الغزالي والفلســلفـة
إن الحمد لله وحده لاشريك له ، والصلاة والسلام على رسول الله ، اللهم لاعلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ماينفعنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا يا أكرم الأكرمين ، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ...
وبعد في هذه الدقائق سأقدم لكم قصتي مع الفلسفة ، ثم لمحات سريعة عن الفلسفة ، ثم الغزالي والفلسفة إن شاء الله تعالى ...
قصتي مع الفلسفة :
في سنة 1964م حصلت على الثانـوية الفـرع الأدبــي ( دراسة منازل ) ، وكنت طالباً في دور المعلمين العامة ، وكانت الماركسية في سوريا قويةً جداً في الجامعات والثانويات ، وكان أساتذة الفلسفة يتباهون ويترفعون عن غيرهم لأنهم درسـوا الفلسفة ، وعرفوا الماركسية ....
ومنذ ذلك العام هداني الله عزوجل إلى محاولة الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحببني بطريق الدعوة إلى الله ، فأردت أن أدرس الفلسفة وأستخدمها كسلاح بيدي في هذه الدعوة إلى الله عزوجل ....ومن أعظم مجالات الدعوة إلى الله يومئذ أن تحارب الماركسية، وتفضحها وتبين عوارها ، وتحصن ذراري المسلمين منها .... لذلك ذهبت وبدون تردد إلى قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة دمشق ، وكان يومها القبولُ غيرَ محدد (1964)، لأن الراغبين في دخول الجامعة قلــة .. وخلال ساعة واحدة أنهيت تسجيلي في الجامعة ، وحاول شيوخي وأصحابي أن أعدل عن دراستها وأبدل إلى الشريعة أو اللغة العربية أو التاريخ .... ولكني كنت مصراً على قراري ، بل كنت مدفوعاً له بشكل عجيب ، ولما رأوا إصراري نصحوني أن أقرأ سيد قطب وأخاه محمد قطب ، فلعل كتاباتِـِهم تحصنني من الغرق في بحر الفلسفة ، وبعد أربع سنوات تخرجت من قسم الفلسفة (1968) م ، مع أنني كنت أعمل في التعليم الابتدائي ، في الجزيرة السورية ، بعيداً عن الجامعة التي أراها ثلاث مرات في العام ، إحداها في العطلة النصفية ، وكانت عطلة الجامعة تختلف عن عطلة التعليم العام ، وخلال امتحان الدورة الأولى والثانية، وتخرج معي في نفس الدفعة كل من الشيخ راشد الغنوشي ، مؤسس حركة النهضة الإسلامية في تونس ، والشيخ مروان حديد يرحمه الله .
وعملت مدرساً للفلسفة في سوريا والجزائر حوالي عشر سنوات .... وذات يوم قلت للطلاب في الجزائر لو عدت طالباً وحصلت على الثانوية سأذهب مباشرة وبدون تردد إلى قسم الفلسفة ...
كان مدرس الفلسفة معناه ماركسي ، ولذلك تندر أهل البلدة التي علّمت الفلسفة في ثانويتها في سوريا وهم نصارى .. عندما عرفوا أنني أصلي ، وصار حديث البلدة (جاءنا مدرس فلسفة يصلي ) ، ولم يسبق لهم أولغيرهم أن رأوا مدرس فلسفة يصلي ، وخاصة أن المدرس الذي كان قبلي كان ماركسياً ونصرانياً ...
وأأ
سخرت الفلسفة للدعوة الإسلامية وحاربت الماركسية في بلدي وفي الجزائر باسم الفلسفة ونجحت في ذلك بفضل الله عزوجل ... ( وأكرر أن محاربة الماركسية كانت مجالاً هاماً من مجالات الدعوة إلى الله يومذاك ) ...كي نحصن شبابنا من خطرها ...
في ذلك الوقت يندر أن يجرؤ مدرس على القول أمام الطلاب ( أخطأ ماركس ) أما أنا فقلت لهم : ( يقول الفيلسوف روجيه جارودي – رئيس المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي يومذاك ، وأسلم أخيراً ) يقول : لقد أخطأ ماركس عندما قال : الدين أفيون الشعوب ، ولو عرف ماركس الإسلام لقال الإسلام ثورة ٌعلى الجهل والظلم والتخلف ....
ويومذاك انشق الحزب الشيوعي الفرنسي ، بدفع من الجارودي عن الماركسـية اللينينيـة ، ( انشق عن موسكو ) ،ودعا إلى الاشتراكية القومية ، وسماها الطريق إلى الاشتراكية ،وكتب عدة كتب ( منها البديل ، والطريق إلى الاشتراكية ، والحقيقة كلها وغيرها....) قرأت معظمها وكنت أحاجج بها الطلاب الماركسيين اللينينين .... كما كتب الأستاذ عصمت سيف الدولة ( أسس الاشتراكية العربية) ، فيه فصل ينقد المادية الجدلية المبدأ الذي تقوم عليه الماركسية ، ويثبت أن المادة غير جدلية ...أي أنه قوض الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه الماركسية ...وكنت أذاكر هذا الكتاب خلال العطل كالطالب عندما يذاكر من أجل الامتحان ... وأطرح مقولاتـِه على الطلاب ومنهم الماركسيون ...
وربما الفضل بعد الله لكتابات سيد قطب ومحمد قطب وروجيه جارودي وسيف الدولة وأمثالهم ، التي قرأت معظمها يومذاك ، وجعلتني أفهم حقيقة الفلسفة ....
وقد استفتيت الشيخ سعيد حوى يرحمه الله في هل يجوز لي شرعاً أن أدرّس الفلسفة للطلاب ؟ وأستلم راتباً أطعم منه أولادي !!؟ ،ستلم أ فقال لي شريطة أن تبين لهم حقيقتها في أنها مناقضة للإسلام ، وعندئذ تؤجر لأنك سددت ثغرة يدخل منها الماركسيون إلى عقول شبابنا ... لذا كنت أوزع العام ثلاثة أقسام : الأول أعرض فيه الفلسفة ، والثاني أركز على تناقضات الفلاسفة فيما بينهم ، والثالث أصرح بأنها مناقضة للإسلام وأنها باطلة ... وأن الحقيقة هي الإسلام ...وهذا من فضل الله علي ...
ماهي الفلسفة :
هي حب الحقيقة أو البحث عن الحقيقة ، ( فيلو صوفيا ) حب الحكمة ، أي حب المعرفة ، وحب المعرفة يقتضي التفكير المستمر ، وتقف على نقيض الدين لأن :
1- الفلسفة انتاج بشري والدين رباني ...
2- الفلسفة متغيرة وتعتقد أن التغير من سمات الإنسان ....ولذلك هي ضد العقيدة لأن أصولها وإطارها العام فكر ثابت ، والفلسفة تريد أن يستمر التفكير ويستمر البحث عن الحقيقة ، لذلك كنا نطرح على الطلاب موضوعا صاغه فيلسوف فرنسي يقول : إن الفلسفة التي تتحول إلى عقيدة لاخير فيها ...والمقصود استمرار التفكير والبحث عن الحقيقة....
3- الفلسفة محاولة بشرية لتفسير الكون كله بما فيه الإنسان والإله ....وكنا ندحر الماركسية من هذا الباب لأنها جمدت ، ولو استمرت في البحث لنقضت مقولاتها ومسلماتها ...ولو استمرت الماركسية في ( التفلسف ) ومعناه البحث عن الحقيقة لوصلت الى معطيات الدين السماوي ....
...ومن أكبر الفلاسفة الإغريق : سقراط وأفلاطون وأرسطو . أما سقراط فهو فيلسوف أخلاقي قضى نحبه وهو يقارع السوفسطائيين الذين ينكرون وجود الحقيقة المطلقة ... وحكموا عليه بالاعدام ، لأنه يفسد عقول الشباب ، ويوهمهم بوجود الحقيقة ، بينما يؤكد السوفسطائيون على أن الحقيقة نسبية ومتغيرة .... فتجرع السم بين طلابه وفارق الحياة وهو يكرر أن الحقيقة المطلقة موجودة ..... والسوفسطائيون ينكرون وجود الحقيقة المطلقة بل الحقيقة عندهم نسبية ، وبذلك قد تكون الحقيقة عندك تختلف عما هي عندي ، ومن الأمثلة المحامي الطالب الذي تعاقد مع محام قديم يعلمه المرافعة أمام القاضي ، وعندما يكسب المحامي الطالب أول قضية يدفع الأجرة للمحامي الأستاذ ، وبعدما تعلم المحامي الطالب لم يدفع الأجرة ، فقال له المحامي الأستاذ سوف أشتكيك للقاضي قال الطالب حسناً إذا كسبت الدعوى أنت لا ادفع لك حسب العقد بيننا ، وإذا خسرتها أنت لا ادفع لك حسب حكم القاضي ، قال أستاذه العكس هو الصحيح إذا كسبتَ أنت تدفع لي حسب العقد بيننا وإذا خسرت أنت تدفع لي بحسب حكم القاضي .....وهكذا يتضح أن لكل منهما حقيقته ...
كما أنهم قالوا ننفخ على الطعام الحار كي نبرده عند تناول الطعام ، وننفخ في أيدينا عند البرد كي ندفئها، فهل هواء الزفير عندنا بارد أم حار !!!؟؟ لذلك لاتوجد حقيقة واحدة كلية أو مطلقةعندهم، بل الحقيقة نسبية .... وقضى سقراط عمره يكافح هؤلاء السوفسطائيين ويثبت أن الحقيقة الكلية موجودة ... وقدم روحه من اجل ذلك ...
وأما أفلاطون فهو زعيم الفلسفة المثالية التي تؤمن أن الإنسان كان في عالم المثل قبل أن يوجد على الأرض ... ثم نزل إلى عالم الواقع ( المادة ) ، وكل ما يتعرف عليه الإنسان في واقعه شاهده في عالم المثل ، لذلك المعرفة عنده تذكر ، وأفلاطون صاحب المدينة الفاضلة التي يحكمها الفلاسفة ، وهو الذي اقترح أن يدرس الانسان العلوم كلها، وبعد الاربعين يبدأ بدراسة الفلسفة ..
وأزعم أن سقراط وأفلاطون أخذا بعض أفكارهم من وحي سابق وصلت لهم بعض مقولاته ( عالم المثل الذي أنزل منه الإنسان إلى عالم الواقع ) يشبه نزول آدم عليه السلام من الجنة .... وكفاح سقراط ضد السفسطة يشبه إلى حد ما جهاد الدعاة ضد الشرك وعبادة الأصنام ....
وأما أرسطو (ق 4 ) ق م . وهو أستاذ القائد الكبير الاسكندر المقدوني ، وهو أبو الفلسفة المادية الذي ركز بحوثه على الطبيعة ( وهو مناقض لأفلاطون مع أنه تلميذه ) ، وكانت له فرقة في جيش الاسكندر المقدوني يجمعون له النباتات والحيوانات من البلدان التي وصلوها لدراستها والتعرف عليها ، وبالطبع هو ضد الفلسفة المثالية .... أنشأ مدرسة( المشائين )ومن أهم مؤلفاته كتاب المنطق ( أورجانون) وتعني الأداة ، يعني أداة التفكير، وهو أول من وضع قواعد منطقية سميت ( المنطق الصوري] الذي درسناه في المرحلة الثانوية ، ومن كتبه الطبيعة وركز فيه على سمة التغير ، وكتاب الروح ، وكتاب ماوراء الطبيعة ، وكتاب الأخلاق والسياسة ، والفضيلة عنده قمة بين واديين هما( إفراط وتفريط )،فالكرم هو وسط بين البخل والتبذيروالسعادة هي الحياة التي يحكمها العقل .
ومن الفلسفة الإسلامية ( مع التحفظ على المصطلح لأن فيه تناقض بين مصطلح فلسفة ومصطلح إسلامية ) نجد المعتزلة الذين بدأوا مدرسة علم الكلام ، وحجتهم أن يجادلوا غير المسلمين أو الذين لم يتعمق إسلامهم بعد يحاورونهم بالقضايا العقيلة وليس القضايا القرآنية التي لم يؤمنوا بها بعد .... ونشأت مدرسة كبيرة ختمت بالفلاسفة المسلمين ومنهم :
ابن رشد، الفقيه الطبيب السياسي الفيلسوف ، (ق 12) م ، الأندلسي ، القاضي ثم الوزير ، ثم حوكم بتهمة الكفر وأحرقت كتبه ، ومن أهم كتبه ( تهافت التهافت ، رد به على الامام الغزالي الذي كتب تهافت الفلاسفة ، ومنها جوامع سياسة أفلاطون ، أرسطو ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) ، اهتم به الغرب كثيراً لأنه أفضل من شرح فلسفة أرسطو ، ويسمي أرسطو ( الإنسان الأكثر كمالاً ) ويرى ابن رشد أن الفلسفة هي طريق الوصول إلى الله ، وفضل الحقيقة العقلية على الحقيقة الدينية ، ومن آرائه أن تراجع دور المرأة سبب انهيار حضارة المسلمين في الاندلس ....
و جميع الفلاسفة المسلمين ( مع تحفظي على تناقض المصطلح ) ، ( الفارابي ، ابن رشد ، الكندي ، ابن سينا ، ابن طفيل ، وغيرهم ) جميعهم تلاميذ لأرسطو ، بل أن أوربا في نهضتها الحديثة أخذت فلسفة أرسطو عن طريق ابن رشد ، حيث كانت ( الرشدية ) في أوربا ذات قوة وأثر كبير في نهضة أوربا ....
وهكذا وصلت أوربا في نهضتها الحديثة فلسفة أرسطو ( المادية ) واندثرت فلسفة سقراط الأخلاقية وفلسفة أفلاطون المثالية .
ومن الفلسفة الحديثة نأخذ الفرنسي ( ديكارت ) الذي عاش في القرن (16م) ، وهو فيلسوف وعالم رياضيات ,هو أبو الهندسة التحليلية التي مزجت الجبر بالهندسة ، وهو القائل ( أنا أفكر إذن أنا موجود ـ قالها بعد أن عاش مدة يشك بوجوده ! هل هو وجود حقيقي أم وهم وخيال !!؟).
....... وهو من ركائز الفلسفة العقلية ...
أما ( كانط ) من القرن (18) م ، ألماني ، وهو فيلسوف أخلاقي ، كان صارماً جداً في حياته ، وكتابه نقد العقل العملي (الأخلاق )يرى أن الأخلاق لاتقوم بدون الايمان بالله واليوم الآخر والحساب على الأعمال ...
ثم جاء الألماني هيجل ( 1771- 1831) بالجدلية المثالية ، ( الديالكتيك )حيث جعل الفكر أسبق من المادة ، وينطلق من تطابق الفكر مع الوجود ، وإرجاع كافة العمليات إلى التفكير ، وكل ماهو خارج الفكر هو تجسيد للأفكار ذاتها ، وجعل الفكرة تتصارع مع نقيضها ، ويتركب منهما الواقع ... فالوجود المطلق يصارع العدم المطلق ، وينتج عن صراعهما الوجود الفعلي ( الصيرورة ) ، وهكذا كل فكرة تتصارع مع نقيضها ، فينتج منهما فكرة ثالثة وسط بينهما ، وهذه الثالثة تصارع نقيضها كذلك ، وهكذا دواليك ...
أما ماركس ( 1818- 1883) ألماني ، عاش ومات في لندن ، فقد قلب المنهج الجدلي ، وجعل المادة تصارع الفكرة وينتج عنهما الواقع ... أي أنه عكس المنهج الهيجلي في الديالكتيتك ، وبذلك صار الفكر من انتاج المادة ... وليست المادة من انتاج الفكر كما يقول هيجل ، ثم حول المنهج الجدلي إلى التاريخ بما سماه الجدلية التاريخية المؤدية إلى الحتمية التاريخية ...
ويرى ماركس في هذه الحتمية التاريخية أن البشرية مرت بمراحل الصيد والرعي ثم الزراعة حيث كان النظام الإقطاعي ، ثم وصلت النظام البرجوازي فالرأسمالي مع العهد الصناعي ، والبشرية كلها سوف تنتقل إلى الاشتراكية العلمية ( ملكية الدولة لأدوات الإنتاج ) ، وهذا أمر حتمي عنده ، لذلك سماه الحتمية التاريخية وشبه البشرية بقطار يمشي نحو الاشتراكية ، ثم الشيوعية حيث يقدم كل إنسان طاقته ويأخذ حاجته فقط ، ويبطل الاستغلال واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان ...والتقدميون يركبون في العربات الأولى من القطار ، أما الرجعيون فهم في العربات الخلفية من القطار ، والجميع يمشي نحو الاشتراكية ثم الشيوعية لأن هذا أمر حتمي ( وقد تبين اليوم خطأ هذا الضلال ، حيث انتهت الماركسية فكرياً وسياسياً على يد جورباتشوف ثم يالستين كما تعلمون ) .. مر حتمي أ
وكنا معشر الطلاب في المرحلة الثانوية في الستينات الميلادية تؤثر فينا كلمة الدعوة إن صدرت من مدرس الفيزياء أو الرياضيات أو الكيمياء أكثر مما تؤثره فينا كلمة مدرس التربية الاسلامية ، الذي يدعونا إلى الصلاة كموظف يقوم بواجبه ، ومجرد أن نرى مدرس الفيزياء مثلاً يصلي معنا في مصلى المدرسة يزداد إيماننا بأن الإسلام هو الحقيقة ... فكيف إذا رأينا مدرس الفلسفة يصلي معنا ... ويقول لنا الماركسية باطلة ... والإسلام هو الحق ...
إعارتي إلى الجزائر ....
في عام 1974قررت الجزائر تعريب تدريس الفلسفة وكانت تدرسها بالفرنسية ، وبتحريض من سوريا تم تعريب الفلسفة في الجزائر ، وطلبت الجزائر(55) مدرساً سورياً للفلسفة في عام واحد ، ولذلك كان على سوريا أن ترسل كل من تتوفر فيه الشروط بغض النظر عن الوضع السياسي ، ( في العادة التقرير السياسي أهم من الشهادات عند البعثيين ) ، وكان نصيبي العيش في الجزائر خمس سنوات في آخر عهد بومدين وكانت سنوات دعوة إلى الله عزوجل ، أسال الله أن يثيبني عنها في آخرتي ... وساهمت في دحر الماركسية التي كان بومدين يبنيها على مهل وبطريقة علمية أي يغير البنية التحتية ( علاقات الانتاج ) كي تتغير بعدها البنية الفوقية ( الفكر والثقافة والدين ).... إذن كانت الفسلفة السبب الهام بعد الله عزوجل في إعارتي للجزائر ...
أما تعاقدي مع السعودية !!!!...
فكانت سببه بعد الله الفلسفة أيضاً ...
بعد عودتي من الجزائر عملت عاما واحدا في ثانويات حماة وهو عام (1980) حيث كان القتل يتم دون أن يسأل المواطن عن اسمه .... وواجهني موقفان كدت أن أقتل فيهما وحفظني الله ...لذلك قررت الخروج وأتيت مكتب التوظيف السعودي وأنا أعرف أنهم لايتعاقدون مع خريجي الفلسفة ، ودخلت إلى مكتب جامعة الإمام فقالوا لي نحن لانتعاقد مع خريجي الفلسفة ، حاولت إقناعهم أنني ( مطوع ) ولست مثل غيري من مدرسي الفلسفة ، فقالوا على الرأس والعين لكن عندنا تعليمات مكتوبة لايمكن تجاوزها ...
ذهبت إلى مكتب وزارة المعارف قلت لهم أنا معلم ابتدائي قديم (15) سنة وأريد العمل عندكم . قالوا لانحتاج معلمي ابتدائي صار عندنا كثير ...قلت للموظف عندي شهادة الدبلوم العامة في التربية ، قال إذن عندك ليسانس ، قلت نعم ، قال ماهي ، عندئذ غامرت وقلت ( خربانة خربانة ) قلت له ليسانس الدراسات الاجتماعية والفلسفية ، ( وخفضت صوتي بكلمة الفلسفية ) واسمها الرسمي ليسانس الدراسات الفلسفية والاجتماعية ...فقال : لماذا (تودرها) عنا ، نحن نبحث عن هذه الشهادة ...قلت له غريب !!!أنتم تبحثون عنها !!! ماذا تعملون بها !! قال : نشغله في الإرشاد الطلابي ... وطلب صورة للشهادة وأعطاني استمارات ملأتها فوراً وبعد أيام قليلة كنت في المدينة المنورة ، على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام ، ولله الحمد والفضل الذي دفعني إلى دراسة الفلسفة دفعاً كي تكون سبباً تأخذني إلى الجزائر ، ثم تأتي بي إلى المدينة المنورة ... لكن أذكر بالنية التي عزمت فيها على دراسة الفلسفة ...كانت النية لأجل الدعوة إلى الله عزوجل ...
وطبعاً مذ وصولي إلى المملكة (7/10/1980) الموافق(28/11/1400)انقطعت عن دراسة وتدريس الفلسفة ومراجعها ، ....لذلك هذه معلومات من الذاكرة البعيدة الراسخة لدي ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولد الغزالي عام (450)هجرية في قرية غزالة التابعة لطوس ، والده غّزال ، من شيوخه الإمام الجويني إمام الحرمين في نيسابور ، ثم صار من مجلس الوزير نظام الملك .. وصار مدرساً في المدرسة النظامية في بغداد ، وذاع صيته في الآفاق . وزاحم الأمراء في مكانته ...
يقول الغزالي : ( نظرت في طلابي وإذ فيهم مئات العمائم يكتبون كل ما أقولـُه ، لذلك صرت أتحرى الدقة كي لا أقول إلا حقيقة ) .....وبدأت لديه رحلة البحث عن الحقيقة كما بسطها في كتابه المنقذ من الضلال .... ( يقول : فماهي الحقيقة هل هي مانحسه !!؟ طبعاً لا ، نرى الشمس كالدينار والعقل يقول أكبر من الأرض ، هل الحقيقة مانعقله !!؟ ولكن ألم ننكر المحسوس ، وقد ننكر المعقول كذلك ، ونرى العقل يعجز وينحرف ؟ و تختلف العقول !!؟ ) حتى قل كلامه ثم أغلق عليه ، ولم يقدر على الكلام ، لأنه لايريد أن يقول إلا الحقيقة ، فأين هي الحقيقة !!!؟؟؟ لذلك ترك التدريس ، ووزع أمواله الكثيرة ، ولم يترك منها إلا اليسير ليتقوت به مع بناته ، وبدأ برحلة البحث عن الحقيقة ، حج واعتمر ، وقضى عشر سنوات بين الحجاز والشام ... يبحث عن الحقيقة ...
كانت يومها ثلاثُ مدارس فكرية مزدهرة ، كل منها تقول أنها عرفت الحقيقة ، وهي الفلاسفة ومنهم علم الكلام ، والباطنية ، والصوفية ....
كانت الفلسفة مزدهرة يومذاك ، ويتباهى الفلاسفة بأنهم هم الذين عرفوا الحقيقة ، ويتباهى المثقفون بدراستها ، لذلك درس الفلسفة بحثاً عن الحقيقة فلم يجدها عندهم ، بل ألف كتابه تهافت الفلاسفة الذي يكفر فيه الفلاسفة في عشرين مسألة .... أهمها قولهم بقدم العالم وأبديته ، ( ويدعي الفلاسفة أنه كيف نقول أن الله كان ولم يكن معه العالم ، فماذا بدا له كي يخلق العالم ، وهذا يؤدي إلى تغير في الذات الالهية لايجوز ، لذلك يرون أن العالم كان مذ كان الله وهذا كلام أرسطو بالذات وقد أخذه الفلاسفة المسلمون ) ، ومنها قولهم أن الله يعلم الكليات ولايعلم الجزئيات ، وقولهم أن الحشر بالأرواح لا بالأجساد .... وكان لهذا الكتاب دور فاعل وهام في دحر الفلسفة والانتصار للعقيدة الإسلامية .
ثم توجه إلى الباطنية الذين يقولون أنهم يعرفون الحقيقة ، التي وصلت لهم عن طريق الإمام المعصوم ...ودرس الباطنية ...فلم يجد الحقيقة عندهم ..وألف كتابه القيم ( فضائح الباطنية ) الذي لاقى قبولاً وتأييداً من نظام الحكم في بغداد يومذاك ...
يقول الغزالي في كتابه فضائح الباطنية عن مذهبهم (( مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض ، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم ،وعزل العقول عن أن تدرك الحق لمايعتريها من الشبهات ، والإمام المعصوم مطلع من جهة الله على جميع أسرار الشرائع ، ولابد من وجوده في كل زمان ...
ويقول : (( ويظهرون مايناقض الشرع وكأنه غاية مقصدهم ، ويخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منهم بالانقياد لهم وموالاة إمامهم ، فيوافقون اليهود والنصارى والمجوس على جملة معتقداتهم ويقرونهم عليها )) . كذلك كان لهذا الكتاب دوراً فاعلاً في الانتصار للعقيدة الإسلامية ، كما كان لكتاب تهافت الفلاسفة ...
ثم توجه إلى التصوف ، فقرأ كتبهم ، وقرأ أن التصوف ( يذاق ولايعرف ) أي لايمكن فهمه بالقراءة فقط ، ولابد من سلوك التصوف، لذلك حج واعتمر ثم اتجه إلى الشام حيث أقام بها نحو عامين، فكان يقضي وقته معتكفا في مسجد دمشق، ( الجامع الأموي )لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة الروحية ومجاهدة النفس والاشتغال بتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى. ثم انتقل من دمشق إلى بيت المقدس فكان يدخل مسجد الصخرة كل يوم ويغلق الباب على نفسه وينصرف إلى عزلته وخلوته..والخلوة ، ( انقطاع عن الدنيا ) فكان يخلو فيها للعبادة ، لذلك تصوف ، وسلك طريقهم ...ويقول أنه وجد الحقيقة عندهم ...
نظرية المعرفة عند الغزالي :
الحقيقة عند الغزالي :
يشبه الغزالي اكتساب المعرفة بطريقين : الأول : شبه العقل ببئر تأتيه المياه من السيول والأمطار ، مياه مختلطة بغيرها من الأوساخ أحياناً ... ويشير به إلى الثقافة التي يجمعها الإنسان في عقله، كما هي الفلسفة وغيرها من العلوم ، .... والطريق الثاني للمعرفة ، وهو نوعً آخر من الآبــار حيث نحفـره ونعمقـــه (العبادات والنوافل والزهد في الدنيا ) وهكذا نعمق البئر حتى يصل إلى المياه الجوفية التي تنبع في البئر من قعره ، صافية عذبة لاتشوبها الأوساخ كالبئر الأول ....
ويقصد الغزالي أن القلب الذي نطهره ( بالتصوف ، والتصوف عنده هو العلم و العبادة والزهد في الدنيا) كما عاش تلك السنين العشرة في غرفة صغيرة في إحدى مآذن الجامع الأموي بدمشق ، ومثل ذلك في القدس )، يتصل بالحقيقة الربانية ، ربما بالالهام أو ماشاكله . أو كما نقول أحيانا استفت قلبك وإن أفاتك الناس وأفتوك ... وهذا القلب الذي نستفتيه يجب أن يكون مطهراً من أدران الدنيا بالزهد فيها ....
الغزالي صوفي عقلاني :
والغزالي يحتج بالعقل على غلاة الصوفية القائلين بالفناء والاتحاد، ويرى أنه قد ينكشف للصوفي ما لا يمكن للعقل إدراكه، ولكن ليس من الممكن أن ينكشف له شيء يحكم العقل باستحالته، فالعقل عنده هو الميزان الذي قيضه الله للإنسان لقياس مدى صدق معارفه ووضع الحدود لها، ومن ثم فإنه ليس ثمة تعارض بين مقتضيات العقل، وشئون الإيمان الديني. ويرى أن من لم تكن بصيرته الباطنية ثاقبة فلن يعلق به من الدين إلا قشوره. أما في مسائل الإلهيات والغيب فيقرر أنه ليس للعقل دور أكثر من تقبلها والتسليم بصدقها. ومما لا شك فيه أن الغزالي قد ساهم بتلك العقلية الواعية في تنقية التصوف من كثير من البدع والانحرافات، وأعطى التصوف والحياة الروحية بعداً عقلياً جديداً، وإذا كان الإمام الأشعري قد خلّص علم الكلام من السفسطة الساذجة للمتكلمين القدامى المقتدين بالجدل اليوناني، فإن الإمام الغزالي قد أكد للإسلام قوة الحياة الدينية بتقرير الاعتراف بما نبت فيها من تصوف، وأسسه تأسيساً فلسفياً.
بعد رحلته التي دامت حوالي عشر سنوات ، وصل فيها إلى حقيقة التصوف ، وألف كتابه ( إحياء علوم الدين ) ، عاد إلى بغداد ودرّس سنتين فقط في المدرسة النظامية ، ثم تركها وعاد إلى طوس ، وبنى فيها زاوية ورجع يدرس طلابه فيها ، حتى واتته المنية عام ( 505) يرحمه الله . وفي موته عجب ....
وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين (( البخارى)) و ((مسلم)) اللذين هما حجة الإسلام، ولو عاش لسبق الكل فى ذلك الفن، بيسير من الأيام.
خلاصة :
رد الغزالي على الفلاسفة وقد ذاع صيتهم ذاك الزمان وتغلغلوا بين المسلمين ، ونشروا أباطيلهم على المثقفين ، فكشف زيفهم وتهافتهم ، وحصن المسلمين من ترهاتهم ، كما رد الغزالي على الباطنية الذين تفاخروا بإمامهم المعصوم (المزعوم ) وفضح عقائدهم ، وبين شذوذهم وانحرافهم عن عقيدة التوحيد ، وحصن المسلمين من خطرهم ....
والأهم من ذلك كله أن الغزالي نقى التصوف من البدع والخرافات والمغالاة والجهل ، وضبط التصوف بالعلم والعقل معاً ، وجعله سلوكاً وزهداً في الدنيا وإقبالاً على الآخرة ، وحصره في ميدان السلوك ، وأبعده عن ميدان العقيدة ، فهذبه وقننه وشذبه مما لحقه من المتصوفة المنحرفين ....
ومن أجل ذلك استحق الغزالي لقب حجـة الإســلام لأنه دافع عن حوزة العقيدة وأبعد الشرك والكفر والضلال والترهات عنها .... يرحمه الله تعالى رحمة واسعة ....
( نص من كتابه المنقذ من الضلال ) : (بتصرف )
ولم أزل في عنفوان شبابي قبل بلوغ العشرين إلى الآن ، أقتحم لجّة هذا البحر العميق ، وأخوض غَمرَتهُ خَوْضَ الجَسُور ، لا خَوْضَ الجبان الحذور ، وأتوغل في كل مُظلمة ، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة ، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ لأميز بين مُحق ومبطل ، ، لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته ، ولا ظاهريّاً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته ، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته ، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته ، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري ، غريزة وفطرة من الله وضُعتا في جِبِلَّتي ، لا باختياري وحيلتي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوءٌ إلا على التنصُر ، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام.
فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، فلو قال لي قائل: لا ، بل الثلاثة أكثر [ من العشرة ] بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً ، وقلبها ، لم أشك بسببه في معرفتي أن العشرة أكثر من الثلاثة ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك فيما علمته ، فلا.
ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه من اليقين ، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه ، وكل علم لا أمان معه ، فليس بعلم يقيني.
ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بـهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فأقبلت بجد أتأمل المحسوسات والضروريات ، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ،: من أين الثقة بالمحسوسات ، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم ، بالتجربة والمشاهدة ، بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبـه حاكم العقل ويخونـه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.
فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً ، موجوداً معدوماً ، واجباً محالاً. فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك ، لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً ، وأيدت إشكالها بالمنام ، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً ، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ، ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك [ التي أنت فيها ] ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ، كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها ، ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنـهم يشاهدون في أحوالهم التي ( لهم ) ، إذا غاصوا في أنفسهم ، وغابوا عن حواسهم ، أحوالاً لا توافق هذه المعقولات. ولعل تلك الحالة هي الموت ، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
(( الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبـهوا ))
فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر ، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل ، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية ، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل هذا الداء ، ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ،
ترجمته : محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي، حجة الإسلام والمسلمين، ولد عام (450)هـ في طوس ، وكان والده يبيع الغزل، قضى طرفاً من صباه، بطوس، وتعلم الفقه، على الإمام أحمد الراذكاني. ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين، في طائفة من الشبان من طوس. وجد، واجتهد، حتى تخرج في مدة قريبة، وبذ الأقران، وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه، وواحد أقرانه، في أيام إمام الحرمين. وكان الطلبة يستفيدون منه، ويدرس لهم، ويرشدهم، ويجتهد في نفسه. وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وبعد وفاة إمام الحرمين خرج من نيسابور، إلى العسكر، واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول . وظهر اسمه في الآفاق، حتى أدت الحال به إلى أن رسم للمسير إلى بغداد، للقيام بتدريس المدرسة الميمونة النظامية بها، فصار إليها، وأعجب الكل بتدريسه، ومناظرته، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق. وعلت حشمته ودرجته فى بغداد، حتى كانت تغلب حشمة الأكابر والإمراء،
ثم سلك طريق التزهد ، ولبس الثياب الخشنة ، وترك الترف ، وقلل طعامه وشرابه ، وطرح ما نال من الدرجة، والاشتغال بأسباب التقوى، وزاد الآخرة. فخرج عما كان فيه، وقصد بيت الله وحج. ثم دخل الشام وأقام فى تلك الديار قريباً من عشر سنين يطوف، ويزور،وجاور في بيت المقدس ، كما اعتكف في زاويته بالجامع الأموي المنسوبة له حتى اليوم . وأخذ فى التصانيف المشهورة، التي لم يسبق إليهامثل: ((إحياء علوم الدين)) والكتب المختصرة منها، مثل ((الأربعين)) وغيرها من الرسائل، التى من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم. ثم عاد إلى وطنه لازماً بيته، مشتغلا بالتفكر، ملازماً للوقت، مقصودا، نفيساً وذخرا للقلوب، ولكل من يقصده، ويدخل عليه. حتى انتهت نوبة الوزارة إلى فخر الملك، جمال الشهداء، تغمده الله برحمته، وقد سمع وتحقق بمكان الغزالى ، ودرجته، وألح عليه كل الإلحاح، وتشدد فى الاقتراح، إلى أن أجاب إلى الخروج، وحمل إلى نيسابور. فأشير عليه بالتدريس فى المدرسة الميمونة النظامية، عمرها الله، فلم يجد بداً من الإذعان للولاة، وتحرر من طلب الجاه، ومماراة الأقران، ومكابرة المعاندين . ثم ترك ذلك ، وعاد إلى بيته، واتخذ فى جواره مدرسة لطلبة العلم، وخانقة للصوفية. وكان قد وزع أوقاته، على وظائف الحاضرين، من ختم القرآن، ومجالسة أهل القلوب، إلى أن نقله الله إلى كريم جواره . وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين (( البخارى)) و ((مسلم)) اللذين هما حجة الإسلام، ولو عاش لسبق الكل فى ذلك الفن، بيسير من الأيام، يستفرغه فى تحصيله. مضى إلى رحمة الله تعالى، يوم الاثنين، الرابع عشر، من جمادى الآخرة، سنة (505)هـ. ودفن بظاهر قصبة طابران، ولم يعقب يرحمه الله إلا البنات.
|
|
|
|
|
|
|
موجز عن حياته :
عاش في القرن الخامس الهجري ، ولد في طوس ، عام خمسين وأربعمائة وانتقل إلى نيسابور ، ثم حج وقضى عشر سنوات بين دمشق والحجاز زاهداً متعبداً ....
بعد أن بلغ الأوج في العلوم ، وكان للفلسفة مكانة عظيمة يومذاك ، وصار الناس يتزينون بها وبكلام الفلاسفة ....
لذلك درس الفلسفة .... ثم خرج منها بكتابه العظيم تهافت الفلاسفة ...
ثم سلك طريق التصوف ....
ثم وافته المنية وعلى صدره كتاب صحيح البخاري يرحمهم الله تعالى ...
قالوا :
بحث الغزالي عن الحقيقة في علوم الشريعة ، ثم بحث عن الحقيقة في الفلسفة ، ثم طلب الحقيقة في التصوف ....
خلاصة كتاب تهافت الفلاسفة :
ثم ذكر بعد المقدمات، المسائل التي أظهر تناقض مذهبهم فيها، وهي عشرون مسألة: الأولى: في أولية العالم. الثانية: في أبدية العالم. الثالثة: في بيان تلبسهم في قولهم: أن الله سبحانه وتعالى صانع العالم، وأن العالم صنعه. الرابعة: في تعجيزهم عن إثبات الصانع. الخامسة: في تعجيزهم عن إقامة الدليل على استحالة الهين. السادسة: في نفي الصفات. السابعة: في قولهم: إن ذات الأول لا ينقسم بالجنس والفصل. الثامنة: في قولهم: إن الأول موجود بسيط بلا ماهية. التاسعة: في تعجيزهم، عن بيان إثبات أن الأول ليس بجسم. العاشرة: في تعجيزهم، عن إقامة الدليل على أن للعالم صانعاً، وعلة. الحادية عشرة: في تعجيزهم عن القول: بأن الأول يعلم غيره. الثانية عشرة: في تعجيزهم عن القول: بأن الأول يعلم ذاته. الثالثة عشرة: في إبطال قولهم: أن الأول لا يعلم الجزئيات. الرابعة عشرة: في إبطال قولهم: أن السماء حيوان متحرك بالإرادة. الخامسة عشرة: فيما ذكروه من العرض المحرك للسماء. السادسة عشرة: في قولهم: أن نفوس السماوات، تعلم جميع الجزئيات الحادثة في هذا العالم. السابعة عشرة: في قولهم: باستحالة خرق العادات. الثامنة عشرة: في تعجيزهم عن إقامة البرهان العقلي، على أن النفس الإنساني جوهر روحاني. التاسعة عشرة: في قولهم: باستحالة الفناء على النفوس البشرية. العشرون: في إبطال إنكارهم البعث، وحشر الأجساد، مع التلذذ والتألم بالجنة والنار، بالآلام واللذات الجسمانية.
وصرف الغزالي همته إلى عقد المناظرات، ووجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهي: "الفلاسفة" الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان، و"المتكلمون" الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر، و"الباطنية" الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم، و"الصوفية" الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
وسعى الغزالي جاهدا ليتقصى الحقيقة بين تلك الفرق الأربعة؛ فدرسها بعمق شديد حتى ألم بها وتعرف عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وراح يرد عليها الواحدة تلو الأخرى. وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه القيم "المنقذ من الضلال"، ولكنه خرج من تلك التجربة بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته كلها، وحقق من خلالها ما بلغه من المجد والشهرة والجاه، فلم تعد لديه الرغبة في أي شيء من ذلك. وظل الغزالي على تلك الحال من التردد نحو ستة أشهر حتى قرر مغادرة بغداد، وفرّق ما كان معه من مال ولم يدخر منه إلا قدر الكفاف وقوت الأبناء. واتجه إلى الشام حيث أقام بها نحو عامين، فكان يقضي وقته معتكفا في مسجد دمشق، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة الروحية ومجاهدة النفس والاشتغال بتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى. ثم انتقل من دمشق إلى بيت المقدس فكان يدخل مسجد الصخرة كل يوم ويغلق الباب على نفسه وينصرف إلى عزلته وخلوته. وهناك بدأ في تصنيف كتابه الشهير إحياء علوم الدين، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى دمشق ليعتكف في المنارة الغربية من الجامع الأموي، حتى إذا ما دعاه داعي الحج اتجه إلى مكة ليؤدي فريضة الحج سنة (489هـ = 1096م) ثم زار المدينة المنورة. وعاد الغزالي من الحج إلى دمشق مرة أخرى حيث عكف على إنجاز كتاب الإحياء، وفي العام التالي رحل إلى بغداد، لكنه لم يستأنف العمل بالتدريس بها، وما لبث أن ذهب إلى خراسان وظل حريصا على الخلوة، مواظبا على حياة الزهد والتأمل وتصفية القلب لذكر الله، واستمر على تلك الحال نحو عشر سنوات، يجمع بين التمتع بالخلوة والذكر والتأمل، والأخذ بأسباب الحياة والتغلب على عوائقها، واستطاع خلالها الوصول إلى تلك الحقيقة التي راح يبحث عنها، والاهتداء إلى ذلك اليقين الذي راح يبثه في تلاميذه ومريديه: يقين الصوفية الحقة الذي استمد دعائمه من مشكاة النبوة الصافية وجوهر الإسلام الخالص. وعندما تولى "فخر الملك علي بن نظام الملك" الوزارة في نيسابور سنة (498هـ = 1104م) عقب اغتيال أبيه على يد بعض الباطنية، ألح على الغزالي في العودة إلى التدريس في نظامية نيسابور، واستجاب له الغزالي إلا أنه لم يستمر بها أكثر من عامين؛ إذ سرعان ما ترك التدريس ثانية بعد اغتيال فخر الملك على يد أحد الباطنية في المحرم (500هـ = 1106م). وعاد الغزالي إلى مسقط رأسه في طوس فبنى بها مأوى للطلاب والصوفية ممن يقصدونه، وظل بها فلم يبرحها حتى توفي.
رحلة البحث عن الحقيقة وسعى الغزالي جاهدا ليتقصى الحقيقة بين تلك الفرق الأربعة؛ فدرسها بعمق شديد حتى ألم بها وتعرف عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وراح يرد عليها الواحدة تلو الأخرى. وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه القيم "المنقذ من الضلال"، ولكنه خرج من تلك التجربة بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته كلها، وحقق من خلالها ما بلغه من المجد والشهرة والجاه، فلم تعد لديه الرغبة في أي شيء من ذلك. وظل الغزالي على تلك الحال من التردد نحو ستة أشهر حتى قرر مغادرة بغداد، وفرّق ما كان معه من مال ولم يدخر منه إلا قدر الكفاف وقوت الأبناء. واتجه إلى الشام حيث أقام بها نحو عامين، فكان يقضي وقته معتكفا في مسجد دمشق، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة الروحية ومجاهدة النفس والاشتغال بتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى. ثم انتقل من دمشق إلى بيت المقدس فكان يدخل مسجد الصخرة كل يوم ويغلق الباب على نفسه وينصرف إلى عزلته وخلوته. وهناك بدأ في تصنيف كتابه الشهير إحياء علوم الدين، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى دمشق ليعتكف في المنارة الغربية من الجامع الأموي، حتى إذا ما دعاه داعي الحج اتجه إلى مكة ليؤدي فريضة الحج سنة (489هـ = 1096م) ثم زار المدينة المنورة. وعاد الغزالي من الحج إلى دمشق مرة أخرى حيث عكف على إنجاز كتاب الإحياء، وفي العام التالي رحل إلى بغداد، لكنه لم يستأنف العمل بالتدريس بها، وما لبث أن ذهب إلى خراسان وظل حريصا على الخلوة، مواظبا على حياة الزهد والتأمل وتصفية القلب لذكر الله، واستمر على تلك الحال نحو عشر سنوات، يجمع بين التمتع بالخلوة والذكر والتأمل، والأخذ بأسباب الحياة والتغلب على عوائقها، واستطاع خلالها الوصول إلى تلك الحقيقة التي راح يبحث عنها، والاهتداء إلى ذلك اليقين الذي راح يبثه في تلاميذه ومريديه: يقين الصوفية الحقة الذي استمد دعائمه من مشكاة النبوة الصافية وجوهر الإسلام الخالص. وعندما تولى "فخر الملك علي بن نظام الملك" الوزارة في نيسابور سنة (498هـ = 1104م) عقب اغتيال أبيه على يد بعض الباطنية، ألح على الغزالي في العودة إلى التدريس في نظامية نيسابور، واستجاب له الغزالي إلا أنه لم يستمر بها أكثر من عامين؛ إذ سرعان ما ترك التدريس ثانية بعد اغتيال فخر الملك على يد أحد الباطنية في المحرم (500هـ = 1106م). وعاد الغزالي إلى مسقط رأسه في طوس فبنى بها مأوى للطلاب والصوفية ممن يقصدونه، وظل بها فلم يبرحها حتى توفي. صاحب رسالة كان الغزالي منذ حداثة سنه يشعر أنه صاحب رسالة، وقد أدرك منذ صباه ذلك الصراع الدائر بين الفرق الدينية المختلفة والتيارات الفكرية المتناحرة، وهو ما حظي بقدر كبير من الاهتمام والجدل في عصره؛ ولعل ذلك ما أغراه بدراسة تلك الفرق والطوائف والتصدي لها في العديد من مؤلفاته ومناظراته. وبالرغم من النزعة الصوفية التي سيطرت عليه طوال حياته، والتي كان لنشأته وبيئته الأولى أثر كبير في ترسيخها في عقله ووجدانه، فإنه لم ينعزل عن قضايا مجتمعه ومشكلات أمته، وإنما اهتم برصد ما يدور حوله من تيارات فكرية ومذاهب دينية واتجاهات فلسفية، وتصدى لها بالنقد والتحليل، فجمع بين روحانية الصوفية في صفاء العبادة وشفافية الوجدان وعمق الإيمان والزهد في الدنيا، وبين النزعة العقلية العلمية في النظر إلى الأمور الدنيا والدين على حد سواء، وحرية الفكر وشجاعة الرأي. وكان الغزالي معنيًا بأمر الدين، مهتمًا بالذبّ عن العقيدة الخالصة والإسلام الصحيح، وقد تجلى ذلك في العديد من مؤلفاته مثل: المنقذ من الضلال، وفضائح الباطنية، وتهافت الفلاسفة، بل إنه في كتابه الضخم وموسوعته الكبرى "إحياء علوم الدين" يستشعر هدفا أسمى ودورا أعظم ويضع نصب عينيه غاية أبعد بأنه مجدد الدين في القرن الخامس الهجري، ويتجلى ذلك بوضوح في العنوان الذي اختاره لدرته الرائعة وكتابه الفريد "الإحياء". من الشــــــك إلى اليقيـــــــــــن تميز الغزالي الفيلسوف بالجرأة والشجاعة والذكاء؛ فقد واجه الاتجاهات الفكرية المختلفة التي سادت في عصره بذكاء وشجاعة نادرين، وكان نقده مركزا على نقد الفرق المتطرفة من منطلق إخلاصه للإسلام، وكان في نقده لها يتسم بالنزاهة والموضوعية، وأثبت الغزالي في رده على الفلاسفة مخالفتهم للإسلام في بعض الجوانب، وحذر الناس من اتباع طريقتهم من غير مناقشة أو تمحيص، كما كشف عن أباطيل الباطنية، وفضح ضلالاتهم بعد أن درس أسرار مذهبهم وعرف حقيقة أفكارهم، وكان أمر تلك الفرقة قد استشرى واستفحل خطرهم سياسيا ودينيا، وقد أراد الغزالي من رده عليهم تحجيم خطرهم والتقليل من نفوذهم الديني والسياسي بعد تعريتهم والكشف عن زيفهم وضلالهم وتوضيح أهدافهم. وكان الغزالي في فلسفته يعبر عن شغفه بالعلم والبحث عن الحقيقة، وقد اتبع منهجا عقليا يقوم على فكرتين أساسيتين هما: الشك، والحدس الذهني. وقد عبر عن ذلك بوضوح في قوله: "إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم". ويعبر عن تجربة البحث عن الحقيقة التي تبدأ عنده بالشك فيقول: "فأقبلت بجدٍّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا". وهو يفسر ذلك بأنه "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال". وهذا المنهج الذي اتبعه الغزالي منذ أكثر من تسعة قرون شديد التشابه بما قدمه الفيلسوف الفرنسي ديكارت وهو ما يؤكد تأثره بالفيلسوف الإسلامي الكبير وأخذه عنه؛ فقد عاش الفيلسوفان التجربة المعرفية ذاتها، وإن كان فضل السبق والأصالة يظل الغزالي، فعبارة الغزالي الشهير "الشك أول مراتب اليقين" التي أوردها في كتابه "المنقذ من الضلال" هي التي بنى عليها ديكارت مذهبه، وقد أثبت ذلك الباحث التونسي "العكاك" حينما عثر بين محتويات مكتبة ديكارت الخاصة بباريس على ترجمة كتاب المنقذ من الضلال، ووجد أن ديكارت قد وضع خطًا أحمر تحت تلك العبارة، ثم كتب في الهامش: "يضاف ذلك إلى منهجنا". موقفه من العقل تحول الغزالي من الفلسفة إلى التصوف بعد أن استقر في وعيه ووجدانه أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى، خاصة أن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. ورأى أن التصوف هو المنهج الأفضل في تلقي المعرفة اليقينية الملائمة، وهو في تصوفه لا يهمّش العقل، ولا يقلل من دوره، بل على العكس من ذلك؛ فإن للعقل عنده دورا أساسيا في سلوك طريق التصوف؛ إذ إن العلم اللدني عنده لا يتأتى إلا بعد استيفاء تحصيل جميع العلوم، وأخذ الحظ الأوفر منها والرياضة الصادقة للنفس والمراقبة الصحيحة لله مثل التفكر الذي يفتح للمتفكر أبواب العلم ويصير به من ذوي الألباب. والغزالي يحتج بالعقل على غلاة الصوفية القائلين بالفناء والاتحاد، ويرى أنه قد ينكشف للصوفي ما لا يمكن للعقل إدراكه، ولكن ليس من الممكن أن ينكشف له شيء يحكم العقل باستحالته، فالعقل عنده هو الميزان الذي قيضه الله للإنسان لقياس مدى صدق معارفه ووضع الحدود لها، ومن ثم فإنه ليس ثمة تعارض بين مقتضيات التعقل، وشئون الإيمان الديني. ويرى أن من لم تكن بصيرته الباطنية ثاقبة فلن يعلق به من الدين إلا قشوره. أما في مسائل الإلهيات والغيب فيقرر أنه ليس للعقل دور أكثر من تقبلها والتسليم بصدقها. ومما لا شك فيه أن الغزالي قد ساهم بتلك العقلية الواعية في تنقية التصوف من كثير من البدع والانحرافات، وأعطى التصوف والحياة الروحية بعدا عقليا جديدا، وإذا كان الإمام الأشعري قد خلّص علم الكلام من السفسطة الساذجة للمتكلمين القدامى المقتدين بالجدل اليوناني، فإن الإمام الغزالي قد أكد للإسلام قوة الحياة الدينية بتقرير الاعتراف بما نبت فيها من تصوف، وأسسه تأسيسا فلسفيا. الغزالي والتربية الخلقية تهدف التربية الخلقية عند الإمام الغزالي إلى تحقيق بعض الغايات والأهداف التي تؤدي إلى رفع المستوى الروحي والخلقي والفكري والاجتماعي والسياسي للفرد والمجتمع، ومن تلك الأهداف التي حرص الغزالي على تحقيقها. 1- الكمال الإنساني: وذلك بارتقاء النفس الإنسانية من مجال الحس إلى مجال التفكير، والارتقاء بالإنسان من مستوى الخضوع للأهواء والشهوات إلى مقام العبودية لله، حتى تصل إلى حالة تطل بها على عالم الغيب، فتطّلع على الحقيقة، وتصل إلى أقصى مراتب الكمال الإنساني باقترابها من الخالق سبحانه وتعالى. 2- تربية النفس على الفضيلة: فقد ركز الإمام الغزالي على أساسيات الفضائل، واعتبرها أربعة هي: الحكمة والشجاعة والعفة والعدل. ويرى أن تحقيق الفضيلة إنما يكون من خلال تصفية القلب لذكر الله تعالى، والعمل على تزكية النفس وتهذيب الأخلاق. ويؤكد الغزالي على أهمية الفضائل ودورها في ضبط قوى النفس الإنسانية، وتنمية الاستعدادات الفطرية الخيرة فيها. 3- تهذيب قوى النفس الإنسانية: وهو يرى أن ذلك لا يعني قمع نزعاتها وغرائزها واستئصالها تماما، فإن ذلك مخالف لفطرة الإنسان وطبيعته؛ لأن الشهوة إنما خلقت لفائدة، ولها وظيفة لا غنى للإنسان عنها، ولا بقاء له من دونها، فشهوة الطعام ضرورية لحياته ونموه، وشهوة الجنس تحفظ النسل وتساهم في بقاء النوع الإنساني، ولكنه يربط هذه الشهوات بالاعتدال والعفة والعقل. 4- حسن توجيه طاقات الأمة: فالغزالي يؤكد على أهمية حفظ طاقات النفس وتوجيهها للإفادة منها على النحو الأمثل، كما دعا إلى ضرورة تخليص الأمة من الشهوات المفسدة للروح الإسلامية، وأكد على الأثر التهذيبي للشريعة الإسلامية في كل من الفرد والمجتمع. 5- تكوين الشخصية المتوازنة: ويركز الغزالي في التربية الخلقية على المكونات الرئيسية للنفس الإنسانية وهي: العقل والروح والجسم، وينظر إليها باعتبارها كيانا واحدا متكاملا، ومن ثم جاء تأكيد الغزالي على بعض الأساليب والطرائق التربوية التي تتناول تلك المكونات بشكل متكامل ومتوازن، كالمجاهدة والرياضة لتزكية القلب والروح، والتفكر لتربية العقل، وترقية النفس الإنسانية في مجالات الإدراك، واللعب لتربية الجسم وتنشيط العقل والحواس. 6- إرضاء الله سبحانه وتعالى: دعا الغزالي إلى توخي إرضاء الله تعالى، وحذر من مطامع الدنيا الفانية، وحث على إحياء الشريعة الإسلامية والتماس رضوان الله تعالى، ولذلك فهو يرى أن من أهداف التربية الخلقية إعداد الإنسان في هذه الحياة الفانية للدار الآخرة الباقية؛ لأن الغاية المثلى للإنسان في هذه الدنيا هي حسن العبودية لله وتمام الطاعة والخضوع له. الغزالي فقيها أصوليا كان الغزالي فقيها أصوليا بارعا، وقد ترك تراثا فقهيا كبيرا يدل على مدى تمكنه من هذا العلم وعلو منزلته فيه، ومن أهم مؤلفاته في أصول الفقه: -"المنحول في علم الأصول"، وكان قد صنفه في مطلع شبابه وكان شافعيا متحمسا، وتناول فيه الأحكام الشرعية والأحكام التكليفية، وبيّن الواجب والمندوب والمحظور والمكروه، كما تحدث عن الإجماع والقياس والترجيح، وتناول الفتوى والاجتهاد وأحكامه، والتقليد وأحكامه، ثم ذكر سبب تقديمه مذهب الشافعي على بقية المذاهب. -"البسيط في الفروع": وهو كتاب في الفقه الشافعي، وصفه ابن خلكان بقوله: "ما صُنّف في الإسلام مثله"، وقد تحدث فيه عن القصاص والجنايات التي تستوجب الحد، كما تناول السبق والرمي، والنذور والشهادات والدعاوى والعتق، واختصره الغزالي مرتين بعنوان: الوسيط والوجيز. -"شفاء العليل في القياس والتعليل": وتناول فيه مسائل القياس والعلة والدلالة، كما ذكر شروط القياس وكيفيته، وذكر بعض المسائل التي توضح ذلك. -"إحياء علوم الدين": وقد اشتمل على أبواب من العقائد والعبادات والمعاملات، وجمع فيه بين العقل والنقل، وبين الفقه والتصوف، وبين النص والاستدلال. -"تهذيب الأصول": وهو كتاب ضخم في علم الأصول، يميل إلى الاستقصاء، والاستكثار يفوق كتابيه: المستصفى والمنخول. -"المستصفى من علم الأصول": وهو اختصار لكتابه تهذيب الأصول الذي يميل إلى الاستقصاء، ويفوق كتاب المنخول الذي يميل إلى الاختصار. وقد أفاد الغزالي كثيرا من دراسته للفقه وتمكنه منه في مناقشته أفكار ودعاوى الفرق المنحرفة وغلاة الصوفية، وإبطال عقائد الباطنية وغيرهم والرد على مزاعمهم وافتراءاتهم، وكان له أكبر الأثر في تشكيل عقله ووعيه، وتوجيه تصوفه ليقترب كثيرا من المنهج السلفي، ويبتعد عن الوقوع في دائرة الغلو والشطط والإغراق في المبالغة التي وقع فيها كثير من الصوفية. الوفاة وتوفي الإمام الغزالي في (14 من جمادى الآخرة 505هـ = 19 من ديسمبر 1111م) عن عمر بلغ خمسا وخمسين عاما، وترك تراثا صوفيا وفقهيا وفلسفيا كبيرا، بلغ 457 مصنفا ما بين كتاب ورسالة، كثير منها لا يزال مخطوطا، ومعظمها مفقود.
|