تصويت

ما تقييمك للموقع ؟
 

المتواجدون الآن

يوجد حاليا 39 زوار 
حرب الساعات الست

حرب الساعات الست

رواية تاريخية إسلامية ، كتبت عام (1984)، تعالج حدثاً تاريخياً كبيراً جداً في جيلنا – نحن جيل الاستقلال – تعالج حرب الأيام الستة بين الأنظمة العربية التقدمية والصهاينة ، التي انهزمت فيها الأنظمة التقدمية العربية ، وسلمت الجولان وسيناء والضفة الغربية للصهاينة ، وتشبه إلى حد كبير رواية كوهين في سوريا ، ودماء على الجولان ، فالمسؤولون والطروحات ، والتقدمية والرجعية ، والتنكيل بالدعاة ، كان يجري في البلدين ، وإن كان عبد الناصر له قصب السبق في محاربة الحركة الإسلامية ....

الكاتب : الدكتور عبد الله الدهامشـة ( خالد الشنتوت )

(1)

- اسمك منذ الآن ( آرام نوير ) وليس ( باروخ ماندل ) .قالها (فيشل) رئيس الموساد الصهيوني .

- من هو آرام نوير ؟ ولماذا ؟

- سوف تعرف كل شيء من فريق المدربين الممتاز الذي اخترته لك ، وإياك أن تنسى المهمة الأساسية لك وهي : تدمير سلاح الجو المصري .

*      *      *

مرت الأيام مشحونة بالعمل والتدريب ، حيث تعلم ( آرام نوير ) لغة الترك ، ودفن آرام نوير الحقيقي ( التركي ) الذي استدرجته الموساد من استامبول إلى تل أبيب بعد دراسة كافية حول وضعه الاجتماعي حيث يعيش في استامبول بلازوجة ولا أولاد ، وليس له ثمة أقارب يهتمون بـه ، وسلبت كل أوراقه الشخصية التي بحوزته ليمتلكها ( آرام نوير ) الجديد . وعرف ( آرام نوير ) أن مهمته تمر بمراحل ثلاث : 1- السفر إلى استامبول وبيع جميع ممتلكات ( آرام نوير ) وتصفية أمواله هناك . 2- مغادرة استامبول إلى باريـس . 3 – دخول القاهرة .

*      *    *

لم تكن أشهر التدريب سهلة ، لولا القدرات العقلية المتفوقة عنده ، فالتكلم بالتركية ، ثم الفرنسية ، ثم العربية ، والاطلاع على الدين الإسلامي ، وممارسة بعض شعائره ، ثم التدريبات العسكرية اللازمة لاستخدام الجهاز اللاسلكي ، وفك أجزائه ثم إعادة تركيبها ليسهل نقله من دولة إلى أخرى ...ثم دراسة نفسية الإنسان العربي المصري ، والأحوال السياسية والاجتماعية في مصر ، ومهما كثرت التدريبات فإن الإيمان العميق  بسمو الهدف، والتضحية من أجل إعادة كيان إسرائيل وإقامة مملكة سليمان، إلى جانب الذكاء اللامع ، وفريق المدربين العظيم ، ذلك كله جعل المهمة ممكنة ، حتى أصبح ( باروخ ماندل ) خلال سنة واحدة نسخة مطابقة ل ( آرام نوير ) .

*     *     *

استدعاه فيشل ليودعه في مكتبه قبل سفره بيوم واحد ، واستقبله عند الباب وهو يقول : أهلاً ، آرام ، طلبتك لأودعك وأذكرك بأن مستقبل إسرائيل يتوقف على نجاح مهمتك ياعزيزي آرام ، سيكون معنا إله إسرائيل ، هل فهمت الوسيلتين الذهبيتين ؟ - نعم ، الخمر والنساء . – كما عرفت ، استخلص حكماؤنا بعد دراسات طويلة حول الإنسان العربي المعاصر المتحرر من دينه الإسلام ، هذا الإنسان يعبد الخمر والنساء ، كما كان أجداده يعبدون اللات والعزى ، ومن البدهي أن حكماءنا لهم أصابع طويلة ، لاتسمح لغير هؤلاء المتحررين من الإسلام بالوصول إلى كراسي الحكم ، ومواقع المسؤولية ، لاتسمح لغير هؤلاء ( التقدميين ) الذين تحرروا من دينهم ، وتمنع ( الرجعيين ) الذين يحافظون ويتمسكون بدينهم ، تمنعهم من الوصول إلى مواقع المسؤولية ، لأننا لانستطيع أن نحركهم كما نريد ، سوف ترى ياعزيزي أنك تتعامل مع ( الجوييم ) يحبون المدح والإطراء كثيراً ، فأجزل لهم المدح والإطراء ، وانفخهم حتى ينتفخوا كالطبول الفارغة ، ابذل الأموال عليهم ، ألم يعلموك في الموساد تجارة السلاح ؟ - بلى علموني ذلك ... – وتجارة السلاح تدر أموالاً طائلة تغطي ماستنفقه عليهم بسخاء ، ومن ورائك خزينة إسرائيل كلها تحت أوامرك ... وأخيراً أنت ذكي ، ومؤمن بإله إسرائيل ، وهذا لايغنيك عن التعاون التام الدقيق مع رجال الموساد في استامبول وباريس والقاهرة ، الذين سيكلفون بتسهيل مهمتك العظيمة ...ثم خرج معه إلى باب المكتب ، وعانقه ، وشد على يديه قائلاً : سيكون إله إسرائيل معك ... ثم عاد ( فيشل ) إلى مكتبه يرفع نظارته عن عينيه ثم يمسحها ، ثم يغمض عينيه ويسرح في روابي التأمل يسبق السنوات ليرى هيكل سليمان في القدس ، ويرى إسرائيل من الفرات إلى النيل ، وموسكو وواشنطن يخطبان  ود الدولة العظمى ( إسرائيل) ، ثم يفتح عينيه ويقول لنفسه :  أصابع الموساد طويلة ، تمتد إلى أي مكان ..

*   *     *

- هبطت طائرة خطوط شركة العال الإسرائيلية قادمة من تل أبيب ، تردد هذا البيان في صالة الاستقبال بمطار أتاتورك الدولي في استانبول ، ودخل تواً سائق تكسي إلى الصالة ، ثم صعد إلى الشرفة ينظر إلى ركاب الدرجة الأولى عند هبوطهم سلم الطائرة ، ويتفرس فيهم جيداً ، ثم قال لنفسه :

- هو ذاك ، يكاد أن يطابقه ، وتابعه حتى خرج من الصالة فتقدم نحوه وحياه بأدب جم وقال : _ هل تريد تكسي ياسيدي مستر آرام ؟ ، نظر ( آرام ) إليه ورأى ربطة العنق المتفق عليها ، ثم لبث صامتاً ينتظر الخطوة الثانية في التعارف ، فأخرج السائق علبة السجائر المذهبة ، وأخرج منها ثلاث سجائر ( بول مول ) قدمها له وقال : - هل تدخن ياسيدي ؟ أخذ ( آرام ) السيجارة ووضعها في فمه ، وقال : _ أين سيارتك ؟ - هذه هي . فنظر ( آرام ) إلى لوحة السيارة ورقمها الذي ينتهي بالصفر، وهي الخطوة الثالثـة والأخيرة في التعارف .

- عندما انطلقت السيارة مخلفة المطار وراءها ، قال ( آرام ) : أتعرف البيت جيداً ؟ كما أعرفك ياسيدي ، هل نسيت بيتك ،( وضحك ) . سكت ( آرام ) ولم يجب ، بينما راحت السيارة تنهب الشوارع ، شوارع آخر عاصمة للخلافة الإسلامية ، وتجوب ساحات مملوءة بالناس ، دخلت الحي القديم قرب السليمانية ، وهناك اتجهت يميناً ؛ حتى وصلت أخيراً إلى بيت ( آرام نوير ) الحقيقي .

- نزل ( آرام ) الجديد ودخل البيت بعد أن عرفه السائق بالبيت والحديقة والسور ، وأعطاه بطاقة باسم مكتب التكسي فيها رقم الهاتف ، ثم قال : أي خدمة ياسيدي ؟ هل تسمح لي بالانصراف ؟ ثم مضى .

يقول الإعلان الذي ألصق بالحي وساحاته ( آرام نوير يبيع داره وعقاراته ، لأنه سينتقل إلى باريس )، وانتشر الخبر في الحي ، الذي لم يأسف على ( آرام ) الثري الذي لم ينفع الحي ، بل كان يعيش لنفسه ، ويكدس الأموال من حلال أو حرام ، ويسلب الفقراء لقمة عيشهم ، حتى أن أهل الحي أطلقوا عليه لقب ( اليهودي ) ، وقد زادت نقمة أهل الحي عليه عندما عرفوا أنه سافر إلى إسرائيل ، وبقي قرابة سنة فيها ، يبحث عن مشاريع جديدة يمص منها الأموال ، لذلك كانت الفرحة بادية على وجوه سكان الحي، وصاروا يهنأون بعضهم ، ويقولون عسى أن تعجبـه باريـس، ويبقى فيها طول حياته ، وفي باريس تهريب السلاح إلى إسرائيل وسيكسب أموالاً كثيرة ؟؟؟ وفي أيام قليلة باع الدار وجميع العقارات ، ثم دفعها في البنك، ليحولها إلى باريس ،وطلب سائق التكسي الذي أوصله إلى المطار .

(2)

- سيداتي آنساتي سادتي ، نهبط الآن في مطار باريس ، أرجو أن تشدوا الأحزمة ، وأن تتوقفوا عن التدخين ، قالت المضيفة باللغة الفرنسية حيث تتلاحق السينات في جرس فرنسي خالص .

أجرى معاملاته في المطار  ثم حط رحاله في فندق شيراتون ، حيث الدبلوماسيون العرب والمسلمون يبذرون أموال شعوبهم على موائد القمار ، ونعال المومسات ، وبعد ثلاثة أيام ذهب إلى الاستقبال بالفندق وقال له :

- عندما يصل جزائريون أخبرني، أود مقالبتهم ، - يوجد جزائريان منذ أيام عندنا، يشربان القهوة عصر كل يوم في حديقة الفندق... – هل هم عملاء الفندق ؟ - نعم منذ فترة طويلة ...

*     *     *

كان ذلك العام (1954) بداية الثورة الجزائرية ، ومازالت تتعثر في الحصول على السلاح ، وهذا الجزائريان مندوبان للثورة يبحثان عن السلاح في أسواق باريس السوداء ، ودهاليز فندق الشيراتون ، وفي عصر اليوم التالي كان ( آرام ) يجلس في حديقة الفندق الجميلة ، ومعه عدد من الصحف والمجلات التي خصصت خطوطها العريضة وعناوينها الكبيرة للثورة الجزائرية ،لأنها كانت حدث العام الأهم ، انطلقت في الفاتح من نوفمبر (1954) تحطم قيود الذل والاستعباد ، واقفة ضد أوربا الصليبية التي زحفت على الجزائر ،تحت ضغط الحقد الصليبي الأعمى ، وكانت صور المجاهدين بأسلحتهم القديمة ، ووجوههم الصارمة ، تؤكد العزم على طرد المستعمر، وتقسم بالله أنها ستحرر أرض الجزائر الطاهرة ، وتطرد الصليبيين منها .

تظاهر ( آرام ) بالاهتمام بهذه الأنباء ، فراح يقلب الصحف والمجلات ، وبدت فرحته عندما وصل الجزائريان وجلسا على كراسي مريحة وسط الحديقة يشربان القهوة مع قطع ( الكاتو ) الفرنسية الصنع .

- هذا الرجل مهتم بثورتنا ـ كيف عرفت ؟ - انظر ألا ترى كل الصحف والمجلات التي يحملها تتحدث عن ثورتنا . _ يبدو عليه الثراء ، وقد يكون هو ضالتنا التي نبحث عنها – أندعوه إلى قهوتنا ؟ - حسناً افعل .

قام أحدهم واقترب من آرام ثم حياه باحترام : بنجور مسيو – بنجور – ألاتشرفنا على القهوة الجزائرية ( بالفرنسية طبعاً ) – إذن أنتما جزائريان ( قالها بالعربية ، وهب واقفاً وقد غمره الفرح ) – نعم نحن جزائريان – يشرفني ذلك ، وأنا مسلم تركي ، آرام نوير ، من استامبول ، أقيم هنا حالياً ، وأنا مهتم جداً بالثورة الجزائرية المباركة ، إنها أمل المسلمين في العالم ، للتحرر من الاستعمار الأوربي الصليبي الذي نهب خيرات العالم العربي والإسلامي ،  هل ما نقرأه في الصحف صحيحاً ؟ - لاتوجد صحف في العالم اليوم تكتب الحقيقة إلا ماندر ، ومازالت الصحافة العالمية منبهرة بالثورة الجزائرية ، لكن كما تعرف اليهود مسيطرون على وسائل الإعلام ، لذلك يتحركون لمحاربة ثورتنا ...

*     *      *

أعجب الجزائريان بعواطف آرام النبيلة الإسلامية ، وكانت قناعتهما تزداد عصر كل يوم عندما يشربون القهوة معاً في الحديقة ، ثم كانت القناعة الأخيرة عندما تقدم آرام بشيك حرر فيه خمسة آلاف دولار وقدمه لهما قائلاً : هذا تبرع مني للثورة الجزائرية، لأن الجهاد فرض على المسلمين ، وأنا أشارك بمالي ، عندما لا أشارك بنفسي ، وهذا قسط أول ، وأخذا الشيك وعادا إلى الغرفة ...وقال أحدهم : - لماذا لانطلب منه مساعدتنا في البحث عن السلاح ؟ - هذا أمر سري جداً ولم نتأكد تماماً من الثقة في الرجل ، مع أنه يبدو عليه الطيب والشهامة ، إنه مسلم ، لقد رأيته يصلي أمس في الحديقة ، وفي يوم الغد :

- مالي أراكما قلقين مهمومين ؟ - عندنا مهمة صعبة جداً ولم نوفق لها حتى الآن ! – وماهي هذه المهمة ؟ . نظر أحدهما في وجه الآخر ثم قال :- نريد التعرف على تاجر سلاح يزود ثورتنا بالأسلحة ، لأن ثورتنا بحاجة ماسة للسلاح .- وهل هذا الأمر صعب !!؟ - نعم ، لاتنس أننا في باريس !! فمن يجرؤ على التعاون معنا !!؟ - أنا أجرؤ على ذلك !! – أنت !! نعم ، أنا تاجر سلاح مخضرم . – ألا تخاف منهم !؟ - المسلم لايخاف إلا الله !! هل يخاف المجاهد الذي يقدم روحه في الأوراس !! فلماذا أخاف أنا في باريس . – ولكن كيف تحصل على السلاح !!؟ - هذا سـر المهنة ( وضحك ) . ثم قال : قدما لي قائمة بالأسلحة المطلوبة ، ومكان التسليم المفضل ، والباقي علي بإذن الله .. – والمال !! – لا أريد منكم سوى الكلفة فقط ، أعتبر عملي جهاداً في سبيل الله ، سأستلم منكم ما أدفعه فقط ...

*    *    *

وتدفق السلاح على الثوار الجزائريين ، فتعجب الملحق العسكري المصري ، وكان مكلفاً من حكومته بتوفير السلاح للثورة الجزائرية ، وكان على صلة مستمرة بشيراتون ، ملتقى التجار الدوليين في باريس ، لذلك طلب من الجزائريين التعرف على ( آرام ) ... ووافق آرام على ذلك ،  وفي غرفة آرام دخل الملحق العسكري المصري ، فقال أحد الجزائرين لآرام : العقيد شحاتة عبد العظيم، ضابط مصري ،  وهو من أعواننا في تأمين السلاح للثورة ، يريد أن يتعرف عليك ، بعد أن أدهشته شحنات السلاح الكبيرة للجزائر ...

- أهلاً وسهلاً ، تشرفنا يا فندم ...قالها ( آرام ) وهو يبتسم فرحاً ... وقال في نفسه : هذا هدفه الثمين ، ساقه إليه بسرعة إله إسرائيل ، ساقه بهذه السرعة والسهولة ، لذلك تظاهر آرام بعدم الاكتراث ، سوى واجب الضيافة ، ثم قال : آرام نوير ، مسلم تركي ، تفضل أهلاً وسهلاً ، أنت في بيتك ، هل تشرب القهوة التركية ؟ قال العقيد شحاتة : نعم ، لأنها لم تبق تركية بل أصبحت عربية أيضاً ، وضحك الجميع ، وبينما كانوا يرتشفون القهوة ، كان العقيد شحاتة يمعن النظر في وجه آرام كي يتعرف عليه قبل فوات الأوان ، ويصغي لكلماتـه ونبرات صوتـه ، أما ( آرام ) فلم يكن مكترثاً ، بل كان يجيب على أسئلة شحاتة ببساطة وبدون تكلف .

كان العقيد شحاتة عبد العظيم طياراً ماهراً ، يقود الطائرات المقاتلة بشجاعة ، ويدرب صغار الطيارين عليها ، وكان متفوقاً وماهراً في القيادة والتدريب ، غير أن حكومته كغيرها من الحكومات العربية التقدمية ، تضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب ، لذلك أبعدوه عن تخصصه الذي تفوق فيه ، بعدما لاحظ عبد التاصر أن شعبية العقيد شحاتة تزداد يوماً بعد يوم ، فخاف عبد الناصر من منافسته له ، فأخرجه من القوات المسلحة ،وكلفوه بعمل لايفقـه فيه شيئاً ، وكلف برئاسة لجنة مشتروات سلاح الجو المصري ، ثم آل به المطاف إلى ملحق عسكري في باريس ،وأما غيره في البلدان التقدمية فكانوا ينقلون الضابط الذي يشك النظام بولائه للحاكم الفرد ، ينقلونه من الجيش ، ومن قيادة الكتيبة أو اللواء إلى محاسب في وزارة الزراعة ، أو المواصلات ، أو مدير مستودع أخشاب في وزارة الأشغال العامة ، لذلك لم يكن العقيد شحاتة معداً إعداداً أمنياً ونفسياً يتمكن فيه من التعرف على شخصية ( آرام ) . بل منحه كامل الثقة منذ اللقاء الأول لأنه حمل عنه عبئاً ثقيلاً وهو توفير السلاح للثورة الجزائرية ... وفي اليوم التالي قبل شحاتة عبد العظيم الدعوة إلى طعام الغداء مع السيد ( آرام ) ..

*   *    *

لعل أعظم ما يشد السائح العربي في باريس سهولة المواصلات الداخلية ، حتى أن استخدام (مترو) الأنفاق أفضل من السيارة الخاصة بكثير ، وأوفر في الوقت والجهد ، وكلما جلس شحاتة عبد العظيم في ( مترو) الأنفاق يتذكر اختناقات السير في القاهرة عامة ، وقرب القصر العيني خاصة ، الذي يستغرق عبوره ساعة كاملة لبضع كيلومترات ... ، وعلى الرغم من تعلّق المصريِّ بتراب وطنه، فقد ألف (شحاتة عبد العظيم) باريز وأحبها، ومن شدة تعلقه بها كان يحلم لو تُنقَلُ شوارِعُها وأنفاقُها إلى القاهرة، وكان يتلذذ بمترو الأنفاق في أحلام اليقظة يعبُر شارعَ القصر العيني في ثلاث دقائق فقط، وأكثر من مرة انقطع شريط أحلامه عندما يشدّ انتباهَهُ بشكلٍ قسري رجلٌ وامرأةٌ على بُعدِ قدمٍ واحد منه،يتعاشران في هدوء ، فيعود إلى اليقظة ويقول لنفسه:

- عندما نأخذ المترو لن نأخذ معه هؤلاء وأمثالهم .

وصل إلى حدائق برج إيفل الغناء، وترجّل ماشياً على ممرّاتها النظيفة بين مروجها الخضراء حيث تناثر الصِّبيةُ فوقَها كفراشات الربيع الملوّنة، تتطاير من زهرة إلى زهرة، وفي الثانية بعد الظهر كان في كازينو إيفل يتناول طعام الغداء بدعوة من (آرام نوير)، كانت باريز تمتد أمام ناظريه إلى ما لا نهاية، تتطاول أشجارها حتى تكاد أن تغطي بعضَ عماراتها، وقد تقاسم اللونُ الأخضرُ مع الأبيض مساحةً كبيرة من الأرض يتوسطها نهرُ السين الغزير، تطفو على سطحه قطارات النقل المائي وقوارب النـزهة، وتمرّ نسمات باردة تشحن الذهن وتفتح النفس على الحياة ونعيمها والتمتّع بخيراتها العاجلة قبل فواتها.

بالغ (آرام نوير) في إعداد وجبة الطعام، فتنافست فيها الأصناف الأوربية مع العربية، بينما تصدّرت الأطعمةُ التركية الأماكنَ الأساسية في المائدة، وتناثر الصنوبر والجوز واللوز المحمّر بالسّمن ذي الرائحة الزكية فتفتّحت كلُّ دوافع الحياة والشَّهْوة عند (شحاتة عبد العظيم)، أما (آرام) فكان يُكرّر الترحاب بضيفه العزيز ويكرر الاعتذارَ المرّة بعد المرة، فإنه لم يُحضِر شيئاً من واجبك يا سعادة الجنرال، وكان ينتبه إلى الانفعالات الموجبة في قسمات وجهه، المعبّرة عن رضاه وعن شعوره بالسعادة، وقد هيأ له صديقُه الجديد كلَّ متطلباتها في نظره وقيمه، وهي الماءُ والخُضرة والـ...

- إنها مائدة رائعة يا عزيزي (آرام) !

- لم يحضر شيء من واجبكم سيدي الجنرال.

- إن مشاعر المكان يا عزيزي (آرام) تحثّني أن أستأذن منك بشرب بعض الكؤوس.

- آه.. معذرةً وألف معذرة يا سيدي الجنرال.

ثم صفّق بكفيه فحضر الجرسون.

- هات مشروبات للجنرال.

فاتّجه الجرسون نحوَ (شحاتة عبد العظيم)، وانحنى حتى كادت أن تصل هامته إلى الأرض، ثم قال:

- ماذا أمر سيدي الجنرال ؟

- زجاجة ويسكي واحدة وقطع ثلج.

- حاضر سيدي الجنرال.

- هات اثنتين لي أيضاً . قال (آرام).

- حاضر مسيو.

- هل تستطيع أن تشرب اثنتين يا (آرام) ؟ . قال (مدكور).

- الثالثة احتياطي عام لك ولي.

واندفعا ضاحِكَين والطعام يتطاير من فميهما، فيسرع (آرام) إلى مناديل الورق يمسح بها أكمامَ الجنرال.

- بصحة سيدي الجنرال . ويرفع (آرام) الكأس.

- لم أُصبِحْ جنرالاً بعد.

- أنت عندي جنرال.

- كان ذلك ممكناً لو أنهم تركوني في القوات المسلّحة.

- ولماذا لا تعود إليها ؟

- ذاك شأنهم في القاهرة.

بعد أن شرب ( العقيد شحاتة) الكأس الرابعة، بدأت نظراتُهُ تبحثُ في زوايا الكازينو، حيث تجلسُ بعضُ الفاتنات وقد عَرَضْنَ أَكداساً من اللحم الأبيض لَفَّهُ معطفٌ قصيرٌ من فرو النمور، وتدلّى عقدٌ من الذهب فوق صدر عارٍ أحاطت به قطيفةٌ سوداء رُصِّعَتْ بقطع الماس تعكس الأضواءَ إلى الألوان المتعددة في وَجْهٍ عَلَتْهُ غابةٌ صغيرةٌ من الشَّعر الذي صُفِّفَ عالياً مثل (نفرتيتي ) فصار كسنام البُخْت، كانت إحداهُنَّ تُداعِبُ سيجارةَ الكنت بأصابع طالتْ أظافرُها الحمراء، وتسرق النظرات إلى الجنرال.

- إنها لَجَمِيلةٌ حقاً !

- مَن ؟

- التي تنظر إليك، إنّ شكلَكَ يُنبِئُ بأنك جنرال فعلاً.

انتفشَ رِيشُ (شحاتة عبد العظيم) وزاف دماغُه، فقال:

- وما قيمةُ هذه النظرات ؟

- يبدو أن حُبَّكَ للطائرات لم يترُكْ في قلبك زاويةً لَهُنّ.

- لكنَّ هذه أقوى من (الميج).

- إذاً هي (ميراج).

وساد الضَّحِكُ والشراب.

- هل أنت عازبٌ يا عزيزي (آرام) ؟

- أحياناً.

ضحك (شحاتة عبد العظيم)، وقال:

- لم أفهم.

- وأنت يا سيدي الجنرال ؟

- أنا عندي زوجةٌ في القاهرة.

- يعني أنت عازب أحياناً أيضاً ؟

- ما هو سِرُّك يا عزيزي (آرام) ؟

- المال .. المال وتجارة السلاح التي تُوَفِّر الملايين، وبها أشتري أيَّ شيء، حتى ذلك اللحمَ الأبيض، وما صاحبتُ أحداً إلاَّ وشاركْتُهُ في لَذَّاتي، فَاللَذَّةُ تَقْوَى كُلَّما كانت أكثرَ شُمولاً ودواماً، كما يقول الفيلسوف (بنتام).

انضمَّتْ فاتنةٌ أُخرى إلى الأولى، ثم صَحِبَتْها إلى مائدتِهما.

- هل تسمحا لنا بالجلوس ؟

- على الرَّحْب والسَّعة.

- أنا (سُوزي) وزميلتي (سوزا).

- وأنا (آرام) وزميلي (شحاتة).

- غريب .. ما هذا التجانُسُ في الأسماء ؟

- لا غرابة .. إن الطيور على أشكالها تقع.

وساد الضحك واندمج (شحاتة) معهم فقال:

- لا تنسَوْا أن هذا مَثَلٌ عَرَبي.

- العربُ أذكياء . قالت (سوزي).

- وهل العجم أغبياء ؟ قال (آرام).

- لا تغار يا عزيزي (آرام).

وانفجر الأربعةُ ضاحكين .

*       *       *

قبل المغيب ذهب (شحاتة) مع (سوزي)، و(آرام) مع (سوزا) في سيارتين إلى وِجهتين مختلفتين، وفي طريقه إلى شيراتون كان (آرام) معجباً جداً بالنصر العظيم الذي حققه، فبعد قليل تلتقط الكاميرا صوراً عارية لشحاتة وهو في حالة هيجان ثوري، بعد أن أوكل به أذكى يهوديات باريز، إنها (سوزي) التي عَرَفَها في يافا قبل أكثر من عشر سنوات عندما بهره جمالُها، ثم غطَّى ذكاؤها ما عندها من جمال، كما أعجبه تمسكُها بِصِهْيَونِيَّتِها، وتذكَّر كيف قَدَّمها إلى (فيشل) مدير الموساد الذي لامه يومَها على سكوته على هذا الكنـز وعدم إفادة شعب إسرائيل منه، وعندما قال لفيشل:

- إني أُحِبُّها يا سيدي، وسأتزوّجها.

- هل تحبُّها أكثرَ من أرض الميعاد ؟

- لا .

- إذاً يجب أن تُجَنَّدَ في الموساد.

ومن ذلك اليوم أصبحتْ (سوزي) رفيقةَ عمل، بل يداً طويلةً لآرام يُمسك بها صَيدَهُ الثمين، وَتَحَوَّلَتِ الحبيـبةُ إلى أداة.

مَرَّتْ أَسابيعُ غيرُ قليلة، وبعض الشحنات تَصِلُ إلى الثوّار الجزائريين، وبعضها يقع في يد السلطات الفرنسية، وكأنها تدري بخطّ سيره زماناً ومكاناً، حتى انكشف أمر (آرام نوير)، مهرِّب السلاح للثورة الجزائرية، فَغَضِبَتِ السلطات الجزائرية، وَوَجَّهَتْ له إنذاراً لِمُغادَرَةِ البلاد خلال ثمانٍ وأربعين ساعة فقط.

لم يرتبك (آرام)، بل فرح لأن المرحلة الثالثة من مهمته قد اقتربت، وإنْ لَبِسَ ثَوبَ القلق والحيرة عندما أخبر صديقَه (شحاتة) بذلك، الذي حَضَرَ على الفور.

- أرجو ألا تكون قَلِقاً يا عزيزي (آرام) .

- كيف لا أقلق، وأنا أبحث عن مأوى، ظَنَنتُ أنني في بلد الحرية باريز، حيث يُحتَرَمُ الإنسانُ، وَتُصانُ حُقوقُه.

- لا داعي للقلق، لقد أبرقْتُ إلى القاهرة قبل ساعة، وسوف يأتيني الجوابُ حالاً.

- لكن كيف أعيش في ظِلِّ حُكمٍ عسكري ؟

- أنتَ مُناضِلٌ تَقَدُّمي يا عزيزي، وبلدنا لكلِّ التقدميين، هل نَسِيتَ أنك طُرِدتَ من باريز لأنك تُساعِدُ الثورةَ الجزائرية ؟

- لكن هل يستطيع مثلي أن يَعِيشَ في القاهرة ؟

- القاهرة الآن من كبريات العواصم العالمية المتقدمة، ولن ينقص عليك شيءٌ سِوَى (سوزي)، سَتَبقَى لي.

*     *      *

قبل ثمان وأربعين ساعة وَافَقَ (آرام) على مَضَض، وفي يوم 22 نوفمبر 1954م وصل مطارَ القاهرة؛ لِيَجِدَ مُوَظَّفاً من وزارة الدفاع يستقبله بالمطار وَيُرَحِّبُ به ضيفاً على وزارة الدفاع، ثم رافَقَهُ حتى فندق شيراتون الذي ارتفع عالياً على ضفة النيل الغربية وسط حدائق غَنَّاء تُحيط به الساحات والشوارع العريضة.

- ما أجملَ القاهرة، إنها تُضَاهي باريز فعلاً . قال (آرام).

- هذه مِصرُ، أُمُّ الدنيا، حَضارةُ سبعة آلاف سنة، تُرَحِّبُ بكم يا سيدي .. ثم اسمحْ لي بالانصراف لتأخُذَ قسطاً من الراحة.

*        *        *

بعد أنْ أغلق بابَ شقته جيداً، أَسرَعَ إلى حقائبه يبحث فيها عن قطع جهاز اللاسلكي، فجمعها وركَّب الجهاز، ثم ضَحِكَ عندما تَذَكَّر كَيفَ حَمَلَ مُوَظَّفُ الجمارك أمتعته، ولم يسمح لأحدٍ أن يفتَحَها، وهو يقول لنفسه:

- ها قد وصلتَ القاهرةَ يا (باروخ)، وغداً تلزمك شقةٌ في أرقى أحياء مصر.

عندما عاد إليه مُوَظَّفُ وزارة الدفاع طَلَبَ منه (آرام) البحثَ عن فيللا في مكان من أرقى أحياء القاهرة، فعثر عليها في (هيلو بوليس)، حيث بقايا الإقطاع، والبرجوازيون أصبحوا قِلَّةً أمام الفراعنة الجُدُد، رجال الثورة والحزب الواحد والمخابرات، الذين انهال عليهم الثراءُ بشكلٍ مُفاجِئٍ من أموال الشعب وأقواته ، وصاروا يتسابقون إلى امتلاك الفلل وسيارات المرسيدس السوداء .

كانت الفيللا واسِعَةً جداً، تحوي أربع حجرات، وصالةً كبيرة للاحتفالات، وحديقة غناء يجلس على بابها رجل صعيدي يقوم بالحراسة، وتدخل إليها خادِمَةٌ تنظِّفُها مَرَّةً كُلَّ يوم، أَغدقَ عليهما (آرام) الهبات والعطايا، فَأَحَبَّاهُ من أعماقِ قلبيهما، وَتفانيا في خدمته والسَّهَر على راحته ، كعادة الشعب المصري الطيب .

*    *     *

دخل الفيللا ضابط جَوِّيٌّ طويل القامة، عريض المنكبين، بعد أن استأذن له البواب، وخرج (آرام) يستقبله.

- أهلاً وسهلاً.. شرفتم مصر، ونوِّرَتْ مصرُ بكم، أنا (لطفي حبيب)، ضابط طيار، كلَّفَني وزيرُ الدفاع إبلاغكم تحياته وشكره لِمَا قَدَّمتُمُوه للثورة الجزائرية.

- بُوركتم أيها المصريون، وقد غمرني كرمُكم، وبهرني جمالُ مصركم، تفضَّل.. أهلاً بك في بيتك.

جلس (لطفي حبيب) على أريكة فاخرة في صالة البيت التي تَنافَسَ فيها الأثاثُ الجديدُ مع القديم، أرائك وطنافس لم يَـرَ مِثلَها في حياته قط، ثم عاد (آرام) بصينية القهوة، فَهَبَّ (لطفي) واقفاً:

- أستفغرُ الله.. بيدك صنعتَ القهوة، وعذَّبتَ نفسَك ؟!

- عذابُكم راحة يا سيدي الجنرال.

- طالع خير.. لم أَصِلْ بعدُ إلى رُتبة الجنرال.

- سَتَصِلُها قريباً إن شاء الله.

- هذه قهوة طيبة، لم أَذُقْ مثلَها.

- إنها قهوتُنا التركية، والرجل يتفوَّقُ على المرأة حتى في الطبخ. (يضحكان).

- وزير الدفاع يُبلِغُكَ السلامَ، ويسألُ عن نوع الأسلحة التي تستطيعُ تَزوِيدَنا بها.

- خِبرَتي في قِطَعِ الطائرات، مثل أجهزة الإرسال، وسائر الإلكترونيات في الطائرة، وهذه القطع متوفرة في الهند وباكستان، كما تتوفَّرُ في أوربـا.

حَدَّدَ وزيرُ الدفاع قائمةَ القطع الصغيرة المطلوبة لإصلاح عِدَّة طائرات جاثمة على سطح الأرض منذ عدَّة شهور، تَقِفُ الطائراتُ من أجل قِطَعٍ صغيرة، وَحَمَلَ (لطفي) القائمةَ إلى (آرام).

- لَقَدْ سُرَّ وزيرُ الدفاع أيَّما سرور، وقال: هذا ما نحتاجه بالضبط، وقد بَعَثَتْكَ العِنايَةُ الإلهية إلينا.

وتابع (لطفي حبيب):

- هل تعلمُ أن عندنا عدداً من الطائرات معطَّلَة عن الخدمة بسبب هذه القطع الصغيرة؟!

- هل معك أسماء هذه القطع ؟

- نعم، هذه قائمة من الوزير أَعَدَّها مكتبُ الشؤون الفنية، بأسماء وأرقام وموديلات القطع المطلوبة.

*      *     *

سافر (آرام) في أول مهمة خارجَ مصر، ليبذل رجالُ الموساد جهدَهم في تأمين القطع المطلوبة، وبعد أيام قليلة عاد (آرام) بالقطع كلِّها، وَفَورَ وُصُوله اتَّصَلَ هاتفياً بوزير الدفاع.

- سيدي الوزير، أنا (آرام)، عدتُ الآن من السفر، وقد وُفِّقتُ في شراء الحاجات المطلوبة كلها، وأعتذرُ عن تأخُّري.

- أَحضرْتَ الأغراضَ كُلَّها ؟!

- نعم.. كلَّها.

- شكراً لك يا (آرام)، (لطفي ) في طريقه إليك .

في طريقه إلى (آرام) كان (لطفي) مسروراً للغاية، بسبب سرور وزير الدفاع الذي أَكَّدَ عليه أن يَهتَمَّ بهذه التُّحفَةِ النادرة المُسَمَّاة (آرام)، والتي ساقتها العنايةُ الربانية لمصر عامة، وللسلاح الجَوِّي خاصة، وأصبحت أحلام (لطفي) تقترب من الواقع إذا مَتَّنَ صِلَتَهُ بآرام أكثر.

- لا تتصوَّر كَمْ هو فَرَحُ وزير الدفاع، يقول عنك إنك تحفة نادرة.

- لَمْ أَقُمْ إلاَّ بِبَعضِ واجبي، أَلَسْتُ مُسلماً مِثلَكُمْ، وقد فرضَ الله علينا قِتالَ اليهود؟

- الحقيقة أن سعادة الوزير يَحلُمُ بتطوير السلاح الجوّي بِمُساعَدَتك.

- أنا جُندِيٌّ مُطيع، يا سيدي الجنرال .

- أرجوك، أنا (لطفي) فقط، ألا تقبلُني صديقاً لك أو أخاً ؟

- أنتَ أخي الكبير، وأنا رَهْنُ إشارتك، لكنْ قُلْ لي، هل تَعرفُ (شحاتة عبد العظيم)؟

- نعم، ابن دُفعَتي بالكُلِّية، وَعَمِلْنا معاً في أكثر من قاعدة ونحن ضباطٌ صِغار.

- ما رأيك به ؟

- لا يعجبني، مِثالي، غير واقعي، مغرورٌ أحياناً، وقد كنتُ معه على طَرَفَيْ نقيض.

- هل تَعرف سُلُوكَهُ الشخصي ؟

- سلوكُهُ عادي، وَرُبَّما أقربُ إلى المُحافَظَة.

- كيف ؟

- يَعني، يشرب في المناسبات، وربما تكونُ له صديقةٌ واحدة فقط، والحقيقة لا يُعجبُني هذا الأسلوب، فنحن كضباط كبار تَركُضُ وراءنا الفاتناتُ، وحسب فلسفتي في الحياة، يجبُ أن لا نَصُدَّ عَنهُنَّ، وأن لا نُؤَجِّلَ لَذَّةَ اليومِ إلى الغد، أنا عندي عشرات الخليلات من نجوم الفَنِّ والسينما والرقص والأدب... إلخ، يصادف أحياناً أن أشرب كلَّ ليلة، لم لا وكل هذا متوفِّر لنا بسهولة ؟

- إذن هذا هو رأيك في الحياة ؟

- وإني أعتقد أنَّ المُقاتِلَ ضابطاً كان أو جندياً يجب أن يعيشَ الحياةَ السعيدة في وطنه، وأن ينعمَ باللَّذات كلِّها، حتى يُقاتِلَ عن وطنه عندما يُدَاهِمُهُ العَدُوُّ، لأنه يُدافِعُ عن لَذَّاته الخاصة بـه، لذلك اقتَرَحْتُ عِدَّةَ مَرَّات على سِيادَةِ وزير الدفاع أن نُرَفِّـهَ العَسكَرِيين، وأنْ نَجعلَ منهم طبقةً مُدَلَّلة.

- لكن ما هي النَّظْرَةُ المُخالِفَةُ لك ؟

- بعضُهُمْ ما زال مُتَمَسِّكاً بِقُشور الماضي كالدِّين والعادات، وكأنه لم ير أوربا سَبَقَتْنا عندما تَخَلَّتْ عن الدِّين، وعندكم في تركيا لو لم يَقُمْ (مصطفى كمال باشا) لَكُنتمْ أكثرَ تَخَلُّفاً من العـرب.

- لقدْ سَرَقَنا الحديثُ يا عزيزي (لطفي)، أمَّا أنا فَأَرَى أن تُرَكِّزَ اهتِمامَكَ في رِجالِ السلاح الجَوِّي لأنهم الضَّربـةُ الأُولَى في أَيِّ معركة.

- نعم، السلاح الجوي هو الأَهَمُّ ولذلك اخترتُـهُ .

- والطيارون هم زَهْرَةُ الأُمَّة، ونُسُورُها البَواسِل، وهم أَحَقُّ الناس بالحياة .

- آه.. يا عزيزي (آرام) لو كُنتُ قائداً للسلاح الجوي لَجَعَلْتُ الطيارين مُلوكَ زَمانِنا، وجعلتُ لهم إماءً وخَدَماً.

- إماء .. مِنْ أين ؟!

ضحك (لطفي) وقال :

- ثلاثة أرباع نساء اليوم إماء وجواري، يجب الاستفادةُ مِنهُنَّ قبل أنْ يَذْبَلْن.

- فَلسَفَةٌ رائعة لم أَسمعْها مِنْ قَبل، المُهِمُّ أَنْ تَصِلَ هذه القطعُ إلى مَواقِعِها بِسُرعة، هذه (المانفستاتُ ) وهي موجودةٌ في المطار باسم وزارة الدفاع.

جلس (آرام) بعد ذهاب (صدقي) وقد استَبَدَّتْ به فِكرةُ استبدال شحاتة بلطفي، فَقَدْ خَطَّطَ لِجَلْبِ (شحاتة) من باريز وتنصيبه قائداً لِسِلاح الجَوّ، وهو يعتقد الآن أن (لطفي) هو الأفضل، لذلك أوعَزَ إلى (سوزي) أن تُهمِلَ (شحاتة)  بالتدريج.

عندما اتصل (لطفي) بوزير الدفاع يعلمه أن الطائرات المُعَطَّلَة قد أُصلِحَت الآن، وهي الآن تقوم بالتدريب التعبوي، زاد سروره وقرّر دعوةَ (آرام) إلى حفلة العشاء التي تُقِيمُها الوزارة في فندق شيراتون بمناسبة الاحتفال بأعياد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952م التي استطاع فيها (جمال عبد الناصر) أن يتخلَّص من عهوده للإخوان المسلمين الذين شاركوا في الثورة، بل كانوا الرفـد السياسي لها ، حتى أن بيت سيد قطب في حلوان يرحمه الله ؛ كان ملتقى الضباط الأحرار ، كما تؤكد ذلك الصور التي حفظها لنا التاريخ ، بل وتمكَّن من توجيه التُّهَمِ إليهم بأنهم أعداء للثورة وحُلَفاء للإقطاع، وأعدم سبعةً من قادتهم وزَجَّ الآلاف منهم في السجون، بما عُرِفَ بمحنة 1954م، عندما بدأت بالتمثيلية في الإسكندرية، إذ قامت المخابرات الناصرية بإطلاق النار، واتُّهِمَ الإخوانُ بذلك، عندما أعلن الرئيسُ اتهامه لهم وهو على المنصَّة يُكمِلُ خِطابَهُ، وبدأت الاعتقالات ثم المحاكمات العسكرية فإعدام سبعة من خيرة الرجال الذين دَوَّخُوا اليهودَ في حرب 1948م، منهم: يوسف طلعت، والشيخ فرغلي، وعبد القادر عودة، وإخوانهم رحمهم الله تعالى جميعاً.

لأجل هذه المكاسب الناصرية كانت احتفالات العام 1955م عامرةً بالغناء والرقص والشراب في ليلة متخمة بالفسق والمجون، ومن هذه الاحتفالات حفلة العشاء في شيراتون التي أقامتها وزارة الدفاع على شرف السيد (آرام نوير) الذي ناداه وزير الدفاع وهو يحتضنه : الأخ العزيز (آرام).

وفي هذه الحفلة تمكَّن (آرام) من التَّعَرُّف على كبار المسئولين والضباط ما عدا القمة التي لم يَحِنْ وَقتُها بعد، وظَلَّ (آرام) يُقَدِّمُ (لطفي حبيب) لِكِبار الضباط والمسئولين.

*       *       *

سافر (آرام) أكثر من مرة، وأُصلحت نيف وثلاثون طائرة حربية تُشَكِّلُ أكثرَ من نصف السلاح الجَوِّي المصري، وزادت طلعات الطائرات الحربية في سماء مصر، وصار الناسُ يكيلون المدح والإطراء للثورة وقادتها الذين يُناضِلُون من أجل بناء جيشٍ قَوِيٍّ يُعيدُ للعرب عِزَّتَهُم وكرامتهم، وَتَرَدَّدَ اسمُ (آرام نوير) على ألسنة الضباط والكبار والمسئولين كرجل مُخَلِّص ساقته العناية الإلهية إلى مصر، لِيَعمَلَ على بناء ودعم سلاحها الجوي.

*       *       *

ما زال (عبد الناصر) بطلَ الثورة المصرية، وأُريدَ له أن يُصبِحَ بطلاً عربياً، رائداً للقومية العربية التي اتُّخِذَتْ يومَها سِلاحاً فَعَّالاً لإماتة الشعور الإسلامي والرابطة الإسلامية بين المسلمين عامة والعرب خاصة، ومن أجل هذا كان العدوان الثلاثي على مصر، فَجَلْجَلَ صوتُ (جمال عبد الناصر) عالياً في إذاعات العالم العربي كله، يقول وهو يخطب في بورسعيد عد أن أَمَّمَ قناةَ السويس، ولاحَ في الأُفق شبحُ الحرب، يقول:

(لئن استطاع العَدُوُّ أنْ يَفرضَ علينا القتالَ، فلن يستطيع أن يفرض علينا الاستسلام، سَنُقاتل، سَنُقاتل، سَنُقاتل، حتى آخر قطرة من دمائنا).

*       *       *

احتلَّت القواتُ الإسرائيلية (سَيناء) ونزلت القوات الفرنسية والإنكليزية في بورسعيد واحتلَّتْها، وكادت أن تَصِلَ القاهرة، لولا الإنذارَين الرُّوسي والأمريكي، الذي أخاف فرنسا وإنكلترا، ولم تُتَابِعا الغَزْو، أما إسرائيل فَقَد احتلَّت (سَيناء) كلَّها، ونزل الجنودُ اليهود حُفاةً يُقَبِّلُون أرض سيناء، وكان (الدجوي) حاكماً لقطاع غزة المحتل عام 1956م وكان غرض اليهود آنذاك هو تهجير الفلسطينيين والمصريين من القطاع، وساعدهم الفريق (الدجوي) في ذلك، وصار يَحُثُّ المصريين والفلسطينيين على مُغَادَرَة القطاع، ثم خَطَب أكثر من مرَّة من الإذاعة الإسرائيلية وَبَيَّن عورات الحكم في مصر، والذي تَصَدَّى له آنذاك هو قاضي غزة الشيخ محمد مأمون الهضيبي ( مرشد الإخوان المسلمين فيما بعد )، حيث استطاع مع بعض المخلِصين أن يُفْسِدُوا خطةَ اليهود و(الدجوي) في تهجير الفلسطينيين والمصريين من القطاع.

*         *         *

قلق (آرام) منذ اليوم الأول للحرب عام 1956م، واتصل بالفريق لطفي حبيبكي يجمعه بوزير الدفاع على عجل.

- سيدي الوزير، اليهود خُبَثاء، وسلاحهم الجوي قوي، أما سلاحنا فما زال ناشئاً، لذلك أقترح أن ترحل الطائرات كُلُّها إلى السودان، أو أسوان على الأقل.

- هل يُغامِرُ اليهودُ بمُهاجَمَةِ مطارات الداخل ؟!

- نعم .. طائرة الميراج سريعة، ولا يوجد لدينا ما يُقاوِمُها.

- أرى أن اقتراحه معقولٌ يا سيدي الوزير . قال (لطفي ).

- إذن لِيَكُنْ ذلك على الفور.

وصدرت الأوامر للطيارين أن يُقْلِعُوا بطائراتهم إلى السودان، هَرَباً من طائرات إسرائيل، وبعد أن تأكَّد (آرام) من خُلُوِّ المطارات أعطى إشارتَهُ لإسرائيل، فجاءتِ الطائراتُ الإسرائيلية تنقضّ على المطارات الفارغة، فَدَوَّتْ صفَّاراتُ الإنذار في كل مكان، وَهُرِعَ الناسُ إلى المَلاجئ التي دُرِّبُوا عليها خلال الأسابيع الماضية، ثم راح الطيارون اليهود ينقضّون على الهياكل الكرتونية التي صُفَّتْ في المطارات المصرية للتمويه والخداع، وكانت الطائرات الإسرائيلية تبحث عن هذه الأهداف الكاذبة وتضربها بصواريخها وقذائفها، وكان المتفرِّجون المصريون يضحكون على غباء الطيارين اليهود، الذين لم يتركوا مطاراً في مصر إلاَّ وقذفوه لِيُحَطِّمُوا مَدَارِجَه وَيُدَمِّرُوا طائراته الورقية الكاذبة، ولم يَكْتَفُوا بِغارةٍ واحدة، بل شَنُّوا عدةَ غارات من أجل هذه الأهداف الورقية.

وبعد أن عادت الطائرات الإسرائيلية إلى قواعدها في الأرض المحتلَّة، كانت المكالمات الهاتفية مع (آرام) و(لطفي حبيب) تحمل عبارات المدح والثناء والتندُّر بغباء الطيار اليهودي الذي لا يُمَيِّزُ بين الطائرة الحقيقية والكرتونية.

وهكذا صار (آرام) هو الأبُ الفعلي لسلاح الجو المصري، فلولا اقتراحه الاستراتيجي لَدُمِّرَ سِلاحُ الجَوِّ المصريُّ كُلُّه، ولكنه كما قال المسئولون في مصر: ساقته العناية الربانية لمصر وفي تلك الآونة الحَرِجة لإنقاذها، ولإنقاذ السلاح الجوي خاصة.

أما في الجانب الآخر، فكان الطيارون اليهود يَتَذاكَرُون بينهم أَعظَمَ (بروفة) قاموا بها في حياتهم، تَعَرَّفُوا خلالَها على كلِّ المطارات المصرية، ويضحك أحدُهم وهو يُخاطِبُ الآخرين:

- لقد دَمَّرتُم كُلَّ الطائرات الورقية للمصريين، وقد كُنتُ أرميها بالصاروخ وأنا أعرفُها تماماً، لقد كانت الغاية هي التدريب الفعلي على قواعد العدوّ والتعرّف عليها جيداً.

أما قائد سلاح الجوّ فيقول لنفسه:

- نَفَّذْنا تعليمات الموساد الصارمة التي أَلَحَّتْ علينا أن نقذف الطائرات الورقية كلها، وكأننا لا نعرف أنها ورقية، لماذا يا تُرَى ؟ هم يعرفون، ونحن لا شأن لنا بذلك.

*       *       *

دخل (لطفي) دار (آرام) وهو يقفز من الفرح .

- مبروك يا (آرام)، يا رفيق الكفاح والنضال، يا سعادة المفتِّش العام لسلاح الجوّ المصري.

- لم أفهم شيئاً، ماذا جرى لك ؟!

- مبروك .

وأخرج (لطفي ) صورة من القرار الموقّع بتوقيع (عبد الناصر) الذي يرقّي العميد (لطفي حبيب) إلى رتبة لواء، ويعيّنه قائداً لسلاح الجوّ المصري، كما يكلّف السيد (آرام نوير) بمهمة مفتش عام لسلاح الجو المصري، كانت عيونه تزيغ بين السطور وهو يقرأ نصراً ما كان يحلم به، وراح يُرَدِّد في سريرته: عاشت إسرائيل من الفرات إلى النيل، سنحرق الأقصى ونبني هيكل سليمان، العالم كلُّه حتى العرب يخدمون قضيتنا ويكافحون من أجل قيام دولتنا ومن أجل نجمة داود، عاش (عبد الناصر) وعاش (لطفي حبيب) وعاشت إسرائيل.

- ارقصْ معي يا سعادة المفتّش العام.

- وهل أنت (سوزي) لأرقص معك.

- من هي (سوزي) ؟

- إحدى صديقاتي الباريسيات.

- ولماذا تخفيها عني حتى الآن ؟

- لمناسبةٍ مثل هذه يا سعادة الجنرال.

- هل تدعوها الآن ؟

- نعم، هي في الطريق إلينا.

- بل إليّ.

- كما تريد.

وأُخرجَتْ زجاجاتُ الخمر ليشربا كؤوس المجد والسؤدد.

*        *       *

( 4 )

بعد أن عرف (شحاتة عبد العظيم) أن (سوزي) ستفارقه لا محالة، وقد تلحق (آرام) في القاهرة وتُصبح من إماء (لطفي حبيب) منافسه الأبدي، بدأ ينفر من (آرام)وتتحرّك شكوكُه فيه، ولكن ماذا يقول وهو الذي زكّاه للمخابرات المصرية سابقاً، وأخذه على عاتقه، وماذا يفعل بعد أن ذاع صيتُه في مصر وأصبح مفتّشاً عاماً للسلاح الجوّي المصري، ومع كل ذلك رَفَعَ تقريراً يطلب من المخابرات الحذرَ من (آرام).

*      *      *

كانت المخابرات المصرية مشغولةً إلى أقصى إمكاناتها بالإخوان المسلمين، تبحثُ عنهم وتطاردهم وتُحصي أقاربهم حتى الدرجة الثالثة ، بعد أن افتعل (عبد الناصر) حادثةَ المنشيّة التي ارتدى فيها ثوباً واقياً من الرصاص وطلب من أحد رجاله إطلاق النار باتجاهه، ثم ادَّعى أن الإخوانَ المسلمين يحاولون قتله والانقضاض على الثورة لِيُعيدوا الإقطاعَ والرأسمالية إلى البلد، وجعل ذلك ذريعةً للقبض عليهم ومطاردتهم وإعدام القافلة الأولى من شهدائهم، وأراد (عبد الناصر) القضاءَ على الفكرة تماماً، فعمد إلى اعتقال كلِّ مَن له صفة إسلامية، وأَوْكَلَ هذا إلى (صلاح نصر) مديرِ المخابرات العسكرية.

ولمعت أسماء كثيرة كانت من أهمّ منجزات (عبد الناصر) مثل سجن القلعة، وسجن أبي زعبل، وأهمها السجن الحربي، وليمان طرة ...إلخ، ومن أجل القضاء على أفكار الإخوان المسلمين سُلِّمَتِ المخابراتُ المصرية للملحدين والزنادقة ، كي لا تبقَ شفقةٌ ولا رحمة في صفوف المخابرات المصرية بشتّى أصنافها، وأصبح سلاحُ المخابرات مُوَجَّهاً ضدَّ الشعب، يحصي عليه أنفاسه، وَجُنِّدَ آلافُ المخبرين المتسكِّعين في الشوارع بسبب البطالة، وَحُوِّلُوا إلى عُملاء قذرين يتجسسون على أقاربهم وجيرانهم لإذلال الشعب واحتقاره.

لذلك دخل (آرام نوير) كأجنبي تركي يبيع السلاح، جاء من باريز، يجيد الرقص ويشرب الخمر، ولم يُرَ يوماً من الأيام يُصَلِّي أو يدخل مسجداً، حوله جيشٌ من العشيقات الفاتنات، كلُّ ذلك جعل المخابرات المصرية لا تَشُكُّ في عدالته ونزاهته الثورية منذ اليوم الأول، ومع ذلك عندما طلبت من (شحاتة عبد العظيم) تقريراً عنه، كتب (مدكور) التقرير وهو في أحضان (سوزي)، فكان (آرام) من قادة الثوار والتقدميين في العالم، وكان يداً رحيمةً ساقتها العنايةُ الربانية لمصر.

وبما أن المخابرات المصرية كانت متأكدةً أن (آرام) لا صلةَ له بالإخوان المسلمين لذلك وثقتْ به إيما ثقة، فما دام لا صلة له بالإخوان فهو تقدميّ وثوريّ ووطني، حسب مفهوم المخابرات المصرية.

من جهة أخرى كان معظم قادة المخابرات المصرية بشتّى فروعها من نموذج (آرام) يشربون ولهم عشيقاتهم أو إماؤهم كما يقول (لطفي حبيب)، ويلعبون القمار، وينهبون الأموال من الشعب، لذلك لم يكن (آرام) شاذاً عنهم، بل كان واحداً منهم تماماً، لم يلفت انتباههم في شيء، وهم الذين اعتادوا أن ينتبهوا إلى رواد المساجد وأصحاب اللِّحَى وإلى الذين لا يشربون الخمر ولا يلعبون القمار ولا يدخلون الكباريهات، والذين يُسَمُّون العِشقَ زنى ...إلخ، وبكلمة موجز ة كانت المخابرات المصرية مجندة ضد المسلمين فقط.

*      *      *

- من هي المرشَّحة لهذه المهمة الصعبة ؟ . قال (صلاح نصر) مدير المخابرات العسكرية.

- ولماذا صعبة ؟

- صعبة لأننا نَثِقُ به ولا نرى ضرورةً لهذه المغامرة التي قد نخسر بها هذا المناضل الممتاز.

- من يطلب ذلك ؟

- (زكريا محيي الدين) وصل إليه تقرير (شحاتة عبد العظيم) الأخير وطلب أن يوضع (آرام) تحت المراقبة.

- لكن كيف يصدِّق (زكريا محيي الدين) (شحاتة ) وهو الذي زكّاهُ لنا سابقاً ؟

- هذه أوامر لابُدَّ من تنفيذها.

- (صوفي ياسين) هي الأفضل لمثل هذه المهمة.

- نعم .. أحسنت، إنها (صوفي) ولا أحد غيرها.

- ذكّرني بملف (صوفي) لو سمحت.

- حاضر.

ويقرأ مديرُ العمليات مذكرةً من أحد الملفات تقول:

(صوفي ياسين) قبطية لامعة الجمال والذكاء معاً، تخدم معنا منذ سنتين، وتقاريرها ممتازة، تدرس علم النفس في عين شمس، نجحت في جميع المهام التي كُلِّفَت بها حتى الآن.

- إذن هي (صوفي)، ولتبدأ المراقبةَ بحذر.

*        *       *

الجمال والذكاء والمال والجاه، كل ذلك ابتلاء من الله عز وجل، فإما أن يشكر الإنسانٌُ أو يكفر، إمَّا أن يطيع خالقه ويُسَخِّر هذه النعم في طاعة الله، وإما أن يركبه الغرور والكبرياء في الحياة الدنيا فتورده الذُّلَّ والهوان في الآخرة.

كانت (صوفي) تتعالى على أترابها وتتباهى بجمالها وذكائها عليهن، وكان ذلك يدفعها للبحث عن المجد والتسلّق السريع لهضبة المجتمع، وكانت مطاردةُ المتسكعين لها في الشوارع تُؤَجِّج هذه الشهوةَ لديها، حتى إذا دَخَلَتِ الجامعةَ تسابق الطلابُ إلى خدمتها والفوز برضاها من أجل نظرة رضى وابتسامة سرور منها، وكانت بحاجة إلى المال تنفقه على جمالها وزينتها وفساتينها، وقد وجدته لدى المخابرات المصرية.

*        *        *

- إنه عازب، وهذا يسهّل عليك القيام بالمهمة، كما أنه ثَرِيٌّ جداً وذو مكانة عالية في المجتمع وهو أحد المسئولين، لذلك احذري أن يكشف أمرك، لأنه قَدَّم خدمات عظيمة لمصر، ونريد مراقبته دون الإساءة إليه قيد أنملة، ولعلّ دراستك لعلم النفس تساعدك على ذلك.

- ما سِــرُّ ثرائـه ؟

- إنه تاجرٌ كبيرٌ عالَمِيّ، واحذري أن تغاري عليه لأن له عشيقتات على مستوى العالم وإن كان لا بد من إظهار الغيرة.

- سأكون عند تقديرك لي يا سيدي.

كانت (صوفي) ترتدي كلَّ فتنتها، وتمر في هيلو بوليس أمام بيته تنتظر خروجه عند موقف التاكسي أو الحافلة يميناً، حتى إذا خرج (آرام) من بيته رفعت رأسها ونظرت إلى السماء كأنها تتأفف من أهل الأرض، وقد عرفت من دراستها وتجاربها أن الرجال الكبار تعجبهم المرأة المتكبرة، ويدفعهم غرورُهم إلى تحدِّي غرورها.

كان (آرام) في الأربعين  تقريباً، لكنه يبدو وكأنه في الثلاثين، يحب التأنق بالثياب، لكنه لم يكن مغرماً بالنساء مثل عملائـه العرب، وقد أوصاه (فيشل) أن يحذر من النساء، وقال له : إن بقاء دولة إسرائيل يتوقف على نجاح مهمتك.

ولما فشلت في لفت نظره عدَّلتْ خُطَّتها وصارت من أوائل النساء المصريات اللائي يسقن سيارات الأجرة، وقد عرفت أن (آرام) يستعمل سيارات الأجرة كثيراً، وزادها بنطال الكاوبوي جمالاً وفتنةً، وحصرت مجال عملها في شارع إبراهيم باشا، حيث يسكن (آرام).

وذات يوم قُطع الهاتفُ عن (آرام)، فطلب من البوَّاب أن يُوقِفَ له أوَّلَ تاكسي يراها، وكانت (صوفي) قريبةً من الباب تنتظر، فناداها البوَّابُ، فصادت السنارة.

- صباح الخير.. ما شاء الله، همة وفتوَّة ونشاط.. وسيارة نظيفة أيضاً!

- لكنها فيات لا تليق بمقامكم سعادة الباشا الذي اعتاد على المرسيدس.

- لا، أبداً، الفيات جميلة ومريحة، بل رائعة.

كانت تمشي في الشارع قبل أن تسأله عن وجهته، فانتبهت وقالت:

- آسفة، أخذنا الحديثُ، أين تريد يا سعادة الباشا؟

- والله من عادتي صباح الجمعة أن أتفسَّح، وكنت أطلب سيارة من المكتب تبقى معي حتى الظهر في القناطر الخيرية، فإذا كان وقتك يسمح، وإلاَّ أوصليني إلى المكتب.

- لكن هذا يكلِّفُ كثيراً يا سعادة الباشا.

ضحك وقال :

- الدفع ليس مشكلـة.

- أين خط ســيرك؟

- كورنيش النيل حتى القناطر الخيريـة، وأتناول الإفطار في أحد كازينوهات الشــاطئ.

سارت السيارةُ ببطء مع الكورنيش، و(آرام) يُمتِّعُ نظرَهُ بالنيل الذي يتدفَّقُ حياةً وجمالاً وخصباً، ويُحَوِّلُ الوادي إلى شاطئ أخضر، وقد تزاحم الناس على ضِفَّتَيه، ثم يُغادر القاهرةَ فَيَتَفَرَّعُ إلى عدَّة فروع تشكِّلُ منطقة الدلتا، أشد مناطق العالم كثافةً بالسكان، أما (صوفي) فكانت تسرق النظر في المرآة بين الحين والآخر، فتجد (آرام) مشغولاً عنها بالنيل الخالد.

- ممكن الوقوف في هذا المقهى قليلاً؟

- حاضر.

- تفضَّلي نشرب قهوة الصباح.

- شكراً، عندي مذاكرة، سأبقى في السيارة أنتظرك، وخُذْ راحتك، أنا سأذاكر، ولمَّا تكمل القهوة أخبرني.

ثم افترشت الأرضَ بالبنطال الكاوبوي تلاعب ساقيها أحياناً، وتنشر شعرَها الذهبيَّ على العشب الأخضر أحياناً أخرى، بينما رشف (آرام) قهوتَه وهو يُمعِنُ النظرَ فيها، ثم عاد لها بسرعة، بعد أن لفتت انتباهه ... وجلست وراء المِقوَد تمشي بسيارتها مع الكورنيش.

- هل أنت طالبـة؟

- نعم، في عين شمس، قسم علم نفس سنة ثانية.

- ما شاء الله، وكيف تُوَفِّقين بين الدراسة والعمل؟

- مضطرة يا ســعادة الباشـا.

- هل السـيارة ملكك؟

- لو كانت ملكي ما اشتغلت عليها، على كل حال أنا سعيدة لأن عملي مختبر لعلم النفس.

ضحك (آرام) وقال:

- إذن أنا الآن في أنبوب اختبار؟

- ما أقصد ذلك، وإنما أستفيد كثيراً من عملي في التعرُّف على سلوك الناس، كما أتعرف على شرائحَ منهم.

بعد الفسحة الطويلة نَقَدَها (آرام) ورقةً واحدة ذات عشرين جنيهاً وهو يقول:

- الباقي من أجلك يا أمـورة.

- لا، الباقي كثـير، ما يصح هذا.

وأخرجت عدة جنيهات تزيد على العشرة لتردَّها إليه، لكنه رفض ثم مشى، فأسرعت نحوه وقدَّمتْ له بطاقةً باسمها ورقم الهاتف، ثم رَكَّزتْ كلَّ سحرِها في عينيها المُصَوَّبتين نحوه وهي تقول:

- إذا لزمتك الفيـات مـرة أخـرى فأنـا تحت أمـرك.

قالتها وعادت إلى سيارتها، بينما وقف (آرام) عند الباب تطنُّ في أذنيه كلماتها (أنا تحت أمـرك).

توطَّدت عُرَى الصداقة بين (آرام) و(صوفي) بعد أن طلب منها أن تبيع السيارة وتتفرَّغ لدراستها، وسال عليها المالُ من جيوبه المترعة بعد أن أصبحت تظهر معه في الحفلات الرسمية وكأنها خطيبته، وشغلها حبـه ومالُـهُ ثم فساتينُها وحُلِيّها عن مهمتها الأصلية، حتى وَبَّخَها مديرُ العمليات، ونبَّهها إلى هدفها الأصلي، لكنها كانت تقول :

- لا يمكن أن أشك فيه سوى ماله الكثير، وكرمه غير العادي، وصلاته الكثيرة بكبار الضباط عامةً، والطيارين خاصة.

لذلك طلب منها مديرُ العمليات أن تختفي عنه في بيته مدة يوم كامل، وتراقبه لترى ماذا يفعل في غيابها.

*        *         *

رسمت (صوفي) الخطةَ جيداً، وفحوى دفاعها إذا انكشفت خطتُها وكُشف أمرُها، وصَمَّمَت على تنفيذ ما وَصَّى به مديرُ العمليات بعد ثلاث سنوات من المتابعة، وبعد أن اشترى لها سيارةً فخمة كانت تقودها إذا خرجا إلى الفسحة بعيداً عن القاهرة، واستغنى عن المكتب وسيارات الأجرة، وكاد أن يطمئن إلى (صوفي) وحبِّها له، لولا أنه مَلَّها، وهو الذي لم يَعِشْ هذه الفترةَ الطويلةَ مع واحدة لوحدها.

ثم جاءت المغامرةُ عندما تركته (صوفي) بعد ساعات من الدَّنَسِ والعُهر عنده في الفيللا، تركته شِبهَ عارٍ وتظاهرت أنها على موعد يكادُ يَفُوتُها، فودَّعَته وخرجتْ من غرفته.

وبعد ساعة - وهو يُفكِّر في (صوفي) وذَهابها المفاجئ لأول مرة من عنده - دَقَّ جرسُ الفيللا، ودخلت الخادمةُ وانتبه (آرام) إلى وَقعِ خُطَى أقدام الخادمة في الحديقة، وتذكَّر أنه لم يسمع وقع أقدام (صوفي) لمَّا ذهبت، لذا صرف الخادمةَ، وأغلق الأبوابَ كلَّها، وبحث داخل الفيللا، فوجد (صوفي) مختبأةً في الغرفـة المجاورة لغرفـة مكتبه والتي يُخابرُ منها إسرائيل، وقد اصفَرَّ وجهُها عندما رأتـه، وتَعَلَّلَتْ بأنها تغار عليه، وسألته:

- مَنِ التي دَخَلَتْ توّاً ؟

- ما دَعاكِ إلى هذا؟

- غيرتي عليك، أريد أن أتأكَّد أنك لي وحدي.

- وهل كذبتُ عليكِ يوماً وقلتُ أني لك وحدَك؟

ارتَجَفَتْ (صوفي) خوفاً، وتلعثم لِسانُها ولم تقدر على الإجابة، عندئذ أطبق يدَه على فمها، وقال :

- أنت أيتها الحمقاء العاهرة تضحكين على (آرام)؟! سأقول لك ما تريدينه ولكن لن تستطيعين نقلَهُ لأحد.

راحت (صوفي) تتوسل إليه، وهو يسمح لها بقليل من الهواء بين الفينة والأخرى، ثم أعطاها ورقـةً وقلماً كانا جواره، وقال لها:

- اكتبي .. مَن أنتِ؟

- سأقولُ لك كلَّ شيء إن عَفَوتَ عني.

- قولي الآن.

- أنا من المخابرات، كلفني (زكريا محيي الدين) بمراقبتك.

- وماذا قلتِ لهم؟

- قلتُ لهم إنني لا أشك فيه أبداً، فطلبوا مني أن أختبئ هنا لأعرفك جيداً.

ضحك (آرام) بعد أن أخذ منها الورقةَ وَشَدَّ يدَهُ على رقبتها حتى خَنَقَها، وقبل أن تقضي قال لها:

قولي لهم اسمي (باروخ ماندل) تلميذ (فيشل) رئيس الموساد ذات الأصابع الطويلة في كل مكان، أيتها العربية الحمقاء.

ولَمَّا فارقتِ الحياةَ قام إلى جهاز اللاسلكي وكسره ثم دفنه بالحديقة، ثم أحرق الورقةَ التي كتبت عليها (صوفي) تـوّاً.

*       *      *

صرف البوَّابَ في إجازة ثلاثة أيام، وانتظر الظلام فحملها إلى السيارة جثةً هامدة خارج القاهرة على طريق الإسكندرية، حتى إذا اقترب من طنطا نزل من السيارة ودفعها إلى الترعة، ثم تدحرج على الأرض بقوة وكدم رأسهُ بحجر أسال منها الدم، ثم ألقى بنفسه في الترعة وصار يصيح ويستغيث، وما أن وصل الناسُ إليه وأخرجوه من الترعة حتى تظاهَرَ أنه في غيبوبة، لم يفق منها حتى اليوم التالي في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي الخاص بكبار الضباط، وكان يُرَدِّد بين الحين والآخر:

- (صوفي) .. (صوفي) .. حبيبتي (صوفي) .. أين (صوفي)؟

ولما تظاهر بعودة الوعي سأل (صدقي) الذي هُرِعَ إلى جواره:

- أين (صوفي) ؟

ثم مَدَّ يدَه إلى رأســه فتحَسَّسَ الشـاشَ والأربطـة.

- ما هذا؟ يا لطيف .. أين (صـوفي)؟ ماذا حَلَّ بنا؟

تقدَّم منه (صدقي).

- الحمد لله على السلامـة .... هل تُحِسُّ بألـم؟

- أسألك عن (صوفي) أين هي؟ ما لكم؟ أين (صوفي)؟

نظر أصحابُه في وجوه بعضهم، ثم أطرقوا إلى الأرض حُزناً ومشاركةً له، ثم تَشَجَّع (صدقي) وقال :

- البقيـة بحياتـك.

ورغم أنه شعر بارتياح وسرور ما بعدهما سـرور، إلاَّ أنه تظاهر بالألم فصرخ:

- حرام تموت .. حرام حرام ..

وتنهمر دموعُ التماسيح من عينيه، ثم يدفن رأسَه بغطاء السرير وينتحب، فيمدُّ (صدقي) يده ويمسك يديه ويقول :

- الحمد لله على سلامتك، أما (صوفي) فقد انتهى أجلُها وقادها طيشُها إلى حَتْفِها، دائماً كنتُ أخافُ عليك من سيارتها لأنها متهوِّرة بالقيادة جداً، المهم أنك سالم.

- لكن لماذا ماتت؟

- وُجِدَتْ داخلَ السيارة بالترعـة، ولم تستطع الخروجَ منها فغرقت.

ويُجهِشُ (آرام) بالبكاء مرةً أخرى..

*          *         *

كان المسئولون في المخابرات العسكرية بلهاء، بل مشكوك في هويتهم، ومنهم (الدجوي) الذي رَأَسَ المحكمةَ التي حاكمتْ (سيد قطب) رحمه الله عام 1965م، كان (الدجوي) حاكماً لقطاع غزة أيام الاحتلال اليهودي عام 1956م، وكان غرض اليهود آنذاك هو تهجير المصريين والفلسطينيين من قطاع غزة، فساعدهم (الدجوي) على ذلك، وصار يَحُثُّ المصريين والفلسطينيين على مغادرة القطاع، وخطب في الإذاعة الإسرائيلية عدة مَرَّات يُبَيِّنُ عَوراتِ الحكم في مصر، وَوَصَفَ العربَ بأوصاف يَندَى لها الجبين.

وقد تصَدَّى له آنذاك قاضي غزة الشيخ (محمد مأمون الهضيبي)، حيث استطاع مع بعض المُخلِصِين أن يُفسِدَ خطةَ اليهود وعميلهم (الدجوي)، وتمضي الأيام ويَمْثُلُ (الهضيبي) قاضي غزة أمامَ المحكمة التي يرأَسُها (الدجوي) لتحاكم المسلمين.

*      *      *

لم تكن حادثةُ مقتل (صوفي) المكلَّفةِ من قِبل (زكريا محيي الدين) بالذات، لم تكن كافيةً عند المخابرات المصرية لِلشَّكِّ في (آرام نوير)، لأن التعامل هنا مع غير الإخوان المسلمين، أما مع أصدقاء أو أقارب أو حتى رفاق الدفعة في الكلية أو المتهمين بالإخوان المسلمين فالأمر مختلف تماماً.

كانت المخابرات المصرية تريد القبضَ على (يحيى حسين) وهو متخرج من كلية الزراعة، ثم درس في معهد الطيران المدني، وصار طياراً في شركة مصر، هذا الرجل هرب من البلاد عندما أحَسَّ بقرب اعتقاله، فماذا كان من المخابرات المصرية؟ لقد قبضت على رِفاق دفعته في كلية الزراعة، وفي معهد الطيران، ثم أقاربه وأصدقائه مِمَّن ليسوا من كلية الزراعة أو معهد الطيران، وخلال ساعات قلائل اعتقلوا ما يقرب من مائة شخص خشيةَ أن تكون لهم صلةٌ بـ (يحيى حسين)!.

هذا (عبد الرؤوف عبد الناصر) صيدلي وطيار لا علاقة له بالدِّين أو السياسة أيامها، سِوَى أنه من دفعة (يحيى) في المعهد، أُخِذَ من مطار القاهرة إلى المعتقل وضُرِبَ حتى أوشك على الموت ورأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى، ولما شاهد زُملاءَهُ في شركة مصر للطيران قال فيما بعد:

- ظننتُ أن الحكومةَ تريد تأديب العاملين بشركة مصر للطيران لفسادهم وسوء أخلاقهم.

حيث لم يكن هؤلاء من ذوي الصبغة الدينية، بل هم خلاف ذلك تماماًَ، لكن لأنهم زملاء (يحيى حسين) في العمل!.

لم يكن الحذرُ من شخصٍ أجنبيٍّ يتعامل مع سلاح الجَوِّ المصري، بل من مفتشٍ لهذا السلاح، لم يكن الحذرُ منه لازماً في عُرفِ المخابرات المصرية الناصرية، أما الحذر من أصدقاء وأقارب مَن يُتَّهَمُ بالإخوان المسلمين فأمر واجب وضروري.

يقول ( أحمد رائف): "كنا نَقِفُ وَوُجوهُنا معصوبة إلى الحائط، لا ندري متى ذهب الليلُ وجاء النهار، وعلى كُلٍّ منا أن يُكَرِّرَ عبارةً واحدة لا معنى لها مثل: البحر فيه ملوخية. ولكل معتقل كوب ماء واحدٌ في اليوم، أما قضاء الحاجة فَلْيَقضِها حيث هو، وفي صبيحة يوم وجدتُ نفسي في المحمصة وأخذت الطريحة، وهي علقة لا تقلُّ عن مائتي هراوة، ثم عُلِّقتُ على الحديد عارياً كي آخذ هذه العلقة كل ساعة ونصف، وبقيتُ هكذا كل ساعة ونصف دون نوم، واقترب الرائد (ف.ع) مني وبيده وَلاَّعة رونسون مشتعلة، صُعِقتُ عندما رأيته يُقَرِّبها من جسدي العاري وأنا معلَّق على الحديد، رأسي إلى أسفل وقدماي إلى أعلى، وظننت أن هذه الشعلة ستميتني، لكنه حرق بها أجزاء متفرقة من جسدي، ولم أمت، رغم أني كنت أشم رائحة شواء اللحم المحترق"، ثم يقول: "ماذا تعرف عن (يحيى حسين)؟ ثم جاء يوم 6/9/1965م، بعد صدور قرار من الرئيس الذي ينصُّ على اعتقال كلِّ مَن سبق اعتقاله في 1954م، ويفوِّض وزيرَ الداخلية باعتقال كل مَن يُشتَبَهُ بهم، فوصل إلى معتقل القلعة في يوم واحد (700) سبعُمائة معتقل، أُمرُوا بخلع ملابسهم وحوصروا في مكان ضيِّق، ثم بدأوا يضربونهم فارتسم في وجوههم الهلع، وهم يرون جُثَثَنا معلقةً على الحديد وقد سالت منها الدماء، وفاحت رائحةُ الصديد، وكانوا يسقطون من الخوف والذعر".

*          *        *

- ماذا يقول تقريرُ الطبيب؟   قال مديرُ المخابرات العسكرية.

- يقول ماتت خنقاً عندما غرقت في الترعة.   أجاب مدير العمليات.

- ألم يُفَـرِق لنا بين الخنـق والغـرق؟

- لا، يقول هكذا ماتت خنقاً عندما غـرقت في الترعـة.

- هل لك ملاحظات على الحادثـة؟

- ملاحظة واحدة وهامـة، وهي أن موت (صوفي) في هذه الحادثة حدث بعد أن طلبت منها أن تختفي عنده في بيته مباشرةً.

- وهذه نقطة جديرة بالانتباه.

- لكن لا نملك الحريةَ لِلتَّحَقُّقِ من فرضياتنا يا سيدي، لأن (آرام) من كبار أصحاب (شمس الدين بدران) و(لطفي حبيب).

- لا تنسَ أننا مُفوَّضون من قبل (زكريا محيي الدين) بالذات بالبحث عنه.

- لكلِّ تكليفٍ حدود يا سيدي، حتى الرئيس يثق بـ(آرام) وَوَجَّهَ له الشكرَ والثناء أكثر من مرة، ودعاه إلى حفلات العشاء عدة مرَّات، ورأيتُهما يتحدَّثان على انفراد كأنه مستشارُهُ الخاص، لذلك أقترح أن نقفل البحثَ لأن الأمر فوقَ طاقتنا.

- لا، لا يمكن ذلك، بل نراقبه في إحدى أسفاره إلى الخارج، ابعثْ وراءَهُ (كمال) فهو مُتَمَرِّس في الرحلات الخارجية.

- هل هذا أمـرٌ يا سيدي؟

- نعم.

- إذن، حاضر.

*       *        *

أرسلتِ الموسادُ بالشيفرة الكتابية إلى (آرام) أن يَحضُرَ إلى تل أبيب ليستلم جهازاً جديداً بدلاً من الجهاز الذي حطَّمه بعد انكشافه لـ(صوفي)، وأكَّدَتْ عليه الحذر، لذلك أتقن (آرام) خطَّةَ السفر إلى استامبول ومنها إلى تل أبيب، وَوَضَعَ في حسبانه أنه مُطاردٌ بالتأكيد من المخابرات المصرية، وبسرعة عرف ذاك الذي وقف في طابور الانتظار، ثم دخل صالةَ الطائرة قبل الآخرين، وركب طائرةَ (آرام) ذاتَها، وفي مطار استامبول قام (آرام) بعدة مناورات ليتأكَّد أن ذاك الشاب الأسمر هو ظِلُّه ضابط المخابرات المصرية الذي كان يتبعه أينما اتَّجَه فتأكَّدَت فَرَضِيَّتُه.

وصل إلى الفندق فحجز الغرفة (25)، وحجز (كمال) الغرفة (26)، ودخل كُلٌّ إلى غرفته، حيث أجرى (آرام) مكالمةً هاتفية، جاءته على الفور يهوديتان فرنسيتان في استامبول جنَّدتهما الموساد في استامبول، وانتظرتا في صالة الفندق الفاخرة، ريثما خرج (آرام) إليهما وتبعه (كمال)، وكان لقاءً حارّاً معهما، تدفَّقَتْ فيه الكلماتُ الفرنسية تُوَزْوِزُ كالوَسواس الخَنَّاس، وعندما عرف (آرام) أن (كمال) يُصغِي للفرنسية، قال:

- أتيتُ شوقاً إليكما خاصة، وسأبقى معكما في هذا الفندق يومين كاملين.

- تشتاق لنا وأنت في القاهرة؟

- لِمَ لا وأنتما صديقتا عمـري وشـبابي؟!

ثم دخل (آرام) وإحداهُنَّ غرفته، ودخلتِ الثانيةُ غرفتها، فاستدعت (سوزي).

عندما دخلت (سوزي) وقد وصلت قبل ساعتين فقط من باريز، وقف (كمال) مرحِّباً:

- أهلاً أهلاً ، أنت هنا؟!

وكانت الكلماتُ تتعثر في فمه لهول مفاجأتـه.

- وصلتُ توّاً، وأنا مُتعَبَةٌ من السفر، كيف حالُك يا عزيزي (كمال)؟ أين أنت؟ غبت عني كلَّ هذه الفترة.

- لقد ذُبتُ شوقاً إليك، إلى باريـز، لأن باريـز عندي هي (سوزي) فقط.

- أمَّا في استامبول فعندك (سوزي) أخرى.

قالتها بليونةٍ وتَكَسُّر، ثم دخلا غرفةَ (كمال) بعد أن فهم (كمال) أن صاحبَهُ سيبقى يومين كاملين مع صاحبتيه، إذن هذه فرصة ثمينة له مع (سوزي)، إنه حُلمٌ ما كان ليخطر في بالـه.

- اسمعي جيداً، سأخرج الآن لأعود بعد ثلاثين أو خمسٍ وثلاثين ساعة، عليك أن لا تكفي عن الحركة والكلام، حتى إذا تَعِبتِ تأتي زميلتُك، ويمكن أن تتعاونا معاً على تمثيل الدور ، وهو أنني موجود وأتعاشر مع إحداكن ... المهم يجب أن يسمع حركةً وهمساً كلما مَرَّ أمام الغرفة أو حاول التَّنَصُّتَ من غرفته، هذا إذا لم تُنسِيهِ (سوزي) كلَّ شيء.

وخرج (آرام) بعد نصف ساعة من دخول (كمال) مع (سوزي)، وفي المطار استَقَلَّ طائرةً خاصةً إلى تل أبيب، حيث استقبله (فيشل) بحفاوة وتكريم، وهَنَّأه على سلامته من فَخِّ (صوفي)، ثم أَكَّدَ عليه أن الحفلةَ الشهرية للطيَّارين باتتْ لازمةً وممكنة بحيث تصبح تقليداً عسكرياً عندهم، يعتادون عليها خلال السنوات القادمة الحاسمة، ثم أطلعه على بعض العملاء في القاهرة، خاصة بين كبار الضباط، وحَدَّد له مجالَ وزمنَ التعاون معهم، وأخيراً صَحِبَهُ في زيارة لـ(ليفي أشكول) الذي استقبله بحفاوة بالغة، وأكَّد له أن نجاح دولة إسرائيل يتوقَّفُ على نجاحه في مهمَّته، ثم عادا إلى الموساد، فَأُعطِيَ شيفرةً جديدةً، وجهازاً لاسلكياً آخر، وتدرَّبَ على فَكِّه وتركيبه وإصلاحه، ثم عاد إلى استامبول بعد ثلاثين ساعة، فقالت له صاحبتُه:

- لقد خرجَ جارُك من الغرفة ثلاثَ مراتٍ فقط، كان يترنَّح شاحِبَ الوجه وكأنه لَمْ يَنَمْ أبداً، دَقَّ البابَ علينا مرةً فخرجتُ إليه بعد أن نَفَشتُ شعري، وقلت:

- نعم أفندم.

- أين سوزي؟ كم رقم هذه الغرفـة؟

- هذه غرفة رقم (25)، وصاحبي نائم، إنه مرهَـق، أرجو أن لا توقِظَـه.

- عفواً.. غرفتي هي (26)، وفيها (سوزي) أين هي؟

- هذه هي المجاورة.

فذهب إليها وهو لا يعرف رأسَهُ من قدمه، بينما خرجتْ (سوزي) تَجُرُّهُ إلى الغرفة وتقول له :

- تعال.. يجب أن تنام كي تصحو من الخمرة.

*        *       *

عادا على نفس الطائرة إلى القاهرة، وحمل (آرام) حقيبته حيث الشيفرة واللاسلكي بداخلها، أمام أعين رجال الجمارك المنشغلين جداً بتفتيش حقائب المدرِّسين العائدين من دول الخليج والجزائر، كي لا تفوتُهم جمركةُ الهدايا التي يحضرها المدرسون لأقربائهم، أما حقيبة (آرام) وغيره من كبار المسئولين فلا يجوز فتحُها لأنها من أسرار الدولـة!.

ذهب (كمال) إلى مدير العمليات، وأكَّد له أن (آرام) قضى ثمانٍ وأربعين ساعةً في الفندق، ولم يَتَّصِلْ إلاَّ باثنتين من عشيقاته قضى معهما طيلة هذه المدة.

- أمر عجيب! يسافر إلى استامبول من أجلهما!

- وما المانع؟ المال الكثير يا سيدي.

- لكن ماذا يَنقُصُه حتى يسافرَ إلى استامبول لذلك السبب؟!

- هناك البضاعة تختلف يا سيدي.

- أيـة بضاعـة وكلام فارغ أنتَ الآخر؟!

قال مديرُ العمليات، فسكت (كمال).

- المهم أننا لم نَصِلْ إلى تحقيق أيِّ فرضية.   قال مدير المخابرات العسكرية.

- لقد حاولنا، وأنتَ معنا ترى فَشَـلَنا، وأقترحُ أنه يكفينا مغامرة بأرواحنا، لِنَكُفَّ عن مراقبته قبل أن نَنـزِلَ عن كراسينا.

- نعم، سنتنازلُ عنها قبل أن تَسحَقَنا.

*        *         *

( 5 )

- سأقوم بجولة تفتيشية على المطارات يا سيادة الجنرال. قال (آرام).

- أتأخذُني معك؟ سأل (لطفي ).

- بل أنا أذهبُ معك، لكن أُوَفِّر عليك المشـقة.

- ما هي خطَّتُك ؟

- زيارة القواعد الجَوِّية كلِّها للتأكُّد من سـلامـة التمويه ضدَّ العدوّ، وَسَأَحُثُّ الطيارين وسائرَ الضباط الجَوِّيين على العمل للحصول على مكافأة.

- أي مكافـأة ؟!

- الحفلـة الشـهريـة، ألم أُحَدِّثْك عنها، إنها تقليد عسكري في الجيوش الراقية، لأن فلسفة القتال الحديثـة ترى أن نُرَفّـِهَ المقاتلين إلى أقصى درجة من الترفيه، وذلك لعدة أسباب: أولاً: نجلب العناصر المتفوِّقة إلى الجيش عندما يَرَون حياتَه السـعيدةَ ورفاهيته. ثانياً: يبتعدُ عنه الرَّجعيون الذين يُسَمُّون التَّرَفَ فِسقاً، والسعادةَ إسرافاً، ويَفِرُّون من الخمر والنساء، وهذه وسيلة ممتازة لإبعاد الرجعيين عن الجيش وكشفهم بسهولة. ثالثاً: عندما يُحِبُّ العسكريُّ الحياةَ ويعشَقُها حتى العبادة، وتصبح غايتَهُ الوحيدة، لذلك يدافع عنها إذا هَدَّدَها الخطر.

- أنت تقصد أن الحياة عندما تكون رخيصةً لا يدافع عنها أحد؟

- هذا هو بالضبط.

- لكنَّ هذه الفلسفة تُخالِفُ فلسفةَ الرجعيين وخاصة رجال الدِّين، إنهم يَرَونَ عكس رُؤيتِك تماماً.

ضحك (آرام)، وقال:

- هل نُقارِنُ ما قاله (فرويد) و(سارتر) بما يقوله هؤلاء السُّذَّج؟!

- لا ، أبداً ، هؤلاء الرجعيون هم سبب البلاء.

- من عبقريـة الثورة المصرية إبعاد هؤلاء الرجعيين عن الجيش والسياسة والتربية والإعلام، بل مطاردتهم للقضاء عليهم تماماً.

- علينا التأكدُ تماماً من نظافة الجيش منهم، لأنهم يَسحَرُون الجنودَ بسرعة باسم الدِّيـن.

- لذلك الحفلـة الشهريـة تكشف لنا الرجعيين، فكلُّ مَن لا يشرب الخمر ويُعاشر النساء فهو رجعي.

- لكن قد لا يشرب البعضُ الخمرَ لأسباب صحية؟

- احتياطاً نعتبرُهُ رجعياً، ويُبعَدُ عن القوات المسلَّحة.

- نعم ، إنها فكرة عظيمة يا (آرام).

تنقَّل (آرام) المفتشُ العام لِسلاح الجَوِّ المصري بالطائرة العمودية على قواعد مصر الجوية، وكان يُصدر الأوامرَ المُشَدّدَة إلى قادة القواعد بإلحاح لإكمال عمليات التمويه، حتى كان مصريّاً أكثرَ من المصريين، كما كان يَتَوَدَّدُ إلى الطيارين عندما يلتقي بهم في حفلات العشاء التي يُقِيمُها قائدُ القاعدة أو نادي الضُّباط على شَرَفه، وَيَعِدُهم بحفلة ساهرة إن أكملُوا ما وَصَّاهم به قبل شهر.

وَذَاعَ صِيتُ المفتش العام، وتفانيه لسلاح الجَوِّ المصري وأخلاقه التقدمية العالية، وخاصة طريقة مَسْكِهِ لكأس الشراب في حفلات العشاء بطريقة أرستقراطية مُحَبَّبة إلى ناظريه.

كما عرف (آرام) أن قاعدةَ أنشاص هي الأفضل لإقامة الحفلة الشهرية لِقُربها من القاهرة، ولأن عناصرَها من المقرَّبين لقيادة الثورة والمدافعين عنها، وهم حُماةُ الثورة والنظام ونُسُورُهُ، يدافعون عنها ضِدَّ الرجعية والإقطاع والبرجوازية.

*         *         *

تسابقتِ القواعدُ الجوية في إكمال جاهِزِيَّتِها، كما تسابقتِ الرَّاقصاتُ في التَّوَدُّدِ إلى (لطفي حبيب)، وما إن اكتملتْ جاهزيةُ القواعد الجوية حتى ظفرت (سهير زكي) بلقبٍ من المفتش العام كانتْ تَعتَزُّ به وتشمخ رأسَها عالياً أمام الراقصات، وهو لقب (راقصة السلاح الجوي المصري)، وَأُلصِقَتْ عشراتُ الصور لها على جدران نادي الضباط في قاعدة أنشاص الجوية، حتى بادر بعضُ الطيارين فأطلق اسمَها على طائرته تَبَرُّكاً بها!.

- بَقِيَ ثلاثة أيام للحفلة. قال أحدُ الطيارين الصغار وهو يقفز فرحاً كطفل.

- هل عرفتَ نُجومَها ؟ قال آخر.

- (سهير زكي) وفرقتها، و(شريفة فاضل) وفرقتها، و(حلومة) طبعاً.

- لكن نحن الصغار مالنا دور.

- لا ، لقد سمعتُ أنهم سَيُحضِرون عدداً كافياً من الفنانات والراقصات، لا تنسَ أن مبدأ تكافؤ الفرص من أهم مبادئ الثورة.

- وضباط الصَّفّ ؟

- سَيَصرِفُونَهم إلى الحراســة والمناوَبـة، لأنه لا يجوز أبداً أن يَلهُوَ الضابط أمام مَرؤُوسيه.

- وَمَن يَقُوم بالخدمـة ؟

- سَيَأتون بعُمَّال مدنيين من الفنادق.

*       *       *

بدأ وصولُ الضيوف ظُهر الخميس، بعضهم يَصِلُ جَوّاً من القواعد البعيدة، والبعض برّاً، والتقى الزملاءُ ليُعيدُوا أيامَ الكلية الجوية وحكاية المستجدّ والمتقدم، وكانت طائرةُ المفتش العام بصحبة الفريق (لطفي حبيب) آخرَ ما وصل، حيث استقبلهما قائدُ قاعدة أنشاص الجوية، مع حرس الشرف وجوقة الموسيقى.

ونزل (لطفي حبيب) يَمُدُّ قامته الطويلة عندما يَرُدُّ على تحيات كبار الضباط الذين اصطَفُّوا لاستقباله، بينما وقف (آرام) ينظر إلى جمال الترتيب والحركة عند حرس الشرف.

دخل المدعوون قاعةَ الطعام حيث مُدَّتْ أصنافُ الأطعمة وباقات الزهور تحت إشراف مهندسي الديكور، وتنافستْ كؤوس الشراب بسيقانها الممشوقة كتنافُسِ المَدعُوَّاتِ في الخضوع بالقول وَتَكَسُّر الصوت في جرس الكلمات الفرنسية وتمايل الأجساد كالأفاعي الماسونية.

- لا أرى الطعميةَ بين هذه الأصناف. قال أحدُهم ضاحكاً.

- الطعمية مُنعَتْ من دُخول نادي الضُّباط لأنها قُوتُ الشعب، ولا يجوز أن نأكلَ قُوتَ الشعب. أجابه آخر، وساد الضحكُ.

- أمَّا هذه الأطعمة فإنها أجنبية، لذلك سَنَفتِكُ بها، ونَنقَضُّ عليها بلا رحمة.

- هل تَرَى اللحمَ المحمر؟ إنه يهودي، لذلك سأمزِّقُه بأسناني.

ثم رَفَعَ (صدقي) الكأسَ بيده، فرفع الحاضرون كؤوسَهم وأصغوا له وهو يقترب من مكبِّر الصوت:

- بِصِحَّـة رائـد القوميـة العربيـة.

وَدَوَّى تصفيقٌ حادٌّ ثم رُفِعَتِ الكؤوس، وقال ثانيةً:

- كأس الأمـة العربيـة.

ثم تلاه (آرام) فقال:

- بصحة نســورِنا أبطالِ الميج.

وتتالَتْ الكؤوس، و(سهير زكي) تتمايل، ويمسح ثوبها ثياب الجنرال.

الرقص والغناء على الأنغام، وتصفيق الحاضرين، بعد أن تفرَّقَتِ المدعُوَّاتُ بين الحاضرين حسبَ توجيهات مهندسي الديكور، واختلطت الأصواتُ بالضحكات على مختلف الموجات، وراقصة هَزِّ البطون تهتزُّ على المسرح، فَتَهتزُّ أدمغةٌ كبيرةُ الحجم يَحسبُها الناظرُ رؤوساً رُكِّبَتْ فوق أكتاف تناثرتْ عليها الطيورُ والسيوفُ والنجوم، وتنطلق ألسنةُ الطيارين تَصِفُ المشهدَ الذي بدأ يَزِيغُ أمامَها وسط تراقُصِ السرابِ، فيقول أحدُهم:

- تشكيلٌ من طائرات الميراج، تقودها فانتوم.

فيجيب آخر:

- بل تشكيل من طائرات الميج تقودها ميج 21.

ثم ترتفع الأَكُفُّ تُصَفِّقُ مع النَّغم والإيقاع.

في صباح اليوم التالي استيقظ (آرام) يُراجِعُ نجاحَهُ ليلةَ أمس، ويضع المُسَوِّغاتِ لِتَكرارها حتَّى تُصبِحَ عادَةً شهريةً لمصرَ كُلِّها، أو لقوَّاتها المسلَّحة، وإن لم يكن فَلِسلاح الجوِّ المصري على الأقل.

وكان ذلك، إذ أصبح صغارُ الطيارين ينتظرون موعدَ الحفلة بفارغ الصبر، ليلتقوا بالكبار وينافسوهم فيما هم فيه من الضلال والفسق، وتسابقتِ الفناناتُ والراقصات إلى صالات القوات المسلحة، يُرِدْنَ رِضا (آرام نوير) المفتشِ العام لسلاح الجو المصري، فتنهالُ عليهنَّ مزاريب المالِ والشهرة، وارتفعتْ مكانةُ (آرام نوير) في قلوب كبار الضباط والمسئولين الذين أصبح يحضر لهم نصيبَهم الخاصَّ من أوربا على متن طائرات السلاح الجويِّ خاصة، ولو أدَّى الأمرُ إلى إرسال طائرة لتنقل (سوزي) أو إحدى وصيفاتها من باريز إلى (صدقي) وأترابه.

وزاد عددُ الفنانات في مصر، لأن أموالَ (آرام) لا تنضبُ، بل تنهمر غزيرةً وتزداد غزارةً، وتربَّع الفنانون والفناناتُ على قِمَّةِ هرم المجتمع المصري، بعد أن أخلاها الباشواتُ الذين دمَّرتهم الثورة المصرية، وأصبح حَيُّ الزمالك ملكاً للفنانات والفنانين الذين احتلَّتْ أسماؤهم وصورُهم الصفحاتِ الأولى من المجلاَّت والصحف، تنقُلُ أخبار طلاقهم وزواجهم، وأخبار كلابهم وقططهم، وكم تستهلك في اليوم من اللحم الأحمر.

*       *       *

كانت تلك الحفلاتُ في عام 1965م، واستمرَّت حتى ليلة الخامس من حزيران 1967م، وفي هذه الفترة ازدهرت حياةُ الفنانات والفنانين وكلابهم وقططهم في مصر، وكذلك كبار الضباط والفراعنة الجدد، ووصلت حياةُ معظم الشعب المصري إلى أدنى مستويات الحياة البائسة، بل كان الألوف منهم يتمنون الموتَ الذي بَخِلَ به قادةُ الثورة عليهم، دعونا نستمع إلى أحد نُزَلاء السجن الحربي عام 1965م، في قضية الإخوان المسلمين في تلك السنة، وهو يُنقَلُ من سجن أبي زعبل إلى الحربي، بعد أن قضى فترةً في سجن القلعة، الذي جاء إليه من سجن المباحث العامة، ثم استقرَّ أخيراً في ليمان طرة، يقول: "... وَدَّعني كلُّ مَن في العنبر في أبي زعبل، وداعَ شخصٍ يُساقُ إلى الموت، عندما عرفوا أنني ذاهب إلى السجن الحربي، والأمر الذي أفزعني هو أنني رأيتُ الجلاَّدين يرقُّون لي، وينظرون إلى الذَّاهبين للسجن الحربي نظرةَ شفقة، على الرغم من قساوة قلوبهم، أي أن ما يدور في الحربي أثارَ الشفقةَ في قلوبٍ متحجِّرة، وُضِعنا في قيد من حديد كل اثنين معاً، ثم ربطوا القيدَ في جنزير طويل، وعصبوا أعيُننا، في جَوٍّ من الرَّكلِ والرَّفسِ والسَّبِّ القبيح، وبعد أن مشتِ الشاحنةُ، قال أحدُ حُرَّاسنا: سيكون حظُّكم من السماء لو نزلت الشاحنةُ في الترعة ومتُّمْ كلُّكم. ودعونا الله أن يستجيب... ولما وصلنا رفعوا العصابات عن أعيننا، وكانت حفلة الاستقبال، وهي تقليد من تقاليد الحربي، حيث ضربونا ضرباً مبرحاً كاد يودي بحياتنا، ثم وَجَّهونا للحائط عُراةً بلا ثياب، وجاءوا بالكلاب المفترسة التي تلعق دماءنا التي تسيل من الجروح، كنا عشرين نزيلاً جديداً ذلك اليوم، أتينا من أبي زعبل، فأحضروا لنا خمسين جندياً يتناوبون علينا الضربَ والصفع المبرح المميت، وكان يقفُ بجواري شيخٌ عجوز مُحَطَّم لم يحتمل الصفعَ فسقط على الأرض، ووجدتُ نفسي أنحني إليه وأواسيه وقلبي يتمزَّق، والرجل العجوز يرسل أنيناً ويتوسل ثم.. سكت إلى الأبد، رحمه الله.

لذلك أخرجوني من الصَّفِّ وضربوني حتى فقدتُ الوعي، ولَمَّا أَفَقتُ وجدتُ نفسي ضمنَ كومةٍ من لحم زملائي، والكلابُ تَلِغُ في دمائنا بشراهة ووحشية، وكم نالت الكلابُ من لحومنا ذلك اليوم.

وفي المخزن رقم (6) حُشِرَ خمسةٌ وأربعون منَّا في حجرة أبعادها اثنين في ثلاثة، كانت تفوح منها رائحةُ البول والبراز والصديد، وتنطلقُ منها الأنَّاتُ الخافتةُ المكتومة، فالتعليمات تَقضِي بعدم صدور أي صوت، وإلاَّ فسوف تدخل الكلاب الجائعة التي تثيرها رائحة الجروح، ولقد دخلنا المخزنَ وليس فينا واحد إلاَّ وبه جروح تسيل منها الدماءُ بلا توقُّف.

فُتحَ البابُ وصاح جنديٌّ: مَن يريد الذَّهابَ إلى دورة المياه؟ وتشجَّع أحدُنا وكان لواءً في الجيش وطلب الذَّهابَ إلى المرحاض، فأخرجه الجنديُّ بعد أن مَرَّ على جُثثِ زملائه المُكَوَّمةِ دون ترتيب، وأمام باب المخزن ضربَ هذا اللواء ضرباً موجعاً، ثم أتت الكلابُ ونهشت من لحمه أمامنا، ثم أَلقوهُ في بئر، وقبل أن يغرق أخرجوه وأدخلوه إلينا يقطر ماءً ودماً، وتركوه يرتجف حتى جفَّتْ ملابسُه، وما كان من الرجل إلاَّ أن تَبَرَّزَ وبالَ على نفسه وهو بيننا، وصارت رائحةُ اللواء تزكم الأنوف... وفي هذه الليلة المباركة شربتُ البول لأول مرة في حياتي بعد أن كدتُ أموت من العطش... ثم فُتحَ البابُ وَنُودِيَ على اللواء مع مطلع النهار، وأعادوه يحمله أربعةٌ من الجنود، وقد تمزَّق جسدُه من السياط، وأكلت الكلابُ من لحمه، وكانت ملابسُه غارقةً في الدماء، كان جسده كلُّه جرحاً غائراً ينزف دماً من كل مكان، ومع أناته الخافتة أرسل اللواءُ صرخةً عظيمة خُيِّلَ إلَيَّ معها أن جنبات السجن قد ارتَّجَتْ، ثم سكن إلى الأبد رحمه الله.

وكانت خسائرُنا في هذه الليلة وحدَها اثنين من القتلى، وأكثر من أربعين جريحاً من أساس خمس وأربعين في المخزن (6).

ثم رأيت مجموعةً من الجنود تنهال ضرباً على شيخ وهو يصرخ ويستغيث، ثم سكت الشيخُ بعد أن بحَّ صوتُه، وظلت يداه مرفوعتين إلى السماء الصافية، وعلى الجدار المواجه صورتان بالزيت لعبد الناصر وعبد الحكيم عامر.

جاء (الروبي) بسيل من الشتائم يحمل وعاءً قذراً أعطانا منه قرصاً من الطعمية لكلِّ واحد، وخمسة أرغفة للخمسة والأربعين معتقلاً،  وكوباً واحداً من الشاي للجميع.

فُتِحَ البابُ وقَذَفوا لنا معتقلاً جديداً عائداً من التحقيق بعد علقة تُركَ بعدَها في العراء يومين، فجفَّتْ جروحُه وتقَيَّحَت، وهبَّتْ منه رائحةٌ كريهة كأنها صادرة من قبر، وتكوَّم الرجلُ بيننا وهو يصرخ: رجلي يا ناس.. الحقوني يا ناس.. النار.. النار.. حاموت.. ألا يوجد فيكم مسلم؟ والله ما أعرف حاجة عن الإخوان.. الله يلعن السياسة.. يا ناس أنا عربجي.. واحد يطفي النار اللي في رجلي.

كانت قدمُه اليُسرَى ملتهبةً وممتلئةً بالصديد، ولم نكن نملك إلاَّ الدعاء له، ثم فعل شيئاً عجيباً، رأيناه يتبرَّزُ ويدهن رجلَهُ ببرازه، عَلَّهُ يُطفئُ نارَها المستعرة، ولَمَّا لم ينفعه ذلك، جُنَّ وأكل بُرازَه، وصرخ صُراخاً عالياً، ثم صار يُنادي زوجتَهُ وأولاده بأسمائهم ويطلب أن يُسامحوه ويغفروا له، ثم اختَلَجَ جَسَدُهُ وأسلم الرُّوح، كان ذلك في الليل، وفي الصباح وَجَدْنا على وجهه ابتسامةً تهزأ بعبد الناصر وزبانيته، وتدلُّ على رضاه بعد الموت.

وفي هذه الليلة كان جوفي يحترق من العطش، واضطررت لشرب كمية كبيرة من البول الذي كنا نجمعه في أوعية المطاط الموجودة في المخزن.

قَضَيتُ عاماً في السجن الحربي لم يتركني الموتُ لحظةً واحدة، بل كنتُ أُواجِهُ كلَّ لحظة، وكانت أكثر اللحظات أمناً تلك التي يُقفل علينا بابُ المخزن رغم الرائحة الكريهة المنبعثة من البراز والبول والصديد".

*        *       *

(6)

حرب التحرير الشعبية، هذه اللازمة كانت تُرَدِّدُها إذاعةُ دمشق عشرات المرات في اليوم الواحد، ولا يجرؤ مسئولٌ - كبيراً كان أو صغيراً - التحدثَ أمامَ الجمهور إلاَّ ويكرِّر هذه اللازمة، حرب التحرير الشعبية عن وعي أو غير وعي، ففي حرب العصابات الطويلة التي يقوم بها الشعبُ يقلق المستعمر ويضطر إلى الرحيل، تماماً كما حصل في الجزائر عندما قامت ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م ضدَّ حلف الأطلسي كله، مما أنهك فرنسا واضطرها للانسحاب عن أرضه، بعد سبع سنوات ونيف من الحرب، واستقَلَّت الجزائر بعد أن قدمتْ مليوناً ونصف من الشهداء رحمهم الله.

وقد انطلقت الرصاصةُ الأولى من منظمة فتح الفلسطينية كبداية لحرب التحرير الشعبية في الفاتح من عام 1965م، وكانت حدودُ الأردن وسوريا منافذَ للفدائيين، يضربون اليهود ثم يعودون إلى قواعدهم، وقد بَثَّتْ عملياتُهم الرُّعبَ والقلق والذعر في قلوب اليهود، وصار اليهودي يتوقَّع وجودَ الفدائي في الحافلة أو النادي أو أينما ذهب وحَلَّ، وقامت هذه العملياتُ بِكَبحِ جماح الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خاصة من أوربا وأمريكا، وكانت الضفة الغربية آنذاك تحت إشراف الحكومة الأردنية، والضفة أعظم منطقة لإقامة قواعدَ سريةٍ للفدائيين، حيث تشكِّلُ حدوداً طويلةً مع العدوِّ يسكنُها الفلسطينيون، وقد أقلقتِ اليهودَ حتى اضطروا للهجوم في وضح النهار على قرية السموع في نوفمبر 1966م بالدبابات والطائرات وفصائل المشاة.

*        *       *

كان الفلسطينيون يُنَفِّذُون حربَ التحرير الشعبيةَ بأرواحهم، وكانت الأردن تتلقَّى ضربات اليهود الانتقامية، وكان النظامُ البعثيُّ السوري يملأ أبواق الإذاعة وصفحات الجرائد اليومية بحرب التحرير الشعبية، ويقول فيها: إن العرب لا يخافون أمريكا لأن حرب التحرير الشعبية تهزم أمريكا كما هزمتها في فيتنام. وكانت سـوريا هي الـمحرضة على الحرب، فقد أدلـى وزيـر الدفاع السوري وقائــد سلاح الطيران اللـواء حافـظ الأسـد بتصريح لصحيفـة الثـورة السورية يوم (20 /5 / 1967م ) جاء فيه : ( .. إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الاجراءات الكفيلة بتنفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل تردها إلى صوابها ... إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان . إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات المسلحة السورية أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان، وإنما للمبادرة في عملية التحرير ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي  إننا أخذنا بالاعتبار تدخل الأسطول السادس الأمريكي  وإن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة، وهناك إجماع فـي الجيـش العـربي السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية . وإن سلاح الجو السوري تطور تطور كبيراً بعد ( 23/2 /1966م ) من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات، وهي من أحدث الطائرات في العالم، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب.

وفي يوم 7 أبريل (1967م) الذي يحتفل فيه البعثيون بعيد تأسيس حزبهم اخترقتِ الطائراتُ الإسرائيلية الأجواءَ السورية، وحلَّقَتْ فوق العاصمة دمشق، وأسقطتْ سِتَّ طائراتٍ سورية، رُقِّيَ على إثرها (مردخاي هود) قائدُ سلاح الجَوِّ الإسرائيلي إلى رتبة جنرال.

أما سوريا فاتخذت ذلك ذريعةً لِتُعلن أنها في قلب المعركة وحدَها، تشير إلى عبد الناصر وتغمزه لأنه يضع قوات الأمم المتحدة بينه وبين العدو، حتى زاد الغمزُ واللمزُ في عبد الناصر الذي رَكِبَ رأسَه وأمر بسحب قوات الطوارئ الدولية، واحتلَّتِ القواتُ المصريةُ مواقِعَها في سيناء ([1])، ونشطت البواخرُ المصرية في إعادة الجنود المنهكين المهلهلين من اليمن إلى سيناء.

(وأرسل عبد الناصر قواته في صورة مظاهرة علنية لدرجة أنها اجتازتْ شوارعَ القاهرة في وضح النهار إلى سيناء، والعلنية هذه مقصودة لإشعار العالم أن هناك أزمة، ومن المستحسن تَدَخُّل الأطراف الدولية للحيلولة دون هجوم إسرائيل) ([2]).

*       *        *

وبات من المؤكَّد أن إسرائيل تُعدُّ لهجومٍ على سوريا قد تَصِلُ فيه إلى دمشق، لذلك سارع أزلام النظام الأسدي إلى عبد الناصر، وتظاهروا بنسيان خلافاتهم معه من أجل عقد اتفاقية الدفاع المشترك، كما حضر الملك حسين إلى القاهرة من أجل تصفية الأجواء العربية، ومن أجل معاهدة الدفاع المشترك اضطر عبد الناصر وتحت إلحاح النظام السوري إلى سحب قوات الطوارئ، ونشر القوات المصرية في سيناء بعد سحبها من اليمن.

*        *       *

عندما مالت نسمات أيار (مايو) إلى الدفء، أيقن العربُ أن إسرائيل تعد لهجوم تطمع من خلاله في التوسُّع والاستيلاء على أرض جديدة، لذلك تَمَّ الاتفاقُ على أن تبدأ مصرُ هجومَها ليلةَ الجمعة 25/5/1967م، لأن البدهيات العسكرية تعرف أن نصر اليوم غالباً لِمَن يتمكن من الضربة الجوية الأولى.

وباتت الطائراتُ المصرية على مدارجها مستعدةً للإقلاع مع أول ضوء في الصباح، لكن مكالمةً لاسلكية تمت بين (آرام) والموساد قبل يوم (ي) المصري بأربعٍ وعشرين ساعة، لعلم (آرام) بساعة ( س ) المصرية، لذلك قبل أول ضوء كانت الطائرات الإسرائيلية في سماء الأرض المحتلة تحيط بها، فألغي الهجومُ المصري لانعدام عنصر المفاجأة، وهي ضروريةٌ للضربة الجوية، وبات من المؤكد - لمن يَعقِل - أن جاسوساً يهودياً في القيادة المصرية أو أكثر من جاسوس، لكن لو كانوا يعقلون.

في يوم 28/5/1967م كان (آرام نوير) وعبد الناصر وسائر القيادة المصرية في طائرة نقل عسكرية متوجِّهة إلى سيناء، وقد أبرق (آرام) إلى الموساد قبل يوم كامل عنها، وكان ينتظر صاروخاً يُسقط الطائرةَ بين الحين والآخر، لكن عاد إلى القاهرة بعد انقضاء جولة الرئيس رائد القومية العربية، ولم تسقط طائرته مع علم الموساد بها، ودهش (آرام) من تخطيط الموساد، بل حنق عليهم، لماذا لا يضربون الطائرةَ ويُنهُون الحربَ دون إراقة دماء غير دماء القادة؟! أليس عبد الناصر عدوَّنا اللدود كما يقول ونقول؟! لماذا لا نقتله وقد سَنحتِ الفرصةُ أن نقتلَهُ مجاناً؟! أم أنهم لا يثقون بي؟! ويل لهم وألفُ ويل.. لقد بعثوني للقضاء على سلاح الجَوِّ المصري، وهذه الطائرةُ تَضُمُّ قادةَ الأسلحة كلَّهم، والقائدَ الأعلى لهم، فلماذا لم يضربوها؟!!!.

بناءً على طلب الموساد وصل (آرام) عن طريق استامبول إلى تل أبيب ليلةَ 30/5/1967م، وهي أبشع ليلة خطط فيها لإذلال العرب والمسلمين، وفي قاعة العمليات العسكرية وقف (آرام) ينظر إلى (موشي ديان) وزيرِ الدفاع الجديد، و(ليفي أشكول) و(مردخاي هود) و(دافيد أليعازر) و(فيشل).

- منذ ستة عشر عاماً بدأت الموساد عملياتها الفذَّة في تاريخ الجاسوسية، وقد قاربت على تحقيق كامل أهدافها، بل أكثر مما رجوناه. قال (فيشل).

- فَرِّغْ لنا ما تحفظه في ذهنك على الخارطة يا (آرام). قال (ديان).

فتقدَّم (آرام) إلى مُصوّر كبير فَرَّغ عليه الوحدات المصرية البرية والجوية من حيث العدد والعدَّة، وأماكنها وأسماء قادتها، وجاهزيتها، ثم وَجَّهَ إليه (ديان) و(أليعازر) عدداً من الأسئلة أجاب عنها، وَوُضِعتْ إشاراتُها على الخارطة، ثم قال له (هود).

- إلى أي ساعةٍ تستمرُّ حالةُ الاستنفار في القواعد الجوية؟

- حتى السابعة صباحاً بتوقيت إسرائيل.

- وبعدها؟

- في السابعة والنصف يخلع الطيارون ملابسَهم الجويَّةَ، ويَنصَرِفون إلى الطعام، وكذلك المسئولون عن الرادار.

- وَمَنْ يَبقَ عند الرادار؟

- لا أحد ، وتُغلَقُ الأجهزةُ لمدة نصف ساعة.

- أي حتى الثامنة بتوقيتنا؟

- نعم.

- أنت متأكد أنهم يُغلقون الرادار لنصف ساعة؟

- نعم ، وقد عرفتُ ذلك من الجولة التفتيشية التي قمتُ بها.

- هذا غير معقول.

وهنا يتدخَّل (فيشل) فيقول:

- أليس من دورنا خلال ستة عشر عاماً أن نجعل هذا معقولاً؟

وانتبه (مردخاي هود) إلى (فيشل)، وقد ذُهِلَ تماماً، وأردف يقول:

- لو تأكَّد لي ذلك فإني أُصرُّ على تغيير ساعة (س).

- نعم ، كل ما يقوله (آرام) صحيح، وأنا أثقُ به.

ثم يقول (ديان):

- وماذا ستفعل يا (آرام) الآن؟

- الحفلة يا سيدي الجنرال.. الحفلة.

يضحك (ديان):

- أيّ حفلة يا (آرام) ؟

ويتدخل (فيشل) ويقول:

- لقد عوَّدْنا الطيارين المصريين على حفلة شهرية منذ عدة سنوات، وقد حُرِمُوا منها منذ ثلاثة شهور،والآن لو تمكَّن (آرام) من إقامة الحفلة عاشَتْ إسرائيل.

- أُقيمُ الحفلةَ إذا ساعدتُموني بتصريحاتِكُم التي تُؤَكِّدُ فواتَ وقت الحرب، ليُفَكّ الاستنفارُ هناك ونقيم الحفلة.

- ولكن لماذا تُقامُ الحفلة ؟!

- قلتُ لقد تعوَّدنا عليها، أولاً: كما أننا منتصرون. ثانياً: إذا أعلنتم فواتَ وقت الحرب. المهم وَقِّتُوا لي الحفلة ورمزها كوثر، حَدِّدُوا لي الليلة.

وبناء على ذلك تعدَّلتْ ساعةُ (س) الإسرائيلية من أول ضوء إلى 7,15 بتوقيت إسرائيل، بناءً على اقتراح (هود) وموافقة (فيشل)، أما رئيس الأركان فقد عارض لأنه يَثِقُ بمقدرة الطيارين اليهود، وكان يطمع في تدمير الطيارين المصريين داخلَ طائراتهم.

*       *       *

(7)

في الأول من مايو 1967م ([3]) استقبل الملك حســين في عمان الفريق أول عبد المنعم رياض ، وأفصح له عن مخاوفه بأن إسرائيل والولايات المتحدة تريد جر مصر إلى حرب تدمر فيه القوات المصرية ، وتحطم صورة عبد الناصر كزعيم عربي ، وقال الملك حسين بأن سوريا قد تكون الطعم الذي يتم فيه استدراج عبد الناصر ، وطلب الملك حسين من الفريق رياض نقل هذه الرسالة بسرعة لعبد الناصر .

عاد رياض للقاهرة ، وقدم تقريره التحريري عن سفره ، ولكن الرسالة وصلت عبد الناصر بعد ثلاثة عشر يوماً وبالتحديد ظهر الأحد (14/5/1967م) ، واجتمعت القيادة العسكرية المصرية برئاسة المشير عبد الحكيم عامر ، وقررت إيفاد الفريق محمد فوزي إلى سوريا للتحقق من حشود إسرائيل عليها ، وعاد ليؤكد عدم وجود حشود عسكرية على سوريا ، ومع ذلك تقرر رفع درجة الاستعداد العسكري في مصر ، ودفعت تشكيلات قتالية إلى شرق قناة السويس ،ويدعي هيكل أن الوصول المتأخر لرسالة الملك حسين ، لم يستطع إيقاف تداعي الأحداث .

اقتنع عبد الناصر بأن إسرائيل تريد مهاجمة سوريا وإسقاط نظامها التقدمي ، ولم يتراجع عن دخول الفخ الأمريكي الإسرائيلي  ، وطلبت مصر من الأمم المتحدة سحب قوات الطوارئ الدولية ، وأعلن يوم (22/5) أمام حشد من الطيارين في قاعدة ( أبو صوبر ) إغلاق مضائق تيران ...

وفي يوم الجمعة (2/6/1967) في اجتماع القيادة العامة للقوات المسلحة الذي حضره عبد الناصر ، قال عبد الناصر إن معلومات الاستخبارات تقول أن العدو سيشن الحرب خلال بضعة أيام ، ثم رجح أن يشن الحرب يوم الاثنين (5/6) ، ثم التفت إلى الفريق (صدقي محمود ) قائد القوات الجوية ، وأمره أن لاتكون مصر هي التي تبدأ العدوان ، وأن عليها الاستعداد لتلقي الضربة الأولى ، ثم تـرد بعدها ، فدهش الفريق صدقي ، وقال لاتوجد قوات جوية في العالم ، سوى أمريكا والاتحاد السوفياتي ، تستطيع أن تتلقى الضربة الأولى ، ثم تـرد بعد ذلك ، لأن الضربة الأولى ستفقدنا قـدرة الـرد ، ومطاراتنا لاتوجد فيها ملاجئ لحماية الطائرات ... وقال الفريق صدقي : كلامك يعني إلغاء الخطة ( أسد ) التي تهدف احتلال قطاع إيلات ، والنقب ، وعزله بواسطة وحدات الصاعقة المصرية ، مدعومة بتشكيلات من الدبابات والقوات البرية ، والاتصال براً بالقوات الأردنية .

ورد جمال عبد الناصر على صدقي محمود بأنه إذا بدأنا العدوان سنعطي الولايات المتحدة الحق في أن تبدأ الحرب علناً مع إسرائيل ... يقول جمال الدين حسين ([4]) : وللأسف الشديد أن عبد الناصر لم يكن مدركاً أن الولايات المتحدة لا تنتظر هذه الذريعة ، كي تشارك في الحرب مع إسرائيل .

عندما اتخذتِ القواتُ المصرية مواقعَها في سيناء، وأغلقت مضائق تيران، ساد عندها الشعورُ بالنصر وكأن المعركة انتهت، ساهم في ذلك بعضُ المحللين العسكريين الأجانب، الذين قالوا إن إسرائيل خسرت الحربَ سلفاً، لأنها سمحت للقوات المصرية باتخاذ مواقعها في سيناء وإقامة التحصينات على مدى عشرة أيام، كما ساهمت إسرائيلُ في ذلك عندما سُئِلَ (موشي ديان) قبل الحرب بيومين أو ثلاثة، فقال: "لقد فات وقتُ الحرب، وأُفلِتَ الزِّمامُ من يد إسرائيل، وسنحاول أن نُعَوِّضَ بالسياسة ما خسرناه في الحرب"، وتناقلتْ وكالاتُ الأنباء العالمية هذا التصريح الذي رُبِطَ بإثارة العطف العالمي إلى جانب اليهود، لأن عجلة الدعاية الإسرائيلية لا تفصل السياسة عن الحرب، وقد دارت بكلِّ قوتها في اتجاه يقول : إن مصر تريد تدميرَ إسرائيل، والعرب يريدون رَمْيَ اليهود في البحر. وقد ساعدت تصريحاتُ قادة البعث السوري من إذاعة دمشق هذا الادِّعاءَ اليهودي.

*       *        *

دخلت (سهير زكي) دارَ (آرام) بصحبة (الفريق لطفي حبيب)، وقد تكدَّرَ لونُها واحتدَّتْ نبراتُ صوتها:

- منذ عدة سنوات وأنا أبتكر تقليعات في الرقص جديدة لأرقصَ بها في يافا، واليوم عندما حان الوقتُ سترقص (نجوى فؤاد) بدلاً مني؟

- من أين لك هذه الأخبار يا سوسو؟

- من المقربين لها.

- كيف تصدقين والجنرال حَيّ ؟!

- الجنرال ينسى صاحباته لأنهُنَّ كثيرات.

- لكلِّ قاعدة شواذ، وأنت شواذ قاعدتي. أجاب (الفريق لطفي )، وتابع:

- فأنت الوحيدة التي دام عشـقي لها عدة ســنين، اطمئني يا سوسو، وجهِّزي تقليعاتك، سترقصين قريباً جداً.

- لماذا لا تزحفون وترمونهم في البحر؟ الناس يقولون انتصرتْ مصر، ومعظم الفنانين والفنانات يعدُّون برامجَ النصر التي سَتُقامُ على شواطئ حيفا ويافا، أما الحفلات الشعبية في الأحياء فقد بدأت.

*       *       *

اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي، وقالت الأخبار إنه ناقش قضايا زراعية وصناعية واقتصادية، ولم يتطرَّق لشؤون الحرب - على ذمة أخبار إسرائيل - وشوهد الجنودُ الإسرائيليون في شوارع مدن الأرض المحتلة يغادرون وحداتهم العسكرية في إجازات إلى بيوتهم، وكانت أعدادُهم كثيرةً بحيث شوهدوا في كافة أرجاء الأرض المحتلة، وانتشر أن زمن الحرب قد فات، وأن أمريكا قد تعهدت بفتح مضائق تيران بالقوة لضمان حياة إسرائيل، لذلك سيسافر (زكريا محيي الدين) يوم الخامس من يونيه إلى واشنطن لهذا الغرض، وإن لم توافق مصر فإن أمريكا ستطلب قوات دولية تفتح بها خليج العقبة بالقوة وتحميه ليبقى ممراً دولياً.

أما في مصر فقد عرف الناسُ أن (زكريا محيي الدين) سيسافر إلى واشنطن، ليملي على اليهود شروطَ النصر، حيث أن أمريكا هي ولي أمر إسرائيل التي انتشرت حوله القوات العربية على جبهات مصر وسوريا والأردن، وإن لم تتداركْ أمريكا الأمرَ وتحلّ الأمر سياسياً سيلقي العربُ اليهودَ في البحر!.

*     *      *

أما إذاعة دمشق فلا بديل لحرب التحرير الشعبية التي تدكُّ قصورَ الخيانة والعمالة في الأردن - حسب قول دمشق - والرجعية والإقطاع في الداخل والخارج، ثم بعد ذلك ترمي اليهودَ في البحر،  وفي نيسان أو أيار( 1967م) نظم اتحاد الطلبة في مدينة حمص محاضرة في سينما الأوبرا حضرها مئات الطلاب، وقد وصف لي شاهد عيان هذه المحاضرة يقول واصفاً المقدم مصطفى طلاس: ( دخل المقدم أبو فراس بلباس المغاوير وقفز من أمام المسرح ليصل إلى مكان المحاضر فارتفع التصفيق للبطل المغوار، وبدأت المحاضرة فقال المقدم أبو فراس بعد أن علق خريطة على الجدار وأمسك بيده عصاخاصة بكبار الضباط قال: سوف تتحرك قواتنا باتجاه الجنوب لتدك قصر الرجعية([5]) أولاً، ثم نتجه غرباً في اليوم الثاني، وخلال هذين اليومين تكون القوات المصرية اجتازت سيناء ووصلت إلى ساحل فلسطين، وفي اليوم الثالث سوف نطبق فم (الكماشة) على الصهاينة و...)، فصاح الطلاب مرة واحدة (ونرميهم في البحر )،فعلا الهتاف ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أهدافنا  وحدة حرية اشتراكية، الخلود لرسالتنا وللجيش العقائدي) ...

إذن كانت سوريا هي المحرضة على الحرب، فقد أدلى وزير الدفاع السوري وقائد سلاح الطيران اللواء حافظ الأسد بتصريح لصحيفة الثورة السورية يوم (20 /5 / 1967م ) جاء فيه : ( .. إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الاجراءات الكفيلة بتفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل، تردها إلى صوابها ... إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان. إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات المسلحة السورية أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان، وإنما للمبادرة في عملية التحرير ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي، إننا أخذنا بالاعتبار تدخل الأسطول السادس الأمريكي!!!  وإن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة، وهناك إجماع في الجيش العربي السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية . وإن سلاح الجو السوري تطورتطوركبيراً بعد(23/2 /1966م ) من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات، وهي من أحدث الطائرات في العالم، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب.

*       *       *

مضى شهران والقواتُ المصرية في حالة تأهُّبٍ حَرَمَها من الحفلة الشهرية، فضجر الطيارون ونفد صبرُهم بعد أن اعتادوا عليها لعدة سنوات تطالعهم مع بداية كلِّ شهر فيعيشون مع آثارها وفي انتظارها بقيةَ الشهر، أمَّا وقد خَفَّتْ حِدَّةُ الاستنفار الكامل إلى الثلثين، فالوقت مناسب للحفلة، وأصبحت الحفلةُ هي الشغل الشاغل لـ (آرام نوير) الذي كادتْ نفسُه تُمسك عن الطعام، لأن التفكيرَ في الحفلة مَلَك عليه نفسَه.

- الحفلة يا سيادة الجنرال.. لا تنس أن نُسُورَنا في حالة تَأَهُّبٍ منذ شهرين. قال (آرام).

- لكن أما سَمِعتَ التقريرَ عن سيناء اليوم؟

- ماذا ؟ وكاد قلبُ (آرام) يخرج من صدره.

- ثلاثة ضباط كبار مع وثائقهم ضَلُّوا الطريقَ بسيارتهم وضاعوا في سيناء.

- ولماذا أنتَ قَلقٌ ؟! سوف يحرقون ما عندهم وانتهَى الأمر.

- معهم وثائق كثيرة وخطيرة ، ولم تُعلِنْ إسرائيل أنها أَسَرَتهُم.

- سيعودون غداً إن شاء الله.. المهم أن نعود إلى الحفلة.

- أين نقيمها ؟

- أقترح أن نُوَزِّعَها على مكانين، أنشاص في الداخل، وبير كفكفا  في سيناء، مائتان من النسور في كل واحدة، والثلث الباقي سيكون في إجازة ليلية، وقد يحضرون معنا في أنشاص إن شاءوا.

- كما تريد يا (آرام).

نشط المفتشُ العام خلال عدة ساعات، فأرسل كميات من الويسكي والشمبانيا إلى كل من نادي أنشاص وبير كفكفا ، كما وصلت (سهير زكي) إلى أنشاص، و(نجوى فؤاد) إلى بير كفكفا ، وتَمَّ شحنُ أكثر من مائتي فنانة وراقصة ووصيفة إلى بير كفكفا ، وأكثر من ذلك إلى أنشاص.

- وافَقَ جميعُ قادة القواعد على الحضور، ما عدا (شحاتة عبد العظيم) قائد قاعدة أسوان. قال (آرام).

- لا ، إن شاء الله ما يأتي إلى هنا، إذا وافق يذهب إلى بير كفكفا ولا يأتي معنا.

- لم يُوافقْ ولم يَسمَحْ لأَحدٍ من طياريه.

- دَعهُم ، لا يضرون ولا ينفعون، وسوف ينقم عليه طيارُوهُ لأنه حَرَمَهُم ما عَوَّدناهم من رفاهية وسعادة.

- الحفلة يجب أن تكون في ليلة الخامس من يونيه سيدي الجنرال.

- كما تريد يا (آرام).

*         *         *

(8)

عندما يعتاد الآدميُّ على سلوك معيَّن ثم يُحرَمُ منه تتشكَّلُ لديه رغبةٌ قويةٌ تتناسبُ قوتُها طرداً مع قوةِ العائق الذي يمنع هذه الرغبةَ من الإشباع، فالحرب أو التأهب للحرب كان عائقاً أمام رغبة الطيارين المركَّبة في الحفلة المعتادة، حيث يَشبعون من الطعام والشراب والجنس والاجتماع وحب الـذات وتوكيدها بطرق منحرفة جعلها التَّكرارُ مألوفةً لديهم، لذا كانت فرحتُهم كبيرةً جداً عندما اجتمع في قاعدة أنشاص مائتا طيار وأكثرُ من مائتين من الضباط الجوِّيين، جاءوا من قواعد مصر الداخلية، وكذلك مثلُهم أو أقل في قاعدة بير كفكفا في سيناء، اجتمع بها عناصرُ القواعد المتقدمة.

كان (آرام) و(الفريق لطفي) و(سهير زكي) في أنشاص، ومَن يمثِّلُهم مع (نجوى فؤاد) في بير كفكفا ، وبعد أن توارت الشمسُ هلعاً مما ترى، ومن الخطر المنتظَر، صعد المفتشُ العام المنصةَ يُعلنُ عن برنامج الحفلة، وقد أشار إلى مفاجأة خبأها إلى حينها، ثم صُفَّتْ أصنافُ الأطعمة، وتوزَّعتِ الزائراتُ اللاتي كان عددُهُنَّ يَفوقُ عددَ الضباط الحاضرين، وانتقتْ كلُّ واحدة شريكَ دعارتها تلك الليلة، وَوُزِّعَتْ زُجاجاتُ الويسكي وقطعُ الثلج التي نُقِلَتْ جَوّاً من القاهرة إلى بير كفكفا وأنشاص.

وتنافَسَ اللحمُ بين المحمَّر على الموائد، والمحمر في الوجوه الشاحبة، والمضطرب في أجساد الراقصات، وتطايرت رائحةُ أُمِّ الكبائر تُفرغُ الرؤوسَ من بقايا عقلٍ وحياء، فتمتدُّ الأيدي والأَرجُلُ معاً، تماماً مثل ذَواتِ الأربع!.

*      *     *

بين الحين والآخر يتَّصلُ (آرام نوير) هاتفياً ببير كفكفا لِيَطمَئنَّ على سَير الحفلة هناك كما خَطَّط، ويسمع من خلال الهاتف عَزفَ الموسيقى وقهقهة السُّكارَى، ثم يُعَبِّرُ عن أَسَفِهِ لعدم تَمَكُّنه مُشاركتهم، لأنه لا يستطيع أن يحضر في مكانين بآنٍ واحد، لكنه يَثِقُ بأعوانه المُخلِصِين الذين يهمُّهم الترفيه عن سلاح الجَوِّ المصري.

*        *        *

كان (شحاتة عبد العظيم) يتقطَّعُ أَلَماً وغيظاً وحسداً على هذا الحمق الذي يجري في أنشاص وبير كفكفا ، وهو الذي أُبعِدَ عن سلاح الجَوِّ إلى باريز ثم أُعيدَ إليه، لكن قائداً لقاعدة أسوان البعيدة عن القاهرة وعن قصر القبة ومنشية البكري، كان (اللواء شحاتة) يكره (الفريق لطفي ) كثيراً، ويظنُّ أنه غيرُ سَوِيٍّ وغير طبيعي، حتى أنه لم يستبعد عمالتَه لليهود، لأن الملذات عنده أهمّ ما في الدنيا، وأكثر ملذَّات الدنيا عند اليهود، لذلك اتَّصلَ عدةَ مرَّات بالفريق (محمد فوزي) رئيسِ الأركان العامة، يحثُّه فيها على عدم الموافقة على إقامة الحفلة، كان آخرها عندما قال له (فوزي):

- يا ابني ، أنت مهمـوم أكثر من اللازم ليه؟ هو أنـا وأنت مسئولون عن مصر وحدنا؟ لقد أقامها (الفريق لطفي حبيب) وهو فريق مثلي، ولم يرجع إلى أحد.

- غريب ! كيف لا يرجع لك يا سيدي الفريق؟!

- لا غريب ولا عجيب يا لواء (شحاتة)، (الفريق لطفي ) من المقرَّبين ومدعوم بدون قيود من المفتش العام، ولذلك كلمته كلمة واحدة وليست كلمتين.

- سيدي مَن هذا المفتش العام بالله عليك؟ وما هي رُتبتُـه؟

- سامحك الله (يا شحاتة).. أنت صحيح كما قال (لطفي) عنك، أنت مثالي، المفتش العام يا (شحاتة) مدعوم بالدولار، وأي رتبة تَقِف أمام الدولار، إنه يملك رصيداً غير محدود من الدولارات...!!

- يا سيدي نحن في حكومـة ولاَّ بورصـة؟!

- لا ، حكومة، لكن حتى الرئيس و(زكريا محيي الدين) يَثِقُون به، أليسَ الرئيس هو الذي عَيَّنَه؟

- نعم .

- إذن هو المفتش العام لسلاح الجوِّ المصري.

- وهل نبقى الآن مكتوفي الأيدي والطيارون يشربون الخمر الآن؟

- لا ، لا ، سنحاول تفريقَ الحفلة بالحكمة.

*       *       *

عندما اتصل الفريق (فوزي) بالفريق (لطفي) يرجوه أن يُوقِفَ الحفلةَ فوراً، وأن يذهب الطيارون إلى النوم، أجاب (لطفي) بصوت مخمور:

- أنا فريق ولاَّ عربجي؟! يا سيدي !!! أنا قائد السلاح الجوي أم طرطور؟!

وأغلق سماعةَ الهاتف، بينما ضرب الفريق (فوزي) كفاً بكفٍّ وهو يقول: لا حول ولا قوةَ إلاَّ بالله.

بعد أن أغلق (لطفي) الهاتف في وجه الفريق (فوزي) قال للمفتش العام:

- الفريق (فوزي) يطلب مِنَّا أن نذهب إلى النوم، غريب والله، نحن صغار ولاَّ تحت الوصاية؟! لازم ننام الساعة التاسعة، هو يظن أننا في الكلية ؟!

ويرفع الكأس ويردِّد: ... وما أطال النومُ عمراً... فتقترب الراقصةُ منه تُنَمِّي عندَهُ الموهبـة، وتشجعه على تَفَتُّحِ ميولـه.

في تمام الواحدة ليلاً نفدت صناديقُ الويسكي المستوردة بالعملة الصعبة لحساب القوات المسلحة ومِن ميزانيتها، لكنَّ الظَّمَأ لم يُطفَأ، ولم تكفّ الدولارات المقتَطَعة من قُوت الشعب المحروم الذي يُعاني الألم والحرمان والقهر، وَتَلَفَّتَ الشاربون إلى كؤوسهم الفارغة، فأشار المفتش العام إلى أحد أعوانه الذي صعد المنصة، وقال:

- لأنكم ما زلتم عطاشـاً، تُمعِنُونَ النظرَ في كؤوس فارغة وقد نفدت مُخَصَّصاتُ الحفلة من الشراب، إلاَّ أنَّ...! (وصمت برهة).

فهاج الحاضرون يُرَدِّدون (إلاَّ أنَّ...!) ، فيتابع:

- إلا أن المفتـش العـام أحضَرَ لنا من حسابه الخاص عدداً من صناديق الشمبانيا لنشـربَ ونتابع الحفلة في هذه الليلة العظيمة، ليلة الفرح والطرب ونُحييها حتى الضُّحَى.

فَيُرَدِّدُ القطيع : عـاش المفتش العـام، عـاش عـاش.

وكان الهتاف متكسِّراً في أفواه السُّكارَى، بينما وُزِّعت صناديقُ الشمبانيا لتفرغ في البطون المسعورة.

بدأت فرحةُ النصر تعبثُ بانتباه (آرام)، فها هو تَمَكَّن من تَسكِير أربعِمائة طيار في ليلـة كــوثـر، هذه الليلة الفريدة في التاريخ، بل فريدة في الدهر كله، ليلة سَيُذَلُّ فيها العربُ والمسلمون إلى ما شاء الله، بل لم يكن يَحلُمُ أن يخلط الطيارون الويسكي بالشمبانيا حيث يصيبهم خبل لا ينفك عنهم قبل أربع وعشرين ساعة، وعند ذلك بدأ دماغُه يدور، فقام إلى صنبور الماء وغطس رأسَه بالماء البارد لمدة دقيقة، فعاد إليه الانتباهُ، وقال لنفسه:

- كيف أتأكد أنني في واقع وليس حلماً، لقد حلمتُ طيلة ستة عشر عاماً بهذه الدقائق، فهل ما زلت أحلم؟ أم أن الحلم أصبح واقعاً؟ أصحيح أنني تمكَّنتُ من ذلك كلِّه؟ أنا.. أضحك على مصر كلِّها، وأُسكِرُ أربعَمائة طيار في هذه الليلة؟! كـوثـر.. حيث يبدأ الهجوم الجوي الإسرائيلي بعد بضع ساعات ...!!!

ويعود إلى الماء البارد ويستحم به لِيُذهب الدوارَ الذي بدأ يحسُّ به، ثم يقول لنفسه:

- لقد أحسستُ بالدوار، وأنا الذي اعتاد الشرابَ وتخليطَ الشراب منذ عشرات السنين، فكيف هؤلاء الأولاد الذين يشرب بعضُهم للمرة الثانية أو الثالثة أو حتى الخامسة؟ ومعظمهم يخلط الشرابَ للمرة الأولى في حياته؟ إنهم الآن لا يُمَيِّز أحدُهم بين رجله أو ذراعه أو عصا قيادة الطائرة....!!!

ويتأكد (آرام) أنه في واقع وليس في حلم، ويبدأ بتحاشي الشراب، لكنه يتظاهر به، فيرفع الكأسَ ثم يُعيدها على حالها بعد أن فَقَدَ الجميعُ ملكةَ الإدراك والملاحظة.

*        *        *

في الثانية والنصف ليلاً تناثـرتْ كلماتٌ هنا وهناك تقول : أين المفاجـأة ؟ أين المفاجأة؟ ولَمَّا وَصَلَتِ المفتشَ العام صَعِدَ إلى المنصة، وقال :

- المفاجـأة أيها النسورُ البواسل هي هذه اللعبة الظريفة الخفيفة، تعلمون أن اليهود الأنذال حرمونا من مشاهدة منظر كُنَّا نحلم به ونعدُّ له منذ سنوات، لأنهم انهزموا سَلَفاً ولم يُمَكِّنونا من مشاهدة الميج تَنقَضُّ على الميراج، لكن.. إذا حُرِمنا ذلك في الواقع، فَلَنْ نُحرَمَ منه في الخيال، خاصة وأن المرء أحياناً يَصعُبُ عليه تمييزُ الواقع من الخيال.

ويَسُودُ القاعـةَ صَمتُ الشَّوق لهذه المفاجأة، فيتابع (آرام):

- نسورُنا البواسل هم طائرات الميج، والمدموزيلات طائرات الميراج، أما القتال فإنه قتالٌ ليلي بالأشعة تحت الحمراء..

وتعالَتِ الضحكاتُ وتحفَّزتِ الطائرات وتناثرتْ عباراتُ المدح والثناء لهذه العبقرية الفَذَّة المبتكِرة لكلِّ وقت ما يناسبه، وتعالت صيحات: الله يفتح عليك.... ويتابع (آرام):

- سأطفئُ النورَ طِيلةَ المعركة، وهي نصف ساعة فقط، حيث يُسقِطُ طيارو الميج طائرات الميراج كلَّها، ونأمل أن نفتح النورَ في الثالثة، وسأبقى حارساً للنور، لأن القتال كما قلتُ ليلي، فهل أنتم موافقون؟

- موافقون.. موافقون.. موافقون.. نعم موافقون.

ثم أطفأ (آرام) النورَ، وقال: بدأت المعركة...!!!

*       *       *

وعلى مدى ثلاثين دقيقة كان الصراخ المفتعلُ والعـواء والمـواء، وأصناف أخرى من النباح والخوار والنهيق أحياناً، وأصناف أخرى يخجل القلم أن يَصِفَها.

- الثالثة إلا خمس دقائق، سنتفح النورَ في الثالثـة.

ثم فتح النورَ في الثالثة، وعاد العزفُ والرقصُ والطرب، وعاد السكارى الفاشلون يبحثون في الصناديق الفارغة عن زجاجة مملوءة، وفي الزجاجات الفارغة عن بقايا يطفئون بها النـار.

وفي الرابعة صباحاً وصلتْ سـريةٌ من الشرطة العسكرية يقودُها عقيد اقترب من الفريق (لطفي) وحيَّاه، ثم قال:

- سيدي ، لَدَيَّ أمرٌ خَطِّيٌّ من الفريق (فوزي) بتفريق الحفلة.

- وإذا ما تفرقنا؟ رَدَّ (لطفي) بصوت مخمور.

- آسف أن أستخدم القوة. قال ذلك والألم يعصره، وقبضة يده تتحفَّزُ لِتَصفَعَ الفريقَ (لطفي) قبل أن تصفع الأمةَ الإسلامية كلَّها.

- بالقـوة !

وشحب وجهُ الجبان (الفريق لطفي)، فأسرع (آرام) إليه، وهمس: انتهت الحفلة.

- لكني لا أقبل الوصايةَ من أحد.

أجاب (لطفي)، وأضاف بلهجة مخزية:

- أنا قائـ...ـد سـ...ـلاح الجـ...ـو المصـ...ـري، وأنا حُرُّ التَّصـ...ـرف فيه!

- سأذهب إلى بير كفكفا ، وآمل أن تبلغهم الآن أن يناموا، سأستعمل القوةَ معهم حال وصولي إن وجدتُهم يسهرون.

ثم حيَّاهُ بقرفٍ وانصرف إلى طائرته.

- ألو ، بير كفكفا ، هل شبعتم؟ انصرفوا إلى النوم، وَلَمَّا يَصل إليكم غلامُ (فوزي) قولوا له: أمرنا الفريق (لطفي) أن ننام، ونحن نتلقَّى الأوامرَ منه وليس منكم.

ثم قام الفريق (لطفي) مُتَثاقلاً يُعلنُ عن نهاية الحفلة، فانصرف الحاضرون إلى طائرات النقل التي أوصلتهم إلى قواعدهم.

*      *      *

عندما كانت الميج تنقَضُّ على الميراج في بير كفكفا وأنشاص، انقَضَّ السفيرُ الروسي على عبد الناصر في الثالثة صباحاً، وحسب تعليمات موسكو جاء السفير الروسي إلى بيت عبد الناصر وطلب إيقاظَهُ من النوم لِيُسلِّمَهُ برقيةً من موسكو تُلِحُّ فيها ألاَّ تبدأ مصرُ الحرب، لأن الذي سيبدأ الحربَ سيخسَرُ القرارَ السياسي والرأيَ العام العالمي، لذلك يجبُ ضَبطُ النفس وعدمُ الانفعال، وألاَّ تكون مصر هي البادئة بالحرب، وعندما طَمأَنَ عبد الناصر موسكو بأن مصر لن تبدأ الحرب، وأن (زكريا محيي الدين) مسافر بعد ساعات إلى واشنطن من أجل التفاهم حول تيـران، عند ذلك شعر السفيرُ الروسي بالارتياح، وعاد إلى بيته في الرابعة صباحاً وهو ينظر في ساعته كأنه يَستَحِثُّها على الجري، لأن ساعات العرب والمسلمين واقفة، بل نائمة، فلتسبقها في هذه الغفلة من الزمن.

*       *       *

قبل الخامسة وصل (الفريق لطفي) و(آرام) إلى فيللا (آرام)، ومعهما (سهير زكي) وإحدى وصيفاتها، وانفَرَدَ كلٌّ بكلبته بعيداً عن الآخر، ونظر (آرام) إلى عاهرته العارية وقد غَلَبها النومُ الذي هَرَبَ من مُقلَتَيْ (آرام)، لأن الساعات الأخيرة في الانتظار تكون مضطربة، وخاصة إذا كان انتظارَ ستةَ عشر عاماً.

ونظر إلى جسدِها العاري وقال: الآن مصرُ عاريةٌ أمام سلاح الجوِّ الإسرائيلي، تماماً مثل هذه العارية أمامي، وأنا الذي عريتُ هذه من ثيابها، كما عريتُ مصر من سلاحها الجوي.

*        *        *

نهض الفريق (لطفي حبيب) في السابعة من صباح يوم الخامس من يونيه 1967م من فراشه مُخَلِّفاً فيه (سهير زكي)، نهض وهو يَفرُك عينيه الحمراوين، مهدوداً من التعب، وهو يَوَدُّ لو ينام ثلاثة أيام متواصلة، لكنَّ وعداً من المشير (عبد الحكيم عامر) أجبره على ذلك، وقبل الثامنة كان في المطار لِيُشارك المشير في رحلته التاريخية إلى سيناء.

بعدَهُ بدقائق استحمَّ (آرام نوير) لآخر مرة في القاهرة، واتَّصل بالمطار:

- ألو.. مدموزيل فيفي.. صباح الخير يا أمورة.

- يسعد صباحك يا بيه، صباح الفلّ والياسمين. ونظَرَتْ إلى أعلى وهي تُرَدِّد: يا فتَّاح يا رزَّاق. فقد عوَّدها أن ينقدَها ضِعفَ راتبها الشهري كلَّما حَجَزَتْ له مقعداً على الطائرة، مما جعلهنَّ يتنافَسْنَ على تقديم أيِّ خدمـة له.

- ممكن تحجزي لي في أول طيارة إلى أثينا.

- من عينيّ الاثنتين يا بيــه.

- سأكون عِندَك في السابعـة والنصف.

وما هي إلاَّ خمس دقائق حتى حجزت له فيفي في الطائرة المنطلقة إلى أثينا في تمام الثامنة.

*         *        *

(9)

في حوالي الرابعة صباح الخامس من حزيران تجمَّعتْ لدى الدوريات الأمامية لوحدات نطاق الأمن مشاهداتُ أنوار وسَماعُ أصوات عربات في مناطق فتح وحدات العدوّ واستعداده للهجوم، ووصلت هذه المعلومات إلى مكتب مخابرات العريش، وهو مركز استطلاع تعبويّ للجيش، فأرسل في الحال إشارةً إلى قيادته العُليا  بمكتب وزير الحربية (شمس بدران)، واستقبلَها الضابط المناوب، وأرسلها إلى المشير، حيث كان نائماً في مقر القيادة العامة بمدينة نصر، تسلَّمها المقدَّم (علي شفيق) مديرُ مكتب المشير وعَرَضَها عليه في غرفة نومه، ولم يُعَلِّقْ عليها المشير، وَعلم فيما بعد أنها وصلتْ إلى هيئة العمليات في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة، أي بعد الضربة الجويـة.

وفي الثامنة بتوقيت مصر أقلعتْ طائرةُ نقل عسكرية، على متنها المشير و(لطفي حبيب) وغيرهما من القادة يوم الخامس من يونيه، مُتَّجِهَةً إلى بير ثمادة في الجبهة، لذلك أمرت القيادة مُمَثَّلةً بغرفة العمليات كافَّةَ أسلحة الدفاع الجوي بعدم إطلاق النار، وقالت: "يُمنَعُ التَّصَدِّي لأيِّ طائرةٍ في الجَوِّ، لأن المشير وكبارَ القادة في رحلة إلى سيناء.."، وهكذا بَقِيتْ طائرةُ المشير ومعظم أفراد القيادة معلقةً بين السماء والأرض بعد أن ضَرَبَتِ الطائراتُ الإسرائيلية مدارجَ الهبوط، وطائرة المشير معلقةٌ في الجوّ، بينما تسبقُها طائراتُ إسرائيل إلى ضرب المدارج، والأمر ساري المفعول بمنع التَّصَدِّي لأَيِّ طائرةٍ في الجَوِّ خوفاً على حياة الفيلد ماريشال الغاليـة!.

واستمرَّت طائرةُ المشـير أركـان حرب (عبد الحكيم عامر) القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ومعه (لطفي حبيب) قائد سلاح الجوّ، تحوم في سماء مصر، ومئات الطائرات اليهودية تُنفِّذُ ضربَتها التاريخيةَ، حتى كاد أن ينفدَ وَقُودُها، فَهَبَطَتِ اضطراراً في أحد المدارج المُعَطَّلـة!.

*       *       *

وفي نفس الساعة الثامنة بتوقيت مصر السابعة بتوقيت إسرائيل، أقلعَتِ الطائراتُ اليهودية من قواعدها في الأرض المحتلة غرباً فوق البحر المتوسط على ارتفاعٍ مُنخَفِضٍ جداً، كي تُفلِتَ من الرَّادار المصري، حتى وَصَلت مرسي مطروح، فانعَطَفَتْ يساراً، وتوزَّعَتْ على قواعد مصر الجوية كما توزَّعت عليها عام 1956م، ومعظم قادة الأسراب ما زالوا في الخدمة أو استُدْعُوا إليها، وَوَصَلَتِ الأفواجُ الأولى فوق القواعد المصرية في الثامنة وعشر دقائق، فوجدتِ الطائرات مَصفوفةً بشكلٍ مُتقَنٍ على المدارج، طائرات عارية في العراء، دفع الشعبُ المسكينُ ثَمَنَها لِيُدافِعَ بها عن كر امته، وكانت قذيفة لواحدة منها تُفَجِّرُ الأُخرياتِ المصفوفات على نفس الخط، وَتُوَفِّرُ الوقتَ والجهدَ والذخيرةَ على اليهود، ولم تكن أيُّ طائرة مصرية مقاتلة في الجَوِّ آنذاك.

وَلَمَّا أقلَعَتِ الطائراتُ اليهودية ارتَسَمَتْ ظِلالُها على شبكة الرادار الأردني في الثامنة بتوقيت مصر، وبعثت الإشارة إلى القيادة المصرية تقول: "في الثامنة أقلعت طائرات يهودية كثير ة جداً..."، ولكن..

نامتْ نواطيرُ مصر عن ثعالبها    فبشمن وما تفنى العناقيـد

وربما منعت الباخرةَ ليبرتي وصولُ برقية الأردن، لكن ولو وصلت، هل يستطيع المخبولون من السُّكر أن يُقلِعُوا بطائراتهم خلال خمس دقائق؟ لقد حاول بعضُ الطيارين ذلك، لكنَّ الشَّظايا المتناثرةَ من الطائرات المتفجِّرةِ على المدارج قَتَلَتهم قبل أن يصلوا إليها.

والقاعدة الوحيدة التي نَجَت هي أسوان، التي لم يَرْضَ قائدُها (اللواء شحاتة عبد العظيم) -قائدُ سلاح الجَوّ بعد الخامس من حزيران- أن يُشارك في الحفلة اللعينة، ولم يَسمحْ لِطيَّاريه بالمشاركة فيها، وعندما ارتسمت على شاشة الرادار عندَهُ طائراتٌ كثيرة ثم تَعطَّل الرَّادار، اتَّصَلَ بالقيادة ولم يردَّ عليه أحد، وكرَّر الاتصالَ دون جدوَى، فأدرك الخطرَ، وأمر كلَّ طيَّاريه بالإقلاع بطائراتهم إلى السودان فوراً، وما إن فرغَتْ قاعدةُ أسوان حتى جاءت طائراتُ اليهود تُعَطِّلُ مَدرَجها.

*       *         *

قبل الثامنة صعد (آرام) سُلَّمَ الطائرة الجاثية على مطار القاهرة الدولي، وأسند ظهرَهُ إلى المقعد يُحاوِلُ أن يُرخِيَ أعصابَهُ المشدودة، وَيُذهِبَ عنه القلقَ المُتَحَفِّز، خاصة وقد أكمل مهمَّتَهُ على أحسن وَجه، وقد قطع مُعظَمَ طريقِ النَّجاة، ولم يَبقَ إلاَّ أن تُقلِعَ الطائرة.

وعندما نظر إلى ساعته التي تُشيرُ إلى الثامنة، شحب وجهُهُ، وبدأ يربط حزامَ المقعد كأنه يَحُثُّ الطائرةَ على الانطلاق، وفي الثامنة وعشر دقائق سَمِعَ أصوات انفجارات رَقَصَ لها قلبُه فرحاً، وصار يُدَندِنُ في سِرِّهِ، ولم يبق إلاَّ أن تُقلعَ الطائرة.

مضت ربعُ ساعة والطائرةُ جاثمة، وتَعَجَّبَ الناسُ وقلقُوا من أصوات الانفجارات، وتَذَمَّرُوا من الشركة ومن مواعيدِها.

وبعد أن انتهت الموجةُ الأولى التي تَرَكَتْ مدرجَ مطار القاهرة الدولي للموجة الثانية، واكتفَتْ بتدمير المدارج الاحتياطية فقط، على عكس العادة المُتَّبَعـة، بعد الثامنة والربع قالت المُضِيفةُ بصوتٍ مُرتَجِف: آنساتي سادتي.. نعتذرُ عن هذا التأخير الخارجِ عن إرادتنا، نرجوا أن تَشُدُّوا الأحزمة، لا تُدَخِّنُوا.. شكراً.

وضحك (آرام) عندما شَعَرَ بالطائرة ترتفع عن أرض مصر، أرض مصر التي عاش عليها ثلاثة عشر عاماً، وَرَدَّدَ في سِــرِّه:

- وُلِدتَ من جديد يا (باروخ ماندل).. سأَتناوَلُ غداءً دسماً في أثينا، وسأقضي وقتاً سعيداً هانئاً قبل العودة إلى أرض الميعاد .

*     *    *

وفي الواحدة من صباح الثلاثاء (6/6/1967م) نقلت محطة صوت إسرائيل وقائع المؤتمر الصحفي للجنرال ( مردخاي هود ) قائد السلاح الجوي الإسرائيلي في بيت سوكولوف بتل أبيب ليعلن عن :

1- يقول دمرنا اليوم (416) طائرة للعدو ، بعضها على الأرض ، وبعضها في معارك جوية .

2- خلال الضربة الجوية لمصر دمرنا (19) مطاراً مصرياً ، و(25) محطة رادار ، و(309) طائرة قتال مصرية .

3- ودمرنا( 60 ) طائرة لسوريا ، و(12) في العراق ، وطائرة واحدة لبنانية من طراز هنتر .

4- وكانت خسائرنا : (19) طياراً منهم ( 8) قتلوا ، و(11) مفقوداً . وتم إخطار أهل المقتولين ، والمفقودين .  كما خسرنا (19) طائرة مختلفة في المعارك .

*     *     *

وعلى الرغم من أن سلاح الجو الإسرائيلي بدأ هجومه على مصر في الصباح،(في السابعة والربع صباحاً )، ولم يترك لحماية سماء الأرض المحتلة ومطاراته سوى اثنتي عشرة طائرة فقط،ولوُُ شـن هجومٌ جوي عربي(سوري عراقي أردني)؛على مطارات العدو بعيد السابعة صباحاً وحتى الثانية عشرة لدمرمطارات العدو، واعترض طائراته عند عودتهامن سماء مصر بدون وقود وذخيرة، ومن السهل إسقاطها عندئذ . ولكن الطائرات السورية - وسوريا هي الداعية إلى الحرب - نفذت أول وآخرهجوم في الثانية عشرة ظهراً، أي بعد أن فرغ الطيران الإسرائيلي من تدمير السلاح الجوي المصري وهي ست ساعات!!!!ولم نسمع عن غارة سورية ثانية بعد تلك الغارة على مصافي حيفا. ونجد الجواب في كتاب ( حربنا مع إسرائيل ) للملك حسين إذ يقول :

كنا ننتظرالسوريين فبدون طائرات الميغ لايمكن قصف مطارات إسرائيل الجوية، ومنذالتاسعة والنصف اتصلت قيادة العمليات الجوية بالسوريين، فكان جوابهم أنهم بوغتوا بالأحداث !!! وأن طائراتهم ليست مستعدة !!! وأن مطاراتهم تقوم برحلة تدريبة !!! وطلبواإمهالهم نصف ساعة، ثم عادواوطلبوا إمهالهم ساعة، وفي العاشرة والخامسة والأربعين كرروا الطلب نفسه فوافقنا، وفي الحادية عشرة (أي بعد فراغ العدو من القضاء على سلاح الجو المصري)لم يعد بالإمكان الانتظار!!، فأقلعت الطائرات العراقية وانضمت إلى سلاحنا الجوي لتساهم في المهمة، ولذلك لم تبدأ عملياتنا الجوية إلا بعدالحادية عشرة ( أي بعد فراغ الطيران الصهيوني من تدمير الطيران المصري ) .

يقول الملك حسين: (فوت علينا تأخر الطيران السوري فرصة ذهبية كان يمكن أن ننتهزها لمصلحة العرب، فلولا تردد السوريين!!! لكنا قدبدأنا عمليات القصف الجوي في وقت مبكر،ولاستطعنا اعتراض القاذفات المعادية، وهي في طريق عودتها إلى قواعدها بعد قصفها للقواعد المصرية، وقد فرغت خزاناتها من الوقود ونفذت ذخيرتها، وكان بإمكاننا حتى مفاجأتها وهي جاثمة على الأرض تملأ خزاناتها استعداداً لشن هجمة جديدة، فلو قيض لنا ذلك لتبدل سير المعركة وتبدلت نتائجها، وتغير مجرى التاريخ العربي، كل ذلك الأمل فوته علينا السوريون .

الزمن وحده سيكشف تفسيراًلأمورعديدة، لكن ماتأكدت منه أن الطيران السوري لم يكن جاهزاً للحرب يوم(5) حزيران، وكانت حسابات الإسرئيليين صحيحة، عندمالم يتركوا سوى اثنتي عشرة طائرة لحماية سمائهم، بينما استخدموا كل سلاحهم الجوي لضرب مصر). انتهى كلام الملك حسين .

*       *      *

وهكذا انتهت حرب الساعات الست ، التي حطم سلاح الجو الصهيوني السلاح الجوي المصري فيها ، ليسيطر الصهاينة على سـماء المعركة ، وليقتل الصهاينة بضعة عشر ألف جندي مصري ، ومئات الأردنيين والسوريين ، ويحتلون سيناء كلها ، والضفة الغربية ، والجولان، وفي الأسبوع التالي كانت إذاعة النظام السوري في دمشق تؤكد أن الصهاينة لم ينتصروا في الحرب ؛ لأنهم أرادوا إسقاط النظام التقدمي في دمشق ولم يستطيعوا ...!!!

* * *     تمت     * * *

وإلى اللقاء في رواية دماء على القناة

 



([1]) عندما سافر المشير عامر إلى باكستان عام 1966م، أرسل مِن هناك برقيةً شفرية إلى عبد الناصر يقترح إرسالَ قوات إلى شرم الشيخ، ولم يعرف سبب ذلك وقتذاك، ولا الآن. انظر: مذكرات محمد فوزي - حرب السنوات الثلاث.

([2]) أحمد بهاء الدين . وتحطَّمت الأسطورة عند الظهر . ص38.

[3] - انظر كتاب الانفجار قصة حرب يونية لمحمد حسنين هيكل ، وكتاب حرب الثلاث سنوات للفريق أول محمد فوزي  .

[4] - كاتب صحفي في أسرة العرب .

([5]) وهكذا من بدهيات النظام الأسدي أن محاربة الرجعية أهم من محاربة إسرائيل، وكنا نظن ذلك على سبيل الكناية والمبالغة، حتى تأكد لنا أنه على سبيل الحقيقة، فقد حاربوا المسلمين وقتلوا العلماء ودمروا المساجد، ولم يعكروا أمن إسرائيل بعد. وقتلوا عشرات الألوف من أبناء الحركة الإسلامية ( الرجعية كما يسمونها )، والصهاينة ينعمون بالأمن في الجولان .

 
RocketTheme Joomla Templates