، لذلك استعدوا .
أغلق الإخوة عليهم باب إحدى الغرف، بينما راح غسان يعرف عروسته بالقاعدة ويتم معها الجولة الأولى فيها وتتعرف على نوافذها ومخبأها ومخابي السلاح فيها والطرق الموصلة إلى القاعدة، والأزقة الاستراتيجية حولها، كما تعرف خطوط المواصلات مع القواعد الأخرى، وأخيراً تتلقى مهمتها من أمير القاعدة وهو غسان زوجها، ومهمتها الخروج والدخول من القاعدة مرتين في اليوم، وذلك لإحضار الطعام والأدوية والذخيرة اللازمة كما تموه بذلك على مخبري الحي حمير السلطة الذين باعوا شرفهم ودينهم للسلطة لقاء المال .
وبعد إكمال التعرف على القاعدة، دخلت سميرة وغسان إلى غرفتهما الخاصة ليستريحا من أثر العملية الماضية، وقد أرخى الليل سدوله على حماة، وباتت أم الفداء تئن جراحاً وتتحفظ قلقاً ورعباً بعد أن قررت السلطة اعتماد اقتراح الخبراء السوفييت لمكافحة جهاد الطليعة المقاتلة، وقد قدم أحد الخبراء السوفييت اقتراحاً ينص على معاقبة حماة كلها كلما قتل أحد أزلام السلطة، تقوم السلطة الباغية بجمع خمسين على الأقل من الرجال لكل رجل يقتل منها، تجمعهم في ساحة مكشوفة في الحي بحيث يراهم الآخرون ثم ترشهم فوراً وتتركهم جثثاً هامدة .
كما حصل في مجزرة باب البلد :
يقول ( أبو حيـان الحمـوي ) كنت زائراً عند بعض أقاربي في حـي باب البلـد، أتفقدهم لغياب رب أسـرتهم الذي غيبـته المخابرات العسكرية، وشـاء الله عزوجل أن أشـهد أقسى تجربـة يشاهدها إنسان في حياتـه، عندمـا يشـاهد الموت على بعـد ثـوان فقط منـه :
( في الرابعة من فجر يوم : 22/4/1981م كانت مجموعة من الطليعة المقاتلة تختبأ في مقبرة باب البلد، وتكمن منتظرة سيارات الوحدات الخاصة، ولما مرت سيارة للوحدات الخاصة اشتبكوا معها، وقتلوا سبعة عناصر منها، ويبدوا أنهم تمكنوا من الفرار .
لذلك قرر قائد الكتيبة ( رائـد من السويداء ) الانتقام من الحي المجاور للمقبرة وهو حي باب البلد وبجواره البرازيـة، عملاً بالاسـتشـارة التي قدمها الخبـراء السوفييت ( صهاينة)، الذين استقدمتهم الحكومة الأسدية عام (1980م) لدراسـة الحالـة الأمنيـة في حماة ، وقد عاينوا عدة مواقع في حماة جرى فيها اغتيال بعض أعوان السلطة، وكان خلاصة تقريرهم أن هذه المدينـة كلها مجرمـة، وهي متعاونـة مع هؤلاء ( المخربين )، لأن ( المخرب ) يقتل ضحيته ويفـر ثم يختبئ أمام هؤلاء المواطنين، ولايسهمون في القبض عليه، أو على الأقل إرشاد وحدات الجيش المنتشرة في كل مكان من المدينة، والتي تصل إلى موقع الاغتيال بعد بضع دقائق فقط، ولاتتمكن من القبض أو معرفة الجاني، لذلك ننصح بقتل عشرات المواطنين، في الموقع الذي جرى فيه اغتيال أي عميل للسلطة، حالاً وبدون تحقيق، وبدون التعرف على الأسماء، يكفي أنهم من ذلك المكان، كي نجبر أهالي مدينة حماة على الوقوف مع السلطة ضد ( أفراد العصابـة )، وعلى الأقل يمنعونهم من البقاء بينهم أو التحرك في حيهم . هكذا كانت نصيحة الخبثاء اليهود السوفييت، وطبقها النظام السوري بحذافيرها عام (1981م)، وكانت هذه النصيحة بدايـة رجحان الكفة عسكرياً نحو جانب السلطة، بعد أن كانت الكفة العسكرية ترجح نحو مقاتلي الطليعة خلال (1979، 1980 ) .
في الخامسة فجراً تقدمت وحدات خاصة من الشارع المحاذي لكلية الطب البيطري، وأخذت المواطن مصطفى دياب من بيته ( أصله من قرية بسيرين، ويسكن حماة منذ ربع قرن )، ثم أخذوا سبعة مواطنين وجدوهم في فرن ( عفشـة )، ثم أخذوا ولدين شابين من أولاد أبي صالح الزعبي، ثم أخذوني من بيـت أقاربـي، وكنت الحادي عشر، والحمد لله أنهم لم يعـرفـوا أنني من خـارج الحـي، ولو عـرفوا لقتلوني منفرداً، ولكن شــــاء الله أن أبقى حيـاً، وقبل وصول شـــارع باب البلد صفونا في الشارع وأهل الحـي يتفرجون علينا من نوافـذ بيوتـهم، ورمونا بالرصاص فوقعنا جميعـاً، وقد أصابتني ثلاث رصاصات إصابات غير قاتلة والفضل لله، وكان غيري جريحاً أيضاً، وتركونا ممددين في الشارع، وتابعوا سيرهم إلى باب البلد فأخذوا المواطن خالد الرزوق وأولاده الثلاثة من بيته ( وهو صاحب بقالـة كبيرة ومشهورة في المنطقة، يشتهر بدماثـة خلقـه وسـماحتـه في البيـع، وغيـرتـه على الديـن يرحمه الله )، وأخذوا المواطن شــمديــن الملـي، وأبا أكــرم الحلاق وولده، ( استطاع أن يهرب الأب من خلفهم ويدخل في زقاق جانب خان سليم حمادة ولم يلحقوه وبقي ابنه معهم، فنجا الأب وقتلوا الابن ) ثم أخذوا عبد المنعم حداد ( شقيق الشاعر عبد القادر حداد ) ومواطن من آل البرازي وآخر من آل تركماني، وكلما وصل عدد المواطنين معهم إلى مايزيد عن عشـرة رشـوهم في الشارع وتركوهم ممددين تحت المطر . كما أخذوا عدداً من المواطنين من بيوتهم من شارع أبي الليث الذي يصل البرازيـة مع باب البلد ورشـوهم عند سـوق النحاسين .
ووصل عدد المواطنين الذين رشـوهم في صباح ذلك اليوم إلى اثني وسبعين مواطناً أخذوهم من بيوتهم، وقد استشهد منهم سبعون يرحمهم الله، ونجا منهم اثنـان كنت أحدهم .
بقينا ممددين حتى السادسة صباحاً حيث رجعوا إلينا، وكنت ممـدداً على بطنـي، وشـعرت أن المـوت اقترب مني، وصرت أهمس في قلبي ـ دون أن أحرك عينـي المغمضتين، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أسـد أذني كي لا أسـمع الجندي وهو يطلق عليّ رصاصات الإجهاز، وأجهزوا على مصطفى دياب يرحمه الله، وقال أحدهم لزميله القريب مني : تفقـد ذاك الذي نـام على بطنه يبـدو أنه لم يمت، واقترب العسكري مني ثم ناداه الضابط بسرعة فذهب إلى الضابط ولم يتفقدني [ لأن أجلي لم ينتـه ] ، وبقينا ممددين أمام أعين أهلنا وأقاربنـا حتى العاشرة صباحاً تحت المطر، حيث انسحبت كتيبة الوحدات الخاصة من المكان .
كنت مصاباً بجرح كبير حول الكلية، ولما تأكد أهلونا من ذهاب الوحدات الخاصة أسرعوا إلينا، ووجدوني حياً فنقلني أحدهـم إلى مخفر الشرطة لكنهم رفضوا أن يفعلوا شيئاً، فأعادني وفي شارع العلمين صادفتنا سيارة الإسعاف فأوقفهم وحملتني إلى المستشفى الوطني، وهناك وجدت عشرات الجثث مازال دمها ينـزف، ووجدت مسؤولين من المخابرات وغيرهم من وحدات الأمن ولما حققوا معي [ ولأن أجلي لم ينتـه ] ؛ هداني الله ولم أقل لهم أن الوحدات الخاصة ضربوني، وإنما قلت لهم جماعة مجهولين وغالباً يكونوا من عصابة الإخوان، لذلك تركوني وشـأني، أمـا المستشفى فكان مكتظاً بالجرحـى، ولم تسمح لـي المخابرات العسكرية بالمعالجـة فيـه، فأعادني أقاربـي إلى بيتـي، لأعالج هناك بحقن مضادة للالتهاب، وينظفون لي الجرح بالمعقمات، وبقيت خمسة عشر يوماً فيه حتى كتب الله لي الشفاء .
وقد عرفت فيما بعد أن جريحاً كان معنا نقله أهله إلى دمشق للعلاج، ولما حققت معه الوحدات الأمنية وقال لهم ضربتني الوحدات الخاصة أجهزوا عليه في الحال .
وعرفت في المستشفى أنه في نفس اليوم ( 22/4/1981م) وفي المسـاء وقعت مجزرة جماعية في حي بستان السعادة ذهب ضحيتها قرابة سبعون مواطناً .
* * *
نحن الآن في الشهر العاشر من عام 1981م حيث تحتفل إحدى قواعد المجاهدين بميلاد محمود بن قاسم ... كان محمود جميل الخلقة مثل أبويه، أخذ منهما اللون الأبيض والشعر الأشقر والعيون الزرق، وقد أحبته أمه من أعماق قلبها وأصبح يقلق مضجعها التفكير في مستقبله، وهي مع أبيه على وشك مفارقة الدنيا، فهل يموت معهم محمود أم يعيش بعدهما، ومع من سيعيش ؟ وماذا سيكون محمود في المستقبل؟ هل سيكون مدرساً مثل أبيه ؟ أم طبيباً !!!؟ أم ماذا، كانت تتيه عائشة في مثل هذه الأفكار حتى ينقذها منها أبو محمود فيقول :
- الله هو المربي، لا تدرين لعله صلاح الدين المنتظر، أما سمعت بعبدالرحمن بن رستم، مؤسس دولة الرستميين في المغرب، كان يتيماً مع أمه التي تزوجها أحد المغاربة في الحج، وأخذها معه إلى شمال أفريقيا وذهب ابنها معها، حتى إذا كبر وترعرع ونشر المذهب الأباضي هناك وأسس دولة الرستميين في تيهارت .
- ولكن عاش مع أمه، فتجيب عائشة . – ما أدراك أن تموتين ، اتركي الموت والحياة لله تعالى .
- لا، بل ادعُ الله أن يتقبلنا شهداء يا قاسم . – إذن دعي عنك التفكير بمحمود فالله يتولاه .
في يوم 26/12/1981م، كانت حماة مطوقة بثلاث أطواق من الجيش، وقد قررت السلطة الإجهاز على شباب الطليعة المقاتلة، وكانت الوحدات والسرايا تفرغ العمارة المشتبه فيها من سكانها، ثم تدمر العمارة بواسطة المتفجرات، فيموت المجاهدون فيها تحت الركام .
كان بيت أبو حسن يحوي عدداً من المجاهدين منهم غسان وقاسم وغيرهما، وقد اعتقلت السلطة أبا قاسم منذ البارحة، واستطاعت أن تعرف منه أن أبا حسن، هو والد عائشة التي تزوجها قاسم، لذلك كثفت الدوريات في حي العليليات طمعاً في القبض على قاسم الذي أقض مضاجع السلطة، كما أقلقها أمر المجاهدين الذين تزايدت قوتهم، وتطور تدريبهم، وزاد إصرارهم على منازلة السلطة، وقتل أكبر عدد من جنودها قبل استشهاد الأخ في الشارع .
- دوريات كثيرة تدخل المنطقة، يقول حارس القاعدة في بيت أبي حسن .
- ما العمل يا قاسم ؟ - لتخرج النساء حالاً .
وخلال خمس دقائق على الأكثر خرجت النساء من البيت معهن أم حسن وعائشة وسميرة ومنى وفاطمة وغيرهن، ولم يبق في البيت إلا الرجال .
ولما تكاثرت القوات في حي العليليات، شعر الأهالي الآمنين بذلك، فدب الذعر والخـوف فيهم وصار الناس يسـألون بعضهم عما إذا وقعت عملية في الحي من قريب، لأنهم عرفوا أن السلطة سوف تجمع أهل الحي وتقتل منهم ما تريد، لكن الكل يؤكد أنه لم تقع أي عملية هذا اليوم .
- أبو حسن، اخرج من الشارع بدون سلاح، فأنت غير مطلوب، استطلع لنا الشارع ثم عد (قال قاسم)، فخرج أبو حسن بدون سلاح ومشى في الشارع حتى مئات الأمتار يتظاهر بالذهاب إلى السمان ثم عاد .
- مع الشارع ... لا توجد كثافة كثيرة من الجنود .
- إذاً نخرج، أنا وأنت يا أبا حسن مسلحين، وإذا أوقفونا نشتبك معهم .
وخرج قاسم وأبو حسن مسلحين، يحمل أبوحسن سلاحه تحت ثوبه، بينما يحمل قاسم الكلاشن في كيس قنب صغير، مع بعض الرمانات في جيبه بالإضافة إلى حزاميهما .
وبعد خطوات صاح فيهما أحد الضباط :
- قف، فوقف قاسم بينما استمر أبوحسن ماشياً حتى باعد بينه وبين قاسم بعشرة أمتار .
- قف أنت أيضاً، أردف الضابط، فوقف أبوحسن .
كانت مجموعة مؤلفة من عشرة عساكر وضابطين وخمسة من ضباط الصف والمخبرين، رأوا قاسم وهو يخرج من البيت الذي يرصدونه، لذلك طمعوا في القبض عليه حياً، وهم يبحثون عنه منذ ما يزيد عن سنة ونصف .
واقترب الضابطان وخمسة جنود من قاسم وما زال ممسكاً بكيس القنب بيده وقد تشتت انتباه العسكر بين قاسم وأبي حسن .
وعندما وصل قـاسم بالتـلاوة إلى قول الله عـزوجل ( ... تـرهبون به عدو الله وعدوكم .. ) صرخ بأعلى صوته ( ... الله أكبر ) وخرجت الكلاشن من الكيس لتصب حممها في رؤوس وقلوب الضباط والجنود الذين يقفون أمامه على بعد خمسة أمتار فقط .
وما إن سـمع أبوحسن الصرخة حتى صب نيرانه على مجموعة العساكر البعيدة أيضاً، ثم انسحب المجاهدان تحت دخان القنابل التي فجرها قاسم بعد أن رش أعداءه أمامه ... ولما وصلا الزقاق اختفيا ...
أما بقية القوات فذهلت ودهشت ولم تستطع إلا تأكيد الحراسة على البيت الذي خرج منه قاسم وأبوحسن .
- ولك، من قُتل، قال الرائد قائد الكتيبة للعسكري - قُتل الملازم أول سلمان والملازم محفوظ، وضباط الصف الخمسة، يا سيدي رصاص العصابة عجيب والله كأنه من نوع آخر غير رصاصنا، نحن ضربناهم، والله مخزن كامل ورأيت الدم ينفر من كتف أحدهم، متأكد من ذلك، ولم يمت .
- ما مات لأنك ما ضربته في قلبه، يا جبان . – يا سيدي، أوصيتمونا ألا نقتله، لأنكم تريدونه حياً . – الله يقطعك ويقطع علي حيدر كمان، ولك لو كان قتلته قبل ما يقتل سبعة منا كان أحسن من أن نمسكه حياً . – يا سيدي أنت قلت لنا ذلك .
- يا ملازم أمجد، اجمع من هذا المكان أكثر من مائتين من الرجال، والله لأقتلنهم بدلاً من رجالنا، كما وصانا الرفيق أبو سليمان، والقائد رفعت، والله إذا ما قتلنا أكثر من مائتين منهم يقتلنا رفعت الأسـد .
ويدق الجند على الأبواب بالأرجل وهم يصيحون : الرجال يخرجون وإلا دمرنا البيت عليكم .
حتى إذا فُتح الباب دخل الجند يرفسون ويركلون النساء والأطفال ويشتمون الفتيات ويعتدون عليهن بالكلام الوسخ، ثم يسوقون الرجال من البيت فيخرجون باكين مودعين أهلهم وأولادهم .
كان غسان ينظر إلى أبناء الحي وهم يخرجون من بيوتهم باكين يحلفون لهم بالله ألا علم لهم ولا يعرفون أحداً من العصابة وأنهم ليسوا من الإخوان، حتى أن بعضهم يحلف أنه بعثي ويقدم لهم بطاقته الحزبية، وأنه من المناضلين في الحزب فيقول قائد الكتيبة :
- كل أهل حماة عصابة، هكذا قال الخبراء السوفييت، والله يا عمي هم يفهمون أكثر منا، قالوا لنا كل حماة عصابة، حتى البعثيين فيها .
- أنا لا أصلي ولا أصوم، وأشرب الخمر، كيف تشك أنني من العصابة (يجيب أحد الجبناء) .
- أنا رأيتك قبل سنتين تصلي، يقول الرائد ضاحكاً . – متى،أنا عمري ما صليت، أبداً أنا تقدمي مثلكم .
ويتمزق قلب غسان وهو ينظر من مرصده، يتمزق حناناً على البعض وحنقاً على البعض الآخر ويقول في نفسه، هؤلاء الناس لو حملوا السلاح ماتوا شهداء، وماتوا أبطالاً، أما الآن فهـاهم يذبحون كما تذبح الأغنام لأنهم كانوا أحرص الناس على حياة، أي حياة المهم أنه يعيش .
- كم صار العدد، يا ملازم أمجد ؟ - صار مائتين وخمسين سيدي الرائد .
- تمام، هذا حقنا، خمسة ضرب خمسين يساوي مائتين وخمسين، هكذا قال الرفيق القائد أبو سليمان والمعلم رفعت بالضبط، ويذهب الرائد قائد الكتيبة إلى الساحة العامة حيث جمع المواطنين من حي العليليات هناك ويقول لهم :
- من يعرف واحداً من العصابة، يأتي إلي حالاً، من يعرف قاعدة من قواعد العصابة يأتي حالاً، ... وإلا سوف تموتون كلكم أيها الكلاب، (لا يتكلم أحد) .
- والله لا أعرف أحداً، ولا أعرف قاعدة، أتريد أن أكذب عليكم ؟ - أنت طول عمرك كذاب يا حموي .
- أنا بعثي يا سيدي الرائد . – أنت حموي، الحمويون كلهم عصابة .
ويأمر الرائد الجنود بفتح النار، فتتعالى الصيحات من أفواه الأبرياء .. الله أكبر .. ويغضب الجنود ويستمرون في إطلاق الرصاص حتى يسقط الجميع، ثم يمرون عليهم يتفقدونهم بطلقة الخلاص ويريحونهم من حياة لم يكونوا أهلاً لها .
ويتدحرج الأبرياء جثثاً هامدة، بالأمس كانوا يسمرون مع أولادهم ونسائهم، والآن جثث هامدة ويسيل الدم حتى يشكل مجرى، وبحيرات صغيرة قبل أن يتخثر .
ويرتفع نحيب وعويل النساء، التي كانت تراقب الجمع من بعض النوافذ، وكانت عيون الأطفال والبنات مسمرة بأبيهن وهو يرفع يداه متجهاً إلى الجدار، حتى إذا سقط من الرصاص صاحت البنات والأطفال كلهم مرة واحدة ... بابا ... بابا ... يا ربي ... يا ربي ... بابا ... بابا ... قتلوه ... يا ربي ... قتلوه ...، أما الأسر التي لم يكن لها نوافذ على الساحة العامة فكانت محظوظة لأنها لم تر مقتل أولادها ورجالها أمام عينيها .
بعض الأسر، كانت الأم تنظر إلى زوجها وأولادها الثلاثة واستمرت تقرأ يس وآية الكرسي حتى سمعت لعلعة الرصاص فانهارت مغمى عليها، وتلطف بها الله فحرمها مشاهدة أولادها الثلاثة وزوجها يسقطون مرة واحدة أمام ناظريها ...
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما ترك قوم الجهاد حتى ذلوا ... ) وأي ذل أكبر من هذا، تلك فتاة في العشرين، تنتف شعرها، وتصيح مرة، با با، ومرة يا أخي محمد، ومرة يا أخي عمر، مرة يختلط البكاء والعويل في فمها فلا تفهم منها سوى النحيب وتستمر في نتف شعر كانت بالأمس تدهنه، وتذهب إلى الحلاق يمشطه لها ويقصه حسب موضات اليهود والغرب، نسيت ذلك كله وراحت تنتفه .
* * *
- ملازم دياب، هل أنت منتبه جيداً للبيت، - نعم سيدي، دقينا عليه كثيراً ما رد أحد
- بعد ما نجمع العساكر نقتحمه .
كان الأخ غسان يســتمع على جهازه اللاسلكي بعد أن استطاع العثور على تردد العدو، فقال لإخـوانه : - يريـدون أن يقتحموا القاعدة، لا بد من اقتحام الشارع عليهم، انتبهوا جيداً سوف أخرج من الباب الرئيس للقاعدة بعد أن أرم عدداً من الرمانات عليهم قبل أن يتكاثروا، يجب أن أخرج الآن، وعندما أشتبك معهم اخرجوا من الباب الآخر، حاولو الوصول إلى القاعدة القريبة ... بواسطة أسطحة المنازل، قال ذلك ثم دعا لهم وقال ودعتكم في خزائن الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم فتح الباب وقذف رمانتين دفاعيتين مرة واحدة، وما إن خرج من البيت حتى رمى رمانتين دخانتين أيضاً .
ثم خرج الإخوة من الباب الاحتياطي الذي أوصلهم إلى طريق عبر المساكن الأخرى وتمكنوا من الوصول إلى القاعدة الثانية... سالمين بفضل الله .
أما غسان أمير القاعدة فقد صب مخزن بندقيته على الجنود أمامه الذين هربوا من الشارع الذي صار جحيماً لا يطاق، وركض غسان يدوس على جثثهم يريد أقرب زقاق لأنهم ما زالوا يخافون دخول الأزقة، إلا أن ثلاثة من الجنود كانوا على بعد خمسين متراً منه، لم يرهم غسان صوبوا بنادقهم عليه وأصلوه كامل مخازنهم فتدحرج البطل مضرجاً بدمائه الغزيرة وهو يردد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
في تلك اللحظة وصل الرائد مذعوراً إلى أرض المعركة وهاله ما شاهده من الجثث المبعثرة للجند حتى إذا وقف على جثة غسان الذي فارق الحياة قبل ثانية، وضع مسدسه في رأسه وأفرغ مخزناً كاملاً فيه .
- ألو ... يا ( 11 ) أنا ( 1 ) كيف تسمعني أجب، - أسمعك جيداً أجب . – ماذا بشرني .
- والله يا سيادة العقيد، قتلناه واحد فقط، هذا هو فرغت فيه المسدس تواً . – يا ... لماذ ما أتيت به حياً ؟ . – يا سيدي تعال أنت وامسكه حياً، ما تعرف أنه خسرنا سبعة قبل ساعتين والآن أكثر من خمسة كذلك وأكثر من عشرين جريح، لو مسكناه حي والله كان قتلنا كلنا .
ثم أغلق الجهاز، وقال للملازم أمجد، والله علي حيدر خرفان، قال هاتوه حياً، يأتي حضرته يمسكه حياً .
- ألو .. يا ( 11 ) دمر البيت،، اقذفه بالآربي جي لا تدخل له، احرقه جيداً، ثم اسحب العناصر إلى الثكنة بسرعة ..
وعادت قوات البغي، بعد أن خسرت أكثر من عشرة قتلى بينهم ضابطان وأكثر من عشرين جريحاً، وبعد أن فجروا بيت أبي حسن المكون من ثلاث شقق كانت تسكن فيه ثلاث أسر وكان يضم قاعدة مجاهدة واحدة .
* * *
دخل قاسم إلى إحدى القواعد المعدة للطوارئ، وقد اشتد نزيفه لذلك اضطر إلى دخولها كي يحاول إيقاف النزيف .
كانت القاعدة لأخ تعيش معه أسرته المكونة من ثمانية أولاد وأبويهم، لذلك كانت هذه القاعدة للطوارئ فقط، وقد دخلها أبو محمود بعد أن كاد أن يسقط متأثراً بالدم الذي نزف منه .
وفي هذه القاعدة استطاع الأخ صاحب البيت أن يوقف النزيف لقاسم بعد أن ربط له يده وتأكد من خروج الرصاصة من كتفه فحمد الله على ذلك لأنها وفرت عليه إحضار الطبيب الجراح إلى القاعدة وما إن وقف النزيف وأحس أبو محمود بالتحسن حتى أجرى اتصالاً مع إخوته عرف أن الإخوة في القاعدة المدمرة نجوا كلهم ما عدا غسان، الذي ضحى بروحه من أجل سلامة القاعدة، وتأكد من استشهاده، فصلى عليه صلاة الغائب، وعرف أن بقية أفراد القاعدة آمنين لأن غسان على فرض اعتقاله حياً لا يعرف أين ذهبوا، ثم زالت شكوكه عندما اتصل به أخ آخر أكد له أنه سمع مكالمة علي حيدر مع الرائد يلومه على قتله .
وصلت عائشة إلى قاعدة الطوارئ لتمرض أبا محمود، ولم يكن صاحب البيت يعرف عنهم إلا أن أبا محمود صديق زوجها، جاء من بلد غير حماة .
وبدأت صحة أبي محمود بالتحسـن، إلا أنه لا يسـتطيع اسـتعمال السـلاح بيده المصابة .
لم يكن في القاعدة هذه إلا الكلاشن والرمانات اليدوية، لأنها ليست معدة للقتال إلا عند الضرورة القصوى، وكانت عائشة بالإضافة إلى الأخ صاحب البيت يعرفان قاسم ووضعه وأن السلطة لا تكف في طلبه والبحث عنه ليل نهار .
وشاء الله عزوجل أن يقع أحد الإخوة في الأسر في تلك الآونة آخر العام ( 1981 )، عندها صار نزيف القواعد ونزيف المجاهدين غزيراً، حيث طوقت حماة بثلاث أحزمة من قوات البغي الأسدي، التي تركت الجولان للصهاينة، يتملكونه كيفما شاءوا، ويقضون فيه إجازاتهم بعيداً عن المقاومة الفلسطينية، حتى صارت العقارات في الجولان أغلى من جميع الأراضي المحتلة لأنه هادئ وادع، تكثر فيه المياه العذبة والمعدنية، كما تكثر فيه الفواكه والخضروات. وصبت نار غضبها وأسلحتها الفردية والجماعية على الشعب في مدينة حماة .
* * *
في أواخر نيسان (1981)، بعد مجزرة السلطة لحي باب البلد المشهورة عندما قتلت أكثر من مائتي مواطن في الساحة العامة . وبعد أن صارت قاعدة عامة في حماة، عندما نفذ النظام الأسدي نصائح الخبراء السوفييت بدقة، وراحوا يقتلون خمسين مواطناً دون معرفة أسمائهم في المكان الذي يقتل فيه مخبر واحد من عملاء السلطة .
ومازال المجاهدون يصرون على الموت في الشارع ( الهواء الطلق ) بدلاً من الموت تحت الركام، أو في أقبية المخابرات تحت التعذيب .
من أجل ذلك كله قررت السلطة في دمشق حصار حماة لأجل غير مسمى واستمرار الحصار بقوات مكثفة حتى يتسنى لها القبض على المجاهدين .
ونزلت قوات الوحدات الخاصة، وقوات اللواء -47- وقوات من سرايا الدفاع لتحتل حماة وتزرع آلياتها المصفحة على كل زقاق، ودباباتها في كل شارع، وجنودها على كل بيت، ولم يبق بيت في حماة إلا والجنود يحرسونه ويدققون في هوية كل شخص يدخل أو يخرج منه .
ومر شهران على المجاهدين في حماة من أشد الشهور وهما كانون الأول لعام 1981 وكانون الثاني من عام 1982، كانت القواعد تنزف فيها بدون توقف، وكانت قافلة الشهداء تترى مسرعة تزف المجاهدين البررة إلى جنات النعيم .
أصبحت السلطة تدافع عن وجودها الدفاع الأخير، فها هي أهم قواتها من سرايا الدفاع ومن الوحدات الخاصة ومن الألوية المدرعة كاللواء -47- واللواء -21- تشترك في مهمة تمشيط حماة التمشيط المستمر وتدميرها . واستمرت السلطة تفجر العمارات التي تشتبه فيها، بعد أن تطوقها، ثم تنادي على أهل العمارة للخروج قبل أن تفجر العمارة، فيخرج المواطنون بهوياتهم، وأجسادهم، ثم تضع الوحدات أو سرايا الدفاع كميات من المتفجرات حول العمارة وفي مدخلها، ثم تدوي انفجارات تهز الجبال، ويستشهد الأخوة المجاهدون تحت الركام في العمارة ....
بسبب ذلك وقع أحد الإخوة المجاهدين في الأسر،حيث كانت السلطة تنقل الأخ إن كان فيه بقية حياة إلى المستشفى، ثم تشيع أنه قُتل، وتسلم إلى أهله صندوقاً يدفنه الجنود أمامهم كي تضلل السلطة المجاهدين، أما الأخ الجريح فتهتم السلطة بعلاجه حتى يعود إلى وعيه فتذيقه أمر العذاب الجسدي والنفسي بالكيمياء وبالكهرباء حتى تأخذ منه بعض ما تريد بينما يموت تحت التعذيب .
وهكذا حصلت السلطة من أحد الإخـوة على مكان قاســـم .
* * *
كان ذلك ليلة (5/1/1982م) عندما توجهت قوات الســلطة إلى القاعدة التي تضم قاسم، ويدق الجلاوزة الباب فيخرج لهم صاحب البيت ويطلبون أولاده وزوجته معهم ثم يقولون له : ما بقي أحد في البيت، - لا، لا يوجد أحد .
عندما خرجت صاحبة البيت بأولادها ألحت عليها عائشة أن تأخذ معها محمود ابن الثلاثة شهور .
كان محمود يعرف الابتسام، وما أعذب ابتسامة الطفل في هذه السن، إنها تعبير عن رضاه، ورضاه إذا كان في حضن أمه، وما إن ضمت عائشة محموداً تودعه الوداع الأخير حتى ابتسم لها محمود، فكوى صميم قلبها بنار الفراق الأبدي، وراحت تضمه وتسقط دموعها عليه وهي تقول :
- نلتقي بك في الجنة يا محمود، اللهم أستودعك محمود، اللهم أسلمتك محمود،فرده إلي في الجنة ...
- قاسم، انزع هذه السوار، لنتركها لمحمود، فيحاول قاسم بيده الضعيفة وبالأخرى السليمة ولكن عبثاً يحاول .
- يا أم ... تعالي حاولي أن تخلعي هذه السوار من يدي لنتركها لمحمود (هذا كل ما نملك) وتنهمر دموع أم ... وهي تحاول نزع السوار لكن عبثاً تحاول ولم تستطع نزعها من يدها .
تخلع عائشة أقراطها وخاتمها، - خذي هذه لمحمود، لا تنسي تربيه على الإسلام مع أولادك، فهو ابنك، لا تجعليه يعرف أنه يتيم الأبوين، علميه الإسلام، واسأل الله أن يجمعنا به في الجنة .
ما زال محمود يبتسم لأمه كلما ضمته، حتى ناولته لصاحبة البيت بدأ الصراخ .
- لا تبك، بني، لا تبك حبيبي محمود، أستودعك الله الذي لا تضيع أمانته، لا تبك محمود، حبيبي محمود .
- تجلدي يا عائشة، احتسبيه عند الله، احمدي الله أن هيأ لك من تأخذه منك، هيا يا أخت نســتودعك الله، وداعاً محمود، إلى اللقاء في جنة عرضها السماوات والأرض، قال ذلك قاسم وغلبته دموعه فانهمرت غزيرة دون أن يتغير صوته، ثم أشاح بوجهه بينما كانت صاحبة البيت تخرج من البيت مع أطفالها ومعها محمود ابن الأشهر الثلاثة .
وراح بكاء محمود يشق الظلام ويكسر جدار الصمت المطبق على كل شيء وقلب عائشة يتفطر وهي تردد ليتني ما طعتك يا قاسم وما خلفت محمود .
- لا تقولي لو، فإنها تفتح عمل الشيطان، هيا قومي الآن إلى السلاح .
- وتجمع عائشة بقايا قوتها لكن بكاء محمود مازال مسموعاً، فما زالت الأسرة قريبة من البيت ومازال محمود ثائراً على نزعه من حضن أمه، إنه يبكي لذلك ويود لو عاد وابتسم لها مرة جديدة، ثم دارت محركات الآليات وذهب الركب إلى التحقيق في المخابرات العسكرية .
- ماذا لو اعترف الأخ صاحب البيت عليك . – إذاً هي الشهادة .
- هل تستطيع القتال ؟ - بمساعدتك - كيف ؟ - إن عادوا وطلبونا فقد تكلم عنا الأخ صاحب البيت، لذلك سأدعي أني أسلم نفسي وسط الظلام، وأرفع يدي إلى أعلى وفيهما الرمانتين حتى إذا اقتربوا مني رميتهم بها، وتابعتهم بالكلاشن حتى ألقى الله شهيداً .
والله يا عائشة تمنيت لو أن يدي سليمة هذه المرة فإني أحس أن الشهادة قريبة وأكاد أشم رائحة الجنة .
- وأنا، ماذا أفعل ؟ - أنت تفعلين ما انتظرتيه طويلاً، ألا تريدين الذهاب معي إلى الجنة ؟، لنقض هناك شهر العسل الذي حرمناه في الدنيا . – بلى يا قاسم . – إذاً، قاتلي كما تعلمت حتى الشهادة، وإياك أن تضعفي ويغروك بمحمود وغيره، وإن شاء الله أم ... ما قالت عن محمود، حتى ولو قالت ولو قطعوه أمامك، إياك يا عائشة، إنها الشهادة وإنها الجنة كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ) .
غداً يا عائشة أزور مروان، آه كم أنا مشتاق له ولعبدالستار وهشام وبسام، غداً سألقاهم، (غداً سألقى الأحبة محمداً وصحبه ).
أي عذاب أخضع له أبو ... صاحب البيت، إنهم يريدون الحقيقة بسرعة قبل أن ينتقل قاسم إلى قاعدة جديدة، مع أنهم تركوا عشرة من الجنود يحرسون ذلك البيت، ومع التعذيب أمام الأولاد وتعذيب الأولاد أمام الأبوين، انهار الأبوان .
عندما بدأت –آمنة- ذات الربيع الرابع فقط تصرخ وتستغيث تحت ضربات الكهرباء وهي تصرخ : بابا ... بابا ... خلصني .. أنا أموت يا بابا ... بابابا ...
والعقيد يحيى زيدان يتفرج ويشبع ساديته في التفرج على تعذيب المواطنين ، تعذيب الأطفال الصغار... أي أب في العالم يصبر، وابنته ذات السنوات الأربع تصرخ مثل هذا، ويراها وهي تختلج تحت صعق التيار الكهربائي، ثم أُتي بطست ماء كبير يكفي ليغرق فيه طفل يزحف، وأدخل فيه سامر ابن السنتين، حتى غمرته الماء ثم أُخرج، وكررت العملية وصار سامر ينازع الغرق عندئذ صاحت الأم والدموع تغسل وجهها والألم يعصرها:
- عندنا في البيت رجل مجروح وزوجته، لا أعرف اسمه، يقول زوجي إنه زميله، أولادي أرجوكم أولادي، أولادي، الله يطول عمركم أولادي يا ناس .
عندئذ أخذت الأم إلى مكان آخر، وابتسم يحيى زيدان، مدير المخابرات العسكرية بحماة، ثم قال :
- إذاً في بيتكم رجل وزوجته، جريح أيضاً، ولا تتكلم أيها الكلب، سترى .
يا عسكري ... تعال، افعل بهذه الفتاة أمام أبيها الكلب، حتى يتعلم أن المخابرات العسكرية قادرة على كل شيء ( أعوذ بالله من ذلك ) .
ويحضر عسكري أقرب بالشكل إلى الحمار منه إلى بني آدم، يخلع ثيابه أمام الناس غير آبه بأحد، ولم يظهر عليه الخجل أو الحياء من أحد حتى من رئيسه يحيى زيدان، ويمد يده اللعينة إلى ( ... ) ذات الخمسة عشر عاماً، يمسكها من أماكن خاصة في جسـدها، فتصرخ وتسـتغيث، عندئذ يدعو الأب ربه أن يميته ويخرج عن وعيه كي لايرى الانجازات الأسدية في معاملة المواطنين، وخاصة الأطفال والنساء، الأبرياء الذين لاناقة لهم ولاجمل، ويقول :
- امتني يا رب، ارحمني يا رب، امتني يا رب، فيقول يحيى زيدان وهو يضحك ويقهقه :
- نحن الذين نحيي ونميت، لن تموت حتى ترى ذلك بعينك أيها الكلب .
- عندي قاسم ... وزوجته، هما الآن في البيت، تركتهم في البيت، أرجوكم ارحموني، ارحموني، أولادي، بنتي، أنا بعرضك يا سيادة العقيد، أنا بعرضك، بناتي، أولادي ...
ها .. ها .. ها .. ها .. ها .. ي
ضحك عالياً يحيى زيدان، قف يا عسكري، ارجع، أجل ذلك إذا تعاون معنا سوف نحفظ له بناته فقط، ولا نمس عرضه .
ويتابع زيدان : - تذهب معنا الآن إلى البيت وتتكلم بمكبر الصوت وتقول له : يا قاسم
اخرج وسلم نفسك، لقد تكلمنا عنك، الأفضل أن تخرج وتسلم نفسك حالاً، وقد وعدوني أن يحفظوا لك حياتك .
- نعم، أذهب معكم ولكن أن تعدني يا سيادة العقيد بأن تحافظ على عرضي، بناتي . أرجوك .
- قلت لك لن يمسهن أحد إذا تعاونت معنا .
- حاضر، حاضر سأتعاون معكم .
* * *
وجاءت المجنزرة، تحمل بعض الجنود، معهم الأخ صاحب البيت، الذي ترك أولاده وزوجته وبناته رهناً عند يحيى زيدان الذي تكفل بالمحافظة عليهم إذا وفي صاحب البيت وعده وتعاون معهم .
- اخرج يا قاسم ... لقد قلت عنك، اخرج وسلم نفسك يحفظوا لك حياتك، قال صاحب البيت بمكبر الصوت، تردد الصوت في أرجاء الحي وسمعه الناس الذين ما عرفوا النوم تلك الليلة، فقد اعتادوا أن يقتل مئات من الحي إذا وقعت به عملية . يالها من ليلة مرت على أهل الحي، والصوت يتردد ولا صدى فقد جبن الصدى ولاذ بالصمت طيلة هذين الشهرين في حماة .
- نعم أخرج إليكم، أجاب قاسم، لا يوجد ضوء في البيت، أنا خارج إليكم بعد ثوان
- وتشد عائشة مسمار الرمانات حتى يبق منه قليل فقط ليسهل على قاسم نزعه عند اللزوم، ويحمل قاسم أربع رمانات اثنتان بجيبه واثنتان بيديه، ويخرج إليهم .
كان صاحب البيت مع ضابطين وثلاثة جنود يتأهبون للقبض على قاسم ... أحد قادة المجاهدين في حماة والخوف يقطع نياط قلوبهم، ووسط الظلام شاهد الضباط شبحاً يرفع يديه عالياً، فقالوا : - يا قاسم سلم نفسك، نضمن لك الحياة . وقال قاسم في نفسه وهل ضمنت حياة النساء والأطفال الذين لاناقة لهم ولاجمل، سوى أنهم أقارب المتهم والمطلوب لكم !! ألم يموتوا تحت التعذيب !!؟ هل تريدون القبض علي لتحصلوا مني على ماتريدون ثم أموت تحت سياط جلاديكم، لا،لا، وألف لا، سأموت في الهواء الطلق... ولما أكملوا نداءهم وطلبهم منه أن يسلم نفسه ، عندذلك صرخ قاسم : (... الله أكبر...) ورماهم بالقنبلة الدفاعية، ثم أتبعهم الأخرى، ثم هجم على بقية الجنود فرماهم بالأخريتين حتى إذا أثقله الرصاص المنغرز في جسده عن الوقوف سقط يردد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
- آلو ، أنا يحيى، ماذا يانقيب علي ؟ - آلو، أنا الرقيب حامد، النقيب مات يا سيدي هو وقاسم وصاحب البيت والملازم أمجد، وما بقي إلا أنا وجماعة الآر بي جي، مصيبة يا سيدي لازم نمسكه حياً، خرب بيتنا يا سيدي .
- لكن مات قاسم، أكيد هو قاسم .
- اللي كان في البيت خرج علينا حتى يسلم نفسه حتى صار على بعد ثلاث أمتار ضرب القنابل الدفاعية، أنا أكلمك وأنا مجروح أكثر من أربعة جروح .
في خلال خمس دقائق وصلت الطائرات العمودية تنقل الضباط القتلى والجرحى من أرض المعركة خوفاً من شروق الشمس ومعرفة الشعب أنباء المعركة، ولما تجمع الجنود في أرض الدار يحملون جثة الضباط وقاسم والجنود الجرحى، كانت عائشة تنتظر ذلك بفارغ الصبر، وقالت في نفسها في آخر لحظات الحياة : هل أسمح لهم أن يدنسوا عرضي، هل أسمح لهم أن يعذبوني كي أدلهم على غيري، هل أموت في الهواء الطلق، أم أموت تحت التعذيب بعد أن يدنسوا عرضي !!! والله موتة في ميدان المعركة أرضى لله ورسوله من الموت تحت سياط الجلادين، ففتحت نيران الكلاشن كوف الغزيرة، وتساقط الجنود والضباط مثل العصافير في أرض الدار .
- يوجد مجرم آخر يا سيدي في البيت، والله قتل الملازم حسين والمساعد سليم وما بعرف كم من الجنود .
- هيا اسحبوا الجثث بسرعة أيها الجبناء .
- يا سيدي، نار تقتلنا، كيف ندخل ؟
- أيها الجبناء، إنها امرأة، هذه زوجة قاسم فقط .
- ياسيدي، إذا كانت امرأة مقاتلة، والله رصاصها يقتل عنتر . والله أنا ما أدخل، اقتلني أنت ولا هي تقتلني .
ودب الذعر والخوف في قلوب الجيش العقائدي، جيش المرتزقة الذين باعوا دينهم وعرضهم وشرفهم لحافظ الأسد لقاء دراهم معدودة .
كانت عائشة تختار أقرب النوافذ إلى تجمع الجنود، ثم ترميهم بالرمانة الدفاعية فتقتل منهم !!! وترعب الآخرين الذين صاروا يصرخون بقائدهم : - هل ندمر البيت ؟، - لا، يجب إلقاء القبض عليها وهي حية، من قبض عليها حية فهي له، ولم يجرأ أحد من الضباط أو العسكر أن يتقدم لدخول البيت فما كانت عائشة تحس باقتراب أحد من البيت حتى ترديه قتيلاً .
ومن الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، عندما رماهم قاسم بالرمانات حتى السابعة صباحاً وقد طلع النهار، بعد أن انتشرت خيوط الفجر مضرجة بدماء الشهداء، ودم قاسم ما زال أحمر قانياً مميزاً، ودخلت أشعة النور المضمخة بالدم دار عائشة ولثمت ثغرها، لقد تجمدت شفتاها من السهر والقلق، وكأنها نسمات من الجنة تداعبها وتدعوها إلى جنة الخلد وتقول لها : لقد طال انتظارنا لك يا أخت، إن وصيفاتك على أتم استعداد، لقدهيأنَ كل شيء، الثوب الأبيض والضفائر المخملية، واللؤلؤ والمرجان، كل شيء ينتظرك يا أخت، حتى وصيفاتك اشتقن لك .
- وتغتنم عائشة فرصة صغيرة، تسرع فيها إلى الماء فتسبغ الوضوء، ثم تصلي الصبح مطمأنة، فما أشجع المرء إذا باع روحه لله، لا تخيفه طائرات العدو التي راحت تعاين البيت من السماء، وكم تمنت عائشة لو تملك رشاشاً متوسطاً أو ثقيلاً لرمتها كما كان قاسم يرمي العصفور بمسدسه الصغير .
- الحل الوحيد، هو تدمير البيت عليها، قال علي حيدر . – لكن نريد اعتقالها لقد خسرنا التحقيق مع قاسم، أنخسر التحقيق معها أيضاً، أجاب يحيى زيدان .
- الله يجعلك تفشل طول عمرك بالتحقيق، ما يكفي عشرين عسكرياً هذه الليلة ثلاثة منهم ضباط، ماذا تريد، نكمل السرية كلها حتى حضرتك تكمل التحقيق.
- لا، لا، ما قصدي تزعل يا سيادة العقيد، كما ترى، ندمر البيت، كما تريد .
- آلو، رقيب ... دمروا البيت بالآر بي جي، ثم تأكدوا بعد ذلك من خلوه من أفراد العصابة . – حاضر سيدي .
- وبعيد شروق الشمس، دوت قذيفتان من قذائف الآر بي جي في قاعدة الطوارئ التي تضم عائشة فقط، دوتا في أرجاء البيت مرة واحدة، ومزقتا عائشة قطعاً صغيرة، فلحقت بزوجها قاسم بعد ست ساعات من استشهاده فقط .
وبعد أن انجلى الغبار، دخل الجنود يصبون نيران رشاشاتهم على الركام والحجارة خوفاً من أفراد العصابة، وعثر أحدهم على ذراعها فتناول سكينته وكسر اليد ليخرج السوارة ثم مسحها من الدم، ووضعها بجيبه وهو يقول : من أجلك أغامر بحياتي يا قطع الذهب الثمينة .
* * *
منذ تشرين الثاني وقرابة عشرة آلاف جندي يحتلون حماة، بمعدل عسكري أو أكثر لكل بيت، وقد ساعد ذلك على انتصار الســلطة في اكتشــاف مزيد من قواعد المجاهدين، فشجعها على مضاعفة عدد الجنود، وتشديد الطوق، وأعطيت الجنود صلاحيات واسعة في النهب والسلب وانتهاك الأعراض، تشجيعاً لهم على الاستمرار في أتون المعركة لفترة أطول ما دامت السلطة تكسب من ذلك وتكشف بعض قواعد المجاهدين .
وضاق أحوال الإخوة أكثر من اللازم، وهم ينظرون إلى أفراد الوحدات والسرايا ينتهكون العرض ويسلبون الأموال ويقتلون من المواطنين ما حلى لهم . ويجبرون الكبار في السن رجالاً ونساء ً على الرقص في الشارع، والركوع لحافظ الأسد، ومثل ذلك كثير .
فتدارس الشباب المسلم الأمر، من الواقع الذين يرونه أمام أعينهم، حتى وصلوا إلى إحدى خطتين :
1- الانسحاب من حماة حسب خطة مدروسة ولمدة كافية للانسحاب على فترات، وذلك صيانة لأرواح المؤمنين الأبرياء .وعدم إعطاء الفرصة والمبرر لقوات النظام الأسدي للبطش بالسكان الآمنين، والشيوخ والنساء والأطفال الأبرياء، وقد وصى عقلاء الإسلاميين بذلك، وهي نصيحة الإخوان المسلمين التي أوصلوها لأبي بكر قائد المقاتلين في حماة.
2- القيام بكامل القوات الموجودة من المجاهدين لمواجهة السلطة وجهاً لوجه ومن ثم نيل الشهادة الأكيدة . ومما شجهعم على طرح هذا الخيار أن السلطة طوقت حماة بثلاث أحزمة من الجيش، وأنها تراقب العمارات المشكوك فيها وتدمرها بعد إخراج سكانها المدنيين منها، فيموت المقاتون فيها تحت ركام العمارة ... وهذا يعني أن الانسحاب حلم بعيد المنال، وغير ممكن التحقيق ...
حتى أصبح لكل خطة أنصار، وإن كان الإخـوان أنصار الخطـة الأولى خطة الانسحاب ، فمعظم شباب الطليعة المتشوقين إلى الشهادة والجنة وحور العين كانوا مع الخطة الثانية،ووصل الأمر إلى التنافس على الخطتين، فكل متعصب لرأيه، البعض يريد الشهادة ولا يهمه بعد أن يموت سلخه أو سلخ غيره، والبعض يتعقل ويرى أن المعركة غير متكافئة ولم يحن الوقـت بعد للمعركة وجهاً لوجه ولذلك يفضل الانسـحاب من حمـاة حفاظاً على المواطنين .
واقتنع الأخ ( أبو بكر ) بالرأي الثاني، ورأى أن الفرصة سانحة للشهادة وقد لا تعود مرة أخرى، والأخ أبو بكر، أمير المجاهدين في حماة وقتها . وشجعه على ذلك أن الانسحاب مغامرة كبيرة جداً وغير مأمونة، فكيف يتجاوزون ثلاثة أحزمة من الجيش الأسدي تطوق حماة كلها، وتعزلها عن العالم .
وكانت ليلة ( 2 / 2 / 1982م ) في تلك الليلة، خرج أبو حسن من بيته الثاني الذي اشتراه بعد أن هدمت له السلطة بيت أبيه في العليليات، وجعله قاعدة لعشرة من المجاهدين، خرج أبو حسن مع إخوانه المجاهدين بعد أن ودع أم حسن :
- إنها المعركة الكبرى يا أم حسن، وقد فازت علينا عائشة، لقد سبقتنا، وصدق قول الشاعر : أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني .
لقد زرعنا في قلبها الجهاد وحب الشهادة فسبقتنا إليها، استودع الله دينك وأمانتك، إن لم أعد، تابعي الطريق ولا تتخلي عن المجاهدين، فبيتنا قاعدة لهم منذ البداية وسيبقى قاعدة حتى يحكم الله بيننا وبين الطغاة .
- في خزائن الله يا أبا حسن، ثق بالله، ولا تخف على أولادك، الله هو المربي، إن عشت معهم، فلا تخف عليهم، وإن لحقت عائشة فالله هو المربي، ونعم الوكيل، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .
وخرج أبو حسن في اليوم الأول لمعركة حماة الكبرى في شباط ( 1982م) مع إخوانه المجاهدين يلقنون العدو درساً لا ينساه في الدفاع عن الحرمات والعقيدة والمقدسات .
دامت المعركة قرابة شهر كامل بين المجاهدين وأقوى جيش في الشرق الأوسط، بعد جيش الدفاع الإسرائيلي، وقد يكون الجيش السوري أكثر سلاحاً ومراساً في قتال المدن من جيش الدفاع الإسرائيلي خاصة، وأنه قاتل المسلمين في حماة، والفلسطينيين في طرابلس وجنوب لبنان وتل الزعتر، فحصل على خبرة قد تجعله في أوائل الجيوش العالمية في قسوة معاملة المدنيين والسكان الآمنين وفي ترويع الأطفال والنساء، كما قد يتفوق الجيش السوري في مهارة التحقيق وانتزاع الاعترافات من السكان الآمنين،لذلك أحضرت المخابرات الأمريكية بعض المعتقلين في غوانتيناموللتحقيق معهم على أيدي المخابرات الأسدية في سوريا، ونزع الاعترافات منهم، وكشف مايعرفونه في ذاكرتهم، كل ذلك مع السكان الآمنين، أما مع المقاتلين المسلحين، فذلك شأن آخر يعرفه من عرف حرب الخامس من حزيران وحرب تشرين، كما يعرفه من عرف مواجهات المجاهدين المسلمين في حماة وحلب وإدلب مع قوات الجيش العقائدي المرتزق .
وخلال الشهر استطاعت السلطة استرداد الأحياء الحديثة من المدينة خلال الأسبوع الأول بعد تكبد خسائر جسيمة في الجنود والدبابات، وبقي المجاهدون في أحياء حماة القديمة ثلاثة أسابيع ثم أصبحت السلطة تزحف شيئاً فشيئاً حتى انحصر الإخوة في الحاضر فقط، فقامت السلطة بهدم الحاضر كله براجمات الصواريخ والمدفعية الميدانية والدبابات من مدى بعيد .
وانتهت المعركة بعد أن دمرت السلطة حي الحاضر كله ويعادل ثلث المدينة، وقتلت ما يزيد على ثلاثين ألف من أهالي المدينة واعتقلت ما يزيد على الخمسين ألف منهم، ولم يبق من مجاهدي حماة إلا من لم ينته أجله، وكانت العناية الربانية أنقذتهم ليصفوا لنا ما جرى في ذلك الشهر العجيب .
* * *
- عظم الله أجرك يا أم حسن، أهنئك باستشهاد أبي حسن، وأخيك المجاهد البطل ... لقد استشهدا معاً في عملية واحدة، منذ الأيام الأولى للمعركة .
- الحمدلله الذي لم يحرمهم الشهادة، وأسأل الله أن يرزقنا الشهادة، وكيف أحوال المجاهدين يا أبا رافع .
- الحمدلله، لقد اختار الله منهم للشهادة عدداً كثيراً، ومن بقي منهم ما زال مشرداً في الشوارع بعد أن هُدمت جميع القواعد .
- هذه قاعدة يا أخي ما زالت، لقد أوصاني زوجي الشهيد ( وتسبقها دموعها ) أوصاني أن لا أغلق باب البيت أمام المجاهدين، فهات الذين تثق بهم يا أخي، هذه قاعدتكم .
وتقف أم حسن تنظر إلى أولادها، والخوف يكاد يسيطر عليها للمرة الأولى وتحدث نفسها : لقد رحل أبوكم قبلنا، طويت صفحة مشرقة كانت تضيء الطريق لنا وللآخرين، قضى أبو حسن، وتنهمر دموعها فتأتي إليها سميرة :
- لا تبك يا أماه، إنه شهيد، أبي شهيد يا أماه، ولا يصح أن نبكي على الشهيد، بل نغبطهم على حظهم الذي وفقهم الله إليه .
- ولكن الفراق يا ابنتي، الفراق ....
- قولي كما قال رســول الله صلى الله عليه وســلم ( والله إن العـين لتـدمــع، وإن القلــب ليـحـزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزنون ولا حول ولا قـوة إلا بالله العلي العظيم )...
– أتذكر يا ابنتي، كلما دق الباب صوت أبيك وطلعته، وحسن وروعة، وهم يستقبلونه، تيتّم حسن وروعة، وتجهش بالبكاء .
- أماه، ما عهدتك هكذا، لقد سبقه زوجي، وأختي عائشة، وما رأيتك فعلت هذا . تجلدي يا أماه، وأحتسبيهم عند الله . – بدأت أحس يا سميرة، يا بنت الشهيد، وأرملة الشهيد، وأخت الشهيد، وبنت أخت الشهيد، وبنت أخ الشهيد ... آه، ذهب كل أهلنا ورجالنا يا إلهي، الطف بنا يا رب .
– لنا الله يا أمي، احتسبيهم عند الله، وهنيئاً لهم هنيئاً لآل ... فقد سبقت منهم قافلة إلى الجنة، أماه إن بكاءك هكذا قد يجعل الإخوة المجاهدين يتركون القاعدة، وهذا لا يصح يا أمي، ألا تنفذين وصية أبي الشهيد رحمه الله .
- بلى يا ابنتي، سأنفذ وصيته، وسنسهر قدر وسعنا على راحة المجاهدين، معظمهم جرحى يا ابنتي، إننا بحاجة إلى كميات كبيرة من المضادات الحيوية .
- سأذهب كل يوم إلى ثلاث أو أربع صيدليات، أشتري من كل واحدة جرعة أو جرعتين من الدواء، تكفي عددا من الأيام لمريض واحد، لأنني لا أستطيع أطلب كثيراً من صيدلية واحدة فأصحاب الصيدليات يتمنون لو قدموا مساعدة للمجاهدين، مثلهم مثل أي مواطن سوري، لأنهم يرون المجاهدين بارقة الأمل في الخلاص من حكم الطاغية وزمرته السفاحة، ولكنهم يخافون، قلوبهم معنا وسيوفهم ضدنا .
- نعم، يخافون، قلوبنا معكم، وسيوفنا عليكم، متى تتجه سيوفنا إلى حيث تتجه قلوبنا.
- عندما نخرج من الوهــن، يا أماه، أما تتذكريــن قول رسـول الله صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعت الأكلة إلى قصعتها، قالوا : وهل نحن قلة يا رسول الله ؟ قال : بل كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟، قال : حب الدنيا وكراهية الموت ) .
- صدق رسول الله r ، والله إنه الوهن بعينه الذي ذكره الرسول الصادق الأمين r، إننا في وهن، لا ننتصر حتى نخرج منه، فكم يحب المسلمون الدنيا، ألا ترينهم يتسابقون إلى الدنيا رجالاً ونساءاً، ويبيع بعضهم أقاربه للسلطة من أجل الدنيا . أما سمعت بأم ... المخبرة الحقيرة التي أخبرت السلطة عن ابن أختها المجاهد، الذي استطاعت أن تغشه وتؤويه عندها ثم طلبت المخابرات فاستلموه من بيتها مقابل خمسين ألف ليرة أخذتها، أي وهن أكبر من هذا !! كيف تبيع رحمها بالمال .
- وعندما نعيش دنيا هذا شكلها، فأي حياة هذه يا أماه، أنحن من الذين نحرص على الحياة أي حياة . – لا أولئك هم اليهود . – أما نحن فإما حياة على الإسلام وإما شهادة في سبيل الله . الإنسان يموت مرة واحدة يا أمي، ولا أحد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا إلا الشــهيد فإنه يتمنى لو رجع إلى الدنيا فيقتل مرة ثانية في سبيل الله، والشهداء لا يموتون، إنهم أحياء عند ربهم يرزقون .
- آه يا سميرة، ليس الموت هو المشكلة، التعذيب الذي يجبر المجاهد البطل الذي لا يخاف الموت على أن يعترف ويدل على مكان إخوانه المجاهدين، كم تتصورين هذا العذاب، ما نوعه، وكيف نتحمله نحن، ثم إننا من النساء، وأنت يا سميرة جميلة، آه كم أخاف عليك يا ابنتي من الأوغاد .
- اسمعي يا أمي، لقد أفتى علماء المجاهدين بجواز الانتحار إذا خاف المجاهد أن يتكلم عن أماكن إخوانه، قياساً على أخف الضررين، ولمصلحة المعركة، لأن المجاهد الذي يقبض عليه حياً سوف يعترف بمكان واحد على الأقل وهكذا يستمر اكتشاف القواعد والمجاهدين، وخاصة لنا نحن النساء، وقد أحضر إخواننا المجاهدون حبات سم صغيرة، توضع تحت اللسان حتى إذا لاكها الإنسان بأسنانه تقتله بعد عشرة دقائق على الأكثر، وتأثيرها ينصب على المخيخ حيث توقف دقات القلب ويموت صاحبها بيـسر .
- أين هذه يا سميرة، هل معك منها . – نعم، لقد أحضرتها منذ زمن، والله لن أسمح لكلب منهم أن ينجس جسدي، وأعاهد الله على ذلك . – هات واحدة منها، أين نضعها الآن .
- في الجبة، في جيب الجبة تبقى بشكل دائم فيه ولا نستخدمها إلا عندما نتأكد من التعذيب ولنســتمر في مساعدة إخواننا المجاهدين يا أمي، هل نقصر عن ركب الشهداء، تقدموا ونتخلف نحن . - لا، لا يا سميرة، يا حبيبتي لن نتخلف، إن شاء الله، اللهم ارزقنا الشهادة كما رزقتها لعائشة وأبيها، اللهم إني أنا أم عائشة، أنا التي ربيتها وعلمتها، اللهم لا تفضلها علي يا رب، اللهم إني أغبطها فلا تحرمني الشهادة يا رب .
- من يدق الباب ؟ - أبو رافع
- أهلا وعليكم السلام - ويقول أبو رافع وهو مشيح بوجهه إلى الجدار : يقترح الإخوة أن تجهزوا أنفسكم للخروج من سوريا إلى العراق، سأعود إليكم بعد يوم واحد فقط إن شاء الله ومعي السيارة لذلك الغرض .
- لا، لا يا أبا رافـع، أين نـذهب ؟، أتريـدنا أن نتولى يوم الزحف ! لا يا أخي لن نذهب، تقول سميرة .
- يا أخت، هذه أوامر القيادة ويجب أن تُطاع، ثم أنكم نساء، قد يكون ذلك للرجال، أما النساء فلايحسب لهم تولي يوم الزحف .
– هذه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، التولي يوم الزحف معصية، ولن نخرج من ساحة المعركة .
– يا أخت، هذه ليست معصية، إنها فر وكر، ثم أنتم نساء وأطفال، يجب أن تخرجوا من سوريا، أو من حماة على الأقل .
– أنا لا أخرج، وأعتقد أن الخروج معصية، لأنه فرار يوم الزحف، إذا أرادت أمي أن تخرج بأطفالها معكم فلتفعل .
- لا يا سميرة، سنبقى معك يا ابنتي، لا بد أن أروي قلبي من دمائهم، ثم كيف نهرب من الشهادة يا أبا رافع، قل لهم جزاكم الله خيراً، نحن هنا نقوم بدورنا، لو خرجنا ألا تغلق هذه القاعدة، ومن يأتي لكم بالأدوية .
– يسكت أبو رافع ثم يقول : القيادة أمرت هكذا، وأنا أبلغكم أمرها، وأنا مستعد غداً مثل هذا الوقت للحضور بالسيارة لنقلكم بإذن الله .
- لا يا أبا رافع، وفروا لنا السلاح والذخيرة وسنستمر في عملنا، لقد أوصانا أبو حسن أن لا نتخلى عن المجاهدين، وأن يبقى بيته قاعدة للمجاهدين بعد استشهاده، ونحن ننفذ وصيته وحريصين على تنفيذها، لعلنا نلحق به، أو نجتمع به على الأقل في الآخرة .
- لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقفل أبو رافع راجعاً، مع أن التنقل ما زال شاقاً وصعباً وسط عيون المخبرين التي زادت وكثرت قبل محنة حماة (1982) وكأن المخبرين تسابقوا إلى خدمة السلطة للحفاظ على حياتهم .
حتى إن كثيراً من ذوي المعتقلين أصبحوا عملاء للسلطة بعد أن قال لهم يحيى زيدان :
- إذا كنتم تحبون ابنكم، وتحرصون على حياته، تعاونوا معنا وعندما تتعاونون معنا سترون أن ابنكم يعامل معاملة تختلف عن الآخرين الذين يرفض ذووهم التعامل معنا، وتسابق ضعفاء الإيمان إلى إرضاء الطاغية ، وقام بعضهم بمهمات سفر لصالح المخابرات خارج سوريا، إلى السعودية وإلى اليمن والأردن وأوروبا، كل ذلك حصل بعد محنة حماة الكبرى (1982) .
* * *
أصبح بيت أم حسن، أعظم قاعدة في حماة، دخلها عشرات المجاهدين، بل معظم الجرحى الذين حصلوا على الدواء والعلاج فيه ثم تماثلوا للشفاء، وغادروه إلى قاعدة أخرى أو إلى خارج سوريا، واستمرت أم حسن ثمانية أشهر على هذه الحال تخرج كل يوم لتأتي بالطعام والدواء، وتعيل الأخوة وتداويهم بالاشتراك مع سميرة.
وكانت المهمة الأولى هي تدريب الأولاد الصغار على الصمت والكتمان وإجابة المحقق إذا لزم الأمر، كانت تعطي دروساً يومية لحسن وروعة ومنى وفاطمة، فيما لو اعتقلتهم السلطة وأصبحت أم حسـن وســميرةعلى معرفة بمعظم المجاهدين في حماة، الذين قضوا النصف الثاني من عام ( 1981) كله في تضميد الجراح وترميم القواعد التي ما زال نزيف اكتشافها مستمراً طيلة عام (1981)، حتى نفذت فيما بعد خلال المجزرة الكبرى عام (1982).
وكم من مرة جاء جند الطاغية، وهم يقومون بحملات التفتيش، فيدخل الإخوة إلى مخبأهم بينما تقابلهم أم حسن، ولم تكن السلطة تعرف عنها شيئاً حتى ذلك الوقت .
وفجأة ... يستجيب الله دعاء أم حسن الذي ما برحت تكرره في كل صلاة تطلب من الله أن يرزقها الشــهادة وأن لا يحرمها منها، وأن تكون رفيقة أبي حــسن في الدنيا والآخرة، استجاب الله لها عندما اعتقل أخ مجاهد من آل ... يوم الرابع من ذي الحجة في أواخر أيلول عام (1981م) ، وعندما اشتد به العذاب قال :
( كنت أبات عند أم حسن، أرملة لها ستة أولاد، وعندها أكثر من عشرة من الإخوة المجاهدين ، وفي بيتها كافة أنواع الأسلحة، وكل من في القاعدة ماعدا الأطفال من المقاتلين ) .
- ألو سيدي العقيد، عثرنا على أكبر قاعدة في حماة حتى الآن، بيت فيه عشرة مجاهدين معاً وكافة أصناف الأسلحة، وحتى النساء مقاتلة شرسة، قال يحيى زيدان، لعلي حيدر متباهياً ومزهواً كالديك الرومي ينفش ريشـه، إذ تغلب على مواطنين ضعاف، يختبئون عند النساء خوفاً من بطش السلطة وإرهابها .
- السلام عليكم يا أم حسن، اعتقل أحد الإخوة الذين يعرفون بيتك ويجب إخلاء القاعدة فوراً، هيا يجب أن نخرج كلنا من القاعدة، وأنت وأولادك معنا .
- أنا لا أثقل عليكم الآن في هذه الساعة الحرجة، اخرجوا أنتم بسرعة وموعدي معك غداً عند رأس الشارع، اتركوا لنا سلاحي وسلاح ابنتي مع الأحزمة الناسفة، أستودعكم الله، لا تخافوا علي سأتصرف، يا أختي يا أم حسن القاعدة كشفت، يجب تركها، ومغادرتها، لماذا تقدمين نفسك وأولادك لقمة سهلة للطغاة!!؟.
ــ لن أخرج من بيتي، وسأقاتلهم وأقتل منهم مايشاء ربي قبل أن أموت شهيدة إنشاء الله، دمروا بيتنا الأول كما تعلم، والآن أين أذهب !!؟ سأدافع عنه حتى الموت ...
وبعد أن فشل الأخ المجاهد في تغيير قناعة أم حسن المتحجرة على قرارها، وهو الموت في سبيل الله والشهادة كي تلحق أبا حسن، قرر أن يخرج الإخوة إلى قواعد وأماكن متفرقة مع أسلحتهم، ثم وزعت أم حسن أطفالها على المحسنين في الحي الذي سكنته منذ سنة واحدة، وقد رحبوا بأبنائها، كعادة الشعب الحموي البطل إذا كان على سجيته، لم يمت الخوف والذل طبيعته .
وفي الساعة الثانية عشر ليلاً، داهمت فرقة كبيرة من الجيش السوري مكونة من أربعة آلاف عسكري تساندها مائتي دبابة، وأكثر من عشرين طائرة عمودية، داهمت الحي لتقضي على أكبر قاعدة في حماة، فيها عشرة من المجاهدين مرة واحدة .
وفتح العميد علي حيدر قائد الوحدات الخاصة جهازه اللاسلكي ليعطي أوامره للفرقة
التي أُمرت بتدمير آخر قاعدة للمقاتلين في حماة .
- آلو ... (1) (2) (3) (4) (5) كيف تسمعني أجب.
- (1) اسمعك جيداً .. (2) اسمع جيداً ...
- نريد تدمير البيت تدميراً يضمن لنا القضاء على كل من فيه، (1) ، (2)، (3) احتلوا الشوارع التي توصل إلى الحي حسب الترتيب من اليسار إلى اليمين، (4)، (5) مع قواذف الآربي جي تصلون إلى البيت لمسافة لا تقل عن مائة متر، احذروا من قواذفهم، ودمروا البيت بالقواذف، انتبهوا جيداً، يا ( 1 وحتى 3 ) انتبهوا من تحرك أي إنسان، دمروا أي مكان يتحرك فيه أي شبح .
وطغى هدير الدبابات ( ت 62) و(ت54 وت 55) التي دفع الشعب ثمنها لاسترداد الجولان وتحريره من الصهاينة، ولكن النظام الأسدي سخرها لذبح الشعب العربي السوري في حماة وجسر الشغور وحلب وإدلب ، طغى هدير الدبابات على أنين نواعير حماة الثكلى، ورجفت قلوب الأطفال وأمهاتهم وآبائهم خوفاً وهلعاً مما يدبره علي حيدر وزبانيته الذين كانت قلوبهم ترقص خوفاً من أكبر قاعدة في حماة، وقد تجمد الدم في شعيراتهم الدموية أو كاد، وهم يساقون إلى الموت وهم كارهون .
وهم الذين لم يعتادوا مجابهةالعدو، وإنما اعتادوا على الحرب من مسافات طويلة، يرون العدو على الخريطة وبالمناظير المكبرة، فكيف بهم يصلون إلى بعد مائة متر من أكبر قاعدة للمجاهدين في حماة، ثم فتحت القواذف نيرانها، وألقت حممها على البيت تحرقه بعد أن سقط سقفه وعضائده مرة واحدة، وتتالت القذائف الحارقة حتى شبت النار فيه، فسارعت طائرات الهيلوكبتر إلى إطفاء الحريق بينما سيطر الرعب والخوف على قلوب أهالي المدينة من الثانية عشر ليلاً وحتى الصباح .
عندما وصلت قوات خاصة من سرايا الدفاع جاءوا لاقتحام أنقاض البيت بحثاً عن نتف أجساد المجاهدين لتعرض على شاشة التلفزيون .
وهجمت مجموعات الاقتحام مع أضواء الفجر تبحث في أنقاض البيت عن الجثث، وطال بحثها وزاد خوفها، إنها لا تجد جثثاً، فلعلهم ما زالوا أحياء، أين هم، لم نعثر على أحد، ولا قطعة جثة واحدة، لذا جاءت البلدوزر، ونبشت الأنقاض وذرتها علها ترى بقعة دم واحدة فلم تجد، لقد كذب عليهم المجاهد المعتقل، أو غادر المجاهدون المكان .
- آلو، يا يحيى، والله ضحك عليك الحموي الشيطان، ولك البيت هذا فارغ ما وجدنا فيه نقطة دم واحدة .
- يا سيدي، أنا أعرف إجابة المعتقل عندما يصدق، لأنني آخذها منه قبل أن يموت بقليل عندما أعرض عليه فرصة للحياة، في لحظة انهيار نفسي فينزلق لسانه .
- ارجع وحقق معه، لقد كذب عليكم وضحكتم علينا الحمويين، حركنا الفرقة كلها لهدم بيت فارغ، والله شي مضحك .
- سيدي العقيد، أمهلني يومين أو ثلاثة، أما المجرم فقد مات، لأننا نقتل المجرم بعدما نأخذ ما عنده، لكن سأعتقل كل من يمت لأم حسن بصلة من الرجال والنساء والأطفال .
- ولك، ما تخاف!! تعتقل كل أقاربها وكل من يمت لها بصلة قريبة أو بعيدة . – لا ما أخاف، أنا مفوض من المعلم رفعت القائد الميداني لساحة المعركة، مفوض منه شخصياً بكل هذه الأعمال، لقد فوضني بتدمير حماة عن بكرة أبيها تفويضاً خطياً، وفوضك أنت أيضاً ، هل نسيت !!؟ .
- لكن أنا ما أتلقى أوامري منه، أنت تعرف ذلك، أنا أتلقى من الرفيق القائد الأوحد أبي سليمان، وقد فوضني بمثل ذلك .
- آلو، ياسنترال، هات مدير العمليات ( ويسحب يحيى زيدان نفساً عميقاً من سيجارته ) : يا نقيب سرحان أطلب الملفات لبيت آل ... وآل ... واكتب قائمة أسماء الرجال والنساء والأطفال الذين يمتون بصلة لل ........ أم حسن، اسمع، بدنا نجيبها من تحت الأرض، الرفيق علي حيدر يستهزئ علينا وعلى تحقيقنا .
- حاضر سيدي .
وفي اليوم التالي تعتقل السلطة بعد أن تطوق الحي أكثر من مائة شخص بين رجل وامرأة وطفل ممن يمتون بصلة رحم إلى المجاهدة أم حسن، التي تلاحقها فرقة كاملة من الجيش العقائدي منذ أسبوع .
ويبدأ يحيى زيدان مدير المخابرات العسكرية في حماة بتعذيب الأطفال والبنات قبل الرجال وعلى مرأى الرجال، يؤتى بالفتاة العذراء فتخلع عنها ثيابها وتجلد بالسياط وكلما رفع السوط تمزق اللحم تحته وخرج السوط مشبعا باللحم والأب يصرخ :
- والله لو نعرف أين هي أم حسن قلنا لكم، يا ناس، ماذا تستفيدون من قتل الأبرياء، وتصرخ الأم قبل أن تسقط مغمياً عليها :
- يا سيدي، أنا بعرضك، بنتي ارحمنا، والله ما نعرف هذه المجرمة أم حسن، والله ما نعرفها، والله ما رأيتها منذ أكثر من سنة، مضوا عمرهم بالشام، وما لنا صلة ومعرفة بهم، ثم تنهار مغشياً عليها ..........
ثم جاء دور إحدى الفتيات التي رأت ما يشيب له الأطفال وما يغسل معه المخ، وتنقلب القيم والمعايير، إنها الفتنة بعينها، الفتنة التي تخرج المرء عن دينه، التي أباح الرسول r للصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنه أن يقول ما أرادوا له أن يقول من كلمات الكفر وقلبه مفعم بالإيمان، عندما رأت ذلك قالت :
اسمع يا سيدي أنا سمعت فقط، ما رأيت بعيني أنها سكنت بيت أبي سعيد، الرجل المحسن الذي أعطاهم البيت صدقة بعد أن دمر بيتهم كما سمعت، وسمعت أنها جمعت أولادها بعد أن كانت قد وزعتهم في الحي وأنها تسكن في ذلك البيت .
- أين هذا البيت، قال يحيى زيدان، وقد انتفش كالديك . – في حي ... هكذا سمعت .
- آلو، يا سيادة العقيد، إنها في بيت .... حي ..... هي وأولادها فقط، هاتوها لنا حية لو تكرمتم، لقد اشتقنا لرؤية أم حسن .
- يعني نضحي ببعض الجنود والضباط حتى حضرتك ترى أم حسن ؟؟؟
- وبنتها سميرة، زوجة غسان، لازم نراهم، عندنا الشباب ينتظرونهن منذ ما يقارب السنة .
- أنت متأكد أن البيت لا يضم غيرهن . – هذه هي فكرتي الآن، لأن المجرمين لم يسكنوا بيتها بعد أن كُشفت أنها تؤوي المجرمين .
- ولماذا أنت مهتم بحضورها حية . – يا سيدي ما تعرف، ويضحك المجرم يحيى زيدان .
- اترك المزح يا يحيى . – لأنها تعرف كثير من المجرمين، على الأقل العشرة اللي كانوا في بيتها الفارغ الذي دمرناه .
* * *
في ذلك الخميس من ذي الحجة، كانت أم حسن وسميرة صائمتين، وقد لاح في خاطرهما عثمان بن عفان رضي الله عنه، يوم استشهد، رأى رسول الله r في النوم فقال له : يا عثمان افطر عندنا، فأصبح عثمان ولبس سراويله، ودخل عليه يومها المجرمون فقتلوه وافطر في السماء، والليلة الماضية رأت أم حسن في نومها عائشة :
- يا ماما، أعددت لك فطوراً، ما ذقتي مثله في حياتك، ولا في الدنيا مثله، افطري عندي يا ماما .
- من دعوتي غيري يا عائشة . – كلهم أحبابك، دعوت بابا ، وزوجي قاسم وصهرك غسان، وأخوك ... وحماك ... ، يا سلام يا ماما لو جئت هات معك سميرة والله لقد ذبنا شوقاً إليكما، ... وتتبختر عائشة بثوب أبيض طويل وعريض كثياب العرائس فتقول لها أمها : - لم أنت بهذا الثوب . – ما زلنا في العرس يا أمي، لم ينقض شهر العسل بعد، يا ماما، هنا أطيب أنهار العسل، يا سلام، حلوة من غير ملل وباردة ولا تضر الأسنان، أما أنهار اللبن، يا سلام، لبن مصفى، أطيب من اللبن العربي، لبن الحاضر، بآلاف المرات، بل لا يقارن معه أبداً، سأملأ لك أباريق الفضة من أنهار اللبن ومن أنهار العسل، ومن أنهار الخمر، هنا نشربه، لكن ما هو الخمر عندنا، إنه عصير الفواكه الطازجة .
واستيقظت أم حسن من النوم، ثم عادت إلى الفراش تريد أن يعود لها الحلم فقد أزعجها أنه حلم وليس حقيقة، لكن أنى يعود النوم، وأنى ترى عائشة مرة أخرى .
- سميرة، هل تنوين الصيام اليوم . – نعم يا أمي، أليس اليوم الخميس ؟ . – بلى .
ويضطرب قلب أم حسن فرحاً، إن حلمها حقيقة وليس حلماً، اليوم ستفطر عند عائشة لذا جمعت أولادها وقالت لهم :
- لقد جمع الطغاة كل أقاربكم ليستدلوا علينا، وقد يأتون إلى بيتنا اليوم أو غداً، لا تخافوا علينا أبداً، وقولوا عندما يحققون معكم ( أمي لا تعيش معنا إلا القليل، تغادر البيت كثيراً ولا نعرف أين تذهب، طول عمرها هكذا )، ولا تخافوا فإن الله معكم والله لن ينساكم أبداً، قالت ذلك أم حسن بصوت ثابت لم يرتجف وقلب جامد لم يلتو ولسان فصيح وكأنها تخطب في الجند ثم تابعت : - إذا وقعت أمامكم، قولوا لهم : ماما معاها سكر وجلطة بالدم وتقع دائماً وإذا مت فإني شهيدة، سألتقي معكم في الجنة، سنلتقي هناك يا أولادي ونعيش السعادة التي كنا بها في دمشق سنعيش أحسن منها بكثيرفي الجنة، ثم تنفرد بسميرة وتقول : تأكدي من الحبة، وإذا أخذونا اليوم سنستعمل الحبة قبل أن ننهار، إذا كان الرجال انهاروا تحت التعذيب، فكيف نحن ؟؟؟ .
في عصر يوم الخميس كانت أم حسن وسميرة صائمتين، والأولاد يلعبون، مع أنهم أبوا إلا أن يصوموا وحسن يستعد للذهاب إلى السمان يحضر الحلوى للإفطار، عند ذلك طُرق الباب بعنف فأسرعت أم حسن وسميرة إلى السلاح .
- منى، فاطمة، حسن، خذوا روعة ورامي واخرجوا من البيت حالاً ... هيا يا أبطال لا تخافوا وخرجت منى وفاطمة وحسن يحملون روعة ورامي، فقبض عليهم الجند وأدخلوهم سيارة الرنج روفر حالاً وأبعدوهم عن البيت .
- من يوجد في البيت، قال النقيب سرحان لفاطمة، تكلمي الحقيقة وإلا فعلت كذا وكذا، وصنعت كذا وكذا، وضربها على خدها صفعة قوية .
- لماذا تضرب، أقول لك كل من في البيت، أمي وأختي، - من هي أمك يا حقيرة ؟
- أمي أم حسن وأختي سميرة . – طيب، خذهم يا رقيب إلى الفرع حالاً .
- ينادي بمكبر الصوت : يا أم حسن سلمي نفسك مع بنتك سميرة حالاً، وإلا سنهدم البيت عليكما، يقول الضابط بالمكبر وعندئذ استطاعت أم حسن أن تصل النافذة وترمي رشة من الرصاص أردت الضابط قتيلاً يتضرج على الأرض بدمه، فتراجع الجند مذعورين .
- آلو، سيدي، قُتل النقيب سرحان . – أسعفوه حالاً وحاصروا البيت جيداً، ابتعدوا عن مرمى النار، حاصروا البيت جيداً، إياكم أن تقتلوهم، يجب إلقاء القبض عليهن أحياء.
واستمرت المناوشات لمدة ثلاث ساعات، وقد غابت الشمس، فقالت أم حسن لسميرة أجلي الإفطارالآن، وقتلت ســميرة ثلاثة جنود حاولوا اقتحام البيت، ثم جاءت مجموعات اقتحام من حرس الثورة ، بعد أن شارفت ذخيرة أم حسن وسميرة على الانتهاء، واستطاعوا التسلل من أسطحة البيوت المجاورة ثم قفز اثنان منهم مرة واحدة ليقع كل منهما على واحدة منهن فيسلب سلاحها، ويتكاثر الجنود فيخلعون الأحزمة الناسفة قبل استعمالها، ولم تبق لهن إلا الحبة ثم أُخرجتا من البيت الذي اعتُقل صاحبه المحسن وسيق إلى الفرع، وهناك في الفرع صف الأطفال للتفتيش جيداً، ثم قال لهم يحيى زيدان :
- سأدخلكم على أمكم وعلى سميرة، قولوا لهن لم يعذبونا أبداً، وأطعمونا وقالوا لنا ـــ إذا تعاونت أمكم معنا فلن نعذب أحداً منكم .
وأدخل الأطفال على أمهم وقالوا لها ذلك، فقالت لهم لا تخافوا يا بني، وقد صممت على ابتلاع الحبة حالما تشعر بالخطر،بعد أن وضعتها تحت لسانها قبل أن تقيد يداها، ثم تضم حسن إلى صدرها وتشمه من أعماق صدرها، حسن الذي انتظرته بعد أربع بنات كانت تحبه كثيراً جداً، وأخذت رامي الطفل المريض، الذي تعلقت به أكثر كلما زاد مرضه وشحب لونه، فتضمه إلى صدرها وتذرف دموعها فيقول حسن : أماه، لا تتركينا يا أماه، من بقي لنا غيرك، لا تتركينا .
لكم الله يا بني، الله لن ينساكم يا حسن، نحن كلنا عبيد لله يا حسن وهو سيدنا يفعل بنا ما يشاء يا بني، يا حبيبي يا حسن، وتبكي .
كان يحيى زيدان يسترق السمع، فيفرح ويقول لنفسه ... ستنهار، وستقول كل شيء إنها تبكي ... لقد انهار الرجال فكيف النساء . فيدخل ويسوقهم جميعاً إلى التحقيق :
من تعرفين من المجرمين يا أم حسن . – من قال لكم أنا أم حسن ؟ - يضحك يحيى زيدان ويقول : ها هم أولادك وبناتك . – هؤلاء ليسوا أولادي وأنا اسمي (سعاد) وما أعرف من هي أم حسن، وتضحك ساخرة منهم .
غريب أنت تسخري منا، هيا يا عسكري، على الدولاب والخيزرانة والكيبل والكهرباء حتى ترجع أم حسن .
ويبدأ مشوار العذاب الجسدي، الذي ما كانت أم حسن تعبأ له وكأن ذلك الجسد الذي يشوى بالكهرباء ليس جسدها، وهي تردد، الله، الله، الله، أحد، أحد، أحد، وكأنها غارقة في ذكر، فيدخل علي حيدر وهي تردد ذلك .
- عندئذ قال العميدعلي حيدر ولك يحيى حتى الآن ما تعلمت، هؤلاء الحمويون ما يهمهم الضرب، عليك بالعرض، هات كل العساكر اللي عندك يفعلوا .........
وأوقف عنها الضرب، ثم قال يحيى زيدان : - سمعت هذه الأوامر، سأنفذها، عندي خمسمائة عسكري، أنت وسميرة ومنى وفاطمة وروعة بنت الست سنوات لن نعفوا عنها، يعني أنتم خمسة والعسكر خمسمائة، مائة عسكري على كل واحدة، هيا يا عسكري ابدأوا ب .........
وقبل أن تمتد يد العسكري إلى ابنتها...... كانت أم حسن تقرض الحبة بأسنانها بقوة وعنف وتبلعها بسرعة وهي تردد ( أودعتكم في خزائن الله، اللهم نصرك الذي وعدتنا، اللهم أنت القوي ) ثم تجهر وتقول : اللهم نصرك يا رب، اللهم إن تهلك حماة فعلى سوريا السلام، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك .
- اخرسي يا ......، وسقطت أم حسن على الأرض وعيناها معلقتان بحسن وروعة وشفتاها تتحركان، وبدأت عيناها تتثاقلان، وشفتاها تتهدلان شيئاً فشيئاً، وما زالت عيناها معلقتان في حسن وروعة بينما صرخ الأطفال : أمي ... أمي ... أمي .
بُهت علي حيدر ويحيى زيدان، وصرخا معاً : الطبيب ... الطبيب . – ما لها أمكم ؟
- لا تخافوا معها سكر في الدم، كثيراً وقعت هكذا ثم صحت .
وجاء الطبيب يفحص الجثة الساخنة، وعيناها مازالتا مسمرتان في حسن وروعة ورامي . جمدت عيناها على ذلك وارتسمت صورة أبدية ستبقى حتى يوم الدين تحضن حسن وروعة ورامي في عينيها، وتبصق على يحيى زيدان وعلي حيدر، حتي يجمعها الله بهم يوم القيامة إن شاء الله .
- اعتقد أنها ماتت، يقول الطبيب . – كيف تموت، قال يحيى، لامايصير لازم ماتموت، ماضربناها، وما استخدمنا الكهرباء، كيف تموت؟؟؟ .
- والله ما أدري كيف قلبها واقف لايعمل . – لا، لا حاول إيقاظها لعلها في غيبوبة سكر . – حسناً سأفعل .
وعبثاً يحاول الأطباء إعادة الروح التي وصلت عائشة فقالت لها عائشة
: أين سميرة ؟ - أجابت روح أمهاأظنها آتية في الطريق . – عساها ما تتأخر، - إن شاء الله لن تتأخر ... ويحاول الطبيب بما أوتي من علم هو أقرب إلى السراب أن يعيد الروح التي حملها طير أخضر وغدا بها بسرعة البرق إلى رياض الجنة .
- لقد ماتت، قال الطبيب، ولن أستطيع إحياءها يا سيدي .
- قم، يا فاشل، أنت طبيب حمار، بيطري أنت، ويبصق يحيى زيدان على الطبيب الذي بُهت من ذلك واصفر وجهه خوفاً، ثم يتقدم يحيى زيدان وينهال ضرباً بالأكف على وجه الشهيدة أم حسن، حتى أصبحت آثار أصابعه تبقى شاحبة صفراء لأن الدم توقف منذ زمن غير قليل .
- دعها يا يحيى، ماتت، نعم لقد ماتت، قال علي حيدر، حظك زفت يا يحيى .
- من أنت يا ... كذا وكذا ، أنت سميرة زوجة غسان . – نعم، أنا سميرة زوجة غسان أما ال(.......) التي تقول عنها فهي أختكَ وأمكَ وبنتكَ يا كلب .
بُهت يحيى زيدان وكاد يغمى عليه، وردد في نفسه، حتى نساؤهم تقول لي مثل هذا .
- قام وصفعها بكل قوته، ثم قال له أحد الزبانية : - سيدي لا توسخ يدك فيها، أنها لها هاتها عندي، (......) لأحضرن لك ....... – هذا لأمك أيها الجبان .
- انتبه يا عسكري، يجب أن تبق حية، مهما قالت، لتقل ما تريد سوف نفعل فيها كلنا بعد أن ينته التحقيق، خذها إلى الدولاب ثم الكهرباء ثم عذب إخوتها الصغار أمامها كما تعودنا، فالكبير ينهار عندما يرى قربيه الصغير يصارع الموت أمام عينه، وقد حصلنا على معلومات كثيرة في مثل تلك المواقف .
عندئذ تأكدت سميرة أن الله يسمح لها بإزهاق روحها خاصة بعد أن قال لها يحيى :
- أنت زوجة غسان، كنت معه في القاعدة .... وتعرفين عشرة من المجرمين هناك، كما تعرفين عشرة آخرين كانوا يبيتون عند أمك في البيت، يجب أن تعطينا أسماء عشرين مجرماً، وسأكفل لك الحياة مرفهة مدللة، وأتركك تخرجين من سوريا إذا أردت حتى تربي إخوانك الصغار .
عندئذ مضغت الحبة التي طال انتظارها تحت لسانها ثم قالت هات المسجل سأقول كل شيء على شرط أن تنفذ ما وعدتني به . – أعدك بشرفي العسكري أن أنفذ كل ما قلته لك .
( ... لا تنفعلوا حتى أقول لكم كل ما عندي ... أنتم أيها الطواغيت كلاب، أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم يفعلن ما تقولونه لنا ....... وأنتم عملاء اليهود بعتم الجولان، وتذبحون المسلمين كي تمهدوا البلاد ليحتلها اليهود ...... أي والله أنتم تمهدون البلاد لاحتلال اليهود لها لأنكم تقتلون كل شهم وكل شجاع وكل غيور على دينه، حتى لا يبقى من يرفع السلاح على اليهود إذا احتلوا البلاد ...... ) .
ويصرخ يحيى زيدان، وبعد متى تقولي ما نريده . – سأقول كل شيء لا تنفعل هون عليك ( ...... لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) ( الله أكبر ولله الحمد ) . ( الموت لكم يا أعداء الله والنصر للإسلام والمسلمين ) .
وبُهت يحيى زيدان، وطلب من الجنود أن لا يضربوها، يجب المحافظة على حياتها، دعوها تقول المهم أن تبقى حية .
( الله أكبر، عاش المجاهدون ............ الموت لكم أيها الجبناء ......... أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... ) وتسقط سميرة بين المحققين .
- يا سيادة العقيد، ياعلي حيدر !!! تعال، هاتوا أطباء .......... أنا فشلت ..... فشلت في كل شيء .
- أنت كل عمرك فاشل، أنت عمرك ما حققت في مجرم واحد تحقيق ناجح، أنت تصلح لتهريب المخدرات مع صاحبك (أبي .....)، تعرف تروح للريشة، وتعرف تتعامل مع تجار الحشيش الشياطين لكن ما تعرف تحقق، ولك كيف ماتت ؟
- يا سيدي هاتوا الطبيب . – أنت ما لك، هات الطبيب . – أنا حاسس إني أدوخ، ما أظن أن هذه امرأة عادية، أبداً، إنها غير عادية، لقد ماتت هي وابنتها في اللحظة التي تمنى الآلاف من المجرمين قبلها أن يموتوا فيها، آلاف من الذين كنا نعذبهم كانوا يتوسلون إلى ربهم أن يميتهم ويريحهم من العذاب، أنت تعرف أن الموت عندنا أهون من كثير من صنوف العذاب، كل أصناف العذاب النفسي أصعب من الموت، والله يا سيدي ألوف منهم كانوا يدعون ربهم أن يموتوا، ولكن الحمدلله ما رد عليهم، والله ساعدنا عليهم ما كانوا يموتوا حتى نأخذ منهم بعض الذي نريد على الأقل، لكن، مثل هذه المرأة وبنتها ما رأيت .
- ميتة منذ خمس دقائق، مثل أمها تماماً، وقف قلبها فوراً .
- ما هو السر ؟ - قضية عجيبة، هل كان معهن سم . – لا أبداً لقد فتشناهن جيداً .
- يمكن أخذوا من زمان قبل ساعة من الاعتقال .
* * *
وهناك في علييـن اكتملت الفـرحة، عندما وصلت سـميرة على جناح طير أخضر متلهفة :
- معذرة، لقد تأخرت عليكم، آه، ما زلتم تنتظروني، - هيا اشربي يا أختاه، أما زلت صائمة .
- لا، لقد أفطرت على الحبة، وهي تضحك . – اشربي لتنزعي طعمها من فمك، اشربي من هذا العسل .
- الله، ما أطيب هذا العسل . – خذي أيضاً من هذا اللبن، ثم اختاري ما شئت من العصير الطازج .
- أنا جائعة يا عائشة، ماذا عندكم ؟ - عندنا ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين ،هل تريدين لحم طير .
- نعم، وما أن قالت نعم، حتى رأت على الطاولة عدة صحون فيها طيور مقلية ومشوية مع السمن الطيب الذي تنبعث رائحته في الأنوف فتفتح الشهية .
وبينما كانت تأكل أم حسن، مال عليها أبو حسن وقال : - لا تقلقلي على الأولاد، لقد جاء الآن من يطمأني أنهم بخير، وأن الله تكفل بهم . – صحيح، هل تكفل بهم الله .
- نعم، الآن قيل لي ذلك . – يا إلهي لك الحمد والشكر، وكيف أقلق عليهم ما دمت تكفلت بهم، وتسمع أم حسن صوت ملك كريم يقول : لقد عدت تواً من عندهم، أسقيتهم من هذا العسل واللبن والعصير الذي تأكلون منه . – الله، الله، حمداً لك يا رب .
- كم أنت جميلة يا أماه، قالت عائشة، هل لاحظت أنك في الرابعة عشر .
- أنا أرى أنك أنت في الرابعة عشر، وكذلك سميرة . – صحيح، وأنت كذلك يا أمي كل نساء الجنة في الرابعة عشر، انظري إلى أبي، إنه في الثالثة والثلاثين حقاً، لحيته سوداء كلها، اختفى منها الشيب، هل لاحظت ذلك .
وتطوف عليهم الحور العين، يقدمن هدايا لأم حسن ويسلمن عليها، وتتقدم إحداهن وتقول لها :
- أنا كبيرة الوصيفات، وكل هذه الوصيفات خادمات لك يا سيدتي، اطلبي منا ما تريدين، نحن خادماتك، وعجبت أم حسن فقالت : - أريد كوباً من اللبن، وما إن أكملت كلامها حتى جاء أمامها طفل صغير جميل الخلقة جداً، له جناحان قصيران من الذهب والفضة، لهما بريق جميل خلاب، بيده إبريق من الفضة فيه اللبن، وبيده الأخرى كوب من اللؤلؤ صب فيه اللبن وقال بأدب واحترام :
- تفضلي يا أم الشـــهداء .
ثم وقف غسان وأثر جراحه تتلألأ وينبعث منها نور تنتشر منه رائحة المسك، وقد لبس ثوبا من الحرير المزركش فبدا كأمير من أمراء القصور، كلما تحرك تنتشر رائحة المسك واللؤلؤ والمرجان قائلاً : - لقد أخرت عنك هذا الحلي، فمعذرة يا سميرة، فتلبسها سميرة وتضيء سواعدها جمالاً ونقاءاً من هذه الأسوار .
( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم : آلم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين، أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ) صدق الله العظيم .
* * *
- لم يبق عندك إلا هؤلاء الأطفال، يا يحيى، احذر أن يموتوا، قال علي حيدر .
- لا، لن أعذبهم، أبداً سأحاول بالحسنى أن آخذ منهم ما أريد .
- تعالي يا منى، أنت الكبيرة بإخوانك، ولم يبق غيرك لهم، اسمعي إن تكلمت الصحيح سوف أهتم بك وبهم وأساعدكم ولا أسمح لأحد أن يعتدي عليكم .
- صحيح يا سيدي، تساعدنا، أنا أريد أذهب إلى دمشق، هناك أصحاب أبي رحمه الله نعيش عندهم .
- أبداً سوف أوصلك إلى الشام لكن قولي لي من تعرفين من المجرمين .
- والله ما أعرف ولا مجرم – أقصد المجاهدين – قلت لك ما أعرف أحداً منهم، نحن نعيش في القرية منذ سنتين، في المدرسة، وأتينا منذ شهر واحد إلى حماة .
- وإذا عذبناك ؟
- إن شاء الله أموت قبل ما تعذبوني . – لا، لا أرجوك لا تموتي، غريب عزرائيل خدامكم .....متى تطلبونه يحضر حالاً!!!......
- وأخيراً لا بد من الدولاب، فتعذب منى وفاطمة ما شاء الله، ويتعذب حسن وروعة ذات الأعوام الستة فقط ما شاء الله، ومن خلال التعذيب يقول يحيى زيدان :
- يا منى، ما رأيك تتزوجيني، وأربي إخوتك، لكن تخلعي هذا الجلباب الوسخ، لا تخافي من أهلك، أهلك ماتوا كلهم، اخلعي هذا الوسخ، والبسي تنورة أو بنطال، والله أنت جميلة .
- لا، أنا لا أتزوج مثلك من يعذب الناس ويقتل الأبرياء . – غريب، أهلك ماتوا كلهم،وما زال الدين معشش في دماغك .
- إذا مات أهلي فإن الله حي لا يموت، والله لأكويك بالكهرباء يا .......
وتصبر منى وفاطمة وحسن وروعة على العذاب ستة أيام كاملة، كان أقسى ما فيها تألم رامي المريض أمامهم ولا أحد يعتني به .
* * *
- اسمع، الساعة الثانية عشرة، احملهم إلى حيهم وارميهم هناك، وأخبر عملاؤنا أن يراقبوا من يتولى أمرهم، فلعلنا نكتشف من يهتم بهم، فنعتقله ليدلنا على المجرمين .
وحمل الأطفال الخمسة في منتصف الليل ليتركوا في شوارع الحي يدورون ليلاً .
- يا منى نذهب إلى عمتي .
– عمتك تكون عندهم الآن، في المخابرات أخذوا كل أقاربنا .
- نذهب هناك أولاد عمتي، يا الله إذا تعبت هاتي أحمل عنك رامي .
- لا، ما تعبت بعد، رامي جاع كثيراً يا حسن .
– نصل إن شاء الله ونجد عمتي .
ويمشي الأطفال الخمسة، مسافة غير قصيرة، ولا أحد من الناس في الشارع إلا المخبرون فقط راحوا يتابعونهم ليعرفوا من يتولى أمرهم، ويمشي الأطفال حتى وصلوا دار عمتهم أرملة الشهيد وأخت الشهيدين، فلم يجدوا أحداً، ودقوا الباب فلم يفتح أحد .
سأدق هذا الباب، اسمعوا لعلهم يفتحون
– من
– أنا حسن ومعي أخواتي نحن أولاد أبي حسن
– ويجهش صوت بالبكاء وهو يردد لاحول ولا قوة إلا بالله، لكم الله يا بني، والله لو فتحنا لكم أخذونا إلى الفرع، لكم الله يا أولاد، وينصرف الإخوة وتبكي منى وقد تعبت من حمل رامي، فيقول لها حسن : لا تبك، ألم تقل لنا أمي إن الله معنا والله يتولانا، فلم تبكي، وتعطي منى رامي إلى فاطمة فتقول فاطمة : يا منى رامي يموت ...
- لا، لا تخافي يمكن نايم، أجاب حسن، والله يموت وتجهش فاطمة بالبكاء، فيسرع حسن إلى أقرب باب ويدقه .
- – من
- نحن أولاد أبي حسن، أخي الصغير يموت من الجوع والبرد افتحوا الباب، أيها المسلمون، الأعمار بيد الله، لا يصيبكم إلا ما كتب لكم، افتحوا الباب، أخي الصغير، رامي، رامي يموت ، رامي ابن الشهيد، وابن الشهيدة، رامي أخو الشهيدتين يموت من الجوع والبرد، لقد فداكم أبوه بروحه وبأرواح بناته، أتتركون ابنه الصغير رامي، أتتركون رامي يموت من البرد والجوع ولاتفتحون لنا بيت بيتكم لنحمي أنفسنا من البرد !!............
وتتجاوب أصوات الرجال من خلف الأبواب يبكون كالنساء،ويرتفع نحيبهم ويقولون، والله أنتم بالقلوب يا أولاد الشهيد، لكن ...........
لكن ....... ماذا (يقول حسن)، افتحوا الباب لا تخافوا، أتتركونا نموت من البرد والجوع .
ويلفظ رامي أنفاسه بعد أن اختلج خلجتين فقط كعصفور صغير سقط من عشه قبل أن يطير، لا يقدر على الأكل لوحده، فمات العصفور الصغير، مات رامي، في شوارع الحي الذي فداه أبوه بروحه، وأهل الحي يبكون كالنساء، تبكي الرجال مثل النساء بعدما حول الوهن الرجال إلى نساء، بل أقل من النساء .
- ماذا نفعل برامي يا منى ؟، قالت فاطمة . – هات أحمله . – خذي جثمانه لقد مات ...
ويضع الإخوة جثمان أخيهم على الأرض يبكون حوله، حتى مر بهم مؤذن المسجد وهو ذاهب يؤذن للفجر، فيقف حسن : يا عم، يا عم، اسمع يا عم، ولا يرد عليه العم وكأنه لا يسمع فيتابع حسن، يا عم اسمع مات أخي، خذ جثمانه، صلوا عليه، ألا تصلون على الأموات، خذه صلوا عليه، عندئذ يقف المؤذن وهو يبكي بكاءاً مراً ويقول لهم : اتركوه واذهبوا عنه وسوف أمر بعد دقيقتين من هنا فآخذه إلى المسجد نصلي عليه ثم ندفنه، وما شاهدتموني أبداً، ولاسمعتم كلامي، ثم يشتد بكاؤه ويقول : والله ما أقدر إلا على ذلك، لقد حذرونا أن نساعد منكم أحداً، وإذا سألوني لماذا أخذت الميت، سأقول حتى ما تفوح رائحته على الناس، أما أنتم فلكم الله .
يعني أنتم فقط وظفوكم من أجل الصلاة على الأموات، قال حسن، ألا تأخذنا نصلي معكم في المسجد، نريد أن نصلي الصبح .
– يا بني، الله يرحم أبيك، لا تذهبوا إلى مسجدنا، إنهم يراقبونكم وسوف يدمرون الحي كله من أجلكم . ويدمرون المسجد أيضاً لأنهم لايخافون الله ...
– يعني المسجد فقط للصلاة على الأموات .
- نعم، هكذا يريد الأســد .
وترك الأطفال الأربعة جثة أخيهم رامي لوحدها وغادروها، فعاد لها المؤذن وحملها إلى المسجد .
ومشى الأربعة في شوارع الحي، وفي شوارع حماة، ليلاً ونهاراً يبحثون عن مأوى وعن طعام .... الجوع والبرد والحزن والخوف ....ولا أحد يجرؤ أن يفتح لهم باب بيتـه، وما زالوا يبحثون .... ويجلسون في الشوارع .... شوارع الحي الذي يعرف عنهم كل شيء، الحي الذي يحبهم ويحب أباهم، ولكن الوهـن سيطر على قلوبهم، ومازالوا يجوبون شوارع حماة، حيث الركام، وحفر القذائف تملأ الشوارع، وكان البطل الشجاع من الأهالي يرمي بقايا طعام كأنه قمامة، فيسرع له هؤلاء الأطفال يقتاتو ن به، ومرت بضعة أيام حتى غامر بعض المجاهدين، وفي زاوية مطمورة من الشارع، أخذوهم في سيارة، للمرة الأخيرة فأوصلوهم إلى عمان .
وأشهد أنني قابلت محموداً بعد أن تخرج من كلية الطب ....فسبحان الله ...هو المربي ..نعم المولى ونعم النصير ...
تمت المسودة الأولى للرواية في السابع عشر من رمضان المبارك 1404 هـ .
|