تصويت

ما تقييمك للموقع ؟
 

المتواجدون الآن

يوجد حاليا 108 زوار 
وصولي الى الجزائر

وصولي إلى الجـزائــــر

في فجر يوم (17/9/1974) ركبت الطـائرة لأول مـرة في حياتي ، مع زوجتي الحامل بابنتنا (الدكتورة فاطمة ) ، وطفلينا ( الدكتور ثائـر  و  المهندس أنـس ) ، كان ثائر في الثالثة والنصف ، وأنـس في الثانية ، وأقلعت الطائرة من دمشق ، لتهبط ولأول مرة في حياتي في مطار الدار البيضاء في الجزائر العاصمة . وخلال ساعتين أو ثلاث ، كانت لوحات السيارات مكتوباً عليها ( سوريا ) ، وإذ بها تتبدل إلى (الجزائر ) .

كان استقبالنا في المطار طيباً، لم تفتح لنا حقيبة ، ويكتفي رجل الجمارك أن يقول : تفضل ( سي محمد ) فكل شرقي أو كل من لايعرفون ا سمـه ينادونه ( سي محمد ) ، وكان مندوب من وزارة التربية في انتظارنا ، أخذ الجميع في باصات إلى ثانوية السيدة عائشة ( ثانوية داخلية ) ، ماعداي لآنني كنت على موعد مع مدرس العلوم أحمد مبارك الشنتوت ، شقيق زوجتي ، الذي سبقنا إلى الإعارة من العام الماضي ، واستقر في بلدة ( عين الحمام ) التابعة لولاية ( تيزي وزو) ، كنت على موعد معـه ، لذلك لم أذهب معهم وانتظرته فوصل وكان لقاء حاراً بعد فراق سـنة كاملة ، ثم ركبنا الباص الذي أوصلنا إلى سـاحة ( بور سـعيد ) ، وهناك انتظرنا ساعتين أو أكثر نتملق سيارات الأجرة كي تقف وتنقلنا إلى ثانويـة السيدة عائشة ، كان موقفاً مؤلماً للغاية ، كلانا لايعرف أن سيارات الأجرة لاتقف في هذا المكان ، وسائقي التاكسي ينظرون إلينا بقـرف ، وحاولت أن أكلم الشرطي الذي يرانا نقف منذ أكثر من سـاعة ولكنه لم يرد علي وكأنه لم يفهم لغتي ، ولم يبد أي اهتمام نحونا ، وجاع طفلنا الصغير ( أنس ) الذي رأى قطعة خبز مرمية على الأرض فالتقطها ، ولم ننزعها من يـده إلا بالقوة ، بعد أن بكى لأننا منعناه من أكلها ، ولكن لطف الله أراد أن يظهر لنا حقيقة هذا الشعب ، وكأن امرأة تنظر إلينا من الشـرفة ، فجاءت بطعام وماء أكل أنس وشرب ، وشكرتها زوجتي على لطفها ، وزادت معاناتي ولو أن أحدهم قال لي في تلك اللحظة : ترجع إلى سوريا لوافقت حالاً ... وأخيراً أشفق علينا أحدهم واقترب منا وقال : هنا لاتقف (الطاكسي ) ، يجب أن تحملوا ( قشكم ) وتذهبوا قريباً ، وحمل معنا مسافة مئات الأمتار حيث موقف ( الطاكسي ) ، فحملتنا إلى ثانوية السيدة عائشة والتحقنا بركب المدرسين السوريين الذين وصلوا معنا على الطائرة .

في اليوم الأول دفعوا لكل منا (ألف ) دينار سـلفة ، وبطاقات السفر الداخلي  إلى الولاية المعينة ، وكانت بطاقاتي بالباص إلى (ورقلة ) التي تبعد (800) كلم جنوب العاصمة الجزائرية ، وعلى الأطراف الشمالية للصحراء الكبرى .

أنت اللي تأكل رمضان

كان ذلك اليـوم الأول من رمضا ن( 1395هـ) ، وكنت مريضاً أعاني من التهاب حاد في اللوزتين بسبب متاعب السفر واجراءاته ، ونقل الحقائب وحمل الأولاد ، وقد نويت الفطر لأنني مسافر ومريض معاً ، وفي الليل أيقظونا على السحور ، فقام بعضنا منهكين من التعب ، وكنت منهم ، فوجدنا على الطاولات طعاماً لانعرف اسـمه ولانستسيغ طعمه ، أكل بعضنا ، وشربنا مـاء ، ونمنا لننهض قبل الفجر ، بسبب تغير التوقيت ، فنحن اعتدنا على الاستيقاظ على السادسة صباحاً في سوريا لنصلي الفجر ، والسادسة في سوريا تعادل الرابعة في الجزائر ، وهكذا دهشت لأنني استيقظت على صلاة الفجر مبكراً بدون منبـه ، وكان الاستيقاظ في الخامسة تقربياً حسب توقيت الجزائر ( السابعة حسب سوريا ) ، وعجبت أن المراحيض لاتوجد فيها صنابير مياه ، أو لم أعرف أين الصنابير ، وعانيت كثيراً حتى أكملت طهارتي ووضوئي ، ثم فرحت عندما صليت الفجر حاضراً على الرغم من السفر ومتاعبه .

كانت السـاعة الثامنة عندما كنا في حديقة المدرسة،وحان وقت تناول الدواء ( حبوب الالتهاب) ووجدت صنبور ماء فأخذت منه بحفنتي وتناولت الدواء ، وإذ أسـمع الحارس ينادي بغلظة : أنت أنت تعال هنا ، فلم أعره انتباهاً ، ولم أصدق أنه يقصدني ، فكيف يخاطب أستاذاً ضيفاً بهذه الغلظة، ربما يقصد غيري ، ولكنه كرر الجملة عدة مرات ، وبنفس الغلظة ، وهوينظر إلي ، فقلت له : ( أنا ) قال : نعم أنت اللي تأكل رمضان ، هيا خذ قـشك ومع السلامة ، لاتبق معنا هنا ...!!

ضحك قلبي فرحاً وطرباً وقلت في نفسي ( ماشاء الله هذا شعب مسلم ) وقد تعودنا في سوريا أن المفطرين في الشارع يماثلون الصائمين في العدد وزاد عليهم في الثمانينات ، حيث أصبح الصائمون أقلية في الشارع السوري ، وصار المفطرون يجاهرون ويتباهون بأنهم مفطرون ، وخاصة إذا جاء رمضان في الصيف ، فاقتربت منه باسماً راضياً وقلت له : جزاك الله خيراً وبارك بأمثالك ، أنا مسافر ومريض . قال : مسافر !! جئت ماشياً على قدميك !! هذا لايسمى سفراً ، هذاك السفر اللي على البعير . وبعد أن هـدأ غضبه أوصاني وقال : إياك أن يراك أحد تأكل في الشارع ، وخاصة الذراري ( الأولاد ) ، والله يرجموك بالحجارة ، وشكرته فرحاً واستبشرت خيراً  ، ثم سافر الأستاذ أحمد ومعه زوجتي وأولادي ، لتمكث عنده في بلدة عين الحمام ، حتى تضع حملها ،بعد شهر أو أقل ، وأكون قد استلمت السكن وجهزته بالأثاث اللازم ، وقد تأثرت لمفارقتهم ، سافروا بسيارة خاصة (أجرة ) إلى عين الحمام ، وذهبت إلى مقر الحافلات ، حيث عرفت أن الحافلة تنطلق إلى ورقلة بعد الإفطار (المغرب). فودعت ( قشـي ) في مستودع الأمانات ، وذهبت أتعرف على العاصمة الجزائرية ، في شـارع يطل على البحر ، ملأ بالحدائق الغناء ، وكنت أجيل النظر فلا أرى أحداً يأكل أو يشرب ، وجلست في حديقة ربما تسمى (بور سعيد)  ورأيت مراهقين يدخنون خفية ، وكلما اقتربت منهم دورية شرطة راجلة أخفوا السيجارة .

مضى النهار وأنا مفطر بلا أكل ولاشرب ، سوى أنني عندما توضأت لصلاة الظهر والعصر شربت وأنا أتمضمض بعد التأكد أن أحداً ما لايراقبني .

ثم أفطرت مع الصائمين في موقف الحافلة وانطلقت نحو الجنوب ، نحو ورقلة عاصمة ولاية الواحات .

في الطريق إلى ورقلة للمرة الأولى

كان الطريق ممهداً بشكل جيد ، وكنت أنام أحياناً ، ثم أصحو على وقفات الحافلة التي عرفت فيما بعد أنها تمر في قصر البخاري ، ثم الجلفة ، ثم تقف للاستراحة في الأغواط ، ثم تابعت السير حتى انبلج الفجر وكنا في غردايا ( عاصمة الإباضيين ) :

أطفال أم ملائكة ؟؟؟

لم أكن أصدق عيني عندما رأيت أفواجاً من الأطفال يلبسون ثياباً بيضاء ، وعلى رؤسهم قلنسوات بيضاء ، يتحركون في سـاحات غردايا ، مع الفجر ، مع نسمات الهواء العليلة المشبعة بغاز الأوزون ، الذي ينعش الجملة العصبية كما يقول الأطباء ، وأمعنت النظر ، أهؤلاء بشـر أم ملائكة !!؟ وهل أنا يقظ أرى بعين الواقع !!؟ أم أنا نائم أرى ذلك في الأحلام !!؟ عرفت فيما بعد أنهم أطفال الأخوة الإباضيين يذهبون بعد صلاة الفجر التي يؤدونها جماعة في المسجد ، يذهبون إلى مدارس الإصلاح ، المدارس الأهلية التي تعلمهم الإسلام واللغة العربية ، لأن المدارس الحكومية لاتقدم جرعة كافية فيهما . بينما يذهبون إلى المدارس الحكومية عند الساعة الثامنة .

بعد غردايا بقليل وقفت الحافلة وأدينا صلاة الفجر قبل شروق الشمس ، ثم تابعت السير وقد اشرقت الشمس ، وقاربت الساعة الثامنة حيث أشرفنا على ورقلـة التي دخل حبها في قلبي ليسكنه حتى الأبد ، واحة غناء  خضراء وسط صحراء رمالها ذهبية ،  وكأنني نزلت أمام الثانوية ( ثانوية ورقلة المختلطة ) ، وهناك سلمت على المدير الأستاذ (أحمد سعيد ) الذي عين مديراً لها قبل وصولي بأيام قليلة ، وأرسل معي طالب ثانوي ( من الواد ) أوصلني إلى فندق (ترانزات ) مكثت ليلتي تلك ، ثم أوصلني مدرس فلسطيني مقيم في الجزائر ومتزوج مدرسة جزائرية ( محمد باكير ) إلى فندق من الدرجة الأخيرة اسمه فندق الواحات ، ظناً من الأستاذ باكير أني سأمكث مدة طويلة في الفندق ، وتكون كلفة ( الترانزات ) مكلفة جداً ، وفندق الواحات ، فندق شعبي ، تحته مقهى شعبي جداً ، يملكه رجل فاضل من قدماء المجاهدين اسمه (مصطفى المقدم ) ظل صاحباً لي مادمت في ورقلة

.

ثانوية ورقلـــــــــة المختلطة

وورقلة عاصمة ولاية الواحات مدينة صغيرة ، فيها ثانوية واحدة فقط يومذاك ، تضم طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية من البنين والبنات ، بل أن السنة الأولى (74ـــــــ75) كان عندي في الثالث ثانوي طلاب من غردايا ومن الواد ( واد سوف )، وقد يصل عدد طلاب المدرسة إلى الف وخمسمائة طالب وطالبة ، وأكثر من ستين مدرساً ومدرسة ، معظمهم من المصريين ثم الجزائريين ، والعراقيين والسوريين والفلسطينيين والأوربيين وأكثرالأوربيين من الفرنسيين الذين يؤدون الخدمة الإلزامية الفرنسية ، في تدريس اللغة الفرنسية أو المواد الأخرى باللغة الفرنسية ، تبرعاً من الحكومة الفرنسية للجزائر !!.

نمت في فندق الواحات ليلتين أو ثلاث فقط ، وذات يوم كنت أتمشى في الشارع ، ورأيت قهوة يجلس الرواد فيها على كراسي وطاولات على ناصية الشارع ، وعلى إحدى الطاولات شاب وحده ، أطلق لحيته ، فشدتني اللحية، فجلست معه على طاولتة ، وسرعان مارحب بي وعرف أني سوري ، فطلب لي الضيافة ، ودردش معي قليلاً ، ثم دعاني إلى زيارته في بيته .

زرتـه في سكنه وهي فيلا تابعة للبلدية ، [ التعليم الابتدائي في الجزائر يتبع البلدية ، أما المتوسط والثانوي فيتبع الولاية ] وهو الأستاذ (مولود بلقاسم) معلم ابتدائي من غليزان يعمل في ورقلة ، وزوجته مدرسة أيضاً ، ولكنها في ذلك اليوم كانت في إجازة وضع في غليزان ، وكان الأستاذ بلقاسم يريد اللحاق بها ، ويبحث عن ساكن يحرس له الفيلا ، خوفاً من السرقة المنتشرة يومذاك ، ووجد ضالته عندي ، وعجبت لما عرض علي ذلك بصراحة وبساطة ، وهو ممتن مني لو قبلت ، وكيف لايقبل من تعرض عليه فيلا ، بدلاً من فندق الواحات ( الشعبي جداً ) !!؟ وافقت شاكراً له وذهبنا سوية لإحضار حقائبي من الفندق ، وفي اليوم التالي أخذني السيد بلقاسم لتناول الغداء في ( الماســة ) وهو نادي صف ضباط الناحية العسكرية الخامسة المنتشرة في ولاية الواحات ، وهي أنظف وأطيب وأرخص من مطاعم السوق ، وبدأت أتعرف على الطعام الجزائري بصحبة الأخ بلقاسم ، وبعد بضعة أيام سافر الأستاذ بلقاسم إلى غليزان ، وتركني وحيداً في الفلـة المؤثثة على أحسن مايرام . وصرت أحن إلى العام الدراسي الماضي والطلبة الذين قضيت معهم عامين في تلك الثانوية ، كما أحن إلى أولادي وخاصة ( أنوس ) ، ومن شدة الحنين رأيت مناماً خلاصته أنني في قريتي في سوريا ، وأنني أرسلت ولديّ ثائر وانس على ظهر حمارة إلى مدينة حماة ، وأن أنـس ضاع ( أو سرق ) في الطريق ، وأنني أبحث عنـه في المنام بلوعـة وحسـرة وألم بالغ ، وخاصة في قرية سريحين وهي بين قريتنا ومدينة حماة ، ومن عادتي عندما أتألم في المنام أستيقظ وأحمد الله أن ذلك منام وليس واقعاً .

في الأسبوع الأول من العمل أصبت بخيبة أمل ، إذ لاتوجد في هذه المدرسة غرفة مدرسين ، وفي الفسحة ترى المدرسين يتسكعون في الممرات ، وكنت أقارن ذلك بسوريا ، وغرفة المدرسين الوثيرة فيها ، كما آلمني أننا عندما يدق الجرس يذهب المدرسون إلى الفنـاء ؛ ليصحب تلامذته إلى القاعة ، ولايعرف غياب المدرس إلا في تلك اللحظة ، حيث يبقى فصله في الفنـاء ، فيأخذ ه المراقب العام إلى قاعـة الانتظـار . وتذكرت نظام المدرسة في سوريا ، وعرفت فيما بعد أنه متفوق على كل أنظمة المدرسة العربية في مصر والخليج العربي وشمال افريقيا . في سوريا يجلس المدرسون في غرفة المدرسين خلال الفسحة أو حصة فارغة ، وفي غرفة المدرسين كراسي مريحة ( كنب ) ، وستائر ، وعامل مخصص لغرفة المدرسين ، يمر عليك يعرض عليك خدماته ، فتطلب منه المشروب الذي تريده ، وبعد ثواني يصلك نظيفاً في أواني نظيفة ، والحساب آخر الشهر . حتى لو أردت إرسال العامل إلى متجر مجاور ليحضر لك ماتريد ، أو تطلب بالهاتف من المطعم فيصلك الطلب وأنت مرتاح في غرفة المدرسين السورية ، التي بقيت حسرة في حياتي العملية الطويلة ، وبعد نيف و أربعين سنة خدمتها في التعليم ، قضيت نيفاً وثلاثين  سنة منها خارج سوريا ، كنت أحـن إلى غرفـة المدرسين في سوريا ، خاصة تلك التي في ثانويات دمشق التي كنا ندخلها في عام (1969) خلال دراستي للدبلوم العامة في التربية .

وخلال الأسبوع الأول ، قدمنا طلباً للأكاديمية ( إدارة التعليم ) كي تمنحنا سكناً ، لأن المساكن عندهم بيد الدولة ، وتوزعها على الموظفين ، وللحق أقول أنهم كانوا يفضلون المدرسين ( الشرقيين ) غير الجزائريين على الجزائريين ، وخاصة من أحضر أسرته معه مثلي ، وجواز الأسرة كان معي ، حسب تعليمات ابن عمي الأستاذ أحمد مبارك الشنتوت ، كي يساعدني ذلك على الحصول على السكن ، حيث يفضل المتزوجون على العزاب .

وفعلاً في أقل من شهر حصلت على شـقة في المعهد التكنولوجي ( دار المعلمين ) ، تتكون من غرفتي نوم ، وصالون للضيافة، ومطبخ ودورة مياه ، بنيت حديثاً بشروط صحية ممتازة . وللحق أقول كانت نقلة نوعية في حياتي ، فقد كنت أعيش في القرية في غرف ( الطين ) ، واليوم أعيش في شقة حديثة فيها البلاط والبورسلان ، والمرافق الصحية ، لأول مـرة في حياتي ، وكانت سعادتي بلك الشقة لاتوصف .

وعلى الرغم من استلامي مفتاح هذه الشقة ،فقد مكثت في فيلا الأستاذ بلقاسم أحرسها له ،حتى رجع مع زوجته من غليزان .

سلمتني ( الأكاديمية ) بعض الأثاث الضروري ، كما حصلت من البلدية أيضاً على أثاث ( أسرة ودواليب ثياب وغيرها ) حسبما نصحني وساعدني الشرقيون القدماء .

عين الحمام للمرة الأولى

وفي يوم (1/11/1974) وهو عطلة رسمية لأنه ذكرى اندلاع الثورة الجزائرية المباركة التي حررت الجزائر من الاستعمار الفرنسي ، حصلت على إجازة اضطرارية للسفر إلى عين الحمام لإحضار أسرتي من هناك .

ركبت الباص مساء من ورقلة ومع الفجر كنا في العاصمة الجزائرية ، ومنها إلى عين الحمام مرورا بتيزي وزو ، والأربعاء ، في طريق جبلي حلزوني يصعد إلى قمـة جبال أطلس الجزائرية .

الدكتورة فاطمة خالد شنتوت

في يوم ( 24/10/1974) أي بعد وصولنا بخمسة أسابيع ولدت زوجتي ابنتنا ( الدكتورة فاطمة ) في مشفى عين الحمام ، وفي تلك الأثناء تغطي الثلوج تلك المنطقة ، وحسب نظام المشفى فقد حجزوا زوجتي أسبوعاً كاملاً خوفاً عليها من البرد ، وكان شقيقها الأستاذ أحمد ( أبو عزام ) يتحمل العناء كل يوم ليصل إليها سيراً على الأقدام قاطعاً بضعة كيلومترات بين بيته وبين المشفى ، يحمل لها الطعام الذي تعده زوجته ( أم عزام ) وهي شقيقتي أيضاً . خوفاً من أن زوجتي لاتستسيغ الطعام الجزائري الذي لم تألفه بعد ، ولما ولدت أخبرني أحمد برسالة فشاركت معهم في انتقاء الإسم حيث حددت لهم ثلاثة أسماء وهي : ( فاطمة وأروى وأسماء ...) .

وبقي الأحباب ( ثائر وأنس ) عند خالهم ، لهم من الأولاد أمثالهم ( عزام وحازم وتغريد ) ، أما ثائر فقد اندمج مع خاله وعمته وأولادهم ، وربما ساعده عمره على ذلك ، وأما ( أنس ) فلم يندمج ، وشعر أنه غريب لايعرف أحداً ، تركه أبوه وذهب للعمل ، وبعد خمسة أسابيع تركته أمه وذهبت للمشفى ، وبقي أسبوعاً كاملاً يشعر بالغربة ، حتى لما خرجت أمه من المشفى وأرادت أن تحضنه وتقبله شوقاً إليه ؛ هرب منها ، وكأنه أنكرها ، ويردد كلمة ( بلا ، بلا ) ، وكرر الموقف نفسه معي ، الذي غبت عنه ستة أسابيع ، حيث هرب مني وردد كلمة ( بلا ، بلا ) ، وممايؤلمني أن هذا الشعور بالغربة لازمـه طوال حياته ، وهذا من ضريبة الغربـة ، فلا شيء من لاشيء .

لما وصلت عين الحمام ، سألت عن منزل الأستاذ أحمد الشنتوت السوري ، فدلوني عليه ، وأول من لمحـني شقيقتي ( أم عزام ) التي فرحت كثيراً ، وعانقتني ، مرحبة بوصولي ، ومكثت تلك الليلة هناك ، حيث شاهدنا التلفزيون الجزائري لأول مرة ، وسعدنا جداً ببرنامج ( الحديقة الساهرة ) وانطبع لحنها فيما بعد في ذاكرتنا وهو يردد ( إلى اللقاء ، إلى اللقاء ، إلى اللقاء ) .

وفي اليوم التالي كان الباص يطوي بنا الطريق طوال الليل عائدين إلى ورقلة ، وفاطمة ( عمرها تسعة أيام ) ، ومعظم الطريق كانت تبكي ، حتى أن سائق الباص أشفق علينا ، وعرض خدماته ، وقال أي خدمة ممكن أقدمها لكم ، خوفاً عليها من البكاء المسـتمر ، وبعد وصولنـا بيتنا الجديـد ، غرقت ( فاطمة ) في نوم عميق طويل ، فتبين لنا أن سبب بكائها كان هو حركة الباص التي منعتها من النوم . [ واليوم أقرر أن ذلك كان جهلاً مطبقاً مني ، كان المفروض أن نسافر بالطائرة ، لكن شعوري يومذاك أني كنت في الغربـة أخاف من إنفاق الدراهم بسرعة ، كي لا أحتاج إلى الاستدانة من الآخرين ، وسلم الله ابنتي فاطمة من الفتاق حيث بكت طوال الليل تقريباً ] .

وهكذا أصبحت مدرس الفلسفة في ثانوية ورقلة المختلطة ، أسكن في المعهد التكنولوجي ، ودارت الأيام .

لم يكن سوى منهج يذكر مفردات ( عناوين ) المواضيع المطلوبة ، ولايوجد كتاب مقرر ، وكان هذا من حظي ورغبتي ، كي أعبر عن الفكرة وعن الموضوع تعبيراً إسلامياً . واستمر الحال طوال السنوات الخمس ، حضرت في العام الأول فقط  ، علماً أن المنهج الجزائري والسوري كليهما مأخوذان من المنهج الفرنسي .

 

 
RocketTheme Joomla Templates