وتبقى التقوى ميزان التفاضل بين البشر
(1 من 2)
بقلم: فضيلة الأستاذ جمعة أمين
نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
لقد وضع الإسلام أساس المساواة بين البشر قبل أن يتشدق بها المتشدقون من أصحاب الشعارات الزائفة والمبادئ الخاوية من المضمون، وقبل أن تقام المؤسسات والهيئات العالمية والمحلية والإقليمية للدفاع عن حقوق الإنسان، بل قبل أن تعقد مؤتمرات لهذا الغرض النبيل لكي ينال الأسود حقه كما يحصل عليه الأبيض، أقول: قبل هؤلاء جميعا بأربعة عشر قرنا من الزمان كانت هناك وثيقة تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين في حجة الوداع وهو يقول (اللهم بلغت اللهم فاشهد) تضمنت هذه المعاني وأكثر.
والناظر البصير في أيامنا هذه يرى كثيرا من الأمم تخضع لنظام الطبقات، وتفرق بين الأفراد على غير أساس إلا أساس التوارث والعصبية الباطلة أو القوة الغاشمة وجميعهم يردد (ليس علينا في الأميين سبيل).
وجاء الإسلام الذي يطلق عليه هؤلاء في هذه الأيام "الرجعية" و"التطرف" بل "الإرهاب" دون تفريق بين مفرِط ومفرّط ولا بين معتدل ومتشدد، جاء بدستوره العادل القويم، فصدع هذه النظم وقضى على تلك الفوارق، وجمع بين أبي بكر القرشي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وجعل بينهم مقياسا ثابتا يتفاضلون به لا دخل للون ولا للجنس، ولا البلد ولا المال ولا الولد اللهم إلا العمل الصالح الذي يحقق التقوى، يقول مقاتل رضي الله عنه: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا بأن يعلو الكعبة ويصعد ظهرها ويؤذن، فلما أذن قال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فإذا السماء تهتز وإذا بجبريل يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم عما قالوا فأقروا فأنزل الله ميزان التفاضل بين البشر ليصبح ميزانا ومقياسا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
وعد إلى التاريخ البعيد تجد نظام الطبقات كان معمولا به في الأمة اليونانية في أوج حضارتها وهي أمة الفلسفة والنور - كما يدّعون - وفي الأمة الرومانية وهي أمة القوانين وتقرير الحقوق كما كانوا يطلقون عليها، وفي الأمة الفارسية وهي أمة الحضارة القديمة العريقة - كما يزعمون - فلما انتصر المسلمون على هؤلاء جميعا، ما سلبوهم أموالهم، ولا قتلوا أبناءهم، ولا سرقوا ثرواتهم، ولا اعتدوا على أعراض نسائهم، بل قالوا لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وهذه المساواة تنتظم الناس جميعا، فهي بمثابة إعلان للوحدة الإنسانية، روى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (انتظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله).
فيا من تتشدقون بالحرية والمساواة بين البشر: ليست المساواة في الرذائل والكبائر التي يرتكبها البعض ويريد أن يفرضها على غيره من أصحاب المبادئ القيمة والقيم العالية، ويا مسلمون يا من رأيتم أشكال البشر وألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم وتحقق بين الجميع الأخوة الإنسانية، ورأيتم بأعينكم المساواة الفعلية في الشكل والمظهر .. تعالوا جميعا إلى كلمة سواء وادعوا عشيرتكم وأهليكم وحكامكم إلى العودة إلى هذه المبادئ السامية الربانية والفظوا جميع الدعوات الهدامة التي أقيمت لها مؤتمرات ليسودوا هم بأفكارهم ويتخلف المسلمون، فهل من عودة إلى شريعة الله المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله علبه وسلم ليعود للمسلمين مجدهم وللناس جميعا حقوقهم وتبقى (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13) هي الميزان؟!! هذا هو المقياس الذي وضعه المولى للبشرية لتتعرف على المصلح من المفسد، فليلتزم المسلم بمنهج الله في تقييم الرجال والمناهج التي يدعون إليها ويتضح الفرق بين من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ومن يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ويلتزمون بمنهجهم السلمي الذي يدعون إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والذي لا يعرف عنفا ولا إكراها حتى ولو أزهق أهل الباطل أرواحهم وهم يقولون (اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).
إن الافتراق بين دعاة الإسلام المتمسكين بمنهجهم الرباني السلمي وبين غيرهم المتغربين هو أنهم يقولون للجميع: إن القرآن والسنة هما مصدر ديننا وأساس عقيدتنا ومنطلق شريعتنا، ومنهج تفكيرنا، ومعين أخلاقنا وحياتنا كلها (قُلْ إنَّ صَلاتِى ونُسُكِى ومَحْيَاى ومَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162 – 163).
|